
انطلق جواده الأدهم يشق ستائر الغبار الذي غشي ساحة المعركة .... وكأنه شعاع الشمس يقصم ظلمة الليل، كانت لحظة ولوجه إلى ساحة الوغى كلطمة أمواج البحر الهادر لصخور الشاطئ، شق طريقه بكل ثبات على الحصان الأسود، وسيفه بيمينه يحصد الأرواح ويقطف الرؤوس... السهام تتطاير من حوله وتتكسر كشهب احترقت قبل أن تلج قوس السماء... وحصانه ماض لا تعرقله الأجساد، ولا يأبه بالدماء التي تخضب معرفته... وتوسط الساحة رافعاً قائمتيه معلناً عن وجوده، يخمش وجه الأرض بحدوتيه ليحفر موعد وصوله، والحر الشديد يصهر الصخر، ويطمس مرآة الحياة... والسيف يتراقص.. يتقافز على أكتاف أعدائه، فيريحها من الرؤوس التي أثقلتها...
هاهو الآن قد بلغ قلب دائرة المعركة، وأعدائه من حوله يحيطون به كسوار بمعصم، وكلما زأر، وأشاح بسيفه يمنة ويسرة، كلما اتسع السوار، وكلما تباعد الأعداء عنه ...غريب سيفه هذا الذي يستطيع أن يطفأ بريق الحياة مهما بعدت شموعها عن يد حامله... ....
كان كحجر أُلقي داخل قلب البحيرة الساكن ليرسم دوائر ودوائر..تتسع وتتسع.. ثم تتلاشى... وبعد أن نهل سيفه من دم هؤلاء الذين كتبوا شهادة يتمه منذ عشرين عاماً، ولم يبق ممن كانوا يحاربونه من هو قائم على قدميه .... أرخى العنان لفرسه، ولكزه برفق... استدار الحصان، وكأنه يعلم أن مهمته لهذا اليوم قد انتهت، ولابد أن يعود بفارسه إلى قلب الجبل مرة أخرى... هذه حياتهما سوياً منذ التقيا... يهبطان كليل الشتاء مسرعين كلما أغار جنود الأسبان على قومه آخر من بقوا بعد أن غربت شمس الأندلس...

عديدة هي المرات التي كان يغادر فيها (راشد) عرينه في هذا الكهف الذي ضمه جوف الجبل، فأخفاه في سويداء صخوره... كان يهبط كلما ناده عويل نسوة قبيلته، وهي تمتزج وصراخ الشيوخ، وصياح الرجال... يهبط كجلمود صخر يصد عنهم كيد المعتدين، الذين أفنوا أجداده منذ زمن.... يكتسي وجهه برداء الفرحة في كل مرة يهبط فيها... وكيف له ألا يفرح، وهو في طريقه ليحصد رؤوس من يتموه، وحرموه ما كان يرفل فيه من نعيم في حجر أبيه آخر سادة غرناطة، كيف لا يفرح، وهو يروي الأرض التي ضمت رفات أمه وأخته بدماء من ذبحوهما أمام عينه... كيف لا يفرح وهو يفي بوعده لوزير أبيه الذي فر به منذ عقدين وجاء به إلى حمى أمير هذه القبيلة ورباه وأخفاه معه في هذا الكهف... لا زال يذكر تلك الليلة بعد أن انتهى الوزير من تدريبه، ثم سقط على الأرض هاتفاً باسمه، محتضناً ليديه، يوصيه أن لا ينسى ثأره عندهم وأن يستعيد ملك أبيه، ثم خمد بريق العينين ..
كانت البسمة هي نهاره الذي يطل مع كل مرة يذهب فيها لقطف يانع الرقاب، لكن الدموع كانت هي ليله الذي يحيى فيه مع ذكرياته.... هكذا كان نهاره وليله
لكن هذه المرة كانت مختلفة، شعر أن هناك ما يحجب شمس البسمة عن شفتيه، لكنه ما تردد في أن يهبط كما تعود... كان هناك ألم يعتصر فؤاده، ويجعله يشعر أن الحزن المعتاد لن يزوره الليلة، بل كان يشعر أن الليل لن يضمه مرة أخرى....

من وسط الزرافات التي كانت تغير على قومه في هذا اليوم، تنبه أحدهم أن لا سبيل لنيل هذا السبع الكاسر إلا بالحيلة، والخداع.. فتربص له حتى إذا أوشكت المعركة على الانتهاء، ولم يعد أمام المغيرين إلا الهرب، أرسل سهم الغدر بسمه الأسود، فاستقر في قلب الفارس الأبيض..
بدأ السم يسري في عروقه، ورأى كأن السماء تلتف حوله ككفن أزرق يلفه في نعومة، لكز حصانه كي يخرج به من أرض القتال قبل أن يفعل السم فعلته... وكأن الحصان فهم مقصده، فاستدار يسابق الريح نحو الكهف... وعلى البعد كان الغادر صاحب السهم يرقب ما يجري، فتتبعه حتى إذا سقط من على صهوة جواده بعد أن اختلط السم بدمه، اقترب منه، وحين تيقن من أن الروح قد أزهقها فعل السم، حمل الجسد ووضعه أمامه على حصانه... مسرعاً إلى ملكه بالبشرى، وممنياً نفسه بالجائزة الكبرى.... وكأن فرس الأسباني مسها مس من الجن فركضت وما تدركها الرياح....
.....................

على أبواب مملكة الأسبان الجديدة، كانت الجحافل المدحورة تلملم شتاتها، وتلعق جراح انكسارها،وتحاول أن تغتسل من عار هزيمتها... وعلى مبعدة كان شاطئ البحر ممتداً، تخطو على صفحته حورية، تتبعها إنسية ترفع رداء مولاتها الذي أشبعته أمواج البحر بقبلات مائها... كانت طيور البحر تطير في موكب خطواتها، وكأن عبيرها اجتذب الطير فشغله عن صيده، وربما ليس العبير وحده هو السبب، بل ربما يكون جلال حسنها، وبهاء طلعتها، فتنة بسمتها هو ما دعى الطير ليزفها أثناء لعبها، والجارية من ورائها تهتف بها أن تعود إلى القصر....

كانت هذه الحورية هي ( إيزابيلا) جوهرة مملكة الأسبان ابنة ملكها، لم يكن من بين بني قومها من يضاهيها في جمالها، ولا سعة علمها... اعتادت كل يوم أن تخرج مع جاريتها (سارة) لتتنعم بنسيم البحر، والحق أن البحر هو من كان ينتظر دوماً مقدمها، ليقبل ما طٌبع على الرمل من أثر قدميها... كانت تشعر أن اليوم يوم مختلف، وأن مذاق نسيم البحر مختلف، فآثرت أن تبقى، وكأنها تستجيب لدعوة القدر المجهولة كي تبقى ...
كانت (إيزابيلا) قد اعتادت أن تحج لشاطئ البحر فتمد يدها إلى الماء لتجتمع القطرات في كفها متعانفة، تلتمس كل قطرة ما نالته أختها من حظ لمس هذا الكف الناعم.... ثم تفتح (إيزابيلا) كفها فتنساب القطرات دامعة وكأن الرمل قبرها، إلا قليل من القطرات أصر أن يتشبث بهذا الكف الغض، وكأنه تنبه لما ينتظره من حتف إذا هو خرج من أسر هذا الكف، فآثر أن يبقى أسير كفها...

استمرت فرس الغادر تركض، وكانت الأفكار في عقله أيضاً تركض... تساءل لو أنه دخل المدينة من بابها الكبير، فقد يلقاه أمير أو وزير، فيسلبه صيده الذي اقتنصه، ويحجب عنه الجائزة التي ظل يحلم بها، فآثر أن يسلك طريق الشاطئ البعيد، ويدخل القصر من الجهة الخلفية طالباً لقاء الملك...
وإذ بـ(سارة) تهمس في أذنها مشيرة إلى مكان غير بعيد حيث لاح ذلك الأشعث يحمل جثة على سرج حصانه.... وما كادت الأميرة تنتبه لهذا الذي دلف إلى مرتعها الخاص، إلا وكان هو قد اقترب أكثر فأكثر... فتبدت هالة النور من وجه هذا المسجي أمامه، وأطلقت العين المسبلة آخر سهم من سهام روحها، فاستقر في قلب الأميرة، وكأن فارسنا أراد أن يترك بعضاً من روحه في قلب صاف غير قلبه الذي احتله السم...
بدلاً من أن تسرع الأميرة لتلحق بخادمتها، اتجهت نحو الرجل، وكأن هناك ما يجذب روحها نحو هذا الطريح، فاستوقفته وسألته عن شأنه، وهددته بأنه يتعدى على أرض الملك وحرمه، فقص عليها القصة، فتبسمت وسألته أليس هذا السم الذي حواه سهمك هو ذلك الذي يشل القلب، ويسكن الجسد، ولا برأ منه إلا بترياق نبات الجبل، تعجب من قولها، واستبان حكمتها ورجاحة عقلها، فأكملت قولها وهي تنظر إليه: أتظن أن الملك سيفرح بفعلتك، أو أن هذا يشفي غليله، يا غر يا ساذج.. الملك سيقتلك كي لا يقال أحد العامة هو من جاء برأس الأمير، ألقه على الشط وارحل، فتراخت همة الصياد، وانتاب قلبه الوجل، وأوشك أن يلقيه على عجل، لكن الطمع في قلبه جعله يتردد، وحين رأت الأميرة منه ذلك، خلعت عقدها وقدمته له، وأثنت على شجاعته، ونصحته أن يأخذه منها هدية، فهي تقدر ما أقدم عليه... ففضل الغادر أن يذهب بطائر في يده، خيراً من أن ينتظر عشراً من غربان الشؤم ... فألقى حمله، وفر بما في يديه..
(يتبع)
تعليق