صمت الخرسان
الجزء الاول
الكمبوشة
الأستاذ حليم . هكذا يُخاطبهُ زملاءه في العمل تندراً .
ومع أنهم يدركون جيداً أن المهام الموكلة له ليست بذات قيمة , وأنه
يقبع في ذيل قائمة التنظيم الإداري والمهني للموظفين .
ألاّ أن عملهم كفريق واحد لم يشفع له , ولم يلزمهم بإحترامه ومجاملته .
وأنهم يعلمون جيداً أن أي إنسان آخر يستطيع أن يقوم بعمله ويحل محله
دون أن يختل توازن العمل .
ومع إحساس حليم المر بتعاملهم معه إلا أنه لم ييأس ولم يرفع رايته
البيضاء . بل قام بالتصدي وبذل جهوداً متواصلة لمُحاكاتهم ومجاراتهم .
لكن هذه المحاولات لم ترق الى أي درجة من درجات النجاح .
الجزء الاول
الكمبوشة
الأستاذ حليم . هكذا يُخاطبهُ زملاءه في العمل تندراً .
ومع أنهم يدركون جيداً أن المهام الموكلة له ليست بذات قيمة , وأنه
يقبع في ذيل قائمة التنظيم الإداري والمهني للموظفين .
ألاّ أن عملهم كفريق واحد لم يشفع له , ولم يلزمهم بإحترامه ومجاملته .
وأنهم يعلمون جيداً أن أي إنسان آخر يستطيع أن يقوم بعمله ويحل محله
دون أن يختل توازن العمل .
ومع إحساس حليم المر بتعاملهم معه إلا أنه لم ييأس ولم يرفع رايته
البيضاء . بل قام بالتصدي وبذل جهوداً متواصلة لمُحاكاتهم ومجاراتهم .
لكن هذه المحاولات لم ترق الى أي درجة من درجات النجاح .
يبدو حليم طويلا رشيقا وسيما وذا كبرياء وصادقا ويتمتع بطيبة لا
تتوافق مع ضخامة جسمه . مما فرض عليهم التعامل معه بأدبٍ جم
لا يخلو من السخرية في بعض الأحيان . وفي الوقت الذي " يثقلون
عليه العيار " بمزاحهم . يكون هو السباق دائما بمسامحتهم .
يبدو الأستاذ حليم دائم الإعتزاز والفخر بالمنصب الذي يعمل بإطاره .
إلا انه في أغلب الأحيان وكلما ضاق بحاله , او ناء بظلم او سوء
معاملة . يُرَوِّضُ طموحاته كي لا تصطدم بالواقع .
ولكي لا تَعْصِف به عواصف الغضب المجنونة وتَتَفَجَّر في باطنه .
لعِلْمه أنه أقل منهم قيمة , وبأنه رجل نكرة يقبع خلف الكواليس ,
ولا عزاء له إلاّ إتقان عمله. فكان يقف مُنْتَفِخاً كالديك المَزْهو لِيُقْنِع
نفسه أنه الكل في الكل . ولولاه , لما كان هناك إبداع ولا مبدعون .
لكن والحق يقال , أن أحداً لم يشعر بوجوده . أو بأثر وقع خطواته
سوى سجاد المكان الذي يمشي عليه في مكان عمله .
وحين كان يُبدي أي ملاحظة تتعلق بطبيعة العمل . كانوا يَتَنَدَّرون عليه
قائلين :
ــ على بال مين , يَلِّي بترقص في العتمة .
وفي أحد الأيام . وبعد إنتهاء العمل . وبينما كان الجميع يتأهبون
للإنصراف . سَقَطَ الأستاذ حليم أرضاً ودخل في غيبوبة , إثرَ جلطة
على الجانب الأيسر من الدماغ . فَرَضَتْ على المحيطين به نقله الى
أقرب مستشفى .
بعد أن تماثل للشفاء . تَقَلَّصَت قدراته الذهنية ورحلت عنه بلا عودة
وأصبح عاجزاً على توصيل ما يجول في عقله من افكار , وترجمتها
الى كلام منطقي ومعبر . فغدا الكلام الذي ينطق به في واد , وما
يروم قوله في وادٍ آخر .
رفض حليم كل ما كان يقال في تشخيص حالته . وأصَرَّ على موقفه
الرافض , متحديا الجميع , أطباء ,أهل , وأصدقاء . مترجماً رفضه
بِجُمْلَتِة اليتيمة التي ينطق بها لسانه " سلام يا سلام " . ويَتَنَغَّم بإدائه لها
حسب الظرف وموضوع البحث .
وكأنه على يقين أن محاوريه يفهمون عليه ويتابعون إسترسال سيل
الكلمات التي ينطق بها . لكن , الحقيقة , إنهم كانوا يرثون حاله
وما آلت اليه ظروف عمله وانقطاعه عنه , والذي كان أولاً وآخراً ,
يرتكز ويعتمد على الكلام والحوار .
بعد مرور فترة ليست قصيرة من الزمن على مكوث حليم في البيت .
أصبحَتْ زوجته تدرك , وتستوعب معنى كلام زوجها . وما يرغب في
إيصاله لها .
انه يريد العودة الى عمله . فتراه شارد الذهن . وكأنه يحاور نفسه
بتعجب وبإستغراب متسائلاً .
كيف يقومون بالعمل وينجزونه بإتقان , دون ان يكون معهم . يرشدهم
ويوجههم ويلقنهم .
أدرك المدير , بعد الحاح زوجة حليم , حاجة زوجها النفسية
والمادية العودة للعمل . فأمر بعودته , متجاهلا بقصد او بدونه ما آلت
إليه حالته الصحية من تراجع قد يُنَحّي بعيداً فرص التوفيق في إتقان
الحرفة التي كان يُجيدها . وأثر ذلك على مجمل العمل .
كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً, حين دخل الاستاذ حليم غرفة
الإدارة .
نهض المدير عن كرسيه مرحباً بحليم وبيده مجموعة أوراق . وضعَها
في يده قائلا :
ــ أهلا بعودتك يا أستاذ حليم . إقرأ هذه الأوراق جيداً . أمامك ساعتان .
وقف حليم متردِداً . وكان يرفع نظره نحو المدير خلسةً . يقرأ ما يدور
في رأسه من أفكار .
فلم تكن العودة للعمل ما يغريه .الوقوف خلف مَنْ هم بالصف الأول ليس
طموحه . تفحَّص حليم الأوراق , ولم يعبر وجهه عن أي شيء .
إنما بدت على وجهه ابتسامة عَبَّرَ فيها عن إمتنانه وعن ثقته الأكيدة
بتنفيذ المهمة . ثم انصرف وهو يقول :
ــ سلام ..... يا سلام !
هرول حليم مسرعاً نحو السلم المؤدي الى الكمبوشة , وبيده الاوراق
التي اخذها من المدير .
دوت القاعة بصوت ثلات ضربات متتالية فوق خشب المسرح .
فغابت الهمهمة , وأصوات بائعي البيبسي واللب والبوشار . أطفِأت
أنوار الصالة . وحل مكانها , هدوء تام , انبعثت أنغام موسيقى هادئة
ثم أخذت تعلو تدريجياً مع إرتفاع الستارة , كاشفة واجهة المسرح .
أطَلَّ عادل نور بطل المسرحية . رافقهُ ترحيب الجمهور له بالتصفيق
والصفير .
لملم حليم الأوراق بين يديه . وبدأ عمله بتلقين الممثل : ــ سلام يا سلام ...... سلام يا سلام ........... سلام يا سلام
الكمبوشة هي تلك الفتحة التي تتوسط أرضية خشبة المسرح،
وعليها ينصب تركيز الفنانين أثناء العرض بسبب الملقن الموجود
بداخلها، الذي لا يقتصر دوره على التلقين فحسب، بل أيضا توجيه
الممثلين بالإشارات.
تعليق