إشكال المعرفة الصوفية عند ابن طفيل
- 1 -
دأب كثير من الدارسين على القول إن ابن طفيل انتهى في آخر مطافه العلمي إلى التصوف، وأنكر البعض ذلك، والمتصفح لرسالة “حي بن يقظان” يلمس أن علاقة ابن طفيل بالتصوف هو إشكال من الإشكالات التي يطرحها النص، فكيف ذلك؟
إن قارئ نص ابن طفيل يلمس أن التصوف حاضر في النص على مستوى خطابين: خطاب حول التصوف، وهو خطاب نقدي، يتخذ مسافة بينه وبين شكل من أشكال التصوف. وهو خطاب نلمسه في أول النص وآخره. وخطاب آخر ينفتح على التصوف، ويظهر في بداية النص، ليخترق فيما بعد كثيرا من أجزائه، ويطرح هذا الخطاب الثاني على القارئ السؤال: هل انفتاح ابن طفيل هذا على التصوف انفتاح تبن وانتصار؟ أم هو انفتاح من نوع خاص؟.
بدأ ابن طفيل نصه وأنهاه بنقد تجربتين في التصوف، تجربة مشرقية يمثلها كل من الحلاج والبسطامي، وتجربة مغربية لم يفصح عن أقطابها، وإن كان قد حدد بعضا من معالم خطها الفكري.
أما التجربة الأولى فقد انتقدها ابن طفيل باعتبارها شطحت في التعبير عن بعض الحقائق التي يجب أن يطويها أصحابها ولا يحكوها، كما يقول أبو حامد. فوقع أحدهم في القول بالحلول، ووقع الآخر في التصريح بوحدة الوجود. ونحن نجد في رسالة ابن طفيل نصا واضحا يكشف عن مراقبة “العقل” للتجربة الميتافيزيقية حتى تظل في نجوة عن “الوهم”، “والشبهة”، وعن “الحلول”، و”الإتحاد”. ويبرز المزالق التي أدت بهؤلاء إلى الوقوع في هذه الأوهام، والظنون، والشبهات. سنقدمه في حينه من هذا المبحث.
أما التجربة الثانية، فتجربة تيار صوفي أندلسي، يلتقي مع التيار المشرقي في غلوه، إنه تيار نبغت أفكاره في العدوتين، و”انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء -كما يقول ابن طفيل- الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها وولعهم بها”- إنه تيار يأخذ بباطن الشريعة ويطرح ظاهرها، وهو بذلك يحدث من البلبلة في الغرب الإسلامي، ما أحدثه التيار السابق في مشرقه.
وابن طفيل كفيلسوف أدبته المعارف، حيث نجده يجتهد في مراقبة تجربته الفلسفية بذلك الرصيد المعرفي الذي تراكم لديه من ممارسته للعلوم النظرية، فأشعرته بأهمية حضور العقل في كل معرفة ممكنة، وهو ما يترجمه نصه الفلسفي. وابن طفيل كوزيرحنكته تجارب الحكم، فأشعرته بأهمية الحفاظ على وحدة الجماعة، وهو ما تعكسه تجربته السياسية من جهة، وما يفصح عنه سرديا في آخر رسالته الفلسفية من جهة أخرى، لاشك أن ابن طفيل هذا، يجد من الحجج والدعاوى ما يكفيه لرفض هتين التجربتين الصوفيتين؛ المشرقية والمغربية.
أما الخطاب الثاني الذي ينفتح به ابن طفيل بشكل واضح على التصوف، فيظهر على الأقل في قرائن ستة:
أولا- انتصار ابن طفيل لأهل الولاية:
إن ابن طفيل يعلن في بداية رسالته، أن أهل الولاية هم أهل المعرفة والحق، ويشير إلى رمزهم “ابن سيناء”، الذي ضمن “حكمته المشرقية”، “الحق الذي لاجمجمة فيه”. بل إن ابن طفيل يزعم أن رسالته تكشف عن بعض “أسرار الحكمة المشرقية”، ويؤكد أن الحال التي وصل إليها، والتي انتهت به “إلى مبلغ هو من الغرابة، بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان…”، (24و)، “هي من جملة الأحوال التي نبه عليها الشيخ أبو علي..” ثم يعرض نصا ذا دلالة في هذا السياق من “الإشارات والتنبيهات”، يصف فيه ابن سينا أطوار التدرج في مراتب المعرفة الإشراقية، منبها أن “هذه الأحوال التي وصفها، رضي الله عنه، إنما أراد بها أن تكون له ذوقا لا على سبيل الإدراك الإدراك النظري المستخرج بالمقاييس، وتقديم المقدمات، وتنتيج النتائج”(25و)، تم يقدم مثالا يوضح به الفرق بين أهل النظر وأهل الولاية، منتصرا للفريق الثاني على الفريق الأول.(25ظ). مثمنا في أواخر مقدمته تجربة الغزالي الصوفية قائلا : “ولاشك عندنا في أن الشيخ أبا حامد ممن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة”(28ظ)، كما ثمنها في أوائل مقدمته، عندما قابل تجربة الغلاة، بتجربة الغزالي الذي “أدبته المعارف وحذقته العلوم”(24ظ). متوجا ذلك بإعلانه استلهامه للشيخ الرئيس، ولحجة الإسلام، في إنشاء تجربته الفلسفية: “ولم يتخلص لنا الحق الذي انتهينا إليه…إلا بتتبع كلامه (الغزالي)، وكلام الشيخ أبي علي رحمهما الله، وصرف بعضها إلى بعض…”(28ظ).
ثانيا- ذكره للجنيد ك “حجة سلطة” :
في تخوم الجزء العملي من الرسالة يظهر الجنيد “شيخ الصوفية” كما سماه ابن طفيل، في لحظة الموت، يحرم للصلاة، لتوافيه منيته وهو في حال المشاهدة، فتتصل بذلك لذته، دون أن يتخللها ألم،[1] واستحضار ابن طفيل لهذه اللحظة التي أثبتها القشيري في رسالته بروايتين[2] استحضار حجاجي يؤكد ابن طفيل من خلاله من جملة ما يؤكد، أن تجربة “حي” ليست شيئا غريبا عما يتداوله العارفون في الغرب الإسلامي، لأهمية الجنيد في التصوف المغربي، باعتبار “أن جميع أسانيد الطرق الصوفية المغربية تتجمع عند الجنيد لتتفرع بعد ذلك. إذ لا نجد طريقة لاتتصل بها إلا نادرا، وحتى في هذه الحالة غالبا ما تتوفر هذه الطريقة على سند ثان يوصلها إلى الجنيد[3]، كما أن الجنيد في هذا السياق الذي استحضره فيه ابن طفيل، يصرح في نص ذي دلالة كبرى أنه “لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة ، كان ما فاته أكبر مما ناله”[4]، وهو ما يروم ابن طفيل الإشارة إليه.
كما أننا يمكن أن نرى في استحضار ابن طفيل للجنيد، -ومن قبله للغزالي- انتصارا لما سمي ب”التصوف السني”، الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، كما يصور ذلك ابن طفيل سرديا في في آخر الرسالة الفلسفية، حيث نجد “حي” مع إعتقاده بأهمية التجربة “الصوفية”! فإنه “تلقى الأعمال الظاهرة من الصلاة والزكاة والصيام والحج، “والتزمه وأخذ نفسه بأدائه امتثالا للأمر الذي صح عنده صدق قائله”(64ظ)، وفي ذلك تلميح سيصرح به في معرض اعتذاره، بأن طريقه لا تخرج عن طريق “السلف الصالح”، ولا عن أصول الشرع، وذلك ما يؤكد الجنيد نفسه في قوله: “إن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا به قواعدهم من البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف الصالح، وأهل السنة من التوحيد..”، ،[5] ومن هنا أيضا يلتقي ابن طفيل مع الجنيد في نقده لمن ترك تقليد الأنبياء في نصه الشهير(67و) وهو ما يترجمه قول الجنيد أيضا في رده على من قال ب”إسقاط الأعمال”: “إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها…”[6]، مؤكدا أن “مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة”[7] ولعل هذا هو ما قصد ابن طفيل تأكيده،- في إطار السياق الذي يعتبر “أن عقيدة المتصوفة هي نفس عقيدة أهل السنة..وأن منهجهم هو نفس منهجهم..”[8]، من خلال إدراجه لاسم هذا المتصوف الذي كانت له مكانة متميزة عند صوفييي الغرب الإسلامي. وقد أفرد القشيري الباب الثالث من رسالته ل”ذكر مشايخ الطريقة وسيرهم وأقوالهم في تعظيم الشريعة”. (نم 42).
ثالثا- رفضه للعقل:
في معرض وصفه للعالم الإلهي، يجد ابن طفيل نفسه أمام فضاء يند عن الوصف، وتختلط فيه الإشارة بالعبارة، ويوهم الخطاب الطبيعي الذي يوظفه لنقله غير ما قد يقصده من مقاصد، مما جعله في موقف شديد الإحراج، وإحساس قوي بخروج خطابه عن “حكم المعقول”ّ، وعن مقتضى الخطاب الطبيعي، فإذا به ينفعل بقوة ويصف معارض خطابه المفترض من المنتصرين للعقل، والذي قد يتهمه بالإنخلاع “عن غريزة العقلاء” وإطراح “حكم المعقول”، ب”الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم”، ويرد عليه ردين:
أولا بدعوته إلى النظر في العالم المحسوس، فهذا العالم نفسه -عندما يتأمل فلسفيا من خلال مفهومي الوحدة والكثرة مثلا- يند عن الوصف، ويصعب القطع فيه إما بالوحدة وإما بالكثرة، فكيف “بالعالم الإلهي الذي …لاينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة إلا وتوهم فيه شيئ على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده ولا تثبت حقيقته إلا عند من حصل فيه”؟ فليس العالم الإلهي في -نظره- وحده الذي يشكو من قصور العقل، وإنما العالم المحسوس نفسه قد يضطر لنفس الشكوى!
وثانيا، يسلم له جدلا بإنخلاعه عن غريزة العقل، واطراحه حكم المعقول ويتركه “مع عقله وعقلائه” لأن “العقل الذي يعنيه هو وأمثاله إنما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي، والعقلاء الذين يعنيهم هم الذين ينظرون بهذا النظر، والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لايعرف سوى المحسوسات وكلياتها، وليرجع إلى فريقه الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون…”(59و-59ظ).
قد يقول القائل إن ابن طفيل في موقفه العام من العقل هاهنا يلتقي مع الصوفية الذين اعتبروا “العقل حجابا” يحول دون الوصول إلى المعرفة الصحيحة، وعائقادون معرفة الله، فالإتصال بالله ممكن، لديه، ولكن الطريق إلى ذلك التحرر من كل ما يشد إلى عالم الحس، وبالتالي قطع كل علاقة مع العالم، والإتجاه فقط نحو الإله الواحد الأحد…والعقل يمنع من الإتحاد بالله ، او على الأقل يحجب الإنسان…عن معرفة الله معرفة حقيقية يقينية، ومن هنا التشديد والإلحاح عن ضرورة الإستغناء عن العقل وعدم الخضوع لأحكامه.[9] فابن طفيل من هذه الجهة صوفي حتى النخاع!!
رابعا- توظيفه للقاموس الصوفي:
يجد الدارس لقصة ابن طفيل نفسه وهو يتأمل هذا السفر، أمام معجم غني بمصطلحات أهل التصوف، وهذا المعجم يتداوله الصوفية ليتواصلوا فيما بينهم، كما يتداول أهل كل فن مصطلحاتهم الخاصة بهم. كما يتداولونه ليقصدوا إلى التعمية والإلغاز، حتى لايكشف معانيهم غيرهم أو من لف لفهم؛ يقول القشيري في هذا المعنى : ” اعلم أن من المعلوم أن كل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها-فيما بينهم- انفردوا بها عمن سواهم، تواطؤا عليها؛ لأغراض لهم فيها : من تقريب الفهم على المخاطبين بها، أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم، بإطلاقها، وهذه الطائفة [أي الصوفية] يستعملون ألفاظا فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم؛ لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعها الله تعالى قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم”[10] . ويبدو أن ابن طفيل انطلاقا من كثافة معجمه الصوفي، وانطلاقا من تصريحه في آخر النص بأنه قصد إلى التعمية على تجربته، حتى لا يخلص إلى معانيها إلا القادر على هتك حجابها الرقيق؛ أي المطلع على معاني هذه المصطلحات والمدرك لأسرارها[11]. وما دام في عرف الصوفية لا يكون ذلك إلا لمن ذاق التجربة بنفسه وخبر الأمر-كما يلمح ابن طفيل من خلال عبارة “لمن هو أهله” في القول السابق- فإن الخطاب الصوفي بهذا المعنى، له مرسل واحد وله مخاطب واحد أيضا.
هذه القرائن وغيرها من القرائن المبثوثة في الرسالة تكاد تقود إلى القول بأن انفتاح ابن طفيل على التصوف هو انفتاح تبن وانتصار، وأن ابن طفيل بذلك أنهى حياته في معبد التصوف. فهل جميع المعطيات التي يقدمها لنا النص تقول بذلك، أم أن الأمر يمكن أن يقرأ بجهة أخرى؟.
-
- 1 -
دأب كثير من الدارسين على القول إن ابن طفيل انتهى في آخر مطافه العلمي إلى التصوف، وأنكر البعض ذلك، والمتصفح لرسالة “حي بن يقظان” يلمس أن علاقة ابن طفيل بالتصوف هو إشكال من الإشكالات التي يطرحها النص، فكيف ذلك؟
إن قارئ نص ابن طفيل يلمس أن التصوف حاضر في النص على مستوى خطابين: خطاب حول التصوف، وهو خطاب نقدي، يتخذ مسافة بينه وبين شكل من أشكال التصوف. وهو خطاب نلمسه في أول النص وآخره. وخطاب آخر ينفتح على التصوف، ويظهر في بداية النص، ليخترق فيما بعد كثيرا من أجزائه، ويطرح هذا الخطاب الثاني على القارئ السؤال: هل انفتاح ابن طفيل هذا على التصوف انفتاح تبن وانتصار؟ أم هو انفتاح من نوع خاص؟.
بدأ ابن طفيل نصه وأنهاه بنقد تجربتين في التصوف، تجربة مشرقية يمثلها كل من الحلاج والبسطامي، وتجربة مغربية لم يفصح عن أقطابها، وإن كان قد حدد بعضا من معالم خطها الفكري.
أما التجربة الأولى فقد انتقدها ابن طفيل باعتبارها شطحت في التعبير عن بعض الحقائق التي يجب أن يطويها أصحابها ولا يحكوها، كما يقول أبو حامد. فوقع أحدهم في القول بالحلول، ووقع الآخر في التصريح بوحدة الوجود. ونحن نجد في رسالة ابن طفيل نصا واضحا يكشف عن مراقبة “العقل” للتجربة الميتافيزيقية حتى تظل في نجوة عن “الوهم”، “والشبهة”، وعن “الحلول”، و”الإتحاد”. ويبرز المزالق التي أدت بهؤلاء إلى الوقوع في هذه الأوهام، والظنون، والشبهات. سنقدمه في حينه من هذا المبحث.
أما التجربة الثانية، فتجربة تيار صوفي أندلسي، يلتقي مع التيار المشرقي في غلوه، إنه تيار نبغت أفكاره في العدوتين، و”انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء -كما يقول ابن طفيل- الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها وولعهم بها”- إنه تيار يأخذ بباطن الشريعة ويطرح ظاهرها، وهو بذلك يحدث من البلبلة في الغرب الإسلامي، ما أحدثه التيار السابق في مشرقه.
وابن طفيل كفيلسوف أدبته المعارف، حيث نجده يجتهد في مراقبة تجربته الفلسفية بذلك الرصيد المعرفي الذي تراكم لديه من ممارسته للعلوم النظرية، فأشعرته بأهمية حضور العقل في كل معرفة ممكنة، وهو ما يترجمه نصه الفلسفي. وابن طفيل كوزيرحنكته تجارب الحكم، فأشعرته بأهمية الحفاظ على وحدة الجماعة، وهو ما تعكسه تجربته السياسية من جهة، وما يفصح عنه سرديا في آخر رسالته الفلسفية من جهة أخرى، لاشك أن ابن طفيل هذا، يجد من الحجج والدعاوى ما يكفيه لرفض هتين التجربتين الصوفيتين؛ المشرقية والمغربية.
أما الخطاب الثاني الذي ينفتح به ابن طفيل بشكل واضح على التصوف، فيظهر على الأقل في قرائن ستة:
أولا- انتصار ابن طفيل لأهل الولاية:
إن ابن طفيل يعلن في بداية رسالته، أن أهل الولاية هم أهل المعرفة والحق، ويشير إلى رمزهم “ابن سيناء”، الذي ضمن “حكمته المشرقية”، “الحق الذي لاجمجمة فيه”. بل إن ابن طفيل يزعم أن رسالته تكشف عن بعض “أسرار الحكمة المشرقية”، ويؤكد أن الحال التي وصل إليها، والتي انتهت به “إلى مبلغ هو من الغرابة، بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان…”، (24و)، “هي من جملة الأحوال التي نبه عليها الشيخ أبو علي..” ثم يعرض نصا ذا دلالة في هذا السياق من “الإشارات والتنبيهات”، يصف فيه ابن سينا أطوار التدرج في مراتب المعرفة الإشراقية، منبها أن “هذه الأحوال التي وصفها، رضي الله عنه، إنما أراد بها أن تكون له ذوقا لا على سبيل الإدراك الإدراك النظري المستخرج بالمقاييس، وتقديم المقدمات، وتنتيج النتائج”(25و)، تم يقدم مثالا يوضح به الفرق بين أهل النظر وأهل الولاية، منتصرا للفريق الثاني على الفريق الأول.(25ظ). مثمنا في أواخر مقدمته تجربة الغزالي الصوفية قائلا : “ولاشك عندنا في أن الشيخ أبا حامد ممن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة”(28ظ)، كما ثمنها في أوائل مقدمته، عندما قابل تجربة الغلاة، بتجربة الغزالي الذي “أدبته المعارف وحذقته العلوم”(24ظ). متوجا ذلك بإعلانه استلهامه للشيخ الرئيس، ولحجة الإسلام، في إنشاء تجربته الفلسفية: “ولم يتخلص لنا الحق الذي انتهينا إليه…إلا بتتبع كلامه (الغزالي)، وكلام الشيخ أبي علي رحمهما الله، وصرف بعضها إلى بعض…”(28ظ).
ثانيا- ذكره للجنيد ك “حجة سلطة” :
في تخوم الجزء العملي من الرسالة يظهر الجنيد “شيخ الصوفية” كما سماه ابن طفيل، في لحظة الموت، يحرم للصلاة، لتوافيه منيته وهو في حال المشاهدة، فتتصل بذلك لذته، دون أن يتخللها ألم،[1] واستحضار ابن طفيل لهذه اللحظة التي أثبتها القشيري في رسالته بروايتين[2] استحضار حجاجي يؤكد ابن طفيل من خلاله من جملة ما يؤكد، أن تجربة “حي” ليست شيئا غريبا عما يتداوله العارفون في الغرب الإسلامي، لأهمية الجنيد في التصوف المغربي، باعتبار “أن جميع أسانيد الطرق الصوفية المغربية تتجمع عند الجنيد لتتفرع بعد ذلك. إذ لا نجد طريقة لاتتصل بها إلا نادرا، وحتى في هذه الحالة غالبا ما تتوفر هذه الطريقة على سند ثان يوصلها إلى الجنيد[3]، كما أن الجنيد في هذا السياق الذي استحضره فيه ابن طفيل، يصرح في نص ذي دلالة كبرى أنه “لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة ، كان ما فاته أكبر مما ناله”[4]، وهو ما يروم ابن طفيل الإشارة إليه.
كما أننا يمكن أن نرى في استحضار ابن طفيل للجنيد، -ومن قبله للغزالي- انتصارا لما سمي ب”التصوف السني”، الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، كما يصور ذلك ابن طفيل سرديا في في آخر الرسالة الفلسفية، حيث نجد “حي” مع إعتقاده بأهمية التجربة “الصوفية”! فإنه “تلقى الأعمال الظاهرة من الصلاة والزكاة والصيام والحج، “والتزمه وأخذ نفسه بأدائه امتثالا للأمر الذي صح عنده صدق قائله”(64ظ)، وفي ذلك تلميح سيصرح به في معرض اعتذاره، بأن طريقه لا تخرج عن طريق “السلف الصالح”، ولا عن أصول الشرع، وذلك ما يؤكد الجنيد نفسه في قوله: “إن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا به قواعدهم من البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف الصالح، وأهل السنة من التوحيد..”، ،[5] ومن هنا أيضا يلتقي ابن طفيل مع الجنيد في نقده لمن ترك تقليد الأنبياء في نصه الشهير(67و) وهو ما يترجمه قول الجنيد أيضا في رده على من قال ب”إسقاط الأعمال”: “إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها…”[6]، مؤكدا أن “مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة”[7] ولعل هذا هو ما قصد ابن طفيل تأكيده،- في إطار السياق الذي يعتبر “أن عقيدة المتصوفة هي نفس عقيدة أهل السنة..وأن منهجهم هو نفس منهجهم..”[8]، من خلال إدراجه لاسم هذا المتصوف الذي كانت له مكانة متميزة عند صوفييي الغرب الإسلامي. وقد أفرد القشيري الباب الثالث من رسالته ل”ذكر مشايخ الطريقة وسيرهم وأقوالهم في تعظيم الشريعة”. (نم 42).
ثالثا- رفضه للعقل:
في معرض وصفه للعالم الإلهي، يجد ابن طفيل نفسه أمام فضاء يند عن الوصف، وتختلط فيه الإشارة بالعبارة، ويوهم الخطاب الطبيعي الذي يوظفه لنقله غير ما قد يقصده من مقاصد، مما جعله في موقف شديد الإحراج، وإحساس قوي بخروج خطابه عن “حكم المعقول”ّ، وعن مقتضى الخطاب الطبيعي، فإذا به ينفعل بقوة ويصف معارض خطابه المفترض من المنتصرين للعقل، والذي قد يتهمه بالإنخلاع “عن غريزة العقلاء” وإطراح “حكم المعقول”، ب”الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم”، ويرد عليه ردين:
أولا بدعوته إلى النظر في العالم المحسوس، فهذا العالم نفسه -عندما يتأمل فلسفيا من خلال مفهومي الوحدة والكثرة مثلا- يند عن الوصف، ويصعب القطع فيه إما بالوحدة وإما بالكثرة، فكيف “بالعالم الإلهي الذي …لاينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة إلا وتوهم فيه شيئ على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده ولا تثبت حقيقته إلا عند من حصل فيه”؟ فليس العالم الإلهي في -نظره- وحده الذي يشكو من قصور العقل، وإنما العالم المحسوس نفسه قد يضطر لنفس الشكوى!
وثانيا، يسلم له جدلا بإنخلاعه عن غريزة العقل، واطراحه حكم المعقول ويتركه “مع عقله وعقلائه” لأن “العقل الذي يعنيه هو وأمثاله إنما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي، والعقلاء الذين يعنيهم هم الذين ينظرون بهذا النظر، والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لايعرف سوى المحسوسات وكلياتها، وليرجع إلى فريقه الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون…”(59و-59ظ).
قد يقول القائل إن ابن طفيل في موقفه العام من العقل هاهنا يلتقي مع الصوفية الذين اعتبروا “العقل حجابا” يحول دون الوصول إلى المعرفة الصحيحة، وعائقادون معرفة الله، فالإتصال بالله ممكن، لديه، ولكن الطريق إلى ذلك التحرر من كل ما يشد إلى عالم الحس، وبالتالي قطع كل علاقة مع العالم، والإتجاه فقط نحو الإله الواحد الأحد…والعقل يمنع من الإتحاد بالله ، او على الأقل يحجب الإنسان…عن معرفة الله معرفة حقيقية يقينية، ومن هنا التشديد والإلحاح عن ضرورة الإستغناء عن العقل وعدم الخضوع لأحكامه.[9] فابن طفيل من هذه الجهة صوفي حتى النخاع!!
رابعا- توظيفه للقاموس الصوفي:
يجد الدارس لقصة ابن طفيل نفسه وهو يتأمل هذا السفر، أمام معجم غني بمصطلحات أهل التصوف، وهذا المعجم يتداوله الصوفية ليتواصلوا فيما بينهم، كما يتداول أهل كل فن مصطلحاتهم الخاصة بهم. كما يتداولونه ليقصدوا إلى التعمية والإلغاز، حتى لايكشف معانيهم غيرهم أو من لف لفهم؛ يقول القشيري في هذا المعنى : ” اعلم أن من المعلوم أن كل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها-فيما بينهم- انفردوا بها عمن سواهم، تواطؤا عليها؛ لأغراض لهم فيها : من تقريب الفهم على المخاطبين بها، أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم، بإطلاقها، وهذه الطائفة [أي الصوفية] يستعملون ألفاظا فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم؛ لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعها الله تعالى قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم”[10] . ويبدو أن ابن طفيل انطلاقا من كثافة معجمه الصوفي، وانطلاقا من تصريحه في آخر النص بأنه قصد إلى التعمية على تجربته، حتى لا يخلص إلى معانيها إلا القادر على هتك حجابها الرقيق؛ أي المطلع على معاني هذه المصطلحات والمدرك لأسرارها[11]. وما دام في عرف الصوفية لا يكون ذلك إلا لمن ذاق التجربة بنفسه وخبر الأمر-كما يلمح ابن طفيل من خلال عبارة “لمن هو أهله” في القول السابق- فإن الخطاب الصوفي بهذا المعنى، له مرسل واحد وله مخاطب واحد أيضا.
هذه القرائن وغيرها من القرائن المبثوثة في الرسالة تكاد تقود إلى القول بأن انفتاح ابن طفيل على التصوف هو انفتاح تبن وانتصار، وأن ابن طفيل بذلك أنهى حياته في معبد التصوف. فهل جميع المعطيات التي يقدمها لنا النص تقول بذلك، أم أن الأمر يمكن أن يقرأ بجهة أخرى؟.
-
للحديث صلة -