الّليرات العشر - رواية للاطفال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • جاسم محمد صالح
    عضو الملتقى
    • 12-05-2009
    • 59

    الّليرات العشر - رواية للاطفال

    الّليرات العشر



    تأليف
    جاسم محمد صالح




    [align=justify]سكّان القرية يعرفون إن (الشيخ شعلان ابو الجون) لا يحب المال ولا يفكّر في جمعه أبداً.
    - إذن أين يذهب المال الكثير الذي عنده ؟
    سؤال مهم والجواب عليه سهل , انه ينفقه على المحتاجين من أبناء القرية ، أو على المسافرين الذين يمرّون بها ، أو يصرفه في بناء مدرسة صغيرة أو أعمال خيريّة أخرى .
    ما دام (الشيخ شعلان ابو الجون) رجلاً طيّباً وكريماً ….فأنا مثلكم أرغب في معرفة المزيد عنه .
    - تُرى مَن أسأل ؟ … مَن ؟ …مَن ؟
    آه …إنني أرى هناك بعض الأطفال الصغار يلعبون ويغنّون …إنّهم أطفال القرية ، حسنٌ سأذهب إليهم …ولكن... يا للعجب فهم يتراكضون جميعاً وراء فراشة صغيرة جدّاً ، لونها قهوائي ومنقّطة باللون الأسود في جناحيها .
    أنا أعرف هذه الفراشة , فهي تظهر في المزارع والبساتين في فصل الربيع ، فيمسكها الأطفال برفق وحنان ويضعونها على راحة أيديهم …وهم يغنّون لها بصوت جميل :
    - (( بنت السقة طيري … طيري أمُّك … وأبوك بالجنّة )).
    فجأة تطير ( بنت السقة ) من أيديهم …فيتراكضون خلفها فرحين … وعندما تختفي بعيدا عن أنظارهم فيبدؤون من جديد يفتشون عن واحدةٍ أخرى ويغنّون لها تلك الأغنيات الجميلة.
    هنا ناديت بهدوء على أحدهم وقلت له :
    - حدِّثني عن (الشيخ شعلان ابو الجون)، فأنت من أبناء قريته وتعرف عنه الشيء الكثير .
    رحب الطفل ثم ابتسم وقال :
    - لا يوجد أحد في هذه القرية لا يعرف من هو: ( الشيخ شعلان) ... يبدو أنك من منطقه بعيدة جداًّ ؟
    سكت الصبي وهو ينظر إليّ باهتمام وقال :
    - انظر إلى ذلك المسجد الصغير وإلى ذلك الناعور والمطحنة وبيت المسافرين وهذه المدرسة الصغيرة التي تعلمنا القراءة والكتابة , الشيخ هو الذي بناها بأمواله الخاصّة , فأمواله هي أموال القرية كلّها, هنا لا فرق بين أموال الجميع ، نحن هنا عائلة واحدة و(الشيخ شعلان) رب هذه العائلة الكبيرة … فهو يسهر على حمايتها ويقدّم لأفرادها كل ما يحتاجون إليه , هذا ما قاله لنا آباؤنا وشاهدناه نحن بأعيننا .
    الآن أوّدع هذا الطفل الذكي وأتوجه نحو مضيف (الشيخ شعلان) ، لم أسأل أحداً , فمكانه واضح أمامي وكل الطرق في القرية ومسالكها تؤدي إليه …فهو يقع في منتصفها ، وهذا ما يعرفه الجميع .
    كان مضيف الشيخ مضاء بالفوانيس النفطيّة وممتلئا بالناس … ومن الصعوبة أن يحصل المرء على مكان يجلس فيه على الرغم من انه كبير وواسع ، فالكبار يهرعون إليه كل مساء ليقضوا فيه وقتاً جميلاً ويتناولوا القهوة العربية اللذيذة التي لا شيء عندهم أطيب وألذّ منها … حتّى المسافرون الّذين يمرّون بالقرية فإنهم يهتدون إلى المضيف من كثرة أضوائه ورائحة قهوته ، لهذا فإنهم كثيرا ما كانوا يتركون المكان المتوجهين إليه ويقصدون المضيف ليجدوا فيه كل ترحيب وتكريم وضيافة , أخلاق العرب هذه معروفة في كل مكان وزمان … ولكن بعد ان سيطر المحتلون الإنكليز على القرية تغير كل شيء, حيث أطفئت الفوانيس وعم الخراب وانتشر الظلام في أنحاء القرية.
    (الشيخ شعلان ابو الجون ) جالس في مضيفه وهو يستمع إلى أحاديث المسافرين بكل اهتمام ولهفة , هذا الرجل الذي يتكلم من (الكوفة) والثاني من (بغداد) إما الثالث فقد جاء من (النجف) والرابع من (الخِضر) … كل هؤلاء كانوا يقصّون على الشيخ أخبارا عجيبة ويسلّمونه أوراقاً مكتوبة …يقرأها (الشيخ شعلان) باهتمام كبير فيتغيّر لون وجهه تبعاً لما كان يقرأ , فهذه الأخبار كانت عن أناس غرباء احتلوا بلادنا بالخديعة وقوّة السلاح يسمّون بالإنكليز , ووجوههم أمست مليئة بالحقد والكراهية كوجوه الذئاب الجائعة .
    بعد نقاش طويل غادر هؤلاء الرجال مضيف (الشيخ شعلان ابو الجون)بحذر بعد ان وضع الشيخ في جيوبهم بعض الأوراق المطوية … ابتعدوا عن المضيف وهم يتسترون في الظلام حتّى لا يعرف بهم الإنكليز.
    أمسى (الشيخ شعلان) قلقاً وساكتا خصوصا بعد أن قرأ تلك الأوراق التي جلبها له هؤلاء الرجال الذين لا أحد يعرفهم ومن أين جاؤوا ؟ ...ولو ذهبت إليه في أي وقت آخر فإنني سأراه على هذه الحالة وقد أمسك بيده اليمنى عوداً من نبات الطرفاء يخطط به على الأرض ما كان يفكر به ويدور في ذهنه ، ولكن لا أحد يعرف بالضبط ما كان يدور في ذهنه , وما يريد ان يحققه بهذه الرسومات التي يخططها على الأرض.
    من يدري أن (الشيخ شعلان) يهيئ مع نفسه أمراً مهماً ؟! وهذه الخطوط والمربعات التي يرسمها على الأرض ربما تكون معسكرات لجنود الإنكليز المحتلّين أو طرقاً لقوافل تموينهم أو خطاً لسكة الحديد الذي ينقلون به عتادهم وأسلحتهم وجنودهم الذين سيقتلون الأطفال ويهدمون البيوت , لهذا فانه فكر في أن يخربها ويقلع قضبانها فيما بعد .
    لا أحد يدري، فصمت (الشيخ شعلان) صمتٌ عجيب ، وأبناء القرية والقرى الأخرى القريبة منها يعرفون إنه لا يحب الإنكليز وانه يكرههم كرهاً شديداً لأنهم محتلون لبلاده , ولأنهم قتلوا الأطفال واحرقوا المزروعات وسرقوا كل ما موجود في المساجد والجوامع ، وقد سمع بعض الرجال منه ذات يوم بأنه أقسم بأن يحمل بندقيته ويقتل بها كل إنكليزي محتل دنس برجليه القذرتين ارض العراق ، وما مساعدات (الشيخ شعلان) للثائرين إلا تطبيق لذلك القسم .
    -والله لأطرد نهم من البلاد وأحرر أرضي منهم ... والله ، والله ، والله .
    قال(الشيخ شعلان) ذلك وهو يخاطب رجال قريته ، فتبادل رجال القرية النظرات فيما بينهم وهم يستمعون إلى كلام الشيخ وقسمه بهدوء واهتمام ، فهم لم يسمعوا (الشيخ شعلان) قبل هذا الوقت يقسم بالله ثلاث مرّات علناً , تساءلوا فيما بينهم:
    -لا بد أن الأمر خطير جداً … علينا أن ننتظر ماذا يقرر؟ وماذا يريد ؟
    قال الرجال ذلك وسكتوا ، لكن أيديهم امتدت إلى البنادق التي أمامهم و قد امسكوها بقوّة , إنهم يفعلون ذلك تأييداً (للشيخ شعلان) , وهذا يعني إنهم سيقاتلون معه ببنادقهم التي امسكوها بكل إصرار وقوة .
    قلنا لكم إن (الشيخ شعلان ) يعرف كل شيء … وتصله أخبار كل ما كان يحدث في أنحاء العراق من رفض للمحتلين وإصرار كل العراقيين على مقاتلتهم وطردهم من ارض العراق التي دنسوها بأحذيتهم الوسخة …ومع هذا كله فان القرية كانت تبدو هادئة بين أشجار النخيل العالية وبين الحقول والمزروعات الممتلئة بالخضراوات والفواكه اللذيذة .
    مرَّ وقت طويل والرجال الذين لا يعرفونهم يأتون إلى هذه القرية في تزايد , لكن حضورهم هذه المرة كان في شكل آخر ، فالتعب بادٍ على وجوههم والإجهاد واضح عليهم … إنهم ليسوا مسافرين يمرّون بالقرية ويذهبون إلى حال سبيلهم , فربما هؤلاء يقصدون مضيف (الشيخ شعلان) ليخبروه عدّة كلمات بسرعة ويعودوا من حيث أتوا , وهذا ما كان يبدو عليهم .
    نسيت أن أقول لكم إن هؤلاء الرجال وإثناء مغادرتهم كانوا يحملون معهم البنادق والطعام و أشياء أخرى … وربما رسائل من (الشيخ شعلان) للقرى المجاورة ولشيوخ العشائر .
    في الصباح رفع (الشيخ شعلان)الراية فوق مضيفه فعرف رجال القرية انه يطلبهم لأمر خطير ومهم , والراية مرفوعة فوق بيته تدل على ذلك , فتركوا كل شيء وحملوا بنادقهم متوجهين نحو المضيف ، وهناك حيّاهم الشيخ الذي كانت تبدو على وجهه علائم الألم والغضب وقال لهم:
    - إخوانكم في مدن العراق و أريافه يحاربون الإنكليز المحتلّين ، فهؤلاء المحتلّون وكما تعرفون يسرقون أموالهم ويهدمون بيوتهم ويعتدون على أبنائهم و يقتلون أطفالهم.
    تعّجب رجال القرية لسماع ذلك , صحيح أنهم يسمعون و يعرفون ان للإنكليز سمعة سيئة جدا , لكنهم لا يعرفون ان أخلاقهم وصلت إلى هذا الحد من الوحشية , الآن وضحت الأمور لهم , وصمتُ (الشيخ شعلان) منذ وقت طويل كان لسبب ... وهذا هو السبب ولا شيء غيره أبدا.
    بعد هذا الكلام بقي (الشيخ شعلان) يحدث رجال قريته عن الموضوع ويوضّح لهم كل شيء , هنا قال أحد رجال القرية :
    - نريد ان نساعد إخواننا في جهادهم ضد المستعمرين المحتلين .
    وافق (الشيخ شعلان)على ذلك بسرعة , وما إن سمع رجال القرية موافقة الشيخ حتى ارتفعت أصواتهم عالياً وهي تلعن الإنكليز المحتلّين وتلعن ظلمهم … وتدعو الناس … كل الناس للمشاركة في الجهاد ضد الإنكليز المحتلين وطردهم بالقوة من بلدنا العزيز على نفوس جميع أبنائه.
    لم تكن مدينة (الرميثة) بعيدة جداً عن القرية …إنها قريبة جداً منها ، وبإمكان أي طفل ان يصل إليها مشياً على الأقدام في ساعة واحدة ، ففي هذه المدينة أمسى الناس غير مرتاحين والحاكم الإنكليزي الذي يُسمى (هيات) مزعج وظالم ويعتدي على الناس ويسرق أموالهم وفي أكثر الأحيان كان يأمر جنوده بان يطفئوا الفوانيس والشموع من كل البيوت لان ضوءها وكما كان يدَّعي يزعجه ولا يجعله ينام ، لهذا فان الظلام يعشعش في بيوت (الرميثة) والقرى المجاورة لها .
    حدث ذلك منذ ان دخلها هذا الحاكم الغريب مع جنوده الغرباء من ذوي الوجوه المتوحشة , ولهذا السبب كان الرجال الكبار يستسلمون للنوم مبكّرين ، أما الأطفال فإنهم كانوا دائما لا يستطيعون النوم مبكّراً , لان هذا المحتل الغريب منعهم من ان يلعبوا ألعابهم الجميلة في حمل الفوانيس ليلاً …أو حمل الشموع والسير بها في الطرقات … فذلك ممنوع عليهم أيضا . لهذا فأننا نرى الأطفال يلعبون في الظلام الدامس وهم يتجمّعون على شكل حلقات دائريّة ، كل واحد منهم يريد ان يقص للآخرين حكاية عن وحش اسمه (هيات ) … ويظلّون يقصّون حكاياته وكيف كان يعتدي هو وجنوده المحتلون على الأطفال ويدوسون بأرجلهم على الزهور التي تملأ الحدائق والبساتين … يبقون على هذه الحالة فترة طويلة وهم يقصون تلك الحكايات التي صنعوها او سمعوها من آبائهم أو أمهاتهم… حتّى يناموا في النهاية ، وفي أكثر الأحيان كانوا يستيقظون فزعين من نومهم صارخين:
    - (هيات) … (هيات) … أنقذونا من (هيات) , انه يتعقبنا بسوطه الجلدي ووجهه القاسي البشع انه يشبه الذئب الجائع .
    وحينما يعود الأطفال إلى وعيهم كانوا لا يرون أمامهم شيئاً سوى الظلام الدامس ، لكنهم كانوا يسمعون من بعيد خطوات ثقيلة للجنود الإنكليز المحتلين وهم يتجوَّلون في شوارع مدينة (الرميثة) وأزقتها وقد اختلطت قهقهاتهم وضربات أحذيتهم بأصوات الكلاب التي يزداد نباحها على هؤلاء الجنود كلما رأت أحداً منهم مقبلا ... لا أحد في هذه المدينة وفي كل العراق يحب هؤلاء المحتلين الإنكليز, حتى الكلاب فهي الأخرى لا تحب ان تراهم أبدا, فوجوههم بشعة وعيونهم كلها حقد وكراهية.
    -ماذا تريد أيها الحاكم الإنكليزي ؟
    قال ( الشيخ شعلان) ذلك ، فرد عليه (هيات) بكل كبرياء وغرور وتعال :
    -مجرم لأنك لا تحب الإنكليز ولا تساعدهم
    قال (هيات) ذلك بعصبية وغضب ، ثمَّ أكمل حديثه والرذاذ يتطاير من فمه :
    -وصلتني أخبار كثيرة بأنك تساعد الذين لا يحبون الإنكليز , وانك تؤوي في قريتك كثيراً منهم وتزودهم بالمال والسلاح والدواء .
    انتفض (الشيخ شعلان) في مكانه غاضبا وهو يسمع كلمات (هيات) … فليصمت هذا اللعين فهولاء الذين يتحدث عنهم رجال يريدون حرية بلدهم ، فكيف يكونون مخرَّبين ومشاغبين وخارجين عن القانون ؟.
    المحتلون الانكليز هم القتلة وهم المجرمون , هؤلاء الإنكليز لا ضمير لهم , لأنهم لصوص وغايتهم الوحيدة هي ان يفرقوا أبناء هذا البلد وأن يسرقوا كل شيء في العراق المليء بالخيرات والثروات , حتّى ولو كانت قطعا زجاجية ملونة في جيوب الأطفال .
    بقي(هيات) يردد جملا وعبارات كلها تؤكد بان (الشيخ شعلان ابو الجون) كان يساعد الثوار ويؤيدهم .
    - سأضعك في السجن …وسترى فيه كثيراً من أمثالك .
    قال (هيات) ذلك وهو يضحك بشكل جنوني , في الوقت الذي أمر فيه جنوده بأن يسحبوا (الشيخ شعلان) بالقوّة ويضعوه في السجن , هنا التفت (الشيخ شعلان)إلى (هيات) وقال له بشجاعة :
    -السجن لا يخيفني …ما دمتُ أدافع عن حرية شعبي و كرامة بلدي.
    صرخ (هيات) غاضبا بوجه الجنود والغضب يملأ وجهه :
    - أبعدوه عن وجهي فكلامه لا يعجبني , هؤلاء العراقيون أمرهم يحيرني , إنهم يحبون وطنهم كثيرا , وهذا الأمر لا يعجبني.
    في سجن الرميثة الذي امتلأ بالرجال وقف (الشيخ شعلان) قرب القضبان الحديدية يفكّر بالمسألة التي تشغله ويقلِّبها على أكثر من وجه ، فهو يعرف كثيرا من الأشياء عن الإنكليز وخبثهم وعن أساليبهم اللعينة في تعاملهم مع الناس .
    - عليَّ أن أكون أذكى من هؤلاء المحتلّين ، فالطيبة لا تنفع معهم أبدا .
    قال (الشيخ شعلان ابو الجون)ذلك وهو ينادي على حارس السجن قائلا له :
    -اذهب إلى أهلي وقل لهم أني بحاجة إلى عشر ليرات من الذهب الّلامع والرنّان لا تنس ان تذكرهم بـ( اللامع والرنان ).
    ذهب الحارس إلى (هيات) ليخبره بالأمر, فقال له (هيات) :
    -لا بأس… أرسلوا أحد الحراس الانكليز ليخبر أهله بما يريد ... إنها فرصة ثمينة لان أستولي على هذه الليرات الذهبية حتى يزداد ثرائي من أموال هؤلاء العراقيين.
    قال (هيات ) ذلك لحارس السجن الذي أخبره على الفور بما قاله (الشيخ شعلان) ولمّا كان (هيات) غبياً جداً فقد نسي ان يفكِّر في حقيقة الطلب ويعرف ما فيه من ذكاء ومهارة , وبسرعة ذهب الحارس الانكليزي إلى قرية(الشيخ شعلان) ليخبرها بحاجة (الشيخ) إلى عشر ليرات ذهبيّة لامعة ورنانة.
    في سجن (الرميثة) بشّر(الشيخ شعلان) كل المسجونين الذين كانوا معه وكان يعرفهم جميعاً وأخبرهم بان النصر أصبح قريبا … وانه قريب جداً , لهذا فان الجميع اخذوا يفكّرون فيما يفعلونه بعد أن يخرجوا من السجن .
    قال أحدهم :
    - كم أنا مشتاق لان امسك بندقيتي من جديد و أحارب بها الإنكليز المحتلين لأطردهم من العراق ومن وطني العربي الكبير .
    وقال آخر :
    - وأنا سأعود فوراً إلى أعمدة التلغراف لأقلعها واقطع أسلاكها, حتى تتوقف الاتصالات بين المحتلّين .
    وقال آخر :
    -أما أنا فسأهاجم دوريّات المحتلين الانكليز في كل مكان , وسأجعلهم يعرفون قوة العراقيين وشجاعتهم … ان العرب لا يرضون بالضيم والذل أبدا.
    أما الرابع فقد قال :
    - سأعود إلى سكة الحديد لأقلعها من مكانها واسقط قطاراتهم المحملة بالجنود والعتاد والسلاح , وإذا ما رأيت إحدى بواخرهم في النهر … فسأرمي عليها كرات النار التي اصنعها من النفط والقطن والبارود واحرقها حتى تغرق.
    ربما تسألونني يا أصدقائي وتقولون :
    - ما شكل كرات النار هذه ونوعها والتي تغرق البواخر بعد ان تحرقها؟
    أنا اعرف ذلك وسأقول لكم إنها قطع كثيرة من القماش القطني التي تغمس في النفط لفترة طويلة حتّى تتشبع كلها ، وبعدها تملأ بالبارود و تلف على شكل كرة يخرج منها خيط طويل مدلّى يشبع بالنفط ، وعند الاستعمال يحرق الخيط الطويل وترمى الكرة على الباخرة ، فتحترق الكرة كلّها وتنفجر وتكون ناراً شديدة تحرق الباخرة ومن فيها .
    استرسلنا في الحديث كثيراً ونسينا أمر الحارس الانكليزي الذي ذهب إلى قرية (الشيخ شعلان)…فانه حين وصل إليها واخبر رجالها بان (الشيخ شعلان ابو الجون) يريد عشر ليرات ذهبية ، ساد في القرية اضطراب ورفعت الأعلام فوق كل البيوت مؤذنة بالحرب ، هنا خاف الحارس الانكليزي على نفسه و ظنَّ إن أبناء القرية يريدون قتله فأسرع هاربا من القرية .
    هذا الجندي الإنكليزي لا يعرف شيئاً عن أخلاق العرب وعاداتهم ، فالعرب لا يعتدون على رجل غريب في ديارهم حتى ولو كان قاتلاً لأحدهم ، لهذا فان رجال القرية لم يفكروا أبدا في إيذاء هذا الحارس الإنكليزي , لكنهم ضحكوا كثيراً عندما أبصروه هارباً ، فهم يعرفون سبب هروبه .
    كان أطفال القرية يشاركون الرجال في الضحك وحتى الكلاب فهي الأخرى كانت تتابعه نابحة حتى أبعدته عن القرية,ثم عادت وهي تحرك أذيالها منتصرة , فهي فرحة أيضا لأنها قد طردت هذا الغريب .
    عرف رجال القرية ، إن (الشيخ شعلان ابو الجون) مسجون في سجن (الرميثة) وانه سيُسفر إلى (الديوانية) بالقطار وحاجته إلى (الليرات) تعني انه في حاجة لعشرة رجال أقوياء يقتحمون سجن (الرميثة) بالقوة ويطلقون سراحه ومعه بقية الرجال المجاهدين .
    كان (الشيخ شعلان) محبوباً من كل أفراد القرية , لهذا فقد تطوَّع الجميع لذلك رجالاً و نساءً وأطفالا , كل واحد منهم يريد أن يذهب , لكن الخيار في النهاية وقع على أشجع رجال القرية وأبرعهم في القتال إضافة إلى معرفته التامّة بمدينة(الرميثة) وطرقاتها وبسجنها الكبير .
    أحاط رجال (الشيخ شعلان) بـمدينة(الرميثة) من كل جانب …نساء المدينة يعرفن الرجال المسلحين حق المعرفة, فهم أتباع (الشيخ شعلان) وإنهن يعرفن لماذا جاؤوا ؟ وما هي غايتهم ؟ فأخذن يزغردن بكل قوّة , أما أطفال(الرميثة) فإنهم كانوا مثل أمهاتهم يعرفون هؤلاء الرجال ، فقد سبق وان قدَّم هؤلاء الرجال لهم كثيراً من الحلوى في الأعياد, فبدؤوا يغنّون ويصفِّقون حتّى امتزج غناؤهم وتصفيقهم مع زغاريد أمّهاتهم , فانتشرت الفرحة والبهجة في مدينة (الرميثه) التي لم تعرف الفرحة منذ ان احتلها الإنكليز ، تسألونني الآن يا أطفال:
    - أين رجال (الرميثة) ؟ ولماذا لم يشاركوا النساء والأطفال في فرحهم؟ .
    سؤال ذكي و أريد منكم انتم أن تجيبوا عليه :
    - إنهم غير مرغوب بهم , والإنكليز يطاردونهم من مكان لآخر , فهم يحملون السلاح , ولا يرغبون في بقاء الإنكليز لحظة واحدة في بلادهم لأنهم مستعمرون .
    إنكم تصفقون ألان ووجوهكم ضاحكة فقد توصلتم إلى الجواب الصحيح
    - إنهم مع الثوار المجاهدين في القرى والمزارع البعيدة ، يحاربون المحتلين ويقاتلونهم في كل بستان وقرية ، وقسم قليل منهم وقع في قبضة الإنكليز ، فوضعوهم في هذا السجن مثلما وضعوا (الشيخ شعلان) فيه , إنكم أذكياء يا أصدقائي وأنا اعرف ذلك … فقد توصلتم إلى معرفة الجواب بأسرع وقت ممكن.
    لنعد الآن إلى (هيات) ونعرف أشياء عنه ، فهذا الرجل الغريب الذي احتل بلادنا بالقوّة له هوايات كثيرة لكنها غريبة مثله وتصل أحيانا إلى حد الجنون ، فقد لا تتصورون بالضبط ما أريد أن أقوله لكم ، ولكن بعد أن أحدثكم عن بعض هواياته سيكون الأمر عندكم واضحاً ومفهوماً وسنكره كلنا هذا المستعمر المحتل أكثر وأكثر.
    (هيات) هذا يحب أن يرى في غرفته أنواعا مختلفة من العقارب السامة ، فعلى جدران غرفته تتواجد العقارب السوداء والبيضاء والبنيّة ، ولو سألنا (هيات) عن اسعد لحظات حياته فانه يضحك ضحكةً خبيثة مثل الشيطان ويكشّر عن أنيابه ويجيبنا :
    - إنها تلك اللحظات التي يرى فيها عقاربه وهي تلدغ السجناء العراقيين وتقتلهم ، إن صراخهم جميل يجعلني أنام بهدوء.
    ولـ (هيات ) هواية أخرى فهو بعد ان يلمّع حذاءه بالفرشاة يضعه على المنضدة التي أمامه و يسأل كل شخصٍ يدخل غرفته عن جودة صبغ الحذاء وشدّة لمعانه ، فإذا كان ذلك الشخص جاهلاً بالأمور ولا يعرف طبائع (هيات) فإنه يستغرب من سخافة السؤال , وعندها يغضب (هيات) عليه غضباً شديداً ويمسك الحذاء ويضرب به رأس ذلك الجاهل مرات كثيرة , أما إذا كان ذلك الشخص عارفاً بالأمور فإنه سرعان ما يقول له :
    -انه لم يرَ في حياته حذاء لامعاً كهذا الحذاء , انه حذاء قوي وجميل.
    يقول ذلك ولا أحد يعرف بالضبط ما هو المقصود بكلامه ؟ أهو الحذاء …حقيقةً ؟ أم أن المقصود به هو (هيات ) نفسه ؟ …لا أحد يدري وعندها يحصل هذا الرجل على رضا (هيات ) وعلى هداياه الكثيرة ، لأنه عرف كيف يرضي غروره وجنونه ويُشبع رغباته الشريرة , وانه يعرف أن (هيات) سيعطيه كثيرا من الهدايا التي سرقها من بيوت العراقيين.
    في تلك اللحظة التي كان (هيات) فيها يتأمل حذاءه مثلما يتأمل الإنسان جوهرةً نادرة أمامه، صرخ قائلاً:
    - لينطلق القطار ألان إلى ( الديوانية ) , ولا تنسوا أن تضعوا فيه السجناء كلهم وخصوصا ( شعلان ) .
    تصور (هيات) أن أمره سينفذ بسرعة ,لان أخبار ما كان يحدث في (الرميثة) لم تصل إليه , لم يقل الجندي الذي كان يحرس باب غرفته شيئاً فقد كان يرتجف من الأحداث التي وقعت في المدينة والتي لا يعلم بها هيات … حيث ظلّ واقفا في مكانه كأنه عمود من رخام , فالمسألة كبيرة و(هيات ) المشغول بهواياته الغريبة لا يعرف عنها شيئاً .
    زغاريد النسوة ترتفع في كل مكان من المدينة ، والأطفال يملئون الطرقات وهم يغنون ، ورجال (الشيخ شعلان) يتجولون في أزقة (الرميثة) وهم يحملون أسلحتهم ويحيّون أبناء المدينة .
    الجنود الإنكليز هربوا من أماكنهم وابتعدوا عن المدينة خائفين , ما عدا ذلك الحارس الذي لا زال يرتجف والذي بدوره رمى سلاحه وولى هاربا كالفأر لا يفكر بأي شيء سوى إنقاذ نفسه من الثوار العراقيين.
    القطار المتوجه نحو (الديوانية) فارغ ، وانه هذه المرّة لم يحمل الأسرى ، و إنما حمل أشياء أخرى لم يحملها من قبل .
    بدأ القطار يحرّك عجلا ته والبخار يتصاعد منه وهو يصرخ بصوت عالٍ :
    - طوط…طوط…طوط .
    وبدأت عجلاته تتحرك… وتتحرك , والجنود الإنكليز الهاربون من مدينة (الرميثة) يلحّون على السائق كي يسرع مبتعدا عن المدينة التي حررها رجال الشيخ ( شعلان ) من سيطرة الانكليز وفتحوا أبواب سجنها وأطلقوا سراح كل من كان فيه من مجاهدين رافضين للاحتلال الأجنبي .
    تحرَّك القطار بسرعة كبيرةٍ وقد صيَّر الخوف والفزع وجوه الجنود الإنكليز صفراء مثل قشرة البرتقال الناضج , فتمسَّكوا بمقاعدهم الخشبيَّة بقوَّةٍ وأثناء تحركِه أبصروا من بعيد رجلاً خائفاً وهو يركض وراء القطار المسرع … انه يركض بأسرع ما يمكن وهو يصرخ ... ويصرخ بصوت عالٍ :
    - أنقذوني …أنقذوني … أوقفوا القطار… احملوني معكم , أنا (هيات) , أنا القائد … أنا الحاكم , أنا إنكليزي مثلكم... كيف تهربون وتتركونني وحيدا ؟ كيف ؟
    في تلك اللحظات المخيفة المفزعة ضحك الجنود على منظر قائدهم ، على الرغم من إن الخوف مما يحدث في (الرميثة) منعهم من تحريك شفاههم ….لكنهم ضحكوا للحالة التي يرونها أمامهم , وظلّوا يضحكون كثيراً ، فمنظر قائدهم وهو في حالته المزرية هذه تدفعهم إلى ذلك ، فقد أبصروه راكضاً وقد شدَّ فردتي حذائه اللامعتين وعلقهما على رقبته ، ولم ينسَ أن يعبئ جيوبه بعقاربه السّامة المختلفة الأشكال والألوان .
    تصور بعض الجنود الإنكليز إن (هيات) هذا كان عدّاءً سريعاً ، لكن الحقيقة إن الخوف كان سبباً في سرعته هذه ؟ لكن لا أحد من جنوده يستطيع أن يقول ذلك أو أن يتحرك لمساعدته , فالخوف مسيطر عليهم جميعا .
    أما (هيات) فانه في النهاية تمكَّن من الوصول إلى آخر عربة في القطار وتعلَّق بها ورمى جسده على أرضيتها الخشبيّة ، وظل يلهث ، ويلهث مثل كلب خائف .
    مضى على القطار وقت طويل وهو يبتعد عن (الرميثة) بكل سرعة , إلا إن (هيات) وبقية الرجال الذين معه كانوا يمتلئون رعباً وفزعاً وهم يسمعون من بعيد كلمات الناس الذين حملوا (الشيخ) فوق رؤوسهم، لكنهم كانوا لا يعرفون ما يقوله هؤلاء الناس ، لكنهم كانوا يعرفون شيئاً واحداً هو إن ما يقوله هؤلاء شيءٌ لا يحبون سماعه ولا يرغبون أبدا في معرفة معناه.[/align]
    بعد هذه الحادثة امتد لهيب الثورة العراقية على الانكليز المحتلين إلى كل مكان … وثار الشعب العراقي كله من أقصاه إلى أقصاه وكانت ثورتهم عظيمة والتي سمِّيت فيما بعد بـ(ثورة العشرين) لأنها حدثت عام 1920م والتي انتصر فيها العراقيون وطردوا المحتلين والطامعين من بلدهم .
    [CENTER][FONT="Arial Black"][SIZE="5"][COLOR="Red"]جاسم محمد صالح[/COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER]
    [CENTER][FONT="Arial Narrow"][SIZE="4"][COLOR="Blue"]باحث ومؤرخ واديب للاطفال[/COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER][CENTER][FONT="Franklin Gothic Medium"][SIZE="5"][COLOR="DarkRed"]gassim2008_iraq@yahoo.com
    [CENTER][FONT="Tahoma"][SIZE="5"][COLOR="Green"]لستُ ادعو مسقط الرأس وطن
    وطني كــــــلّ بـــلاد العــــرب[/COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER]
    [/COLOR][/SIZE][/FONT][/CENTER]
  • ريمه الخاني
    مستشار أدبي
    • 16-05-2007
    • 4807

    #2
    رواية مليئة بالقيم التي ربما يجدها الاشبال لو قلنا لانها تناسب هذه السن جدا تعطي مفتاحا اكن يتفح الغاز الواقع قبل تلك الحقبة من الدهر....
    اما وانك ادخلت شخصيات تعيد للاذهان دور الشيخ ودور ثوار نتمنى ان نجد مثالهم في واقعنا الذي كان واضحا قي الرواية يعكس مانعاني تماما.
    تحيتي لقلمك العالي المثمر استاذنا
    وفقك ووفقنا الله للخير

    تعليق

    يعمل...
    X