[align=center]قصيدة وقراءة
أولاً : القصيدة ماذا لو .. ؟ (*)
شعر الدكتورة : نجمة إدريس[/align]
[align=center]
ماذا لو ...
يورِق بستانٌ فى بستانْ
تَسقُط أثمار الدهشةِ
تنْقِطُ أشربة فى فمْ
تنبض رعشة ؟!
ماذا لو ...
فى سَجْفَة هذا الليل السافى
نتجلى
نُمْحى
من لوحة هذا الوقت الحائل
ننجو
من دِبْق الساعات الكسلى
نتطاير ْ !
ماذا لو ..
نتصاعد أبخرةًً
نتلوى دائرة ً
تنداح فضاءاتٍ ودوائر؟!
* * * *
ماذا لو..
نخلع هذى الأوجهَ
والأسماء .
لو ننضو عنا الأثواب
وقعقعةَ الأحرف
ريشَ اللغة الجوفاء ؟!
نتوضأ من آثامِ
التكرار
دورانِ الأعين فى اللاشىء
سآمة هذى الجدران البلهاء !
ماذا لو نتعرى
نتدفأ باللاشىء
نصلى فى حضرة نزفِ الغيمِ
ونجْهشُ فى صدر الليل الناعم
أشلاءً .. أشلاء .
* * * * *
ماذا لو ..
ننوى الحجَّ
لبستان الفضة ْ
نثقب سقفَ الأفق
الأعمى
نتدلى
من أغْصُنِ هذا الكون الخائر
فاكهةً
تتلامس أكؤسها
البضَّةْ
نتساقطُ
فوق سفوحِ
الثلج الأسودِ
بتلاتٍ
بيضاء
غضَّةَ
* * * * *
ماذا لو أنَّا
نخلع نعلينا
فى وادى الفيروز
ونخلع عنّا عمْرَيْنَا
نخرج من آثام الأرض ِ
خفافًا
ماذا لو أنَّا ؟!
ماذا لو أنَّا ؟![/align]
[align=center] * * * *[/align]
[align=center] ثانيًا القراءة :
مغامرة التفلُّت من سجفة الفيزيقا
قراءة فى قصيدة " ماذا لو " للشاعرة: نجمة إدريس
قراءة : عبدالجواد خفاجى[/align]
كيف يصبح الشعر مجالاً للإفاضة .. بل فيما نفيض ؟ والشعر خلف تمَظْهُره الفيزيقى روح كامنة تُداخلنا فى لحظة فاصلة إذ نلامس القصيدة .. تكهربنا فنهمى كسحابة لامست أخرى ؛ فاستعادتا لبعضيها حياة جديدة .. وارتعاشة فيضٍ ، هو دليل حياة ليس إلا .
ألهذا يقال : إن قراءة النص دليل حياة ؟! ، مثلما " ترى الهرمنيوطيقا المعاصرة أن التأويل علاقة جدلية معقدة بين الذات والموضوع ، قد يجوز أن نشرحها بأنها نوع من تبادل الأخذ والعطاء بين القارئ والنص، يأخذ القارئ من النص معطياته ، ويضيف إليه المعانى التى يراها فيه . والهرمنيوطيقا فى هذا الصدد معنية بما تسميه دائرة التأويل .. فأنت لا ترى النص على حقيقته أو فى جوهره أو بطبيعته ، لكنك تراه حسبما يظهر لك عبر وسائط كثيرة أهمها وعيك بالعالم "( 1) ومن هنا فإن القراءة دليل حياة لأنها تأتى عبر وسائط يُفترض معها أننا أحياء ، وأننا نمارس وجودنا الحقيقى ككيانات منشغلة بممارساتها الروحية والفكرية والجمالية . وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقارئ ، فإنه دليل حياة أيضًا بالنسبة للنص ، فلا وجود حقيقى للنص بدون قارئ يتفاعل معه ، وهكذا ترى الهرمنيوطيقا عملية القراءة بالنسبة للنص ، هى تفسير يعيد إنتاج النص فى صورة جديدة . وربما أن هذا هو هدفنا من وراء قراءتنا لقصيدة الشاعرة الكويتيه " نجمة إدريس " المعنونة " ماذا لو .. ؟ " .
وليبقَ التساؤل : فيما نفيض ؟ .. حقيقة نحن نحتشد للشعر ، لكنما الروح الساحرة بكل أسرارها وفوقيتها كيف ندركها ؟! .
هكذا ـ ولا مندوحة غير هذا – عندا يتعامل الإنسان بمنطق الظاهر المحدود مع الباطن اللامتناهى ، بل هكذا الإنسان إذ يتعامل بالحواس مع ما فوق الحواس .. لابد وأن يستفيض ؛ ليعطى مجالاً لذائقته وملكاته وطاقاته الكامنة كى تنشغل هى الأخرى .
واللغة أيضًا عاجزة عن نقل الحقيقة كاملة ومهما حاولنا أن نكون أمناء فى نقلها .. ألم تقل الشاعرة فى قصيدتها : قعقعة أحرف ، ولغة جوفاء ؟! .
لكنما والأمر احتشاد .. قراءتنا تقدم " مَثَلُ المعنى " على غير الحقيقة نقدم صورة أخرى هى الوحيدة الممكنة ، والتى لا تحجر على صور أخرى ممكنة لدى الآخرين .
والقصيدة التى نحن بصدد قراءتها مغامرة تطمح إلى ملامسة الحقيقة – لا مثلها – إذ تنطلق من شعور خفىٍّ بأن حياتنا هاته إنما هى " مَثَلُ الحياة " .. على غير الحقيقة نحن نحيا فى عالم هو ظل الحقيقة غير أنه الوحيد الممكن لحياتنا الاعتيادية .. كيف لنا أن نتفلت من إسار هذا الظل ، ونحن أسرى أجسادنا وحواسنا ومداركنا الاعتيادية التى تتعامل مع الظاهر فقط ؟ .
كل هذا الظاهر لا يمثل - بالنسبة للذات الشاعرة – غير " مَثَلِ الحياة " ، لكنما والشعر اجتياز المحسوس والمَثَل الشاخص والاعتيادى المألوف ، إذ تمرح الروح الشاعرة – لحظة التشاعر – فى ملكوتها ، تأبى أن تعود إلى عالمنا هذا المحدود والمقيس والمقنَّن والمتناهى .. هذا العالم الشقى البليد ، الذى يترصده الفناء .. حقيقة تأبى أن تعود .. ألهذا يتمنى الشاعر – أى شاعر – أن يعيش فى لحظة تشاعر طويلة بطول أجله ؟ .. ألهذا إذ تنتهى لحظة التشاعر تعود الذات الشاعرة قهرًا إلى الذات الباصرة المغموسة فى عالم الحس .. تعود إلى جِبِلَّة الجسد الأرضى لتشقى ، وتئن تحت نير المحابس ؛ لتظل متمردة متوثبة متوترة تتمنى : " لو يُورِق بستانٌ فى بستان " أو بالمعنى بستان " ما فوق الحسّ " فى بستان هذا المحسوس .. لويحُلُّ هذا المتسامى الأزلى فى هذا السفلى المتناهى .
ولنتوقف عند التمنى : " ماذا لو ............... نتوضأ من آثام التكرار " والتساؤل : ـ تكرار ماذا ؟ ، لاشك أنه تكرار دوران الأعين فى اللاشىء ، حيث سآمة هذى الجدران البلهاء ! .
هل اللاشىء – إذن – هى الكلمة المفتاح فى هذا النص ؟ وثمة ثنائية مفترضة بين اللاشىء والشىء .. هى نفسها الثنائية التى يضعها النص أمامنا – بداية - : " ماذا لو ... يورق بستان فى بستان " البستان الأول هو " الشىء " وهذا غير مدرَك وإن كان مأمولاً ، والبستان الثانى هو " اللاشىء " وهذا هو المدرَك الذى تدور فيه الأعين ، والذى تمنى أن تتوضأ من آثامه .
ثمة بستانين إذن كلاهما نكرة .. مفردتان متساويتان ظاهريًّا، كل منهما فى مقابل الآخر ، أحدهما مدرَك والآخر مأمول وغير مدرَك .. أحدهما ملئ بالآثام ، والثانى – بالضرورة – يخلو منها .
لتكن " الجدران البلهاء " هى الفاصل بين البستانين حيث تحاول الأعين تخطى حدَّ الرؤية الى ما بعده مجتازة هذا البله الأرضىّ كيما تدرك ذاك البستان المأمول .. ومن ثم تكفُّ عن دورانها وحيرتها هانئة باطمئنانها الأبدى .
ثمة حُجُبٌ إذن : ( سجفة هذا الليل السافى ـ الوقت الحائل ـ الجدران البلهاء ـ سقف الأفق الأعمى ) وثمة محاولة لتخطى هذه الحجب بدأت بالأمنية " لو " المتكررة فى النص عشر مرات ، تعززها مجموعة من الأفعال : ( نتجلى ـ نمحى ـ ننجو ـ نتطاير ـ نتصاعد ـ نتلوى ـ نخلع ـ نتوضأ ـ نتعرى ـ نصلى ـ نجهش ـ نثقب ـ نتدلى ـ نتساقط ـ نخلع ـ نخرج ) .. كتيبة من الأفعال تحمل الأمنية التى نبَّتتها بدايةً الدهشة التى أطلقت تساؤلاتٍ متكررة " ماذا ..؟ ".
وثمة حيرة ( دوران ) مصحوبة بمحاولة تخطى هذه الزمكانية الثابتة المصبوغة بالسأم حيث لا جديد فيما تدركه الأعين .. الزمان هو الزمان والمكان هو المكان .. وثمة حيلولة ( دِبْق ) و ( سقف الأفق الأعمى ) وبطء وتثاقل ( الساعات الكسلى ) وثمة خواء ( لغة جوفاء) وأقنعة تخفى الحقيقة ( هذه الأوجه والأسماء ) واستتار واهم ( أثواب )لا يغنى عن رغبة فى التعرى ( ماذا لو نتعرى ؟ ) وثم سواد يعجز البصر ( سجفة هذا الليل السافى – سفوح الثلج الأسود ) وثمة دلائل مفضية إلى فناء ( كون خائر ) ..أى عالم هذا الذى نحن بصدده ؟!.. إنه بستان اللاشىء فى مقابل العالم المأمول .
لنقل إنه العالم النقيض تمامًا ، أو لنقل إنه الوجود الحقيقى . أ وليس الأمر هنا معَبِّر عن ميتافيزيقا الرؤية البصرية ، وإن شئنا ميتافيزيقا الرؤيا البصيريَّة ، إذ كيف يكون كل ما تدركه الأعين و تدور فيه معبرًا عن اللاشىء فى مقابل الشىء وهو كل ما لا تدركه الأعين ، والمألوف لنا أن الأعين ترى كل ما هو مجسَّم ؟ .. ليكن إذن كل ما تدركه الأعين هو العالم الفيزيقى ( سفلى ) ، فى قابل ما لا تدرعه الأعين فهو العالم الميتافيزيقى ( علوى ) .. وإذا كان كل ما تراه العين فى عالمها السفلى هذا ليس بحقيقةٍ ، فماذا يكون إذن؟
هل لنا أن نقول إنه " مَثَلُ الحقيقة " ، وهذا ما يشى به التساوى الظاهرى بين اللفظتين : " بستان فى بستان " ليكن أحدهما الحقيقة والثانى مَثَلها ، والمعنى يتضح من قوله تعالى : " مَثَلُ نوره كمشكاة ..... الآية " تُرى إلى أى مدى يمكن أن تقودنا فكرة " المَثَل " هذه ؟ .. إلى أى مدى يمكن أن يعبر اللاحقيقى عن الحقيقى ؟ كيف يمكن أن نتصور ذلك ؟ وهل هى نفسها فكرة " الظل والشجرة " ؟ .. أ بها – ونحن لا نرى الشجرة – يمكن أن يكون ظل الشجرة معبرًا عنها ، أم بها – ونحن نرى الظل – يمكن أن يكون الظل معبرًا عن الشجرة نفسها ؟ .
لنقل إنه بمثل هذا يكون الدال الواحد قابلاً للتكيُّف مع مدلولات عدة ، وبهذا يكون التماثل الماثل بين البستانين فى حقيقته تماثلاً لغويًّا فقط ، فيه مرونة اللغة وأريحيتها ، بيد أنه – على الإطلاق – ليس تماثلاً بين الأشياء الممثل بها والحقيقة الممثل لها .. ومن ثم فإن التماثل – كما قلنا - لغوى فقط بين " بستان " و" بستان " الواردتين فى مطلع القصيدة ، ومن ثم – أيضًا – فالأشياء الممثل بها هى اللاشىء إذ تتحول فى الحقيقة إلى دوال .. رموز .. آثار ليست هى الوجود الحق ، وإنما دالة عليه ليس إلا .
وبهذا نقيم علاقتنا بين المجاز / الظل والحقيقة / الشجرة ، واضعين فى الاعتبار أن قولنا " هذه شجرة " ونحن لا نرى سوى ظلها أن ما نقول مجرد " قعقعة أحرف " ، وإلى هذا الحد تصبح " اللغة جوفاء " إذا ما تصدت للحقيقة فى عالم كل ما فيه ظلٌّ للحقيقة .
والأمر هكذا .. فلا حقيقة فى جميع الأسماء التى نستخدمها فى عالمنا / عالم الظل . ولماذا الأسماء فقط .. أوليست ثمة أفعال تصدر عن هاتيك الأسماء ؟
ثمة فعل نقوم به ونسميه " وضوء " وآخر نسميه " صلاة " وثالت نسميه " حج " .. تكاليف شرعية فى عالمنا الأرضى تظل – إذا نُفِّذت وفق منطق الظاهر – ظلاًّ باهتًا لا يعبر عن حقيقة ما ، وتسقط – من ثم – فى دائرة الظل / اللاشىء .
إذ الحقيقة فى الوضوء أن نتخلص من آثام النفس لا من أدران البدن ، والحقيقة فى الصلاة أن نعقد الصلة بين النسبى والمطلق .. بين المحدود والأبدى .. هذه الصلة يتحقق فيها التسليم الروحى والتلاشى المادى والتسامى – بلغة المتصوفة – عن جبلتنا الأرضية بشهواتها العمياء ، وليست الصلاة طقوسًا جسدية وامتثالاً شكليًّا أجوف ، أو ترديدًا شفاهيًّا للنصوص . والحج فى الحقيقة ارتحال الروح إلى عالم النورانية وانفتاح البصيرة على المطلق ، ورجم لشهواتنا ، وهجرة هذا العالم الجسمانى إلى عالم الروحانية ..ليس الحج ارتحالاً جسديًّا ، وطقوسًا حركية إجرائية ، وليس امتناع الرفث والفسوق والجدال فى الحج لمجرد المنع ، إنه تطهر حقيقى ، وترك حقيقى لكل ملذات الجسد ، وتسليم تام للعالم الروحانى الذى يحل بنوره فينا لحظة الامتثال .. لحظة فنائنا فيه وصفائنا له .. إنه اتصال حقيقى بالمطلق المهيمن الموجود بحق ، الخفى فوق الظاهر ، الظاهر فوق الخفاء .
ثمة مؤهلات إذن للدخول إلى العالم الفوقى تتلخص مجملاً فى العبادة الحقة التى هى الامتثال الحق المفضى إلى التسامى فوق شهواتنا ورغباتنا وضعفنا البشرى أمامها ، وترك جبلتنا الأرضية لنصبح مؤهلين لحلول النورانية فينا ، ومن ثم نكتسب حياة جديدة وخلودًا أبديًّا لا يعرفه الفناء .
وهكذا فى الحديث القدسى : مازال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحببته ، فإذا أحببته صار عبدًا ربانيًّا يقول للشىء كن فيكون " ولنا أن نتوقف فى هذا الحديث القدسى عند الفعلين " يتقرب " و" ما زال " لندرك أن حلول القدرة العلوية فينا مشروط باستمرار تطهير الوعاء عن طريق العبادة الحقة ... هكذا هى نقطة البدء : إصلاح الوعاء وتطهيره ؛ ليصبح مؤهلاً لحلول الأبدى فيه . ألم يقل الله سبحانه فى خطابه إلى الملائكة : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين " ..؟ هكذا هى النفخة الربانية لا تحلُّ فى الوعاء الخرب ؛ لذلك قال سبحانه : " سويته " .. ثمة فعل سابق على النفخة – إذن – يهدف إلى التسوية والتهيئة وإصلاح الوعاء .
وهكذا نحن علينا أن نتسامى لنصبح مؤهلين لملامسة الحقائق العلوية ، وأن ننشغل بخدمة الروح لا بشبقية الجسد ، أو كما قيل نظمًا :
يا خادم الجسـم كم تشـقى لخدمته أتطلب الـرِّبح مما فيه خسران ؟!
هيَّا إلى الرُّوح .. قُمْ ، واخدم فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وتلك هى دعوة النص الذى نحن بصدده ، إذ تسيطر عليه دعوة الآخر ( المخاطب ضمنيًّا فى النص ) المنشغل بشبقية جسدية والذى يتوهم أن ذلك قد يحقق له كمالاته .. تدعوه الذات الشاعرة للتجاوز عن شبقية الجسد : " ماذا لو أنا ...... نخلع عنَّا عمْرَينا / نخرج من آثام الأرض خفافًا ...؟ " أن لحظة خلع العمر كدالة زمكانية أو بالمعنى تاريخية هى لحظة التجرد من كل ما يربطنا بتاريخ الأرض التى ارتبط وجودنا الإنسانى بوجودها .. .. ثمة انفتاح على زمكانية أخرى مطلقة – إذن – ربما يعود تاريحها إلى ما قبل تجسد الأرواح فى الأشباح .. إنه عالم النورانية .. عالم على وجه التمثيل والمجاز كل ما فيه أبيض ؛ لذا نعود منه إذ نحج إليه " بتلات بيضاء " تتساقط فوق برودة الأرض السوداء " نتساقط / فوق سفوح / الثلج الأسود / بتلات / بيضاء / غضة " .
ثمة أوعية أخرى " أكؤس " لها حلاوة وطزاجة أخرى على وجه التمثيل والمجاز " فاكهة " يمكن أن نعود بها من هذا العالم الجميل " وادى الفيروز " .. فهل لنا قبلاً " أن نخلع نعلينا " تلك العالقة بالأرض والعالق بها الدرن الأرضى ؟ ثمة دعوة – إذن – للتطهر والانسلاخ من جبلتنا الأرضية : " ماذا لو أنَّا / نخلع نعلينا/ فى وادى الفيروز / ونخلع عنَّا عمْريْنا / نخرج من آثام الأرض خفافًا / ماذا لو أنًّا ؟! .." .
وثمة تعَبُّد على شاكلة مخصوصة يخص أهل الحقيقة وحدهم .. وثمة همٌّ وانشغال حقيقى بحدمة الروح ونفور من شبقية الجسد .. همٌّ مسيطر مستمر فادح الاندفاع نحو الفناء الجسدى : " نتصاعد أبخرة / نتلوى دائرة .. .. نجهش فى صدر الليل الناعم / أشلاءً .. أشلاء " إنه الفناء المفضى إلى وجود حقيقى " نتجلى / نمحى .... ننجو " .. المحو نجاة ها هنا ، ومن ثم فالموت لا يتحدد بمعناه الاكلينيكى ، كما أنه لا يعبر عن نهاية الأجل بقدر ما أنه بداية جديدة لحياة حقيقية جديدة . . إنها دعوة إلى التسامى وملامسة الحقيقة بالمعنى الصوفى ، حشدت لها الشاعرة مفردات شائعة الاستخدام فى القاموس الصوفى مثل : " سجفة – نتجلى – نمحى – نتصاعد – حضرة – دائرة – نخلع – آثام – أكؤس – دوران – اللاشيء – الجدران ... " وكثير من الاستخدامات المجازية والتراكيب الدالة فى عالم التصوف مثل : " نصلى فى حضرة – ننوى الحج لبستان – نخلع نعلينا فى وادى – الكون الخائر – الأفق الأعمى – خلع الأوجه والأسماء – اللغة الجوفاء _ آثام الأرض – التوضوء من آثام التكرار ...... "
ولقد جسد النص رؤية الذات الشاعرة عبر الاتكاء على المحسوس والمدرك لاستشعار المعنوى والمجرد ، كما اتكأت على ثنائية الشىء / اللاشىء ، والتضاد بين مدلولات ورمزية المفردات كالبياض والسواد ، و التطاير والصعود من جهة ودبق الساعات الكسلى من جهة أخرى ، و لوحة الوقت الحال والسقوط . وبين الرغبة فى الاكتساء ( يورق ) والرغبة فى التجرد ( نتعرى ـ نخلع – ننضو ) . وثمة بعض التراكيب الخادمة التى تجمع بين الحسى والمعنوى ، ولنا أن نتوقف عند إحداها : " أثمار الدهشة " فثمة أثمار تنبت من أشجار الدهشة ، ومن ثم فالبستان المأمول الذى يضم هذه الأشجار هو بستان فى أدنى أوصافه أو أعلاها مدهش .. هذه الأثمار " تنقط أشرية فى فم " وهكذا أصبح الفم وهو أحد الحواس وسيلة لتذوق الدهشة، وهكذا تتسامى الحواس لتدرك المجردات والمعنويات ، بل هكذا تنسرب الدهشة عبر حواسنا إلى جوانب النفس لتصنع " رعشة " . تلك الرعشة المبتغاة هى صدمة الوجود الأولى فى العالم المأمول .. إنها حالة من التوتر القصوى يعبر عنها الجسد بالارتعاش فى لحظة التقائه بالمطلق ، ومن ثم فالمقطع الأول من القصيدة يمثل حالة من التمنى والانتظار والتهيؤ لاستقبال هذا الذى سيحل بروعته ودهشته ليغير حالة السكون والبلادة والرتابة والاعتيادية إلى حالة من الدهشة والروعة ينصلح معها الكيان المعطل ، أو لنمارس معها صلاحيات جديدة فى عالم جديد ، مثل تلك الصلاحية الجديدة للفم الذى أضحى يتذوق الدهشة .
القصيدة إذن تنطلق من شعور عميق بعدم صلاحية الواقع لأن يكون معبرًا عن الحياة الحقيقة ، وربما أنه الشعور بثقل الواقع المادى ورتابته ولاجدواه ومحدوديته التى تشكل أسوار الروح ، أو لنقل تنطلق من شعور بالرغبة فى الانعتاق من جبلة الواقع المادى ، أو بالمعنى رغبة التفلت من سجفة الفيزيقا .
ولنا أن نتأمل زلاجة التمنى فى النص ، حيث بدأت الأمنية متجهة نحو المكان فى مقطع القصيدة الأول إذ
" بستان " دالة مكانية ، وهو بستان شاخص بصورته الجرداء ، ومن ثم كان التمنى : " ماذا لو يورق ؟ " وعليه فإن الطقس المأمول هو الربيع ، والطقس الذى تصلح معه " لو " هو الخريف .
هل نفهم من هذا أن أمنية الذات الشاعرة تبدأ من محاولة أشباع رغبات حسية ؟ ..لا شك أن " أثمار الدهشة " تجعل الإجابة على غير ما نتوقع ، فالدهشة ليست من المحسوسات ، ومن ثم فأمنية الذات الشاعرة بحث عن حيوية جديدة " رعشة " ونبض جديد فى طقس مغاير بعيد عن هذا الموات الذى دفعها أساسًا نحو تمنى تبدل الوسط والبيئة والمناخ والعالم . تم وتتزلج الأمنية – فى المقطع نفسه – نحو الزمن كبعد رابع من أبعاد المكان ، أو لنقل تاريخ المكان ، وقد أدركت امتناع الحلول المورق لامتناع موجباته ، فالطقس ليس مناسبًا ، وظلام الأنفس لايزال سادرًا ، والمادية شاخصة ، والإحساس بثقل الزمن لا يزال مسيطرًا ؛ لذلك راحت تتمنى بـ " لو " كحرف مناسب فى مقام امتناع لامتناع : ماذا لو نتخطى ستارة الزمن " الليل " ونمحى من لوحة الوقت الملتصق بنا كجزء من إحساسنا بنسبيتنا إلى هذا العالم الشقى ،وكدالة فى تاريخنا .. هل لنا أن نجتاز هذا الإحساس بالزمن البطىء لننجو أو لندبر خلف لوحة الوجود الشاخص للعيان كلعنة لا تريم .. هذا الوجود المقيَّد والمقنن مهما يكن فهو ليل سافٍِ بالنسبة للعالم النورانى المأمول " بستان الفضة " ، ربما لهذا تتهم الذات الشاعرة الزمن بالبطء والتكاسل والحيلولة وتتمنى أن تتفلت منه إلى حيز اللازمن / اللامادة .إنها مرحلة الفناء / المحو ، إذ يمَّحِى إحساس الذات بجبلتها وماديتها وثقلها ومن ثم يتحقق الفناء بالمعنى الصوفى ، وتنطلق الذات إلى عالمها العلوى روحًا شفيفة كيما تمارس وجودها الحقيقى . وقد حددت الشاعرة الأفعال الإجرائية لذلك : " نتجلى – نمحى – ننجو – نتطاير " هذه الأفعال التى تمثل الحلم الصوفى بعامة يبدو الفعل الأول منها " نتجلى " كخطوة أساسية ومنطلق أول إذ يتم على أثره التكشف والانخلاع ، إذ تتكشف للذات الحقائق بقدر ما ينكشف لها فناؤها ونقصها وعيوبها ، ومن ثم تخلع عن نفسها كل همومها وأقنعتها وملحقاتها الأرضية ( الشهوانية ) .. إنها مرحلة الترك والزهد والنجاة فى الوقت ذاته .. وهكذا تبدأ الذات فى استشعار وجودها الحقيقى بإطراد يتناسب مع فنائها المادى ، أو كما يقال : تفنى لكى توجد . وإلى هذا اتجهت أمنية الذات الشاعرة فى المقطع الثانى من القصيدة ، إذ تبدو الرغبة فى التجرد - بعد المكان والزمان – من ملحقات الذات ومكتسباتها فوق الأرض : " الأسماء – الأوجه – الأثواب – الأحرف – اللغة " كلها مظاهر اجتماعية وحضارية ندَّعيها ، وكلها ضد الحقيقة إن لم تكن هى الستارة التى تخفى الحقيقة .. كلها مكتسبات لا تغنى العين عن الدوران فى اللاشىء .
فى عالم الحقيقة تبدو الذوات كقيم مطلقة ، فلا معنى إذن للاصطلاح ، ولا معنى للأسماء والألقاب ، ولا حاجة للأقنعة أو الاستتار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
* : ( * ) - القصيدة منشورة بمجلة العربى -العدد 477 أغسطس 1998 صـ 28
1 - د . مجدى أجمد توفيق – مدخل إلى علم القراءة الأدبية صـ 29 ( كتابات نقدية 34 – الهيئة العامة لقصور الثقافة / مصر )
عبدالجواد خفاجى
khfajy58@yahoo.com
أولاً : القصيدة ماذا لو .. ؟ (*)
شعر الدكتورة : نجمة إدريس[/align]
[align=center]
ماذا لو ...
يورِق بستانٌ فى بستانْ
تَسقُط أثمار الدهشةِ
تنْقِطُ أشربة فى فمْ
تنبض رعشة ؟!
ماذا لو ...
فى سَجْفَة هذا الليل السافى
نتجلى
نُمْحى
من لوحة هذا الوقت الحائل
ننجو
من دِبْق الساعات الكسلى
نتطاير ْ !
ماذا لو ..
نتصاعد أبخرةًً
نتلوى دائرة ً
تنداح فضاءاتٍ ودوائر؟!
* * * *
ماذا لو..
نخلع هذى الأوجهَ
والأسماء .
لو ننضو عنا الأثواب
وقعقعةَ الأحرف
ريشَ اللغة الجوفاء ؟!
نتوضأ من آثامِ
التكرار
دورانِ الأعين فى اللاشىء
سآمة هذى الجدران البلهاء !
ماذا لو نتعرى
نتدفأ باللاشىء
نصلى فى حضرة نزفِ الغيمِ
ونجْهشُ فى صدر الليل الناعم
أشلاءً .. أشلاء .
* * * * *
ماذا لو ..
ننوى الحجَّ
لبستان الفضة ْ
نثقب سقفَ الأفق
الأعمى
نتدلى
من أغْصُنِ هذا الكون الخائر
فاكهةً
تتلامس أكؤسها
البضَّةْ
نتساقطُ
فوق سفوحِ
الثلج الأسودِ
بتلاتٍ
بيضاء
غضَّةَ
* * * * *
ماذا لو أنَّا
نخلع نعلينا
فى وادى الفيروز
ونخلع عنّا عمْرَيْنَا
نخرج من آثام الأرض ِ
خفافًا
ماذا لو أنَّا ؟!
ماذا لو أنَّا ؟![/align]
[align=center] * * * *[/align]
[align=center] ثانيًا القراءة :
مغامرة التفلُّت من سجفة الفيزيقا
قراءة فى قصيدة " ماذا لو " للشاعرة: نجمة إدريس
قراءة : عبدالجواد خفاجى[/align]
كيف يصبح الشعر مجالاً للإفاضة .. بل فيما نفيض ؟ والشعر خلف تمَظْهُره الفيزيقى روح كامنة تُداخلنا فى لحظة فاصلة إذ نلامس القصيدة .. تكهربنا فنهمى كسحابة لامست أخرى ؛ فاستعادتا لبعضيها حياة جديدة .. وارتعاشة فيضٍ ، هو دليل حياة ليس إلا .
ألهذا يقال : إن قراءة النص دليل حياة ؟! ، مثلما " ترى الهرمنيوطيقا المعاصرة أن التأويل علاقة جدلية معقدة بين الذات والموضوع ، قد يجوز أن نشرحها بأنها نوع من تبادل الأخذ والعطاء بين القارئ والنص، يأخذ القارئ من النص معطياته ، ويضيف إليه المعانى التى يراها فيه . والهرمنيوطيقا فى هذا الصدد معنية بما تسميه دائرة التأويل .. فأنت لا ترى النص على حقيقته أو فى جوهره أو بطبيعته ، لكنك تراه حسبما يظهر لك عبر وسائط كثيرة أهمها وعيك بالعالم "( 1) ومن هنا فإن القراءة دليل حياة لأنها تأتى عبر وسائط يُفترض معها أننا أحياء ، وأننا نمارس وجودنا الحقيقى ككيانات منشغلة بممارساتها الروحية والفكرية والجمالية . وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقارئ ، فإنه دليل حياة أيضًا بالنسبة للنص ، فلا وجود حقيقى للنص بدون قارئ يتفاعل معه ، وهكذا ترى الهرمنيوطيقا عملية القراءة بالنسبة للنص ، هى تفسير يعيد إنتاج النص فى صورة جديدة . وربما أن هذا هو هدفنا من وراء قراءتنا لقصيدة الشاعرة الكويتيه " نجمة إدريس " المعنونة " ماذا لو .. ؟ " .
وليبقَ التساؤل : فيما نفيض ؟ .. حقيقة نحن نحتشد للشعر ، لكنما الروح الساحرة بكل أسرارها وفوقيتها كيف ندركها ؟! .
هكذا ـ ولا مندوحة غير هذا – عندا يتعامل الإنسان بمنطق الظاهر المحدود مع الباطن اللامتناهى ، بل هكذا الإنسان إذ يتعامل بالحواس مع ما فوق الحواس .. لابد وأن يستفيض ؛ ليعطى مجالاً لذائقته وملكاته وطاقاته الكامنة كى تنشغل هى الأخرى .
واللغة أيضًا عاجزة عن نقل الحقيقة كاملة ومهما حاولنا أن نكون أمناء فى نقلها .. ألم تقل الشاعرة فى قصيدتها : قعقعة أحرف ، ولغة جوفاء ؟! .
لكنما والأمر احتشاد .. قراءتنا تقدم " مَثَلُ المعنى " على غير الحقيقة نقدم صورة أخرى هى الوحيدة الممكنة ، والتى لا تحجر على صور أخرى ممكنة لدى الآخرين .
والقصيدة التى نحن بصدد قراءتها مغامرة تطمح إلى ملامسة الحقيقة – لا مثلها – إذ تنطلق من شعور خفىٍّ بأن حياتنا هاته إنما هى " مَثَلُ الحياة " .. على غير الحقيقة نحن نحيا فى عالم هو ظل الحقيقة غير أنه الوحيد الممكن لحياتنا الاعتيادية .. كيف لنا أن نتفلت من إسار هذا الظل ، ونحن أسرى أجسادنا وحواسنا ومداركنا الاعتيادية التى تتعامل مع الظاهر فقط ؟ .
كل هذا الظاهر لا يمثل - بالنسبة للذات الشاعرة – غير " مَثَلِ الحياة " ، لكنما والشعر اجتياز المحسوس والمَثَل الشاخص والاعتيادى المألوف ، إذ تمرح الروح الشاعرة – لحظة التشاعر – فى ملكوتها ، تأبى أن تعود إلى عالمنا هذا المحدود والمقيس والمقنَّن والمتناهى .. هذا العالم الشقى البليد ، الذى يترصده الفناء .. حقيقة تأبى أن تعود .. ألهذا يتمنى الشاعر – أى شاعر – أن يعيش فى لحظة تشاعر طويلة بطول أجله ؟ .. ألهذا إذ تنتهى لحظة التشاعر تعود الذات الشاعرة قهرًا إلى الذات الباصرة المغموسة فى عالم الحس .. تعود إلى جِبِلَّة الجسد الأرضى لتشقى ، وتئن تحت نير المحابس ؛ لتظل متمردة متوثبة متوترة تتمنى : " لو يُورِق بستانٌ فى بستان " أو بالمعنى بستان " ما فوق الحسّ " فى بستان هذا المحسوس .. لويحُلُّ هذا المتسامى الأزلى فى هذا السفلى المتناهى .
ولنتوقف عند التمنى : " ماذا لو ............... نتوضأ من آثام التكرار " والتساؤل : ـ تكرار ماذا ؟ ، لاشك أنه تكرار دوران الأعين فى اللاشىء ، حيث سآمة هذى الجدران البلهاء ! .
هل اللاشىء – إذن – هى الكلمة المفتاح فى هذا النص ؟ وثمة ثنائية مفترضة بين اللاشىء والشىء .. هى نفسها الثنائية التى يضعها النص أمامنا – بداية - : " ماذا لو ... يورق بستان فى بستان " البستان الأول هو " الشىء " وهذا غير مدرَك وإن كان مأمولاً ، والبستان الثانى هو " اللاشىء " وهذا هو المدرَك الذى تدور فيه الأعين ، والذى تمنى أن تتوضأ من آثامه .
ثمة بستانين إذن كلاهما نكرة .. مفردتان متساويتان ظاهريًّا، كل منهما فى مقابل الآخر ، أحدهما مدرَك والآخر مأمول وغير مدرَك .. أحدهما ملئ بالآثام ، والثانى – بالضرورة – يخلو منها .
لتكن " الجدران البلهاء " هى الفاصل بين البستانين حيث تحاول الأعين تخطى حدَّ الرؤية الى ما بعده مجتازة هذا البله الأرضىّ كيما تدرك ذاك البستان المأمول .. ومن ثم تكفُّ عن دورانها وحيرتها هانئة باطمئنانها الأبدى .
ثمة حُجُبٌ إذن : ( سجفة هذا الليل السافى ـ الوقت الحائل ـ الجدران البلهاء ـ سقف الأفق الأعمى ) وثمة محاولة لتخطى هذه الحجب بدأت بالأمنية " لو " المتكررة فى النص عشر مرات ، تعززها مجموعة من الأفعال : ( نتجلى ـ نمحى ـ ننجو ـ نتطاير ـ نتصاعد ـ نتلوى ـ نخلع ـ نتوضأ ـ نتعرى ـ نصلى ـ نجهش ـ نثقب ـ نتدلى ـ نتساقط ـ نخلع ـ نخرج ) .. كتيبة من الأفعال تحمل الأمنية التى نبَّتتها بدايةً الدهشة التى أطلقت تساؤلاتٍ متكررة " ماذا ..؟ ".
وثمة حيرة ( دوران ) مصحوبة بمحاولة تخطى هذه الزمكانية الثابتة المصبوغة بالسأم حيث لا جديد فيما تدركه الأعين .. الزمان هو الزمان والمكان هو المكان .. وثمة حيلولة ( دِبْق ) و ( سقف الأفق الأعمى ) وبطء وتثاقل ( الساعات الكسلى ) وثمة خواء ( لغة جوفاء) وأقنعة تخفى الحقيقة ( هذه الأوجه والأسماء ) واستتار واهم ( أثواب )لا يغنى عن رغبة فى التعرى ( ماذا لو نتعرى ؟ ) وثم سواد يعجز البصر ( سجفة هذا الليل السافى – سفوح الثلج الأسود ) وثمة دلائل مفضية إلى فناء ( كون خائر ) ..أى عالم هذا الذى نحن بصدده ؟!.. إنه بستان اللاشىء فى مقابل العالم المأمول .
لنقل إنه العالم النقيض تمامًا ، أو لنقل إنه الوجود الحقيقى . أ وليس الأمر هنا معَبِّر عن ميتافيزيقا الرؤية البصرية ، وإن شئنا ميتافيزيقا الرؤيا البصيريَّة ، إذ كيف يكون كل ما تدركه الأعين و تدور فيه معبرًا عن اللاشىء فى مقابل الشىء وهو كل ما لا تدركه الأعين ، والمألوف لنا أن الأعين ترى كل ما هو مجسَّم ؟ .. ليكن إذن كل ما تدركه الأعين هو العالم الفيزيقى ( سفلى ) ، فى قابل ما لا تدرعه الأعين فهو العالم الميتافيزيقى ( علوى ) .. وإذا كان كل ما تراه العين فى عالمها السفلى هذا ليس بحقيقةٍ ، فماذا يكون إذن؟
هل لنا أن نقول إنه " مَثَلُ الحقيقة " ، وهذا ما يشى به التساوى الظاهرى بين اللفظتين : " بستان فى بستان " ليكن أحدهما الحقيقة والثانى مَثَلها ، والمعنى يتضح من قوله تعالى : " مَثَلُ نوره كمشكاة ..... الآية " تُرى إلى أى مدى يمكن أن تقودنا فكرة " المَثَل " هذه ؟ .. إلى أى مدى يمكن أن يعبر اللاحقيقى عن الحقيقى ؟ كيف يمكن أن نتصور ذلك ؟ وهل هى نفسها فكرة " الظل والشجرة " ؟ .. أ بها – ونحن لا نرى الشجرة – يمكن أن يكون ظل الشجرة معبرًا عنها ، أم بها – ونحن نرى الظل – يمكن أن يكون الظل معبرًا عن الشجرة نفسها ؟ .
لنقل إنه بمثل هذا يكون الدال الواحد قابلاً للتكيُّف مع مدلولات عدة ، وبهذا يكون التماثل الماثل بين البستانين فى حقيقته تماثلاً لغويًّا فقط ، فيه مرونة اللغة وأريحيتها ، بيد أنه – على الإطلاق – ليس تماثلاً بين الأشياء الممثل بها والحقيقة الممثل لها .. ومن ثم فإن التماثل – كما قلنا - لغوى فقط بين " بستان " و" بستان " الواردتين فى مطلع القصيدة ، ومن ثم – أيضًا – فالأشياء الممثل بها هى اللاشىء إذ تتحول فى الحقيقة إلى دوال .. رموز .. آثار ليست هى الوجود الحق ، وإنما دالة عليه ليس إلا .
وبهذا نقيم علاقتنا بين المجاز / الظل والحقيقة / الشجرة ، واضعين فى الاعتبار أن قولنا " هذه شجرة " ونحن لا نرى سوى ظلها أن ما نقول مجرد " قعقعة أحرف " ، وإلى هذا الحد تصبح " اللغة جوفاء " إذا ما تصدت للحقيقة فى عالم كل ما فيه ظلٌّ للحقيقة .
والأمر هكذا .. فلا حقيقة فى جميع الأسماء التى نستخدمها فى عالمنا / عالم الظل . ولماذا الأسماء فقط .. أوليست ثمة أفعال تصدر عن هاتيك الأسماء ؟
ثمة فعل نقوم به ونسميه " وضوء " وآخر نسميه " صلاة " وثالت نسميه " حج " .. تكاليف شرعية فى عالمنا الأرضى تظل – إذا نُفِّذت وفق منطق الظاهر – ظلاًّ باهتًا لا يعبر عن حقيقة ما ، وتسقط – من ثم – فى دائرة الظل / اللاشىء .
إذ الحقيقة فى الوضوء أن نتخلص من آثام النفس لا من أدران البدن ، والحقيقة فى الصلاة أن نعقد الصلة بين النسبى والمطلق .. بين المحدود والأبدى .. هذه الصلة يتحقق فيها التسليم الروحى والتلاشى المادى والتسامى – بلغة المتصوفة – عن جبلتنا الأرضية بشهواتها العمياء ، وليست الصلاة طقوسًا جسدية وامتثالاً شكليًّا أجوف ، أو ترديدًا شفاهيًّا للنصوص . والحج فى الحقيقة ارتحال الروح إلى عالم النورانية وانفتاح البصيرة على المطلق ، ورجم لشهواتنا ، وهجرة هذا العالم الجسمانى إلى عالم الروحانية ..ليس الحج ارتحالاً جسديًّا ، وطقوسًا حركية إجرائية ، وليس امتناع الرفث والفسوق والجدال فى الحج لمجرد المنع ، إنه تطهر حقيقى ، وترك حقيقى لكل ملذات الجسد ، وتسليم تام للعالم الروحانى الذى يحل بنوره فينا لحظة الامتثال .. لحظة فنائنا فيه وصفائنا له .. إنه اتصال حقيقى بالمطلق المهيمن الموجود بحق ، الخفى فوق الظاهر ، الظاهر فوق الخفاء .
ثمة مؤهلات إذن للدخول إلى العالم الفوقى تتلخص مجملاً فى العبادة الحقة التى هى الامتثال الحق المفضى إلى التسامى فوق شهواتنا ورغباتنا وضعفنا البشرى أمامها ، وترك جبلتنا الأرضية لنصبح مؤهلين لحلول النورانية فينا ، ومن ثم نكتسب حياة جديدة وخلودًا أبديًّا لا يعرفه الفناء .
وهكذا فى الحديث القدسى : مازال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحببته ، فإذا أحببته صار عبدًا ربانيًّا يقول للشىء كن فيكون " ولنا أن نتوقف فى هذا الحديث القدسى عند الفعلين " يتقرب " و" ما زال " لندرك أن حلول القدرة العلوية فينا مشروط باستمرار تطهير الوعاء عن طريق العبادة الحقة ... هكذا هى نقطة البدء : إصلاح الوعاء وتطهيره ؛ ليصبح مؤهلاً لحلول الأبدى فيه . ألم يقل الله سبحانه فى خطابه إلى الملائكة : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين " ..؟ هكذا هى النفخة الربانية لا تحلُّ فى الوعاء الخرب ؛ لذلك قال سبحانه : " سويته " .. ثمة فعل سابق على النفخة – إذن – يهدف إلى التسوية والتهيئة وإصلاح الوعاء .
وهكذا نحن علينا أن نتسامى لنصبح مؤهلين لملامسة الحقائق العلوية ، وأن ننشغل بخدمة الروح لا بشبقية الجسد ، أو كما قيل نظمًا :
يا خادم الجسـم كم تشـقى لخدمته أتطلب الـرِّبح مما فيه خسران ؟!
هيَّا إلى الرُّوح .. قُمْ ، واخدم فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وتلك هى دعوة النص الذى نحن بصدده ، إذ تسيطر عليه دعوة الآخر ( المخاطب ضمنيًّا فى النص ) المنشغل بشبقية جسدية والذى يتوهم أن ذلك قد يحقق له كمالاته .. تدعوه الذات الشاعرة للتجاوز عن شبقية الجسد : " ماذا لو أنا ...... نخلع عنَّا عمْرَينا / نخرج من آثام الأرض خفافًا ...؟ " أن لحظة خلع العمر كدالة زمكانية أو بالمعنى تاريخية هى لحظة التجرد من كل ما يربطنا بتاريخ الأرض التى ارتبط وجودنا الإنسانى بوجودها .. .. ثمة انفتاح على زمكانية أخرى مطلقة – إذن – ربما يعود تاريحها إلى ما قبل تجسد الأرواح فى الأشباح .. إنه عالم النورانية .. عالم على وجه التمثيل والمجاز كل ما فيه أبيض ؛ لذا نعود منه إذ نحج إليه " بتلات بيضاء " تتساقط فوق برودة الأرض السوداء " نتساقط / فوق سفوح / الثلج الأسود / بتلات / بيضاء / غضة " .
ثمة أوعية أخرى " أكؤس " لها حلاوة وطزاجة أخرى على وجه التمثيل والمجاز " فاكهة " يمكن أن نعود بها من هذا العالم الجميل " وادى الفيروز " .. فهل لنا قبلاً " أن نخلع نعلينا " تلك العالقة بالأرض والعالق بها الدرن الأرضى ؟ ثمة دعوة – إذن – للتطهر والانسلاخ من جبلتنا الأرضية : " ماذا لو أنَّا / نخلع نعلينا/ فى وادى الفيروز / ونخلع عنَّا عمْريْنا / نخرج من آثام الأرض خفافًا / ماذا لو أنًّا ؟! .." .
وثمة تعَبُّد على شاكلة مخصوصة يخص أهل الحقيقة وحدهم .. وثمة همٌّ وانشغال حقيقى بحدمة الروح ونفور من شبقية الجسد .. همٌّ مسيطر مستمر فادح الاندفاع نحو الفناء الجسدى : " نتصاعد أبخرة / نتلوى دائرة .. .. نجهش فى صدر الليل الناعم / أشلاءً .. أشلاء " إنه الفناء المفضى إلى وجود حقيقى " نتجلى / نمحى .... ننجو " .. المحو نجاة ها هنا ، ومن ثم فالموت لا يتحدد بمعناه الاكلينيكى ، كما أنه لا يعبر عن نهاية الأجل بقدر ما أنه بداية جديدة لحياة حقيقية جديدة . . إنها دعوة إلى التسامى وملامسة الحقيقة بالمعنى الصوفى ، حشدت لها الشاعرة مفردات شائعة الاستخدام فى القاموس الصوفى مثل : " سجفة – نتجلى – نمحى – نتصاعد – حضرة – دائرة – نخلع – آثام – أكؤس – دوران – اللاشيء – الجدران ... " وكثير من الاستخدامات المجازية والتراكيب الدالة فى عالم التصوف مثل : " نصلى فى حضرة – ننوى الحج لبستان – نخلع نعلينا فى وادى – الكون الخائر – الأفق الأعمى – خلع الأوجه والأسماء – اللغة الجوفاء _ آثام الأرض – التوضوء من آثام التكرار ...... "
ولقد جسد النص رؤية الذات الشاعرة عبر الاتكاء على المحسوس والمدرك لاستشعار المعنوى والمجرد ، كما اتكأت على ثنائية الشىء / اللاشىء ، والتضاد بين مدلولات ورمزية المفردات كالبياض والسواد ، و التطاير والصعود من جهة ودبق الساعات الكسلى من جهة أخرى ، و لوحة الوقت الحال والسقوط . وبين الرغبة فى الاكتساء ( يورق ) والرغبة فى التجرد ( نتعرى ـ نخلع – ننضو ) . وثمة بعض التراكيب الخادمة التى تجمع بين الحسى والمعنوى ، ولنا أن نتوقف عند إحداها : " أثمار الدهشة " فثمة أثمار تنبت من أشجار الدهشة ، ومن ثم فالبستان المأمول الذى يضم هذه الأشجار هو بستان فى أدنى أوصافه أو أعلاها مدهش .. هذه الأثمار " تنقط أشرية فى فم " وهكذا أصبح الفم وهو أحد الحواس وسيلة لتذوق الدهشة، وهكذا تتسامى الحواس لتدرك المجردات والمعنويات ، بل هكذا تنسرب الدهشة عبر حواسنا إلى جوانب النفس لتصنع " رعشة " . تلك الرعشة المبتغاة هى صدمة الوجود الأولى فى العالم المأمول .. إنها حالة من التوتر القصوى يعبر عنها الجسد بالارتعاش فى لحظة التقائه بالمطلق ، ومن ثم فالمقطع الأول من القصيدة يمثل حالة من التمنى والانتظار والتهيؤ لاستقبال هذا الذى سيحل بروعته ودهشته ليغير حالة السكون والبلادة والرتابة والاعتيادية إلى حالة من الدهشة والروعة ينصلح معها الكيان المعطل ، أو لنمارس معها صلاحيات جديدة فى عالم جديد ، مثل تلك الصلاحية الجديدة للفم الذى أضحى يتذوق الدهشة .
القصيدة إذن تنطلق من شعور عميق بعدم صلاحية الواقع لأن يكون معبرًا عن الحياة الحقيقة ، وربما أنه الشعور بثقل الواقع المادى ورتابته ولاجدواه ومحدوديته التى تشكل أسوار الروح ، أو لنقل تنطلق من شعور بالرغبة فى الانعتاق من جبلة الواقع المادى ، أو بالمعنى رغبة التفلت من سجفة الفيزيقا .
ولنا أن نتأمل زلاجة التمنى فى النص ، حيث بدأت الأمنية متجهة نحو المكان فى مقطع القصيدة الأول إذ
" بستان " دالة مكانية ، وهو بستان شاخص بصورته الجرداء ، ومن ثم كان التمنى : " ماذا لو يورق ؟ " وعليه فإن الطقس المأمول هو الربيع ، والطقس الذى تصلح معه " لو " هو الخريف .
هل نفهم من هذا أن أمنية الذات الشاعرة تبدأ من محاولة أشباع رغبات حسية ؟ ..لا شك أن " أثمار الدهشة " تجعل الإجابة على غير ما نتوقع ، فالدهشة ليست من المحسوسات ، ومن ثم فأمنية الذات الشاعرة بحث عن حيوية جديدة " رعشة " ونبض جديد فى طقس مغاير بعيد عن هذا الموات الذى دفعها أساسًا نحو تمنى تبدل الوسط والبيئة والمناخ والعالم . تم وتتزلج الأمنية – فى المقطع نفسه – نحو الزمن كبعد رابع من أبعاد المكان ، أو لنقل تاريخ المكان ، وقد أدركت امتناع الحلول المورق لامتناع موجباته ، فالطقس ليس مناسبًا ، وظلام الأنفس لايزال سادرًا ، والمادية شاخصة ، والإحساس بثقل الزمن لا يزال مسيطرًا ؛ لذلك راحت تتمنى بـ " لو " كحرف مناسب فى مقام امتناع لامتناع : ماذا لو نتخطى ستارة الزمن " الليل " ونمحى من لوحة الوقت الملتصق بنا كجزء من إحساسنا بنسبيتنا إلى هذا العالم الشقى ،وكدالة فى تاريخنا .. هل لنا أن نجتاز هذا الإحساس بالزمن البطىء لننجو أو لندبر خلف لوحة الوجود الشاخص للعيان كلعنة لا تريم .. هذا الوجود المقيَّد والمقنن مهما يكن فهو ليل سافٍِ بالنسبة للعالم النورانى المأمول " بستان الفضة " ، ربما لهذا تتهم الذات الشاعرة الزمن بالبطء والتكاسل والحيلولة وتتمنى أن تتفلت منه إلى حيز اللازمن / اللامادة .إنها مرحلة الفناء / المحو ، إذ يمَّحِى إحساس الذات بجبلتها وماديتها وثقلها ومن ثم يتحقق الفناء بالمعنى الصوفى ، وتنطلق الذات إلى عالمها العلوى روحًا شفيفة كيما تمارس وجودها الحقيقى . وقد حددت الشاعرة الأفعال الإجرائية لذلك : " نتجلى – نمحى – ننجو – نتطاير " هذه الأفعال التى تمثل الحلم الصوفى بعامة يبدو الفعل الأول منها " نتجلى " كخطوة أساسية ومنطلق أول إذ يتم على أثره التكشف والانخلاع ، إذ تتكشف للذات الحقائق بقدر ما ينكشف لها فناؤها ونقصها وعيوبها ، ومن ثم تخلع عن نفسها كل همومها وأقنعتها وملحقاتها الأرضية ( الشهوانية ) .. إنها مرحلة الترك والزهد والنجاة فى الوقت ذاته .. وهكذا تبدأ الذات فى استشعار وجودها الحقيقى بإطراد يتناسب مع فنائها المادى ، أو كما يقال : تفنى لكى توجد . وإلى هذا اتجهت أمنية الذات الشاعرة فى المقطع الثانى من القصيدة ، إذ تبدو الرغبة فى التجرد - بعد المكان والزمان – من ملحقات الذات ومكتسباتها فوق الأرض : " الأسماء – الأوجه – الأثواب – الأحرف – اللغة " كلها مظاهر اجتماعية وحضارية ندَّعيها ، وكلها ضد الحقيقة إن لم تكن هى الستارة التى تخفى الحقيقة .. كلها مكتسبات لا تغنى العين عن الدوران فى اللاشىء .
فى عالم الحقيقة تبدو الذوات كقيم مطلقة ، فلا معنى إذن للاصطلاح ، ولا معنى للأسماء والألقاب ، ولا حاجة للأقنعة أو الاستتار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
* : ( * ) - القصيدة منشورة بمجلة العربى -العدد 477 أغسطس 1998 صـ 28
1 - د . مجدى أجمد توفيق – مدخل إلى علم القراءة الأدبية صـ 29 ( كتابات نقدية 34 – الهيئة العامة لقصور الثقافة / مصر )
عبدالجواد خفاجى
khfajy58@yahoo.com