فقيه المشرقين ....
عالم متعلّم , مجاهدٌ صبور, من أفقه المحدّثين والأئمة في علم الحديث زمن عصره , وأدقّهم نظرًا وأشدّهم توفيقًا للحكم الصائب , والرأي السديد ..
حادّ الذهن في استنباط معاني التنزيل وأحكامه , وبعيد الغور في فهم أصول علم الحديث والفقه ..
حجّ لطلب العلم من اليمن في أقصى الجنوب إلى الشام في أقصى الشمال , وانتقل ما بينهما إلى الحجاز والبصرة والكوفة ليلتقي بكبار العلماء , وعظماء الأئمة , وقد بلغ عدد العلماء الذين التقى بهم أربعة آلاف شخص من أمثال الأئمة الكبار : الثوري والأوزاعي , والليث بن سعد , والإمام مالك , وأبي حنيفة النعمان لينهل من كنوز علمهم , ومشارب حديثهم , ويكتنز في روح فكره من جواهر المعرفة والأدب لديهم ..
كان يقول :
( لا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم , فإذا ظنّ أنه قد علمَ فقد جهل )إنه الإمام الصالح :
عبد الله بن المبارك
ولد في مَرْو أعظم مدن خراسان سنة 118 هــــ زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك , وتوفيّ عمره ثلاث وستّون سنة , وكان عائدًا من الغزو سنة إحدى وثمانين ومائة في أفضل شهر -وهو رمضان- , وفي العشر الأواخر منه , وفي أفضل ساعة هي ساعة السحر , ودفن بهيت بلدة من نواحي بغداد, وقبره لا زال هناك ظاهر يزوره الناس ..
أحد أعاجيب الدنيا في العلم الغزير والزهد والتقوى , وعلمًا شامخًا من أعلام الأمة الإسلامية, وإمامًا من أئمّة الفقه والحديث , فكان فريد عصره في نبوغه, وملامح ذكائه منذ صغره ..
قال عنه الفضيل بن عياض :
( وربّ هذا البيت ما رأت عيناي مثل ابن مبارك )
لم يهنأ له عيشٌ, ولم يغمض له جفنٌ إلاّ أن يجوب مشارق الأرض ومغاربها بحثًا عن كنوز العلم , وجواهر المعرفة ...
فكان وحيد دهره , والإمام القدوة العالم لمن هم حوله , وقد بلغت مكانته في الحديث مبلغًا كبيراً من أهل العلم ليكون بحقٍّ فقيه المشرقين في زمانه.....
عن عبد الله بن سنان قال :
( قدم ابن مبارك مكة وأنا بها , فلما خرج شيّعه سفيان بن عينية والفضيل بن عيّاض وودّعاه فقال أحدهما : هذا فقيه أهل المشرق , فقال الآخر : وفقيه المغرب )
عبد الله بن المبارك الفقيه العالم الطبيب كان بمثابة المرجع الثابت القويّ الذي يحتكم إليه أصحاب الفقه والحديث ..
وقد قال عنه فضالة التونسي :
( كنت أجالس أصحاب الحديث بالكوفة , وكانوا إذا تشاجروا في حديث قالوا : مُروا بنا إلى هذا الطبيب حتّى نسأله )
يعنون عبد الله بن المبارك
لم يكن محدّثًا وفقيهًا فحسب بل كان جامعة علمية واسعة لمختلف أنواع ومشارب العلوم , والأدب والتاريخ ..
أديب وشاعر , لغوي ونحويّ , ومقرئ ومفسّر , مؤرّخ ومحدّث , وطبيب وحكيم ...
اجتمع جماعة من أصحابه فقالوا :
عدّوا خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا :
"جمع العلم والفقه , والأدب والنحو واللغة والزهد , والشجاعة والشعر والفصاحة , والورع والإنصاف وقيام الليل , والعبادة والحج والغزو والفروسية , وترك الكلام فيما لا يعنيه , والشدّة في رأيه وقلّة الخلاف على أصحابه "
الإمام الملهم كان شاعرًا فصيحًا يحثّ النّاس على الجهاد, وحبّ الشهادة في سبيل الله , ويحبّب الزهد إلى قلوبهم, بالإضافة إلى أنّ شعره كان يخبرنا عن صفاء روحانية مشرقة متّصلة بالله نلمسها في كلّ شطر من أبيات شعره ..
فكان بحقٍّ نسمة من نسمات الرجاء تهبّ على قلوب الحيارى , وومضة من ومضات النور تنير طريق المتخاذلين , وسوطا من سياط الحق تلهب بنارها ظهور الظالمين المتجبّرين .....
أرسل إلى صديقه الفضيل بن عيّاض من حومة المعركة – يبيّن له فضل الجهاد على العلم - حين كان يتعبّد بالحرمين فقال له :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
وريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا *** قول صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في *** أنف أمريء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا *** ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأه ذرفت عيناه ثم قال:
صدق أبو عبد الرحمن ونصح "
وقد أنعم الله عليه وألبسه أجمل ثياب عزّة النفس والإباء والكرامة فكان بحق ملكًا فوق الملوك بهذه الصفات النبيلة التي أوجدها الله في شخص حياته ..
سئل مرة : من سفلة الناس ؟
فقال : ( الذين يتعيّشون بدينهم )
قيل لعبد الله بن المبارك: إن إسماعيل بن علية قد ولي الصدقات. فكتب إليه ابن المبارك:
يا جاعل العلم له بازيًا *** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها *** بحيلة تذهب بالدين
فصرت رواياتك في سردها *** عن ابن عون وابن سيرين؟
أين رواياتك والقول في *** لزوم أبواب السلاطين؟
إن قلت أكرهت فماذا كذا ***زل حمار العلم في الطين
أشدّ ما يأنف منه ويكرهه أن يقف على أبواب السلاطين والأمراء ..
جاء عبد الله بن أبي العباس الطرسوسي وكان واليًا بمرو إلى منزل عبد الله بن المبارك بالليل ومعه كاتبه والدواة والقرطاس معه، قال: فسأله عن حديث فأبى أن يحدثه، ثم سأله عن حديث فأبى أن يحدثه ثلاث مرار فقال لكاتبه:
اطو قرطاسك، ما أرى أبا عبد الرحمن يرانا أهلًا أن يحدثنا، فلما قام يركب مشى معه ابن المبارك إلى باب الدار
فقال له: يا أبا عبد الرحمن لم لم ترنا أهلًا أن تحدثنا وتمشي معنا؟ فقال:
" إني أحببت أن أذلّ لك بدني ولا أذلّ لك حديث رسول الله "
عبد الله بن المبارك العالم المتعلّم أمره كان عجيبًا في نشر العلم ..فتح داره الكبيرة لكلّ من أراد أن يسلك سُبل العلم والمعرفة , ويتعلم أصول الفقه والحديث ..
ومن أحبّ أن يرى صاحب علم , أو رجل عبادة , أو زاهد في الدنّيا , أو فقيه متعلّم لم يجد هذه الصفات إلاّ في بيت عبد الله ابن المبارك ..
يقف الساعات الطوال في الليالي الحالكة الظلمة , والقارسة الباردة يعلّم العلم , ويذاكر الحديث دون كلل ولا ملل..
بل كان من أكبر المجاهدين في سبيل الله , يغزو عامًا ويحجّ عامًا
و إذا ما وصل إلى الثُغْر اجتمع حوله المجاهدون يتلّقون العلم منه , ويكتبون عنه الحديث .. وكان عنوان صفحة دروسه في ساحة الوغى أنّ العبادة تحت ظلال السّيوف , وأن الجهاد باب من أبواب الجنّة , ودرع الله الحصين , فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلّ والمهانة والعار ...
وإذا ما اشتدّ وطيس المعركة , وتزاحف الجيشان نجده يصول صولة الأسد , ويتقدم الصفوف الأولى ويقتل من الأعداء ما يقتل ونفسه عالية لا تخاف وتهاب من هم دونها , وقد شغله حبّ الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله, ونصرة دينه الحنيف ..
يجاهد ويرابط في الثغور في حالك الليالي المظلمة, والمطر الوابل ,والبرد القارس وهو يقول لنفسه :
لا يستوي المجاهدون والقاعدون ولو كانوا جميعاً من المؤمنين
( وأن الله فضّل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً )
.
الإمام العالم سيّد الكرماء وأهل الجود والفضل كان زاهدا ورعًا , لم يفهم الزهد على أن يعتزل الناس , ويجلس في صومعته يتعبّد الله بعيدًا عنهم , بل كان زهده أن يسعى في مناكب الأرض , ويبتغي منها الرزق والكسب الحلال ليصرفه بعد ذلك -وهو يستعين به على طاعة ربه -, على أن
لا يرى مسكينًا ولا محتاجًا إلاّ أعطاه من ماله , ولا مدينا إلا أدّى عنه ديْنَه...
حدثني علي بن الفضيل قال: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام كيف ذا فقال ابن المبارك:
"يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به علي طاعة ربي لا أرى لله حقا إلا سارعت إليه حتى أقوم به "
فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا.
قدوة الزاهدين كان والله .. وقد ورث علمه عن معلمه الحبيب النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم -
كيف لا يكون قدوة الزاهدين وقد قال :
( من شرط العالم أن لا تخطر محبّة الدنّيا على باله ) ؟؟..
جاءته الدنيا بمتاعها ومباهجها , لكن لم يجعل لها مكاناً في قلبه , ولا حظّاً في نفسه ...
حتّى أن روي عنه أنّه كان يشتري التمر, ويأتي به إلى الأيتام والمساكين ويقول لهم :
(من يأكل تمري فله درهم على كلّ تمرة , ثمّ يعدّ نواة كلّ واحد منهم فيعطيه لكلّ نواة درهماّ) ...
يحجّ عامًا ويغزو عامًا
" وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شئ إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام.
وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.
فأمر ابن المبارك برد الاحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟ قال: ألف دينار.
فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي.
فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع."
بل كان يخصص الإمام سيّد الكرماء مائة ألف درهم في كل سنّة من ماله ينفقها في طريق أهل العبادة والزهد والعلم ..
هذا العالم الجليل الزاهد الغني الذي فتح الله عليه الدنيا بمتاعها ومالها لينفقه ويجود به قد يظنه أغنياء أمتّنا ما هو إلا أساطير من أساطير هذا الزمان !!...
إنّه والله من العظماء الخالدين من رجال الدنيا والدين يفوح من طاقتها المنوّعة رائحة الأزاهير فلا تملّ من دوحة رياض جنّة علمها , وأدب زينة خُلقها , ولا تسأم من سرّ عظمتها صفاء روحها , ولا يسعد الفكر السليم إلاّ أن ينهل من مشارب علمها , ويرتوي من حلاوة وروعة سيرتها ..
[align=justify]بقلم : ابنة الشهباء [/align]
عالم متعلّم , مجاهدٌ صبور, من أفقه المحدّثين والأئمة في علم الحديث زمن عصره , وأدقّهم نظرًا وأشدّهم توفيقًا للحكم الصائب , والرأي السديد ..
حادّ الذهن في استنباط معاني التنزيل وأحكامه , وبعيد الغور في فهم أصول علم الحديث والفقه ..
حجّ لطلب العلم من اليمن في أقصى الجنوب إلى الشام في أقصى الشمال , وانتقل ما بينهما إلى الحجاز والبصرة والكوفة ليلتقي بكبار العلماء , وعظماء الأئمة , وقد بلغ عدد العلماء الذين التقى بهم أربعة آلاف شخص من أمثال الأئمة الكبار : الثوري والأوزاعي , والليث بن سعد , والإمام مالك , وأبي حنيفة النعمان لينهل من كنوز علمهم , ومشارب حديثهم , ويكتنز في روح فكره من جواهر المعرفة والأدب لديهم ..
كان يقول :
( لا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم , فإذا ظنّ أنه قد علمَ فقد جهل )إنه الإمام الصالح :
عبد الله بن المبارك
ولد في مَرْو أعظم مدن خراسان سنة 118 هــــ زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك , وتوفيّ عمره ثلاث وستّون سنة , وكان عائدًا من الغزو سنة إحدى وثمانين ومائة في أفضل شهر -وهو رمضان- , وفي العشر الأواخر منه , وفي أفضل ساعة هي ساعة السحر , ودفن بهيت بلدة من نواحي بغداد, وقبره لا زال هناك ظاهر يزوره الناس ..
أحد أعاجيب الدنيا في العلم الغزير والزهد والتقوى , وعلمًا شامخًا من أعلام الأمة الإسلامية, وإمامًا من أئمّة الفقه والحديث , فكان فريد عصره في نبوغه, وملامح ذكائه منذ صغره ..
قال عنه الفضيل بن عياض :
( وربّ هذا البيت ما رأت عيناي مثل ابن مبارك )
لم يهنأ له عيشٌ, ولم يغمض له جفنٌ إلاّ أن يجوب مشارق الأرض ومغاربها بحثًا عن كنوز العلم , وجواهر المعرفة ...
فكان وحيد دهره , والإمام القدوة العالم لمن هم حوله , وقد بلغت مكانته في الحديث مبلغًا كبيراً من أهل العلم ليكون بحقٍّ فقيه المشرقين في زمانه.....
عن عبد الله بن سنان قال :
( قدم ابن مبارك مكة وأنا بها , فلما خرج شيّعه سفيان بن عينية والفضيل بن عيّاض وودّعاه فقال أحدهما : هذا فقيه أهل المشرق , فقال الآخر : وفقيه المغرب )
عبد الله بن المبارك الفقيه العالم الطبيب كان بمثابة المرجع الثابت القويّ الذي يحتكم إليه أصحاب الفقه والحديث ..
وقد قال عنه فضالة التونسي :
( كنت أجالس أصحاب الحديث بالكوفة , وكانوا إذا تشاجروا في حديث قالوا : مُروا بنا إلى هذا الطبيب حتّى نسأله )
يعنون عبد الله بن المبارك
لم يكن محدّثًا وفقيهًا فحسب بل كان جامعة علمية واسعة لمختلف أنواع ومشارب العلوم , والأدب والتاريخ ..
أديب وشاعر , لغوي ونحويّ , ومقرئ ومفسّر , مؤرّخ ومحدّث , وطبيب وحكيم ...
اجتمع جماعة من أصحابه فقالوا :
عدّوا خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا :
"جمع العلم والفقه , والأدب والنحو واللغة والزهد , والشجاعة والشعر والفصاحة , والورع والإنصاف وقيام الليل , والعبادة والحج والغزو والفروسية , وترك الكلام فيما لا يعنيه , والشدّة في رأيه وقلّة الخلاف على أصحابه "
الإمام الملهم كان شاعرًا فصيحًا يحثّ النّاس على الجهاد, وحبّ الشهادة في سبيل الله , ويحبّب الزهد إلى قلوبهم, بالإضافة إلى أنّ شعره كان يخبرنا عن صفاء روحانية مشرقة متّصلة بالله نلمسها في كلّ شطر من أبيات شعره ..
فكان بحقٍّ نسمة من نسمات الرجاء تهبّ على قلوب الحيارى , وومضة من ومضات النور تنير طريق المتخاذلين , وسوطا من سياط الحق تلهب بنارها ظهور الظالمين المتجبّرين .....
أرسل إلى صديقه الفضيل بن عيّاض من حومة المعركة – يبيّن له فضل الجهاد على العلم - حين كان يتعبّد بالحرمين فقال له :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
وريح العبير لكم ونحن عبيرنا *** رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا *** قول صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في *** أنف أمريء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا *** ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأه ذرفت عيناه ثم قال:
صدق أبو عبد الرحمن ونصح "
وقد أنعم الله عليه وألبسه أجمل ثياب عزّة النفس والإباء والكرامة فكان بحق ملكًا فوق الملوك بهذه الصفات النبيلة التي أوجدها الله في شخص حياته ..
سئل مرة : من سفلة الناس ؟
فقال : ( الذين يتعيّشون بدينهم )
قيل لعبد الله بن المبارك: إن إسماعيل بن علية قد ولي الصدقات. فكتب إليه ابن المبارك:
يا جاعل العلم له بازيًا *** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها *** بحيلة تذهب بالدين
فصرت رواياتك في سردها *** عن ابن عون وابن سيرين؟
أين رواياتك والقول في *** لزوم أبواب السلاطين؟
إن قلت أكرهت فماذا كذا ***زل حمار العلم في الطين
أشدّ ما يأنف منه ويكرهه أن يقف على أبواب السلاطين والأمراء ..
جاء عبد الله بن أبي العباس الطرسوسي وكان واليًا بمرو إلى منزل عبد الله بن المبارك بالليل ومعه كاتبه والدواة والقرطاس معه، قال: فسأله عن حديث فأبى أن يحدثه، ثم سأله عن حديث فأبى أن يحدثه ثلاث مرار فقال لكاتبه:
اطو قرطاسك، ما أرى أبا عبد الرحمن يرانا أهلًا أن يحدثنا، فلما قام يركب مشى معه ابن المبارك إلى باب الدار
فقال له: يا أبا عبد الرحمن لم لم ترنا أهلًا أن تحدثنا وتمشي معنا؟ فقال:
" إني أحببت أن أذلّ لك بدني ولا أذلّ لك حديث رسول الله "
عبد الله بن المبارك العالم المتعلّم أمره كان عجيبًا في نشر العلم ..فتح داره الكبيرة لكلّ من أراد أن يسلك سُبل العلم والمعرفة , ويتعلم أصول الفقه والحديث ..
ومن أحبّ أن يرى صاحب علم , أو رجل عبادة , أو زاهد في الدنّيا , أو فقيه متعلّم لم يجد هذه الصفات إلاّ في بيت عبد الله ابن المبارك ..
يقف الساعات الطوال في الليالي الحالكة الظلمة , والقارسة الباردة يعلّم العلم , ويذاكر الحديث دون كلل ولا ملل..
بل كان من أكبر المجاهدين في سبيل الله , يغزو عامًا ويحجّ عامًا
و إذا ما وصل إلى الثُغْر اجتمع حوله المجاهدون يتلّقون العلم منه , ويكتبون عنه الحديث .. وكان عنوان صفحة دروسه في ساحة الوغى أنّ العبادة تحت ظلال السّيوف , وأن الجهاد باب من أبواب الجنّة , ودرع الله الحصين , فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلّ والمهانة والعار ...
وإذا ما اشتدّ وطيس المعركة , وتزاحف الجيشان نجده يصول صولة الأسد , ويتقدم الصفوف الأولى ويقتل من الأعداء ما يقتل ونفسه عالية لا تخاف وتهاب من هم دونها , وقد شغله حبّ الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله, ونصرة دينه الحنيف ..
يجاهد ويرابط في الثغور في حالك الليالي المظلمة, والمطر الوابل ,والبرد القارس وهو يقول لنفسه :
لا يستوي المجاهدون والقاعدون ولو كانوا جميعاً من المؤمنين
( وأن الله فضّل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً )
.
الإمام العالم سيّد الكرماء وأهل الجود والفضل كان زاهدا ورعًا , لم يفهم الزهد على أن يعتزل الناس , ويجلس في صومعته يتعبّد الله بعيدًا عنهم , بل كان زهده أن يسعى في مناكب الأرض , ويبتغي منها الرزق والكسب الحلال ليصرفه بعد ذلك -وهو يستعين به على طاعة ربه -, على أن
لا يرى مسكينًا ولا محتاجًا إلاّ أعطاه من ماله , ولا مدينا إلا أدّى عنه ديْنَه...
حدثني علي بن الفضيل قال: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام كيف ذا فقال ابن المبارك:
"يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به علي طاعة ربي لا أرى لله حقا إلا سارعت إليه حتى أقوم به "
فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا.
قدوة الزاهدين كان والله .. وقد ورث علمه عن معلمه الحبيب النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم -
كيف لا يكون قدوة الزاهدين وقد قال :
( من شرط العالم أن لا تخطر محبّة الدنّيا على باله ) ؟؟..
جاءته الدنيا بمتاعها ومباهجها , لكن لم يجعل لها مكاناً في قلبه , ولا حظّاً في نفسه ...
حتّى أن روي عنه أنّه كان يشتري التمر, ويأتي به إلى الأيتام والمساكين ويقول لهم :
(من يأكل تمري فله درهم على كلّ تمرة , ثمّ يعدّ نواة كلّ واحد منهم فيعطيه لكلّ نواة درهماّ) ...
يحجّ عامًا ويغزو عامًا
" وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت أنا وأخي هنا ليس لنا شئ إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام.
وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.
فأمر ابن المبارك برد الاحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة ؟ قال: ألف دينار.
فقال: عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي.
فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع."
بل كان يخصص الإمام سيّد الكرماء مائة ألف درهم في كل سنّة من ماله ينفقها في طريق أهل العبادة والزهد والعلم ..
هذا العالم الجليل الزاهد الغني الذي فتح الله عليه الدنيا بمتاعها ومالها لينفقه ويجود به قد يظنه أغنياء أمتّنا ما هو إلا أساطير من أساطير هذا الزمان !!...
إنّه والله من العظماء الخالدين من رجال الدنيا والدين يفوح من طاقتها المنوّعة رائحة الأزاهير فلا تملّ من دوحة رياض جنّة علمها , وأدب زينة خُلقها , ولا تسأم من سرّ عظمتها صفاء روحها , ولا يسعد الفكر السليم إلاّ أن ينهل من مشارب علمها , ويرتوي من حلاوة وروعة سيرتها ..
[align=justify]بقلم : ابنة الشهباء [/align]
تعليق