لم تمر الأيام الثلاث الماضية بسهولة .. لم يتركني خلالها ذلك المشهد الذي أراه كلما خلدت إلى النوم .. منذ أن أمدد جسدي على السرير تبدأ المعاناة .. أعلم أنني أخطأت كثيراً .. ولكن – يا إلهي – رحمتك أكبر من كل شيء .. أنا العاصي الذي لم يترك خطيئة في شبابه إلا وجربها .. كان لها طعمها حينذاك .. ولكن الآن .. وخلفي الثلاثة والسبعون عاماً تطاردني .. ليس لي يا إلهي سواك .. وحين ستأتي يا ملك الموت .. أتجادلني ؟ أم ستنهي سريعا ما جئت من أجله ؟.. فلتنتظر إذاً ولو لبضعة أيام حتى تتم توبتي ..
ورغم ضعف ذاكرتي .. فإنني أستطيع تذكر كل لحظة من ذلك الحلم .. الذي يراودني في الليالي الأخيرة .. ذلك المكعب الأسود الصغير .. الذي يهديه إليّ حفيدي وهو يبتسم .. والذي أراه كأنه الماضي البغيض يتجسد أمامي ولا يتركني .. وذلك الطوفان الهائل من البشر .. يحملني بعضهم فوق أكتافهم .. ويسيرون بي .. يتكرر المشهد نفسه كل ليلة من هذه الليالي الثلاث .. ولكن حفيدي .. ليس لي من الأهل سواه .. يقوم بشئوني .. يمهد لي كل السبل للعيش السعيد .. ولا تفارق لسانه عبارة (ربنا يطول لنا في عمرك) كلما ذكرت له الموت القادم .. وأخلد ثانية إلى السرير .. يملؤني شعور بالاقتراب الوشيك .. لا أدري لماذا أشعر أن هذه آخر الليالي لي في هذه الدنيا .. أتأمل صورتي المعلقة أمامي على الجدار .. شخص آخر تماماً .. مليء بالحيوية والنشاط .. والحركة .. وإن كانت حركة أكثرها في المعاصي والعربدة .. لماذا تنظر نحوي هكذا ؟؟ .. أتشمت بي ؟ .. انظر جيداً .. تأمل .. هل ترى مستقبلك ؟ .. أنا مستقبلك الذي كنت تأمل وترجو .. عظام بالية لا تستطيع الحركة .. إلا لتنقلني من فوق هذا السرير إلى فوق هذا الكرسي المتحرك .. اشمت كما تشاء .. فما عدت أبالي بك كثيراً .. كلما تأملتك كرهت هذه الدار .. بكل ما فيها ..
وماذا بعد ؟ .. أأغمضك أيتها العينان ؟ .. فلربما تكون آخر إغماضة .. لا أدري لم هذا اليقين .. هل قبلت يا عزيز توبتي .. هل تجاوزت عن كل هذا الجبل الذي يجثم فوق صدري ؟
تخفت الذاكرة .. هكذا تفعل على فترات متقاربة .. أكاد أنسى حتى اسمي .. ولا أتذكر أو أعي شيئاً .. ولا أرى من كل ما حولي سوى نفسي في مركبة تهتز بي .. وتمر الساعات سريعة .. لا أدري منها شيئاً .. وأرى نفسي الآن .. أرى نفسي محمولاً .. على الأعناق .. لا يسعفني عقلي أن أستوعب شيئاً .. أحيّ أنا أم في عداد الأموات .. ولكن كيف لميت بهذا المشهد العظيم أن يتنفس وينظر ؟ .. بل ويحادث حامليه يتقدمهم حفيدي .. ينظر إلي كل دقيقة مبتسماً .. وأصوات عالية متداخلة .. بل منتظمة .. وتلوح مني التفاتة .. نعم .. واكتملت الصورة الآن .. تذكرت ذلك المشهد الذي رأيته في منامي .. المكعب الأسود الذي أهداه إليّ حفيدي حينذاك .. ها هو .. ولكن هو أكبر بكثير .. لا أبغضه هذه المرة .. أراقبه من بعيد .. يناديني .. أشير لهم أن يحملوني إليه .. ها أنذا قادم إليك .. في خطوات سريعة يسيرون بي فأدور وأقترب .. نعم أنا قادم .. حتماً سألمسك .. أه لو يمتد العمر لحظات حتى ألمسك .. ما هي إلا لحظات وأعرف كنهك .. لأفك ذلك الطلسم الغامض .. وأنهي تلك الدوامة .
أقترب الآن أكثر في الزحام .. محمولاً بأربعة رجال .. أو خمسة .. وعقلي يعوق تفكيره تلك الأصوات المرتفعة .. أصوات محاطة بالجلال .. بل فالمكان كله يغلفه الجلال .. وجموع الخلق حولي يتزايدون .. وما زالت النداءات مستمرة .. والابتهالات تتدفق إلى أذني بكثرة .. وتستمر التلبية بصوتها المنتظم .. لتكمل جلال المشهد الأخير .
- محمد السيد محمد -
ورغم ضعف ذاكرتي .. فإنني أستطيع تذكر كل لحظة من ذلك الحلم .. الذي يراودني في الليالي الأخيرة .. ذلك المكعب الأسود الصغير .. الذي يهديه إليّ حفيدي وهو يبتسم .. والذي أراه كأنه الماضي البغيض يتجسد أمامي ولا يتركني .. وذلك الطوفان الهائل من البشر .. يحملني بعضهم فوق أكتافهم .. ويسيرون بي .. يتكرر المشهد نفسه كل ليلة من هذه الليالي الثلاث .. ولكن حفيدي .. ليس لي من الأهل سواه .. يقوم بشئوني .. يمهد لي كل السبل للعيش السعيد .. ولا تفارق لسانه عبارة (ربنا يطول لنا في عمرك) كلما ذكرت له الموت القادم .. وأخلد ثانية إلى السرير .. يملؤني شعور بالاقتراب الوشيك .. لا أدري لماذا أشعر أن هذه آخر الليالي لي في هذه الدنيا .. أتأمل صورتي المعلقة أمامي على الجدار .. شخص آخر تماماً .. مليء بالحيوية والنشاط .. والحركة .. وإن كانت حركة أكثرها في المعاصي والعربدة .. لماذا تنظر نحوي هكذا ؟؟ .. أتشمت بي ؟ .. انظر جيداً .. تأمل .. هل ترى مستقبلك ؟ .. أنا مستقبلك الذي كنت تأمل وترجو .. عظام بالية لا تستطيع الحركة .. إلا لتنقلني من فوق هذا السرير إلى فوق هذا الكرسي المتحرك .. اشمت كما تشاء .. فما عدت أبالي بك كثيراً .. كلما تأملتك كرهت هذه الدار .. بكل ما فيها ..
وماذا بعد ؟ .. أأغمضك أيتها العينان ؟ .. فلربما تكون آخر إغماضة .. لا أدري لم هذا اليقين .. هل قبلت يا عزيز توبتي .. هل تجاوزت عن كل هذا الجبل الذي يجثم فوق صدري ؟
تخفت الذاكرة .. هكذا تفعل على فترات متقاربة .. أكاد أنسى حتى اسمي .. ولا أتذكر أو أعي شيئاً .. ولا أرى من كل ما حولي سوى نفسي في مركبة تهتز بي .. وتمر الساعات سريعة .. لا أدري منها شيئاً .. وأرى نفسي الآن .. أرى نفسي محمولاً .. على الأعناق .. لا يسعفني عقلي أن أستوعب شيئاً .. أحيّ أنا أم في عداد الأموات .. ولكن كيف لميت بهذا المشهد العظيم أن يتنفس وينظر ؟ .. بل ويحادث حامليه يتقدمهم حفيدي .. ينظر إلي كل دقيقة مبتسماً .. وأصوات عالية متداخلة .. بل منتظمة .. وتلوح مني التفاتة .. نعم .. واكتملت الصورة الآن .. تذكرت ذلك المشهد الذي رأيته في منامي .. المكعب الأسود الذي أهداه إليّ حفيدي حينذاك .. ها هو .. ولكن هو أكبر بكثير .. لا أبغضه هذه المرة .. أراقبه من بعيد .. يناديني .. أشير لهم أن يحملوني إليه .. ها أنذا قادم إليك .. في خطوات سريعة يسيرون بي فأدور وأقترب .. نعم أنا قادم .. حتماً سألمسك .. أه لو يمتد العمر لحظات حتى ألمسك .. ما هي إلا لحظات وأعرف كنهك .. لأفك ذلك الطلسم الغامض .. وأنهي تلك الدوامة .
أقترب الآن أكثر في الزحام .. محمولاً بأربعة رجال .. أو خمسة .. وعقلي يعوق تفكيره تلك الأصوات المرتفعة .. أصوات محاطة بالجلال .. بل فالمكان كله يغلفه الجلال .. وجموع الخلق حولي يتزايدون .. وما زالت النداءات مستمرة .. والابتهالات تتدفق إلى أذني بكثرة .. وتستمر التلبية بصوتها المنتظم .. لتكمل جلال المشهد الأخير .
- محمد السيد محمد -
تعليق