ابن طفيل في جبة ابن سينا!
- 2 -
[[/B] - [align=justify]CENTER][/CENTER] -
إن قراءة قصة حي ابن يقظان لابن طفيل بمعزل عن التراث الأدبي - الفلسفي السينوي هي قراءة قاصرة، فإن هذا التراث، وخاصة في جانبه القصصي
الذي اقتبس منه ابن طفيل شخصيات قصته الفلسفية، يعتبر من المداخل الأساسية لفهم جوانب مهمة من هذه الرسالة الطريفة، سواء على مستوى شكلها أو على مستوى مضمونها، فكيف ذلك ؟.
استعار ابن طفيل الشخصية الرئيسية لقصته حي بن يقظان ، من رسالة لابن سينا تحمل نفس العنوان، فقد كتب ابن سينا قصته الفلسفية، حي ابن يقظان(52)، من أجل الدعوة إلى السفر برفقة ملك الإشراف(53)، للسياحة في العوالم الممكنة، وبلوغ أقصى كمالات الإنسان. وقد رمز لهذا الملك بالشيخ المهيب حي بن يقظان، الذي يحترف السياحة في أقطار العوام، ووجهه لا يحيد عن أبيه الدائم الحياة والذي سلم له مفاتيح العلوم كلها، حتى أحاط بكل شيء خبرا. ويشترط هذا الشيخ الكامل، على من يطمع في هذه السياحة، ليدرك كماله، أن يعلم استحالة السياحة الخالصة، وأن يقنع بالسياحة المدخولة مركز على استحالة التجرد من المادة. وأن يتخلص من رفقة السوء؛ ورمز الشهوات. ويرقى عن الخافقين؛ رمز العالم المحسوس. عندئذ في السياحة والترقي، حتى يدرك الملك المطاع، ويذوق لذة الوصال؛ رمز واجب الوجود، والفناء والمشاهدة. ويحرص هذا الشيخ، - وهو يصف العوالم، وعلاقة الملك بأمته التي هي في وصال دائم؛ تمتع النظر إلى وجهه، فيغض الدهش أطرافهم، - على التشويق والترغيب في اتباعه من أجل السياحة.
ذلك باختصار شديد السمات الكبرى لحي ابن سينا. وما يقيم العلاقة بين الشخصيتين السينوية وشخصية ابن طفيل أن كليها على الأقل يحترف السياحة بلغة ابن سينا والجولان بلغة ابن طفيل. أما الشخصيتان المعينتان ل حي ابن طفيل، على اكتشاف الدين والمجتمع؛ آسال وسالمان(54)، فاقتبسهما ابن طفيل من قصة نوه بها ابن سينا في القسم الأخير من سفره الإشارات والتنبيهات، وأومأ إلى انها من الرموز التي تحمل معاني جديرة بالتأمل. قال ابن سينا : وإذا قرع سمعك فيما يقرعه، وسرد عليك فيما تسمعه، قصة لسلامان وأبسال، فاعلم أن سلامان مثل ضرب لك، وأن أبسالا مثل ضرب لدرجتك في العرفان إن كنت من أهله. ثم حل الرمز إن أطلقت(55). ويقدم الطوسي - شارح ابن سينا - إمكانات لحل هذا الرمز السينوي المعلق(56)، فيؤكد أن كلام ابن سينا يشعر بوجود قصة يذكر فيها هذان الإسمان، ويكون سياقهما مشتملة على ذكر طالب ما لمطلوب لا يناله إلا شيئا فشيئا، ويظفر بذلك النيل على كمال بعد كمال، ليمكن تطبيق سلامان على ذلك الطالب، وتطبيق آسال على مطلوبه ذلك، وتطبيق ما جرى بينهما من الأحوال على الرمز الذي أمر الشيخ بحله. فيأتي على ذكر قصة يراها الطوسي، مطابقة لما ذكره ابن سينا. وهذه القصة تدور في ظاهرها حول تيمة الحب والانتقام؛ وتضمر في باطنها رموزا وأسرارا نحاول تلخيص هذه القصة لبيان مواطن التأثير والتأثر :
أحبت زوجة سالمان، أخاه الأصغر آسال، الذي نشأ في كنف أخيه الأكبر، حتى استوى شابا ذا بسطة في العلم والجسم، وكمال في الخلق والشجاعة. فأغرمت به المرأة وأوعزت إلى سالمان أن يشجع اخاه على مخالطة أهله، حتى يسرقوا منه طابعه العالية. ولما اتتها الفرصة وخلت به، راودته عن نفسه فاستعصم. ودبرت حيلة؛ فأوحت إلى زوجها أن يزوج آسال أختها، حتى إذا جاء الليل، باتت امرأة سالمان في فراش أختها … وقد تغيم السماء في الوقت غيما فلاح منه برق أبصر بضوئه وجهها، لإزعجها، وخرج من عندها،وعزم على مفارقتها، فطلب من أخيه، أن يبعثه في مهمة عسكرية، فلما طال غيابه، وأيقن أن زوجة أخيه سلته، رجع، فعادت لمراودته، فلما استيأست منه، تملكتها شهوة الانتقام؛ فأوعزت إلى الجنود أن يخذلوه في الحرب، ففعلوا وتركوه مضرجا بدمائه، وقد أيقنوا هلاكه. فأتته مرضعة من حيوانات الوحش، ألقمته حلمة ثديها، واغتدى بذلك، إلى أن انتعش وعوفي. فعاد إلى البيت، فـواطأت [المرأة] طابخه، وطاعمه، وأعطتهما مالا، فسقياه السم فمات. فحزن عليه سالمان، وفزع إلى العزلة يناجي ربه، إلى أن أوحى إليه جلية الحال، فانتقم من قتلة أخيه آسال.
ويمضي الطوسي في فلك رموز هذه القصة، مؤكدا أن سالمان هو مثل للنفس الناطقة. وأبسال مثل للعقل النظري المترقي إلى أن حصل عقلا مستفادا، وهو درجتها في العرفان، إذ كانت تترقى إلى الكمال …، منتهيا في الأخير، إلى أن هذا التأويل مطابق لما ذكره الشيخ، ومما يؤيده أنه قصده بهذه القصة، أنه ذكر في رسالة - في القضاء والقدر - قصة سالمان وأبسال، وذكر فيها حديث لمعان البرق من الغيم المظلم، الذي أظهر لأبسال وجه ارمأة سالمان، حتى أعرض عنها. وهو ما أوله الطوسي بـالخطفة الإلهية التي تسنح في أثناء الاشتغال بالأمور الفانية …. ونحن لا نشك ان ابن طفيل قد اطلع على هذه القصة، وتأثر بها. لكن هناك قصة أخرى، تمت الإشارة إليها آنفا، وهي قصة الملك والصنم، وهذه بدون شك ابن طفيل.
إن العناصر التي نعتبر ان اين طفيل استلهمها من فلسفة ابن سينا، وخاصة من رسالتي حي ابن يقظان وآسال وسلامان السينويتين، باعتبارهما تضمان كثيرا من هذه العناصر السينوية، التي هي من أسرار هذه الحكمة المشرقية التي نوه بها ابن طفيل في بداية رسالته الفلسفة، هي : القول بالتولد الذاتي، وجوهرية النفس، والقول بـألوهية الأجرام السماوية، والقول بالمجاهدة،والقول بالحياة بعد الموت، وهي عناصر تخترق النص الفلسفي وتشكل لحمته الأساسية.
لكن كيف فهم ابن طفيل حي ابن يقظان وأسال وسلامان، وأي وظيفة قاموا بها في رسالته الفلسفية ؟.
لقد اختار ابن طفيل لبطل قصته اسم حي ابن يقظان، والحي هو الداركالفعال [إذ أن] خاصية الحياة الإدراك والفعل(57)، وهو المتحرك من ذاته بحركات محدودة نحو أغراض وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة(58) واليقظان هو المستعمل للحواس، فجمع له بين الإدراك العقلي وبين الممارسة العلمية الخاضعة للتدبير. وهكذا أدرك حي باشتغاله المضمي بحواسه، وبتفتحه الفكري الناتج عن فطرته الفائقة معرفة نظرية وعلمية كاملة، وتحرك بالفعل ذاتي واع، وبتدبير كبير - مشدوها بلغز هذا الوجود - لبلوغ الكمال الميتافيزيقي. فـ حي إذن يرمز عند ابن طفيل لأدوات المعرفة في تحررها وتفتحها وتألقها وشوقها إلى المعرفة التي ترمي بالذات من خلال أفعال محدودة في أتون المطلق.
أما آسال ابن طفيل فيرمز للعقل الديني الذي يترقى في المعرفة مكسرا طوق التقليد متجاوزا ظواهر النصوص، كلفا بالتأمل والغوص على المعاني، محبا للعزلة المعنية على ذلك حتى يصل بمساعدة حي إلى درجة الاتصال. إن هذا العقل، بمواصفاته التي حرص ابن طفيل على التشديد عليها، هو وحده القادر على التجاوب مع العقل الفلسفي الذي يمثله حي بن يقظان. ولذلك سيجسد ابن طفيل من خلال لقاء آسال بحي، واطمئنان بعضهما لبعض، وتبادلهما لتجاريهما، غخاء الفلسفة والشريعة، والمحبة الطبيعية التي تحدث عنها ابن رشد في فصل المقال، ولا يخفى أن هناك قرابة واضحة بين الآسلين؛ آسال ابن سينا وآسال ابن طفيل، وإن لم يكن بينهما تطابق تام؛ فكلاهما ترقى في مراقي المعرفة، حتى بلغ درجة من الكمال.
أما سالمان ابن طفيل فرمز للعقل الديني، والوقاف عند الظواهر، المحب للاجتماع الإنساني والحريص عليه، العقل غير مؤهل - عادة - لفهم الحكمة والتجاوب معها. وقد أسند ابن طفيل لسالمان نفس الوظيفة التي أسندها ابن سينا لسميه، فكلاهما ملك، وإن كانت الأدوار التي قام بها كل منهما منسجمة مع السياق الفلسفي - الأدبي للقصة. ففي رسمه لصورة سالمان يقدم لنا ابن طفيل معالم الشخصية الأندلسية التي ينبو ذوقها عن التفلسف ويعسر عليها فهم الحكمة، ;ولا تستطيع أن ترفع إلا يفاع الاستبصار، لما ركب في طباعه [ا] من الجبن عن الفكرة ووقوفها عند ظواهر النصوص،وبعدها عن التأمل والتأويل الناتج عن نقص فطرتها. فهذا النقض هو العائق الكبير الذي يقف دون هذه الشخصية وفهم الحكمة، وهو الذي يكمن وراء هذه الخصومة العميقة لها، فها هو سالمان وأهل جزيرته ينقبضون عن حي لما ترقى عن الظاهر قليلا وأخذ في وصف ما سبق إلى فهمهم خلافه ويشمئزون مما أتى به، ويستخطونه في قلوبهم - وهي نفس المشاعر التب بودلت بها الفلسفة عبر تاريخها في المجتمع الأندلسي، في حين لم يجد آسال الذي ربي بينهم أي حرج في فهم الحكمة، ولم يظهر عليه أي تردد في قبولها لما شعر به من استنارة أكبر وفهم لدينه أعمق. لكن للمجتمع منطقه وللخاصة منطقها، وهو من الدروس التي أراد ابن طفيل الوحي بها من خلال توظيفه لهذه الشخصيات السينوية.
--[/align][/CENTER]
- للحديث صلة -