إيزابيلا... أسطورة عشق أندلسية /حسام الدين مصطفى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسام الدين مصطفى
    رئيس الجمعية المصرية للترجمة
    • 04-07-2007
    • 408

    إيزابيلا... أسطورة عشق أندلسية /حسام الدين مصطفى


    انطلق جواده الأدهم يشق ستائر الغبار الذي غشي ساحة المعركة .... وكأنه شعاع الشمس يقصم ظلمة الليل، كانت لحظة ولوجه إلى ساحة الوغى كلطمة أمواج البحر الهادر لصخور الشاطئ، شق طريقه بكل ثبات على الحصان الأسود، وسيفه بيمينه يحصد الأرواح ويقطف الرؤوس... السهام تتطاير من حوله وتتكسر كشهب احترقت قبل أن تلج قوس السماء... وحصانه ماض لا تعرقله الأجساد، ولا يأبه بالدماء التي تخضب معرفته... وتوسط الساحة رافعاً قائمتيه معلناً عن وجوده، يخمش وجه الأرض بحدوتيه ليحفر موعد وصوله، والحر الشديد يصهر الصخر، ويطمس مرآة الحياة... والسيف يتراقص.. يتقافز على أكتاف أعدائه، فيريحها من الرؤوس التي أثقلتها...
    هاهو الآن قد بلغ قلب دائرة المعركة، وأعدائه من حوله يحيطون به كسوار بمعصم، وكلما زأر، وأشاح بسيفه يمنة ويسرة، كلما اتسع السوار، وكلما تباعد الأعداء عنه ...غريب سيفه هذا الذي يستطيع أن يطفأ بريق الحياة مهما بعدت شموعها عن يد حامله... ....

    كان كحجر أُلقي داخل قلب البحيرة الساكن ليرسم دوائر ودوائر..تتسع وتتسع.. ثم تتلاشى... وبعد أن نهل سيفه من دم هؤلاء الذين كتبوا شهادة يتمه منذ عشرين عاماً، ولم يبق ممن كانوا يحاربونه من هو قائم على قدميه .... أرخى العنان لفرسه، ولكزه برفق... استدار الحصان، وكأنه يعلم أن مهمته لهذا اليوم قد انتهت، ولابد أن يعود بفارسه إلى قلب الجبل مرة أخرى... هذه حياتهما سوياً منذ التقيا... يهبطان كليل الشتاء مسرعين كلما أغار جنود الأسبان على قومه آخر من بقوا بعد أن غربت شمس الأندلس...



    عديدة هي المرات التي كان يغادر فيها (راشد) عرينه في هذا الكهف الذي ضمه جوف الجبل، فأخفاه في سويداء صخوره... كان يهبط كلما ناده عويل نسوة قبيلته، وهي تمتزج وصراخ الشيوخ، وصياح الرجال... يهبط كجلمود صخر يصد عنهم كيد المعتدين، الذين أفنوا أجداده منذ زمن.... يكتسي وجهه برداء الفرحة في كل مرة يهبط فيها... وكيف له ألا يفرح، وهو في طريقه ليحصد رؤوس من يتموه، وحرموه ما كان يرفل فيه من نعيم في حجر أبيه آخر سادة غرناطة، كيف لا يفرح، وهو يروي الأرض التي ضمت رفات أمه وأخته بدماء من ذبحوهما أمام عينه... كيف لا يفرح وهو يفي بوعده لوزير أبيه الذي فر به منذ عقدين وجاء به إلى حمى أمير هذه القبيلة ورباه وأخفاه معه في هذا الكهف... لا زال يذكر تلك الليلة بعد أن انتهى الوزير من تدريبه، ثم سقط على الأرض هاتفاً باسمه، محتضناً ليديه، يوصيه أن لا ينسى ثأره عندهم وأن يستعيد ملك أبيه، ثم خمد بريق العينين ..
    كانت البسمة هي نهاره الذي يطل مع كل مرة يذهب فيها لقطف يانع الرقاب، لكن الدموع كانت هي ليله الذي يحيى فيه مع ذكرياته.... هكذا كان نهاره وليله
    لكن هذه المرة كانت مختلفة، شعر أن هناك ما يحجب شمس البسمة عن شفتيه، لكنه ما تردد في أن يهبط كما تعود... كان هناك ألم يعتصر فؤاده، ويجعله يشعر أن الحزن المعتاد لن يزوره الليلة، بل كان يشعر أن الليل لن يضمه مرة أخرى....


    من وسط الزرافات التي كانت تغير على قومه في هذا اليوم، تنبه أحدهم أن لا سبيل لنيل هذا السبع الكاسر إلا بالحيلة، والخداع.. فتربص له حتى إذا أوشكت المعركة على الانتهاء، ولم يعد أمام المغيرين إلا الهرب، أرسل سهم الغدر بسمه الأسود، فاستقر في قلب الفارس الأبيض..

    بدأ السم يسري في عروقه، ورأى كأن السماء تلتف حوله ككفن أزرق يلفه في نعومة، لكز حصانه كي يخرج به من أرض القتال قبل أن يفعل السم فعلته... وكأن الحصان فهم مقصده، فاستدار يسابق الريح نحو الكهف... وعلى البعد كان الغادر صاحب السهم يرقب ما يجري، فتتبعه حتى إذا سقط من على صهوة جواده بعد أن اختلط السم بدمه، اقترب منه، وحين تيقن من أن الروح قد أزهقها فعل السم، حمل الجسد ووضعه أمامه على حصانه... مسرعاً إلى ملكه بالبشرى، وممنياً نفسه بالجائزة الكبرى.... وكأن فرس الأسباني مسها مس من الجن فركضت وما تدركها الرياح....
    .....................


    على أبواب مملكة الأسبان الجديدة، كانت الجحافل المدحورة تلملم شتاتها، وتلعق جراح انكسارها،وتحاول أن تغتسل من عار هزيمتها... وعلى مبعدة كان شاطئ البحر ممتداً، تخطو على صفحته حورية، تتبعها إنسية ترفع رداء مولاتها الذي أشبعته أمواج البحر بقبلات مائها... كانت طيور البحر تطير في موكب خطواتها، وكأن عبيرها اجتذب الطير فشغله عن صيده، وربما ليس العبير وحده هو السبب، بل ربما يكون جلال حسنها، وبهاء طلعتها، فتنة بسمتها هو ما دعى الطير ليزفها أثناء لعبها، والجارية من ورائها تهتف بها أن تعود إلى القصر....


    كانت هذه الحورية هي ( إيزابيلا) جوهرة مملكة الأسبان ابنة ملكها، لم يكن من بين بني قومها من يضاهيها في جمالها، ولا سعة علمها... اعتادت كل يوم أن تخرج مع جاريتها (سارة) لتتنعم بنسيم البحر، والحق أن البحر هو من كان ينتظر دوماً مقدمها، ليقبل ما طٌبع على الرمل من أثر قدميها... كانت تشعر أن اليوم يوم مختلف، وأن مذاق نسيم البحر مختلف، فآثرت أن تبقى، وكأنها تستجيب لدعوة القدر المجهولة كي تبقى ...

    كانت (إيزابيلا) قد اعتادت أن تحج لشاطئ البحر فتمد يدها إلى الماء لتجتمع القطرات في كفها متعانفة، تلتمس كل قطرة ما نالته أختها من حظ لمس هذا الكف الناعم.... ثم تفتح (إيزابيلا) كفها فتنساب القطرات دامعة وكأن الرمل قبرها، إلا قليل من القطرات أصر أن يتشبث بهذا الكف الغض، وكأنه تنبه لما ينتظره من حتف إذا هو خرج من أسر هذا الكف، فآثر أن يبقى أسير كفها...

    استمرت فرس الغادر تركض، وكانت الأفكار في عقله أيضاً تركض... تساءل لو أنه دخل المدينة من بابها الكبير، فقد يلقاه أمير أو وزير، فيسلبه صيده الذي اقتنصه، ويحجب عنه الجائزة التي ظل يحلم بها، فآثر أن يسلك طريق الشاطئ البعيد، ويدخل القصر من الجهة الخلفية طالباً لقاء الملك...

    وإذ بـ(سارة) تهمس في أذنها مشيرة إلى مكان غير بعيد حيث لاح ذلك الأشعث يحمل جثة على سرج حصانه.... وما كادت الأميرة تنتبه لهذا الذي دلف إلى مرتعها الخاص، إلا وكان هو قد اقترب أكثر فأكثر... فتبدت هالة النور من وجه هذا المسجي أمامه، وأطلقت العين المسبلة آخر سهم من سهام روحها، فاستقر في قلب الأميرة، وكأن فارسنا أراد أن يترك بعضاً من روحه في قلب صاف غير قلبه الذي احتله السم...

    بدلاً من أن تسرع الأميرة لتلحق بخادمتها، اتجهت نحو الرجل، وكأن هناك ما يجذب روحها نحو هذا الطريح، فاستوقفته وسألته عن شأنه، وهددته بأنه يتعدى على أرض الملك وحرمه، فقص عليها القصة، فتبسمت وسألته أليس هذا السم الذي حواه سهمك هو ذلك الذي يشل القلب، ويسكن الجسد، ولا برأ منه إلا بترياق نبات الجبل، تعجب من قولها، واستبان حكمتها ورجاحة عقلها، فأكملت قولها وهي تنظر إليه: أتظن أن الملك سيفرح بفعلتك، أو أن هذا يشفي غليله، يا غر يا ساذج.. الملك سيقتلك كي لا يقال أحد العامة هو من جاء برأس الأمير، ألقه على الشط وارحل، فتراخت همة الصياد، وانتاب قلبه الوجل، وأوشك أن يلقيه على عجل، لكن الطمع في قلبه جعله يتردد، وحين رأت الأميرة منه ذلك، خلعت عقدها وقدمته له، وأثنت على شجاعته، ونصحته أن يأخذه منها هدية، فهي تقدر ما أقدم عليه... ففضل الغادر أن يذهب بطائر في يده، خيراً من أن ينتظر عشراً من غربان الشؤم ... فألقى حمله، وفر بما في يديه..

    (يتبع)
    حسام الدين مصطفى
    مترجم - باحث- كاتب
    رئيس جمعية المترجمين واللغويين المصريين
    رئيس المجلس التأسيسي للرابطة المصرية للمترجمين- المركز القومي للترجمة
    أمين عام المجلس التأسيسي لنقابة المترجمين المصريين
    www.hosameldin.org
    www.egytrans.org

  • عبلة محمد زقزوق
    أديب وكاتب
    • 16-05-2007
    • 1819

    #2
    الجزء الأول تابعته من قبل
    واليوم أعود ها هنا بملتقانا الجامع لخير الصحبة كي اطالب ببقية الأجزاء
    فالرواية بدايتها شيقة جميلة أنيقة في العرض والسرد الممتع.
    سنتابع معك أحداث الرواية بكل الود الأخوي في الله أستاذنا الفاضل
    حسام الديم مصطفى
    فعلى بركة الله

    تعليق

    • بنت الشهباء
      أديب وكاتب
      • 16-05-2007
      • 6341

      #3
      الأستاذ
      حسام الدين مصطفى
      أديبنا اللامع المتميّز
      قرأت اليوم على مسامعي رواية وكأنها من روايات ألف ليلة وليلة , وأسطورة من أساطير العشق التاريخية البديعة
      وعشت معها لحظات ممتعة وأنا أقرأ قصة هذا الفارس الفارس الأندلسي الذي كان مقدورا عليه أن يرسم البسمة المفصلّة على شفتيه والألم والحزن يقبع بين جنبيه
      لكن أخذ على نفسه عهدا أن يمتطي ويجول على ظهر جواده لينتقم من الذين سلبوا منه لحظة فرحه ..
      ألقوه في زخم الحياة يتيمًا وحيدًا يعاني من الهم والحزن ولا يجد من يشكو له , وصدر الدفء والحنان يهبه ...
      فنراه يحيا ليله والأحزان تتقاسمه , ولا أحد يشفق على مستهام روحه , ويمسح عنه دمع عينيه ..
      يبزغ الفجر عليه وفكرة الانتقام ممن حرمه سعادته تراوده , ولا تنفك عنه ..
      فجأة ومن دون ميعاد ولا سابق إنذار نجد الفارس يسأل نفسه مندهشا وهو ما زال في حيرة في أمره
      مالي لا أجد الليلة الحزن والهمّ يضمني !!؟؟..
      وإذ بنا نجد أديبنا المبدع يضع أمامنا الإجابة عن السؤال ببراعة وذكاء , وعبارات راقية وسامية وهي تحكي لنا معنى الحياة في لغة صافية مطمئنة , هادئة ومتزنة فيقول :

      هو القدر مسطورة صروفه، حكيمة تدابيره، لا ندركها، ولا نعلم ميقاتها... نسير بآلاف الطرق، وتتقاسمنا الدروب، ونرى من الناس مئات، مختلفة الأجناس والصفات... ولا نعلم أيهم سيدفعنا القدر في طريقه، أو يلقيه على ضفة حياتنا..

      أراد من خلال هذه الكلمات أن ينقلنا إلى حكمة الله ومشيئته وقدره , وأن الإنسان لا يعلم لأي ضفة سينتهي , أو سيبدأ بها حياته ...
      ومن ثم يعود ليصف لنا الفارس الذي هجر الليل حزنه حين أراد أن يدع بعضا من روحه في قلب صاف لا يعرف الخش والخديعة , ولا اللؤم ولا الغدر سبيلا له ...
      وهنا تلميذتك أمينة تأمل أن تغوص في أعماق شخصية هذا الفارس الأندلسي وتدرس طباعه , وما يدور في خلده...
      فلم تجد - بالرغم من فكرة الثأر والانتقام الذي من كل جانب يحوطه – إلا صفاء الروح وطهر النفس ونقاء الطويّة تلبسه , وإلا لما استطاع أن يحطّ جزءا من بعض بعضه في قلب الأميرة الحسناء الذي وصل إليها دون ميعاد أو سابق إنذار ...
      وذلك حين رسمت لنا حال الأميرة وهي تخطو نحوه , وتطلب أن يلقي الطريح من على فرسه خوفا من الملك أن يقتله ...
      ودون تردد يرميه طوعًا لأمرها بهدف أن يبقى فارسًا شهمًا في نظرها ...
      فيقبل منها هديتها , ويفرّ خوفًا من غربان الشؤم الذي كانت على أبواب القصر تنتظره ....
      ولا نعرف إلى أين سينتهي بنا مع قصة وحكاية هذا الفارس
      ولكن سنبقى على أمل أن يطلّ علينا بنهاية سعيدة له...

      الأستاذ حسام
      العذر منك لأنني دخلت وأدرجت تعليقًا متواضعًا قد لا يليق بجمال رواية جمال سطورك , ذلك لأنني لم أدرس فن القصة وأدبها , ولم أكن يومًا ناقدة للنصوص والإبحار بين سطورها ..
      أحببت أن أرسم تعليقًا متواضعًا وقد لا يفي بحق فن تصويرها
      لكن ما زلنا نأمل أن نسمع البقية المتبقية منها
      التعديل الأخير تم بواسطة بنت الشهباء; الساعة 10-10-2007, 17:10.

      أمينة أحمد خشفة

      تعليق

      • مها النجار
        من المؤسسين
        • 16-05-2007
        • 380

        #4
        لم اكن اعرف انك قاص بارع تمتلك ادواتك

        سانتظر بقية الاحداث

        لا تتأخر علينا

        مها
        [align=center]كلما طال بعدنا زاد قربا
        يجمع الحرف بيننا والخطاب
        [/align]

        تعليق

        • حسام الدين مصطفى
          رئيس الجمعية المصرية للترجمة
          • 04-07-2007
          • 408

          #5
          [align=center]
          الأخوات والإخوة الكرام
          سلام الله عليكم
          أعلم أن نشر الجزء الأول من هذه الأسطورة قد مر عليه أمد غير قصير وأعرف أني ربما أكون قد أثقلت على حضراتكم بطول انتظار الأجزاء التالية ولكن لهذا سبب وعلة أردت أن أطلع حضراتكم عليها
          كنت قد كتبت هذه القصة منذ نحو عام تقريباً وواريتها بخزانة مكتبي ضمن مجموعة أخرى من كتابات لي هي إجتهادات في مجال القصة (وسط ما بين الرواية المسهبة والقصة القصيرة المقتضبة) ووجدتني أعمد فيها إلى تطبيق ما اصطلح المحدثون على تسميته بالأدب المصور أو ما شاعت الإشارة إليه على أنه "الفن التاسع"...
          وكنت بالفعل قد نشرت الجزء الأول منها ولكن لأسباب عديدة توقفت عن ذلك حتى أن الموضع الذي حفظت فيه ما سطرته عنها قد تاه في زحام الذاكرة ولم أجد لدي سوى الجزء الأول منها وهو المدرج في صدر هذه الصفحة...
          ولكن لما تلمسته من كرم متابعتكم لأحداثها آليت على نفسي إلا أن أعيد كتابتها وأستكمل ما ضاع من أجزائها وأنشره بالتتابع فتأتيكم هذه الأجزاء طازجة حديثة أختصكم بنشر جزء منها مرة على الأقل كل أسبوع ..
          فأرجو أن أكون عند حسن ظنكم وأن تسعدونني بنقدكم أو انتقادكم ولا أحب إلى قلبي من أن أنال هدايا تعليقاتكم وأرد على كل تساؤلاتكم ومناقشاتكم
          لكم جميعاً تحيتي وتقديري
          حسام الدين مصطفى
          والآن فلنتابع الجزء الثاني من أسطورة العشق الأندلسية "إيزابيلا"

          [/align]
          حسام الدين مصطفى
          مترجم - باحث- كاتب
          رئيس جمعية المترجمين واللغويين المصريين
          رئيس المجلس التأسيسي للرابطة المصرية للمترجمين- المركز القومي للترجمة
          أمين عام المجلس التأسيسي لنقابة المترجمين المصريين
          www.hosameldin.org
          www.egytrans.org

          تعليق

          • حسام الدين مصطفى
            رئيس الجمعية المصرية للترجمة
            • 04-07-2007
            • 408

            #6
            [align=center]

            راشد طريحاً على الأرض
            وقفت " إيزابيلا" تنظر إلى تلك الجثة الملقاة عند قدميها، تُقَلِبُها بناظريها، وتدور حولها كأنها تبحث عن مصدر تلك القوة التي أرغمتها على المكوث و مساومة هذا الذي ألقى لها هذا الطريح أمامها ... و نادت على خادمتها كي تعود إليها فعادت "سارة" التي كانت تقبع خلف كوخ الصيد ترقب فعل سيدتها وتتعجب من شأنها و تكاد الدهشة تعصف بعقلها فتسمرت مكانها ولم ينتزعها من ثبات يقظتها هذا إلا صوت سيدتها يهيب بها أن تهرع إليها، وحين وصلت إلى حيث استقر جسد "راشد" وأخذت تحدق في تقاسيم وجهه وبهاء ملامحه وتلك البسمة الهازئة التي جمدها السم على شفتيه، وقبل أن تغرق في دوامة أخرى من الدهشة هتفت بها " إيزابيلا" أن تساعدها كي يحملاه إلى بيت الشاطئ حيث اعتادت " إيزابيلا" أن تلعب هناك منذ طفولتها، ودون أن تنبث " سارة" ببنت شفة وجدت نفسه تمد يديها وتساعد مليكتها في حمل الجثة فيجاهدا في نقلها إلى داخل الكوخ... وما أن استقر الجسد على أرض الكوخ أسرعت "سارة" إلى بابه و تلفتت يمنة ويسرة تبحث عن أي عين تكون قد رصدت ما حدث أو أي شخص انتبه لما جرى، وحين تأكدت أنهما كانا بمنأى عن أعين الراصدين و نظر المتلصصين أوصدت الباب وعادت إلى سيدتها.


            إيزابيلا وسارة تتحادثان
            نظرت كلتاهما للأخرى فتقاذفت أعينهما السؤال حول ما حدث وكيف حدث وما ورطت فيه الأميرة نفسها فكيف منعت أن يصل غريم أبيها إلى يديه ليعلقه على أبواب المدينة؟؟؟؟!!!!....
            تساؤلات كثيرة و كأن ما مر حلم فأفاقت كلتاهما على لطمة اليقظة تعيدهما إلى رشدهما... كانت "إيزابيلا" هي أول من نطق لتواري تلك التساؤلات الصامتة ثرى الحديث فطلبت من "سارة" أن تبقى إلى جواره ريثما تعود إليها، ولم تنتظر كي تسمع اعتراض الوصيفة المتعجبة مما يحدث بل خرجت وأوصدت الباب خلفها، وأسرعت تسابق خطواتها نبضات قلبها التي بدأت تتسارع كلما تقدمت نحو القصر، وحين دخلت بوابته لم تنظر إلى تحية الحراس، ولا انحناءات الموالي والتابعين، بل طارت نحو غرفة درسها، فدفعت بابها، و توجهت نحو قوارير اصطفت على أرفف الغرفة ...
            أغمضت عيناها تعتصر ذاكرتها أي هذه القوارير التي تحوي جذور هذا النبات... أي من هذه القنينات تضم الترياق الذي علمها الحكيم طريقة تحضيره .. وأخيراً وجدتها عند آخر صف القوارير الطويل، التقطتها ودستها بين ثنايا ردائها،ولم تنتظر حتى توصد الباب خلفها بل اندفعت لتعود إلى سباق الخطى و النبضات، و لم تنتبه إلا ووزير أبيها يستوقفها وقد راعه ركضها وسرعتها وساءلها إن كان خطب قد ألم بها أو أن هناك ما يزعجها ...........

            الوزير يستوقف سارة ويسألها عن سرعتها واندفاعها

            أجفلت" سارة" و ارتعشت حين أوصدت "إيزابيلا" الباب خلفها تاركة إياها وحدها مع جثة هذا الفارس... اختارت لنفسها ركناً بعيداً و تكومت فيه تبحث عن ما بقي من شجاعتها، وتحتضن ركبتيها تختبئ خلف ذاتها ... تحادث نفسها وحيدة أنا مع جثة قتيل، وسر تحاول الأميرة أن تخفيه، ولو اكتشفه الملك ففيها هلاكها... فأي حظ هذا الذي أوقعها في هذا كله، أي جريرة اقترفتها في حياتها فباتت على حافة الهلاك تنتظر عقاب قدرها .. ما كانت تتخيل أن تأتي نهايتها بتلك الطريقة...
            لأول مرة تشعر "سارة" بالأنس لصوت الأمواج الهادر يأتي من بعيد تلتمس فيه أن يحطم هذا الخوف الذي أصم قلبها، وتدعو في سرها أن تأتي موجة فتلقف هذا الجاثم أمامها أو حتى تبتلع كلاهما قبل أن يعرف الملك ما حدث فتكون هي الأضحية لمن لن يقدر على الإساءة لابنته الوحيدة وقرة عينه.....

            سارة: أيتها الجدران فلتخبئني أضلع لبناتك و ليبتلعني جوفك

            صك صوت الوزير باب الهروب أمام " إيزابيلا"، فحاولت أن تغالب سرعة خطاها وتكبحها، وتجمدت الكلمات على لسانها أمام ابتسامة الوزير الباردة التي خطها على وجهه الدميم لتظهر أسنانه المتعرجة تعتلي كل منها الأخرى.... التفتت إليه وجاهدت كي تتلقى لطمة النظر إلى وجهه الذي طالما سعت كي لا يقع بصرها عليه و طالما هربت من رؤيته كلما سعى أن يغالب سوء نفسه ويدعي طيبة الحال ويعبر لها عن تعلقه بها ...
            استعادت "إيزابيلا" رباطة جأشها خلال رحلة إلتفاتة رأسها، وواجهته بنظرتها وأخبرته أن عقدها قد سقط منها عند الشاطئ وأنه تسرع لاستعادته، فعرض عليه أن يرسل أحد رجاله بفرسه يبحث لها عنه أو يرافقها إلى هناك، فرمقته بنظرة غضب ذكرته ما نسي من أن مرتع الأميرة مكان لا يمكن لأي رجل أن يطأه ولا حتى الوزير نفسه، أدارت رأسها وتركته وهي تسمع صرير أضراسه تكاد تميز شدقيه من الغيظ و الشعور بالهزيمة أمام تلك الأميرة التي لا تنفك تظهر نفورها منه كلما رأته....

            الوزير يتابع إيزابيلا وهي تجري نحو بيت الشاطئ


            حين انفتح الباب تراجعت "سارة" إلى الوراء تتضرع للجدران أن تلتقمها فتخفيها أو للأرض أن تبتلعها بين حناياها ينفخ عقلها في بوق الخوف فيفشل أن يجعله أعلى من دقات طبول الهلع في قلبها ...
            وحين أطل وجه "إيزابيلا" من فرجة الباب محاولة أن تلتقط أنفاسها المتقطعة جرت "سارة" إليها وانفجرت باكية وهي تحتضن سيدتها التي شعرت بما عانته المسكينة أثناء غيابها ... فربتت على كتفها وأزاحتها عن صدرها برفق و انكبت على الجثة الممدة على الأرض فألصقت أذنها بصدره فلم تسمع سوى الصمت وباتت تتحسس أي رمز أو إشارة واهنة للحياة في هذا الجسد فلم تجد إلا الموت ينثر علاماته وأدلته على كل جزء فيها..
            ترقرت الدموع في عين "إيزابيلا" وهي تصب جام غضبها على الدقائق والثوان التي أُهدرت، وناجت ربها أن ينقذ هذا الشاب.... وبات بصرها في ترحال ما بين وجه "راشد" ووجه السماء... وانتبهت إلى أن شفتاه جافة لا زبد عليها فاشتعل الأمل يذيب الدماء التي تجمدت في صدرها، و ينير نفسها التي غلفها ظلام اليأس، فمدت يدها إلى ردائها تلتقط القارورة بأصابع ترتعش مع نبضات قلبها ورفعت رأسه إلى صدرها وقطرت من قارورتها على شفتيه بضع قطرات اختلطت بقطرات دموعها التي انسابت كجدول ينبع من بحيرة الحزن واليأس ليصب في غدير الأمل...
            [ثم أراحت رأسه على وسادة التقطتها و خرجت تسحب بصرها الذي التصق بوجهه واتجهت إلى البحر رافعة ذراعيها للسماء تناجي ربها وتدعوه لعل ترياقها يهزم السم الذي سرى بعروقه وأن يتحول بصيص الأمل في داخلها إلى شمس حياة تسري في أوصال ذلك الذي ألقاه قدرها إليها ولا تعلم هل ستعود تلك الروح التي أفنى الكثيرون حياتهم كي يزهقوها إلى هذا الجسد الساكن أم أن عودة الروح أصعب ألف مرة من خروجها ....

            إيزابيلا تتضرع إلى السماء

            [/align]
            حسام الدين مصطفى
            مترجم - باحث- كاتب
            رئيس جمعية المترجمين واللغويين المصريين
            رئيس المجلس التأسيسي للرابطة المصرية للمترجمين- المركز القومي للترجمة
            أمين عام المجلس التأسيسي لنقابة المترجمين المصريين
            www.hosameldin.org
            www.egytrans.org

            تعليق

            • حسام الدين مصطفى
              رئيس الجمعية المصرية للترجمة
              • 04-07-2007
              • 408

              #7
              [align=justify]اكتست مضارب قبيلة (راشد) وبيوتها برداء الحزن، وباتت دروبها وطرقاتها تنوح في صمت وتبكي وقع أقدام جواده الأدهم... حتى دروب القرية افتقدت (راشد) وجواده، وعلى باب قصر الملك تراخت رايات الانتصار منكسرة تحت وطأة ذلك الحزن الذي تشبعت به أنفاس كل أهل القصر... والملك قد أدمى قلبه أن يفقد من اتخذه ولداً له، وكان درعه الذي يقيه غائلة الزمن وغدر الأعداء، تمور الذكريات في رأسه ويتذكر ما كان بينه وبين صنوه والد "راشد"، وكيف امتدت خناجر الغدر لتحفر نقوش الخيانة على جسده، وتعيث هلاكاً في أهله وعشيرته، وكيف فر الوزير ليحمل (راشداً) إليه، فيكن قرة عين له بعض أن قضى قدره أن يكون أبتراً ... فأنزله من نفسه منزلة الإبن... واستعاض به عن نسل لم تهبه له زوجاته...

              ******************


              "إيزابيلا" تسقي "راشد" الترياق

              سرى الترياق في شرايين (راشد) راكضاً خلف نسائم روحه التي بددها السم لعله يلحق بها ويستبقيها، وشَرَعَ الترياق كل سيوف النضارة والشفاء لعلها تدحر خناجر الوهن والموت التي استلها السم... حرب الحياة والموت تدور رحاها في قلب (راشد) والروح هي الغنيمة الكبرى....
              والزمن يَرقُبُ ما يجري في صمت.... تمر سرايا دقائقه وساعاته في سكون وهو واقف عند رأس (راشد) عاقداً يديه لا يمدهما ...لا لينصر الترياق ولا ليؤازر السم، وإنما ينتظر كي يكسو اللحظات المتبقية بحلة النجاة أو كفن الموت.... ويأتي ملاك القدر يركض على جواده الثلجي فينضم إلى جنود الترياق التي أضناها وطيس النزال، فيضيء بمشعل العافية دروب شرايينه التي كستها ظلمة السقم ...
              وأشرقت عينا (راشد) بانبعاث الحياة مرة أخرى في أوصاله ... فاستقر في مقلتيهما ضياء بسمة تفتحت على شفتا (إيزابيلا) وصوت قلبها يلهج بترانيم الشكر لربها أن وهب لهذا الشاب حياة جديدة وأنقذه من مخالب موت محقق... واحتضنت كفاها وجهه الذي حمل بشارة الحياة إليها تتأمل قسماته... ويخطر بصرها على بساط جبهته الذي ينسدل إلى محجري عيناه، وما أن تصافحت أبصارهما شعرت بذلك الرابط الذي بدأت خيوطه الحريرية تتراص إلى جوار بعضها البعض كلما سبحت عيونهما في أنهار روحيهما....

              ******************

              اجتمع بعض نفر من أولئك الذين عز عليهم أن تختفي من بينهم شعلة الأمل التي كانت نظرة "راشد" تضيئها، وخرجوا للبحث عن درعهم الذي سلبته يد خائنة من بينهم ... مر بهم اليوم ليلملم كل أشعة الأمل في أن يجدوه، ويلقي بها في كنانة اليأس الذي حملوه في رحلة عودتهم...

              ******************

              ما كادت روح راشد تستقر فوق كرسي جسده إلا ولمحت ذلك الوجه الصبوح وشعرت بتلك اللمسة الحانية فطارت إلى تلك الحورية التي أعادتها إلى عرشها... لأول مرة تركض روحه مهللة للقاء غلفتها اللهفة كما سعت للقاء روح تلك التي حار أي الأسماء يكون اسمها، وهل هي من أهل هذه الدنيا أم هي حوراء عين أرسلتها السماء هدية كي تهدي الإنس إلى جوهر الجمال وسمو الروح .... تعجب كيف استطاع أن يقرأ أسطر وصفحات في سفر عينيها رغم أن لغتها غير كل لغات البشر...
              وسافر بصره إلى عينيها واستقر به المقام عند مقلتيها...
              مر الزمن في هوادة متسللاً يحاول أن ينقضي قبل أن يفتضح أمره حين لم يستطع أن يخلع أي حلة من حلله على تلك الفترة التي إلتقت خلالها عيونهما ... فما حلة الثواني تستر، وما حلة الدقائق تصلح، وما حلة الساعات تكسو، وما حلة الأيام تغني وما حلة السنين تكفي....
              وامتدت يد الألم تنخز جسد "راشد" فإنحنت روحه مستأذنة من معبد روح "إيزابيلا" لترسل يده تتحسس موضع الجرح ... وتشعل مرجل عقله كي يقودها إلى ذكريات ما حدث.... وبدأ "راشد" يتذكر ما مر به، وكيف هوت يده قابضة على سيفه بعد أن شعر بلهيب أشعله السهم الذي استقر بكتفه ....
              شعرت "إيزابيلا" برسل السؤال تنطلق من عينيه، فأرسلت ردها يوفر عليها مغبة الترحال للبحث عن أجوبة ... بأن ضمت يدي "راشد" إلى صدره وربتت عليهما ثم نهضت قائلة ... إلى اللقاء غداً

              ******************

              هربت زفرة الإرتياح من صدر "سارة" حينما أعلنت سيدتها أنها ذاهبة وخرجت من مكنها وأوشك لسانها أن ينطق ببعض كلمات لولا نظرة من "إيزابيلا" ألجمت جواد لسانها فصمتت وهي تغالب نفسها ... إمتطت الأميرة فرسها وتبعتها وصيفتها على الجواد الآخر... طوال الطريق إلى القصر لم تخلع شفتيها تاج بسمة هادئة كللت ثغرها... ومن بين صمت شفتيها نطقت روحها بما لم يبح به اللسان .....

              [align=center]
              "إيزابيلا" توصي "سارة"[/align]


              وما أن وصلتا إلى القصر دفعت "إيزابيلا" وصيفتها إلى حجرتها وأوصدت الباب خلفها وأسرت إليها أن لا تذكر أي أمر مما شهدتاه اليوم وأن لا تبوح بذلك إلى أي مخلوق.. ثم أطرقت برهة وعادت لمخاطبة "سارة" تعلمها بأن عليهما الذهاب مع مشرق شمس الغد لعيادة ذلك الجريح وأكدت عليها أن لا تناديها بقولها "سيدتي" بل وحثتها أن تدعي أنها الأميرة وأن تكون هي جاريتها ويتبادلا اسميهما فتناديها باسم "سارة".... أذعنت الوصيفة لأوامر سيدتها واستسلمت ليد الولاء.

              ******************

              جاهد "راشد" كي يسترد من روحه ما لحق بركب تلك الحورية، وأن يجتهد ليدرك أين هو؟ وكيف أتى إلى هذا المكان؟ وهل هو حالم واهم أم مدرك فاهم؟ ومن هي ذات البسمة الملائكية؟ .... وعاوده الألم فتلمس بيده موضع الجرح مرة ثانية ودارت عيناه في أرجاء المكان تتعجب من فخامة تأثيثه ورقة ألوانه وأريج عطره، شعر وكأنه قد وُلِدَ مرة أخرى وأن تلك البقعة هي أرض مولده ... وبدأت عيناه تسرعان في دورانهما بالمكان فتجوبانه في دوائر أخذت تتسع وتتسع فاختلطت بأمواج الظلام فشعر وكأنه يتهاوى إلى قاع سحيق وما عاد يربطه بسطح الحياة إلا بصره الذي تعلق بصورة حوريته التي لا تزال معلقة بأهدابه .... ولكن سواعد الغشية كانت أشد فجذبته وصورته إلى أعماقها واسدل جفنيه مطبقاً على صورتها وراح مغشياً عليه...

              ******************

              استأذنت "سارة" لتذهب وتترك سيدتها لتستريح... وحينما أوصدت الباب خلفها إنطلقت روح "إيزابيلا" تتراقص وتغني كلمات لم تنطق بها شفاة من قبل، كلمات سطرتها يد بصر "راشد" حين صافح ناظريها، وألقت بنفسها على مخدعها الحريري وتراخت جفونها وتعانقت أهداب عينيها ضامة صورته وتستمر رقصات روحها تزفها إلى جنة الأحلام.....


              "إيزابيلا" في جنة الأحلام
              [/align]
              حسام الدين مصطفى
              مترجم - باحث- كاتب
              رئيس جمعية المترجمين واللغويين المصريين
              رئيس المجلس التأسيسي للرابطة المصرية للمترجمين- المركز القومي للترجمة
              أمين عام المجلس التأسيسي لنقابة المترجمين المصريين
              www.hosameldin.org
              www.egytrans.org

              تعليق

              • بنت الشهباء
                أديب وكاتب
                • 16-05-2007
                • 6341

                #8
                القاص المبدع وفارس الحرف والكلمة
                الأستاذ حسام الدين مصطفى
                بداية لك منا جزيل الشكر والتقدير لعودتك بنا إلى هذه الأسطورة الرائعة التي كنا نأمل أن نسمع بقية حكايتها ، ولم نكن نعلم بأن البقية المتبقية منها قد ضاعت منك بين خزانة مكتبتك .
                لكن بعودتك لسرد بقية الأحداث علينا أعادنا إلى هذه الأسطورة لنعيد قراءتها بشغف من جديد ، ونحيا مع أحداثها وشخوصها كما لو كنا في زمانها ..
                وهذا يدلّ على أنك كنت بارعا في أسلوبك القصصي الذي كما تفضلت في قولك بأنه جاء وسط ما بين الرواية المسهبة ، والقصة القصيرة المقتضبة .
                فكنت أشدّ ألمعية ، وأكثر تنبها في سردك لهذا الفن التصويري الذي لجأت إليه في أكثر الأحيان إلى الأدب القائم على الخيال , ولم تنس بالمقابل أن تخلق لنا جوّا ألبسته ميزان الواقعية والشعور الإنساني من خلال نسج الأسطورة لتجربة إنسانية شعورية لها أسبابها الكثيرة أهمها كان تصوير المواجع والحالة النفسية المحزنة المؤلمة التي أصابت قلب الأميرة حينما رأت تقاسيم وجه راشد ، وملامح بسمته الهازئة التي جمدّها السمّ مما دعاها أن تعدو مسرعة إلى القصر دون أن تدري بمن حولها لتبحث في غرفتها عن قنينة الترياق التي تركها حكيم القصر لها .
                ونجد أنك لجأت في سردك القصصي إلى بهو التصاوير ، واعتمدت في أسلوبك على التحليل النفسي للشخصيات والتناقض فيما بينهما . وفي ذلك ورد لنا أمثلة كثيرة من بينها صورة التحليل النفسي للوزير ، وعرض نظراته الخبيثة اللئيمة الماكرة بالإضافة إلى الصورة المغايرة للملكة التي كانت تمقت صورته الرديئة ، وتكره أن تسمع حتى ولو بسيرته وهي تأمل أن تصل إلى مبتغاها وتدفع السمّ عن راشد الذي دون أن تدري قد أسكنته قلبها وروحها ،وذلك كان بهدف أن تكسب رد الفعل عند القارئ ومودته من خلال هذه الإثارة الفنية البارعة التي ستدفع به للوقوف إلى جانب الأميرة العاشقة التي آثرت على روحها ، واحتملت كل المشاق والصعاب التي تعترضها في سبيل أن تهب الحياة من جديد لراشد الذي ملك قلبها.
                كما أننا وجدنا أنك قد استخدمت لغة النقد العقلي للمشاعر التي يكمن وراءها الدافع الأساسي الذي دفعك لسرد هذه الأسطورة ، إذ أنك حاولت في بعض الأحيان أن تستقي من أفكارك وتلبسها مصطلحات تدور حول مفهوم الحب والكره ، والنزاعات الشعورية المختلفة فيما بين راشد والملكة ووصيفتها ، والوزير الذي رسمته بصورة الرجل الشرير الذي لا يمكن له أن يفهم لغة العواطف النظيفة مما يتيح لك بجدارة أن تملك ذهن القارئ وتدفعه لئن يتابع معك صور أحداث الأسطورة من بدايتها وهو يأمل أن يلتقي ويفوز الحب فيما بين الأميرة وراشد ، وأن يبتعد الوزير الشرير عن مكانهما ، وفي هذا كنت بارعا في وصف الحالة الشعورية لمجموع شخصيات الحدث التي ملكت بها ذهن القارئ .
                ولم ننس أيضا أنك قد أحسنت وتفردّت في لغة التشويق القصصي ، وقد بلغت منزلة عليا في سرد اللفظ والمعنى على السواء وأنت تحاول أن تمسك بمجامع القارئ الذهنية ليكون قريبا من مكان الحدث وهو يأمل أن يصل إلى نهاية سعيدة تقرّ به عينه وتسعد بها روحه.

                الأستاذ حسام الدين مصطفى
                إن ما أجاد به يراعاك هو الذي دفعني إلى هذه القراءة التحليلة المتواضعة لي ، وأتمنى من الله أن أكون قد بلغت ولو بجزء يسير من الصواب لقراءتي لها ...
                و أقل واجب لهذا العمل الرائع هو :

                التثبيت

                أمينة أحمد خشفة

                تعليق

                • جلال فكرى
                  أديب وكاتب
                  • 11-08-2008
                  • 933

                  #9
                  الأستاذ المبدع حسام الدين:
                  أعتقد بعد قراءتى للجناحين أن من حقى أن أقول
                  أديب كبير يملك أدواته ، سرد قصصى ممتع
                  أجواء مرسومة بدقة ، صور توضيحية ، تحليل
                  نفسى لمشاعر كل شخصية ..ما أروع ما سطرت يمناك ..!!
                  ..تصفيق .. إعجاب شديد..إحترام
                  التعديل الأخير تم بواسطة جلال فكرى; الساعة 21-11-2008, 17:51.
                  بالحب نبنى.. نبدع .. نربى ..نسعد .. نحيا .. نخلد ذكرانا .. بالحقد نحترق فنتلاشى..

                  sigpicجلال فكرى[align=center][/align]

                  تعليق

                  • مريم محمود العلي
                    أديب وكاتب
                    • 16-05-2007
                    • 594

                    #10
                    الأستاذ حسام الدين
                    أخذتنا إلى عالم آخر
                    عالم ضاع منا يوما ما
                    لأننا نسيناه في زحمة التقانة والجري وراء مادايات هذا العلم المسحور
                    لقد إيقظتنا بهذه الأسطورة الرائعة وجعلتنا نشعر كيف كنا يوما ما وكيف أصبحنا
                    كل الشكر والتقدير لك

                    تعليق

                    يعمل...
                    X