صمت الخرسان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    صمت الخرسان

    صمت الخرسان
    الجزء الاول
    الكمبوشة
    الأستاذ حليم . هكذا يُخاطبهُ زملاءه في العمل تندراً .
    ومع أنهم يدركون جيداً أن المهام الموكلة له ليست بذات قيمة , وأنه
    يقبع في ذيل قائمة التنظيم الإداري والمهني للموظفين .
    ألاّ أن عملهم كفريق واحد لم يشفع له , ولم يلزمهم بإحترامه ومجاملته .
    وأنهم يعلمون جيداً أن أي إنسان آخر يستطيع أن يقوم بعمله ويحل محله
    دون أن يختل توازن العمل .
    ومع إحساس حليم المر بتعاملهم معه إلا أنه لم ييأس ولم يرفع رايته
    البيضاء . بل قام بالتصدي وبذل جهوداً متواصلة لمُحاكاتهم ومجاراتهم .
    لكن هذه المحاولات لم ترق الى أي درجة من درجات النجاح .


    يبدو حليم طويلا رشيقا وسيما وذا كبرياء وصادقا ويتمتع بطيبة لا
    تتوافق مع ضخامة جسمه . مما فرض عليهم التعامل معه بأدبٍ جم
    لا يخلو من السخرية في بعض الأحيان . وفي الوقت الذي " يثقلون
    عليه العيار " بمزاحهم . يكون هو السباق دائما بمسامحتهم .
    يبدو الأستاذ حليم دائم الإعتزاز والفخر بالمنصب الذي يعمل بإطاره .
    إلا انه في أغلب الأحيان وكلما ضاق بحاله , او ناء بظلم او سوء
    معاملة . يُرَوِّضُ طموحاته كي لا تصطدم بالواقع .
    ولكي لا تَعْصِف به عواصف الغضب المجنونة وتَتَفَجَّر في باطنه .
    لعِلْمه أنه أقل منهم قيمة , وبأنه رجل نكرة يقبع خلف الكواليس ,
    ولا عزاء له إلاّ إتقان عمله. فكان يقف مُنْتَفِخاً كالديك المَزْهو لِيُقْنِع
    نفسه أنه الكل في الكل . ولولاه , لما كان هناك إبداع ولا مبدعون .
    لكن والحق يقال , أن أحداً لم يشعر بوجوده . أو بأثر وقع خطواته
    سوى سجاد المكان الذي يمشي عليه في مكان عمله .
    وحين كان يُبدي أي ملاحظة تتعلق بطبيعة العمل . كانوا يَتَنَدَّرون عليه
    قائلين :
    ــ على بال مين , يَلِّي بترقص في العتمة .


    وفي أحد الأيام . وبعد إنتهاء العمل . وبينما كان الجميع يتأهبون
    للإنصراف . سَقَطَ الأستاذ حليم أرضاً ودخل في غيبوبة , إثرَ جلطة
    على الجانب الأيسر من الدماغ . فَرَضَتْ على المحيطين به نقله الى
    أقرب مستشفى .


    بعد أن تماثل للشفاء . تَقَلَّصَت قدراته الذهنية ورحلت عنه بلا عودة
    وأصبح عاجزاً على توصيل ما يجول في عقله من افكار , وترجمتها
    الى كلام منطقي ومعبر . فغدا الكلام الذي ينطق به في واد , وما
    يروم قوله في وادٍ آخر .
    رفض حليم كل ما كان يقال في تشخيص حالته . وأصَرَّ على موقفه
    الرافض , متحديا الجميع , أطباء ,أهل , وأصدقاء . مترجماً رفضه
    بِجُمْلَتِة اليتيمة التي ينطق بها لسانه " سلام يا سلام " . ويَتَنَغَّم بإدائه لها
    حسب الظرف وموضوع البحث .
    وكأنه على يقين أن محاوريه يفهمون عليه ويتابعون إسترسال سيل
    الكلمات التي ينطق بها . لكن , الحقيقة , إنهم كانوا يرثون حاله
    وما آلت اليه ظروف عمله وانقطاعه عنه , والذي كان أولاً وآخراً ,
    يرتكز ويعتمد على الكلام والحوار .
    بعد مرور فترة ليست قصيرة من الزمن على مكوث حليم في البيت .
    أصبحَتْ زوجته تدرك , وتستوعب معنى كلام زوجها . وما يرغب في
    إيصاله لها .
    انه يريد العودة الى عمله . فتراه شارد الذهن . وكأنه يحاور نفسه
    بتعجب وبإستغراب متسائلاً .
    كيف يقومون بالعمل وينجزونه بإتقان , دون ان يكون معهم . يرشدهم
    ويوجههم ويلقنهم .
    أدرك المدير , بعد الحاح زوجة حليم , حاجة زوجها النفسية
    والمادية العودة للعمل . فأمر بعودته , متجاهلا بقصد او بدونه ما آلت
    إليه حالته الصحية من تراجع قد يُنَحّي بعيداً فرص التوفيق في إتقان
    الحرفة التي كان يُجيدها . وأثر ذلك على مجمل العمل .


    كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً, حين دخل الاستاذ حليم غرفة
    الإدارة .
    نهض المدير عن كرسيه مرحباً بحليم وبيده مجموعة أوراق . وضعَها
    في يده قائلا :
    ــ أهلا بعودتك يا أستاذ حليم . إقرأ هذه الأوراق جيداً . أمامك ساعتان .
    وقف حليم متردِداً . وكان يرفع نظره نحو المدير خلسةً . يقرأ ما يدور
    في رأسه من أفكار .
    فلم تكن العودة للعمل ما يغريه .الوقوف خلف مَنْ هم بالصف الأول ليس
    طموحه . تفحَّص حليم الأوراق , ولم يعبر وجهه عن أي شيء .
    إنما بدت على وجهه ابتسامة عَبَّرَ فيها عن إمتنانه وعن ثقته الأكيدة
    بتنفيذ المهمة . ثم انصرف وهو يقول :
    ــ سلام ..... يا سلام !


    هرول حليم مسرعاً نحو السلم المؤدي الى الكمبوشة , وبيده الاوراق
    التي اخذها من المدير .
    دوت القاعة بصوت ثلات ضربات متتالية فوق خشب المسرح .
    فغابت الهمهمة , وأصوات بائعي البيبسي واللب والبوشار . أطفِأت
    أنوار الصالة . وحل مكانها , هدوء تام , انبعثت أنغام موسيقى هادئة
    ثم أخذت تعلو تدريجياً مع إرتفاع الستارة , كاشفة واجهة المسرح .
    أطَلَّ عادل نور بطل المسرحية . رافقهُ ترحيب الجمهور له بالتصفيق
    والصفير .
    لملم حليم الأوراق بين يديه . وبدأ عمله بتلقين الممثل : ــ سلام يا سلام ...... سلام يا سلام ........... سلام يا سلام



    الكمبوشة هي تلك الفتحة التي تتوسط أرضية خشبة المسرح،
    وعليها ينصب تركيز الفنانين أثناء العرض بسبب الملقن الموجود
    بداخلها، الذي لا يقتصر دوره على التلقين فحسب، بل أيضا توجيه
    الممثلين بالإشارات.
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2

    الزميل القدير
    فوزي سليم بيترو
    تكثر من المباشرة في السرد
    نصك جاء وكأنك تحكي حكيا حكواتيا
    ليتك تترك روحك هي التي تسرد كي تنساب
    أرجوك زميلي لاتنزعج مني
    لكن النهاية وحقيقة أعجبتني كثيرا
    ولم أكن أتوقعها مطلقا
    تحايا بعطر الورد
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • محمد سلطان
      أديب وكاتب
      • 18-01-2009
      • 4442

      #3
      نص جميل

      به متعة .. كنت أقرأ فيه بعجلٍ كي أعرف النهاية ..

      نهاية امتكلت قوة و دلت على كاتب و أديب محباً لفنه

      دمت بود سيدي الجميل فوزى سليم

      و ننتظر مزيد من الدر و التألق

      محبتي
      صفحتي على فيس بوك
      https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

      تعليق

      • فوزي سليم بيترو
        مستشار أدبي
        • 03-06-2009
        • 10949

        #4
        [align=center]
        العزيزة عائدة محمد نادر
        لقد أصبتِ في تعليقك على " الكمبوشة "
        لكن إسمحي لي أن أوضح لك وللقاريء أن الكمبوشة هي الجزء الأول
        من قصة طويلة بعنوان " صمت الخرسان " وليست قصة قصيرة .
        وحين أسهبت في السرد . هو إسهاب يفيد ما سيتلو الكمبوشة .
        أحترم رأيك أختي عائدة وأقدره .
        فوزي بيترو
        [/align]

        تعليق

        • فوزي سليم بيترو
          مستشار أدبي
          • 03-06-2009
          • 10949

          #5
          [align=center]
          أخي العزيز محمد ابراهيم سلطان
          ردكم أخي محمد من الردود التي أعتز بها وأقدر سمو كاتبها .
          وكما قلت لأختنا عائدة أن الكمبوشة هي الجزء الأول من قصة طويلة
          وأضيف ان كل جزء قائم بذاته ويبدو وكأنه قصة قصيرة لكنه متصل
          مع ما قبله .
          فإذا سمح لكما وقتكما أرجو متابعة باقي القصة
          وشكرا
          فوزي بيترو
          [/align]

          تعليق

          • فوزي سليم بيترو
            مستشار أدبي
            • 03-06-2009
            • 10949

            #6
            صمت الخرسان ... الملقن

            الملقن
            وضجَّ الحاضرون في الصالة بالضحك حين استجاب الممثل عادل نور
            لتلقين الملقن . وغدا غصنا طريا بيده , يتنغم بأداء الكلام حسب ما يشار
            اليه . بعد فترة , بدا الجمهور راضيا . فعم الهدوء الذي لم يقطعه
            سوى سعال المدخنين .

            ومضى الوقت ثقيلا . تململ المشاهدون , صدرت همهمات وتساؤلات
            جاءت سعلة مكتومة من الصف الاول متبوعة بسيل من التأفُف .
            ثم تدافع الجمهور الى ابواب الخروج .

            وتلقى الممثل عادل نور الصدمة , بحالة من الذهول والإرتباك . بدا
            حانقاً , مرتبكاً , متثاقلا كالثمل يتمايل كجبل جليدي عائم فوق سطح
            الماء . ثم أدار ظهره للجمهور دون أن يبرح مكانه . وأخذ يتلفت في
            حيرة باحثاً عن المخرج الذي يقف عادة خلف الكواليس . شاهده يلطم
            ويشد شعر رأسه من الغيظ وهو يصرخ بمدير المسرح قائلا له :
            ــ اغلق الستارة فوراً . أغلقها أغلقها .
            أضيئت أنوار الصالة . عادت الهمهة والضجيج مع خروج الجمهور من
            الصالة . وحين تم إغلاق الستارة تماما , خرج من خلفها مدير المسرح
            يعتذر عن الخلل الفني مستأذناً الجمهور بمنحهم خمس دقائق لإصلاح
            الخطأ . في هذه الأثناء وقف المخرج ومساعدوه فوق فتحة الكمبوشة .
            شمروا عن سواعدهم . وانقضوا على الملقن , قابضين على عنقه بقسوة
            وعنف لا يليقان بأسد مستسلم , فبدا كجرذ مسكين وقع في المصيدة .
            ومرَّ مشهد إلقاء القبض على الرئيس صدام حسين أمام عينيه , فرثى
            لحاله وبكى على خيبة أمله وضياع حلمه .

            صرخ المخرج بوجهه قائلا :
            ــ خَرَّبت بيتنا ألله يخرب بيتك .
            رفع حليم رأسه نحو مصدر الصوت وقال بسخرية :
            ــ سلام ... يا سلام ؟
            وكأنه كان يرد على المخرج قائلا :
            ــ أكتر من هيك خربان بيت ؟
            أخذ المخرج الأوراق من يد حليم بشدة .ثم التفت نحو مدير المسرح
            قائلا :
            ــ هاتولي ملقن تاني على الفور .
            ثم التفت نحو حليم وصرخ بوجهه غاضباً :
            ــ وانت يا استاذ حليم . كيف تجرؤ على إهانتنا أمام الجمهور ؟ ألا تدري
            أنك قد انتهيت . وأنك لم تعد تصلح لهذه المهمة ؟
            لم تبدُ عن وجه حليم أية ردة فعل او استجابة لغضب المخرج .
            وبدا بصمته كأنه يصفعه على وجهه ويستهين بكلامه . مما حدا بالمخرج
            ان يفتح باب الشر على مصراعيه .
            شعر بأنه قد طُعِنَ وأهين . وممن ؟ من أصغر موظف في
            هذا الصرح الذي هو قائده بلا منازع . فخرج عن إطار اللياقة الذي
            عرف عنه . هزَّ حليم قائلاً له :
            ــ ألا تُكلمني ؟ ألا تعلم أن لي سلطاناً أن أعاقبك ولي سلطانٌ أن أطلقك ؟

            نهض حليم واقفاً . وأخذ يتفحص الوجوه المحدقة في وجهه بغرابة واستهجان .
            وصرخ قائلا :
            ــ سلام يا سلام .
            وكأنه يقول :
            ــ ما كان لك علي من سلطان لو لم يُعْطَ لك من فوق .
            صَمَتَ لثوانٍ . ثم وجَّه كلامه للمحيطين به قائلا :
            ــ سلام يا سلام .
            وكأنه يقول :
            ــ أرأيتم ! لن تفلحوا بأدائكم من غير ملقن . "أقصد من غيري " .

            غادر المخرج المكان , وخلفه مدير المسرح . في حين إلتَفَّ
            الممثلون حول حليم يطيبون خاطره , ويواسونه ويشدون من أزره في
            المحنة هذه بينما كانوا يتابعون السير معه نحو الباب الجانبي للمسرح .
            لوَّح بطل الفرقة "عادل نور" بيده مودعاً الأستاذ حليم قائلا :
            ــ لقد كنت نِعْمَ الأخ لنا يا استاذ حليم . وسوف نفتقدك . فلا تبخل علينا
            بالزيارة . واعلم اننا لن نعثر على ملقن بمستواك المهني والأخلاقي أبداً.
            ابتسم حليم وهو يداري فرحه الجم لسماعه هذا الإطراء . ثم قال وكأنه
            يلخص مسيرة حياة حافلة . وقد بدت على ملامحه علامات الإجهاد
            التي ترافق المدرس مع انتهاء الدوام المدرسي :
            ــ سلام يا سلام , سلام ... يا سلام
            وتصلبت ملامحه فجأة , وبدا غاضبا واسترسل بالكلام حتى أن
            ألمحيطين به كانوا حذرين خائفين أن تبدر منهم حركة او كلمة تفجر
            بركان غضبه ويصيبهم .
            وساد الصمت ولم يعد يسمع إلا هدير صوته . وتابعت أعينهم حركة يده
            التي كانت تهتز بشدة وكأنها هي الأخرى تتكلم وتقول ألا تعلمون ان لكل
            رئيس دولة ملقن . هل تذكرون ملقن ياسر عرفات ؟ انه
            نفسه ملقن محمود عباس . وهناك ملقنٌ لمبارك ولقابوس , وملقنون
            لبوش ولأوباما . حتى ان هناك ملقناً لشيخ الأزهر ولدائرة الإفتاء .
            ولبابا الفاتيكان , وللدعاة . إنها مهنة لن تنقرض كما يتوهم البعض .
            بل هي دائما تتصدرالقمة , وتزداد أهميتها وتزدهر يوماً بعد يوم . وما
            الفضائيات التي تشاهدونها , سوى عينة من صنع الملقن الأكبر .

            تعليق

            • فوزي سليم بيترو
              مستشار أدبي
              • 03-06-2009
              • 10949

              #7
              رد: صمت الخرسان

              [align=center]
              صمت الخرسان
              الجزء الثالث
              الحاسة السادسة
              تَكَوَّر حليم حول عجزه , تعمق كرهه واشمئزازه للحياة ومن فيها .
              وها هم أصدقاء ألأمس والخلاّن الذين كانوا يتكالبون عليه كالقراد .
              حين كان يقص عليهم قصص الممثلين والممثلات , وما يخفى على
              العوام . باتوا سرابا في صحراء مترامية الأطراف . ولم يبقَ
              منهم سوى قلة , تُعد على أصابع اليد الواحدة إذا بُتِرَ منها أربعة
              أصابع .
              بقي فرهود . الصديق الوفي الذي لم يتخلَّ عنه يوما . كان حليم
              يوده , ويستأنس برأيه . وكان ملجأه كلما ضاقت به الحال .
              لم تكن الصداقة بين حليم وفرهود , مجردة من المصالح او من
              تبادل المنافع . ولم تكن كما قَصَدَ فريد الأطرش في اغنيتة " حب
              من غير أمل ... اسمى معاني الغرام " .
              كان كل منهما يغرف من نَبْع الآخر دون حساب . من النادر ان تجد
              إنسانا يصغي اليك بإهتمام .
              فكان كلاهما يُنصت للآخر . وهذا تواصل وتناغم يسعى اليه كل انسان.


              تَفَجَّرَ الغضب في قلب حليم لعجزه عن التواصل والكلام كما اعتاد
              سابقاً . وغدا فرهود وحيدا في عالم مكتظ من البكم الذين لا يسمعون
              سوى شخيرهم . ها هو صديقه حليم يستمع اليه . والنتيجة ؟ الجدران
              والكلاب والقطط تسمع ايضاً !!!
              فقد فرهود صديقاً يُنصت . وغدا حليم كببغاء ليس على لسانه
              سوى " سلام يا سلام " . تارة ينطق بها وهو مبتسماً . وتارة يرددها
              مكتئباً . يا ترى بماذا تفكر يا حليم ؟ وماذا تود قوله لفرهود ؟
              هل فقدت مهارتك في التلقين ؟ هذا فرهود امامك . دعه يحس بوجودك .
              أين الحاسة السادسة التي تدَّعي إمتلاكها ؟ عالجْ الموقف بلغة توارد
              الأفكار . فربما تجدي ؟
              كان فرهود جالسا امام حليم وهو سارح تماما . قطع عليه حليم من حالة
              السرحان قائلا له :
              ــ سلام يا سلام
              وكان بنية حليم مُمَازحة فرهود والقول له :
              ــ انت فين ؟
              اعتدل فرهود بجلسته وقال مازحاً :
              ــ كنت في اليابان .
              قفز حليم عن مقعدة فرحا وهو يقول :
              ــ سلام يا سلام .
              وفي نيته القول :
              ــ قرأت أفكاري يا ملعون !
              نهض فرهود واقترب من حليم الواقف أمامه وهمس بأذنه قائلا :
              ــ لي قدرة على قراءة الأفكار لا يعلمها أحد . وها انت اليوم اختبرتها .
              من فضلك اعتبرها سراً بيننا ولا تفشيه .

              دخلت زوجة حليم وبيدها صينية القهوة . رأتهما نائمين , كلٌ فوق
              مقعده . طرقت الصينية بأصبع يدها وهي تردد قائلة بصوت هاديء :
              ــ إصحى يا نايم ... وَحِّد الدايم .
              ثم أردفت قائلة وهي تضع الصينية فوق الطاولة :
              ــ خير أللهم إجعله خير . بإيش كنتوا تحلموا ؟

              [/align]

              تعليق

              • فوزي سليم بيترو
                مستشار أدبي
                • 03-06-2009
                • 10949

                #8
                الجزء الرابع
                رسالة لم تُفتح
                حين غادر فرهود منزل حليم . وقف بالباب منتظرا زوجة صديقه
                التي كانت خلفه تودعه .
                قال لها مشجعاً ومواسياً وهو يبتسم مداريا حزنه الشديد والتأثر لمَ آل
                عليه حال صديقه :
                ــ في كل زيارة أجده أحسن من الّي قبلها . متى سيحضر فؤاد من
                أبو ظبي ؟
                ــ بعد اسبوع .
                مد يده ايذانا بالإنصراف وهو يقول :
                ــ ممتاز . وجود حفيده حليم الصغير ربما يساعده لإجتياز هذه الأزمة .
                وللأطفال يا أم فؤاد , ملكة تُنَطِّق الحجر .

                دَبَّت الحياة والحيوية في كل ركن من أركان البيت بوجود فؤاد
                وزوجته نتاشا وحليم الصغير .
                عادت النضارة لوجه حليم بعدما كان كقرمية الشجر الجاف . ولم
                يعد هشاً قابلا للكسر كلما عصفت به ذكرى عجزه . وها هو يلهث
                وراء الحياة , بعد أن كان قد عافها في لحظة من اللحظات .
                فغدا يستمتع بمذاق اللحظة . وينصت خاشعا لأغاني عبد الوهاب
                ولطرب سومة وسيد درويش .
                وفي يوم من الأيام ضُبِطَ متلبساً وهو يغني " يا حلو صّبَّح يا حلو طُل " .
                في حين كان حليم الصغير يقرع بكلتا يديه الطبلة الصغيرة التي اهداها
                له جده . وكانت مفاجأة للجميع . ها هو يرمي بجملة "سلام يا سلام "
                بعيدا . وربما تنفك عقدة لسانه ..
                لم يكن حليم الصغير واعيا ومدركا لحالة جده المرضية . كان يجلس
                قبالته يومياً , يحدثه عن مغامراته في المدرسة . وعن صديقاته
                واصدقائه . وعن المُدَرِّسة نور التي تطبع فوق جبينه النجمة كلما أجاد
                في الدروس .
                وكان جده حليم يجيبه بكل ثقة وهو يربت فوق رأسه الصغير بكف
                يده قائلا له :
                ــ سلام يا سلام .........
                وذات يوم , ذهبت ام فؤاد وابنها فؤاد وزوجته نتاشا لزيارة عائلية
                لأحد الأقارب . في حين مكث حليم في البيت مع حفيده يرعاه .
                أخذ حليم الصغير يختال ويتنطط أمام جده متحررا من قيود والديه
                بعد أن أُنْهِك وناله الجهد والتعب . قال لجده وبيده إحدى لُعَبِه :
                ــ أيش رأيك يا جدو نلعب لعبة الحيوانات والأحرف ؟
                بَشَّ حليم لهذه الفكرة , والتي سوف تلهي حفيده عن التنطيط وأذية نفسه .
                وقال له باسماً :
                ــ سلام يا سلام .........
                فتح حليم الصغير علبة الألعاب , وأخرج منها مجموعة من الحيوانات
                الخشبية . وأخرج من نفس العلبة كيساً فيه أحرفأ خشبية .
                فبدا حليم أمام حفيده كالتلميذ المؤدب . أخذ حليم الصغير يد جده
                وقال له بدلال :
                ــ اختر حيواناً من هذه الحيوانات يا جدو .
                ألتقط الأسد ووضعه أمامه فوق الترابيزة .
                ــ إختر الآن يا جدو ألأحرف التي يتكون منها أسم الأسد .
                مد حليم يده نحو كيس الأحرف والتقط حرف الألف ثم حرف السين
                ثم حرف الدال مشكلا كلمة أسد بالترتيب . ثم قال لحفيده وهو
                يبتسم : ــ أسد
                قفز حليم الصغير فرحاً . وبيده نجمة ورقية صغيرة . رطبها بلسانه
                وطبعها فوق جبين جده وهو يقول : ــ شاطر يا جدو .
                عادت ام فؤاد وفؤاد وزوجته من مشوارهم . شَدَّ إنتباههم الإنسجام الذي
                ينعم به حليم الكبير وحليم الصغير . وانجذبت الرؤوس نحو النجمة
                المطبوعة فوق جبين حليمهم الكبير .
                لم يمهلهم حليم الصغير , وقبل ان يطرحوا أسئلتهم قال موجها كلامه
                لجدته ام فؤاد : ــ جدي شاطر يا تاتا . علشان هيك أخد النجمة متلي .
                استنتج فؤاد ان هذه الصدفة الواعدة بالخير قد تقود والده لإعادة
                التواصل مع الغير , بصورة أقل مما يرجو , لكنها عصفور باليد ...
                وبارقة أمل تبشر بالخير . ابتسم كمن حاز على درجة القبول والنجاح .
                في صبيحة اليوم التالي . دخل فؤاد على والده وبيده هاتف خلوي
                جديد . جلس بالقرب من والده وقال له :
                ــ هذا التلفون هدية لك . أظنك يا أبي تعرف كيف تستعمله ؟
                مد حليم يده نحو التلفون وهو يقول باسماً : ــ سلام يا سلام .........
                ــ ارسل لي رسالة . ما عليك سوى ان تنقر على الحروف بالكلام
                الذي تريد قوله . ثم انقر على إرسال .
                اخذ حليم التلفون بين يديه . وبدأ بالنقر وهو يكلم نفسه :
                ــ سلام يا سلام ......... سلام يا سلام
                رن تلفون فؤاد ايذانا بوصول رسالة .
                لم يشأ فؤاد فتحها . فهو بين الرجاء والخوف . إنها من والده .
                وهو حذر من النتيجة , سواء هزيمة او نصر أمام لهفة والده
                ورغبته .
                شعر حليم ببروده تنخر عظامه . وكأنه يقف عارياً داخل ثلاجة
                لحفظ اللحوم .
                سحب المفرش عن الطاولة التي امامه . لف بها جسمه . وسار
                ببطيء نحو غرفته .
                الجزء الخامس
                بندورة
                حين قدم حليم اوراقه للعمل في مسرح الفنان عادل نور الخاص .
                كان يأمل ان يقف فوق خشبة المسرح . وليس تحتها , في حجرة
                يزاحمه فيها الفئران . ويرفض ان يظل فأرا في جحر . بل كان يطمح
                ان يصبح في يوم من الأيام نجماً مشهوراً . محاطا
                بالمعجبين والمعجبات . تتصدر أخباره الجرائد والمجلات .
                لم يخطر بباله انه سيمتهن التلقين . ويغدو كالشمعة التي تنير ما
                حولها ويذوب حسرة على مِضي الأيام دون ان يحرز
                نجاحا بالقفز فوق عتبة الكمبوشة التي باتت قبرا له ومثوى .
                فأخذ ينهل من النصوص التي كان يلقنها . ويحاول بشغف الإستزادة
                من المراجع التي ضمتها مكتبة المسرح .
                ولم يكن عجيبا أن يهضم كل ما يقرأ . فالحلم الذي كان يراوده في ان
                يصبح شيئاً ما مُمَيزاً ذات يوم . ربما يغدو حقيقة , اذا جد واجتهد
                وواظب على نَهَمِ القراءة وهضم محتويات ما في الكتب التي يقرأها .
                لكنه اليوم , لم يزل معلقا . يخشى عاقبة عجزه وعدم قدرته التواصل
                كما كان سابقا .
                وبات حليم منطويا مكتئباً . سجينا في عزلته عن الجميع طوال النهار .
                يرافقه عجزه من ساعة الصحو حتى دخوله الفراش .
                الى ان طرق الفنان عادل نور باب بيته ذات يوم , عارضا نصاً على
                حليم , لبطولة مسرحية لا يصلح لها ولا يجيد الأداء فيها سوى انسان
                عانى وعايش تجربتة المرضية .
                انها تحكي حكاية انسان في قمة الهرم , قوة ونفوذ وسلطة . وكيف
                اصبح في السفح بعد ان اصيب بالجلطة الدماغية .
                ــ هل تستطيع يا حليم أن تُعطي المخرج كل ما يطلبه منك من
                مشاعر وأحاسيس , وان تنقلها بكل صدق الى الجمهور المتلقي
                داخل الصالة ؟ لا تجبني . اعطني فقط اشارة من رأسك بنعم أو لا .
                هز حليم رأسه مشيرا بنعم .
                ــ مش مطلوب منك يا حليم ان تتكلم في المسرحية . ليس لك حواراً
                سوى جملة واحدة فقط . وهي في الختام . جملة " سلام يا سلام "
                واظنك تستطيع قولها ؟
                لم يتكلم . وهز رأسه بالإيجاب مبتسما .
                نفض حليم غبار اليأس الذي لازمه فترة إكتآبه . قرأ الورق الذي
                أخذه من عادل نور عدة مرات الى ان استوعبه تماما وحفظ ما فيه عن
                ظهر قلب .
                استبسل في الأداء , مما فرض على المخرج احترامه قائلا له :
                ــ انت كنت فين من زمان يا استاذ حليم ؟
                مرَّت جميع البروفات التي عُملت للمسرحية بنجاح . الملفت للنظر
                ان حليم لم يتكلم بكلمة خلال فترات التجريب والبروفات . حتى
                جملة " سلام يا سلام " والتي كان من المفترض قولها في ختام
                المسرحية , لم ينطق بها , ولم يطلب المخرج منه قولها لأنها أمر
                تحصيل حاصل وسوف يقولها وقت العرض الحي .
                وجاء يوم الإمتحان . التهبت أكف الجمهور من التصفيق . وحين
                اقتربت لحظة الختام نظر حليم نحو الملقن القابع داخل الكمبوشة كي
                يأخذ منه إشارة البديْء في الكلام . وانتابته نوبة من الضحك , لكنه لم
                يستسلم لها طويلا .
                أشار له الملقن ان يتكلم . وهمس " سلام يا سلام . وحين لم يستجب,
                صرخ به الملقن " سلام يا سلام " فاخترق صوت الملقن آذان الجمهور
                الجالس بالصف الأول من المسرح .
                يبدو ان جملة " سلام يا سلام " الواردة في النص قد غابت عن ذهنه .
                قنطق بأول جمله خطرت على باله :
                ــ بندورة .. بندورة .... بندورة .
                الجزء السادس
                العملاق
                الجمهور لا يرحم . قبل دقائق كانوا يصفقون له . وها هم الآن
                يولون له ظهورهم .
                الفوضى تعم ارجاء المكان . وكأن الصالة انقلبت مأتماً . الأفواه
                الغاضبة تقذف الشتائم والسباب . البيض الفاسد والبندورة العفنة تتساقط
                امام حليم لتمنعه من الاستمرار . ووجد حليم نفسه في
                مركز حرج لم يتوقعه حتى ولا في الكوابيس . كان الموت أهون عليه
                من الانسحاب ذليلا . في السكوت الاجهاز على طموحه . واستمر
                تساقط البيض والبندورة . وتمادى الجمهور في تحديهم .
                اندفع مدير المسرح ولوح بيديه لاحد العمال باغلاق الستارة .
                لاحت للمخرج نظرات ترقب حين شاهد حليم ينهض من كَبْوَتِه
                يتقدم بثقة نحو الجمهور ويقف خلف الكمبوشة .
                تقدم المخرج نحو المدير طالبا منه التريث , وعدم إغلاق الستارة .
                ما الذي يدور بذهن حليم ؟ هل بإستطاعته الصمود أمام الجمهور
                الغاضب ؟ هل بمقدرته ان يتكلم ؟
                ومع انه بات متيقنا , ان قدرته على نطق ما يجول بفكره قد عادت .
                وأنه قد مارسها حقيقة فوق خشبة المسرح حين استبدل جملته اليتيمة
                سلام يا سلام . ونطق بجديدة " بندورة " . لكنه لم يجزم , ولن يغامر .
                عليه اختبار قدرته مع آخرين كي لا يقع في وهم التمني .
                بدا حليم عملاقاً , وكل من حوله أقزام . ارتعش كمن لسعته أفعى .
                انتابه إحساس أشد مما قبل , بِفَك عقدة الكلام التي لازمته
                دهرا . شحبَ وجهُه دون ان تندّ عنه حركة . ووقف صامتا وعيناه
                مركزتان بغضب ودهشة على الجمهور الغاضب .
                ساد الهدوء الصالة . وكاد ان يتكلم . لكنه إآثر ان ينحني تحية للجمهور .
                فدوى التصفيق والهتاف , وبدأ الجمهور بالإنصراف .
                الجزء السابع
                الفسوخة
                حليم اليوم , غير حليم الأمس . هو بطل الفرقة ومنقذ المسرح من
                الإفلاس .
                وغدا اسمه الفني حليم ابو فؤاد يتصدر اعلانات المسرح .
                وبعد ان تم عرض مسرحيته على شاشة التلفزيون . بات حليم من
                المشاهير , ومحط أنظار معجبيه من الرجال والنساء والأطفال .
                لم يتغير شيء في حياته , سوى مواعيد الأكل ومواعيد النوم ,
                وبعضا من الجمل الجديدة التي ليس لها اي معنى , ينطق بها إضافة
                لسلام يا سلام وبندورة .
                ومضى حليم في نجاحاته فغدا علماً من أعلام فن التمثيل الصامت .
                كان يستخفه طرب الثناء . وكم كان يسعده أن يتابع المقالات التي
                تمتدحه في الجرائد والمجلات .

                وتتوالى الأيام وبذرة الشك بتعافيه من عقدة الصمت لا تفارقه
                فكان يقف وينظر الى صورته المعكوسة في المرآة وهو يكلمها قائلا :
                ــ ها انا اتكلم بكل وضوح . فلم لا أجرب الحديث مع أي انسان آخر
                وأختبر صواب حدسي ؟
                شاعت في وجهه البشاشة . ثم ما لبثت ان غابت وحل محلها التجهم
                حين خطر بباله انه لا يروم أن يُكْتَشَف أمر تعافيه , اذا كان قد تعافى
                بالفعل . وكأن بقاء حاله على حالها , فَسُوخة تجلب له الحظ .
                وسَكَنَ حليم هذا الهاجس . فغدا وسواسا استحوذ عقله ووجدانه .

                الجزء الثامن
                هذا الرجل يسير عاريا فوق الثلج
                ذات يوم . وبعد انتهاء العرض . غادر الجميع الى بيوتهم .
                هام حليم على وجهه في الطرقات , وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل
                بساعة او ساعة ونصف . قادته خطواته الى منزل صديقه الحميم
                فرهود . طرقه واتنظر .
                فُتح الباب . وأطل منه فرهود. فغلبه الفزع واصابته الدهشة .
                ــ خير يا حليم . ايش فيه ؟
                كان بنية حليم القول لفرهود :
                ــ ليس لي سواك يا فرهود . انت الوحيد الذي يصغي . جئتك افضفض .
                فهل ستنصت لي دون ان تتثاءب ؟ ربما أكون قد استعدت قدرتي على
                التواصل والكلام . انت الوحيد الذي أثق فيه في هذه الدنيا . أجبني من
                فضلك . هل عادت لي ملكة الكلام كالسابق ؟ واعذرني إن كان الوقت
                غير مناسب .
                لكنه تراجع عن الكلام في آخر لحظة .
                أخذ فرهود بيد صديقه حليم وسحبه الى داخل البيت وهو يتثاءب :
                أدخل يا حليم أدخل . البيت بيتك . تأتيه وقت تشاء .
                همس حليم لذاته وهو يهم بالدخول :
                ــ وما أدراني أن فرهود لن يخدعني . ويقرأ أفكاري كعادته ؟
                وسَائلَ حليم نفسه ماذا سأجني من البوح بشفائي وعودة قدرتي على
                الكلام ؟ سوف يعيدوني الى الكمبوشة انتظر قرار النطق بإعدامي .
                زِدْ على ذلك أن الكمبوشة وأهل الكمبوشة بطريقهم الى الإنقراض .
                والذي يغيظ ويستفز . هو اني سوف أُلَقِن ما أُلَقَّنُ به وأنا مصحوب
                بغضبي وعدم إقتناعي .
                تنازعته حالتان. التمرد ومواجهة متاعب جديدة . والقبول بالواقع الراهن
                الخاضع القابع في ظلال الكمبوشة وجاء التأكيد على لسان فرهود حين
                صاح به :
                ــ اسمع يا حليم . مهما طلعت ومهما نزلت , انت في الأصل ملقن .
                وأدائك في التلقين الصامت رفعك من ظلام الكمبوشة الى فضاء
                المسرح . وبِتَّ تلقن بلغة يفهمها الأمي والمتعلم بنفس القدر.
                ويفهمها ابن البلد والخواجا دون حاجة الى مترجم . في البانتومايم يا
                صديقي انت المبادر وصاحب القرار . فلا تتخلى عن الريادة من أجل
                كلام في كلام . يجيده غيرك ويتفوقون فيه عليك .
                لا تخلع رداءك الجديد الذي جلب لك الدفء . وإلاّ فستغدو من جديد كمن
                يسيرعارياً فوق الثلج .
                ويبقى حال حليم على حاله . الى ما شاء الله . معتقداً أن عمله كملقن
                ومحترف كلام لن يقدر ان يلبي طموحه في إيصال ما يريد إيصاله من
                أفكار الى الجمهور. ولن يرفع مستواه المهني ايضاً . فلكل كلمة رقيب ,
                ولكل ملقَّن ملقِّن . فضرب بعرض الحائط بكل كلمة تنطق على ألألسن ,
                لتغدو لغة الصمت هي حلقة الوصل , وعنوان النجاح . والحقيقة التي
                تفهم من الإشارة .
                ولكن مهلا . لِمَ امتلأت عينا حليم بالدموع ؟ أهي دموع الفرح ؟
                أم دموع الألم والمعاناة من الوحدة , وشِدّة البرد ؟



                الجزء التاسع
                كربوزي
                غدا حليم ابو فؤاد علماً فنياً . فأخذت تتوالى عليه العروض . وبات
                النجاح رفيقه في كل عرض يؤديه على خشبة المسرح وفي السينما
                والتلفزيون . لكن هاجس مقدرته على التواصل والكلام لم يزل يتململ
                ويتحرك داخل ثنايا عقله ويأبى أن يفارقه . صديقه فرهود لم يشفِ
                غليله لأنه يقرأ أفكاره. ماذا يفعل ؟ بنفس الوقت هو يروم ان يُبقي هذا
                الأمر سراً , لا يعلم به أحد . تسلَّلت داخل وجدانه فكرة عملية وسهلة
                التطبيق . دخل غرفة النوم وبيده آلة التسجيل . وقام بتسجيل جملة واحدة .
                ثم أدار جهاز التسجيل كي يستمع الى ما قام بتسجيله .
                الغرابة فيما استمع اليه حليم , لم تكن في مضمون الكلام . إنما في
                الشكل . لم تكن لغة عربية التي نطق بها . هي على كل حال ليست
                جملة . هي كلمة واحدة وأخذ يتنغم بإدائها وكأنه حواراً .
                ــ كربوزي .. كربوزي ...
                ومعناها باللغة اليونانية " بطيخ " .
                الجزء العاشر
                الأخرس
                وقف حليم أمام المرآة . شاهد حليم الآخر فاندفع متعهدا مؤكدا له بأنه لن
                ينطق بكلمة بعد الآن ,لا سلام يا سلام ولا بندورة ولا كربوزي .
                فَلْيَعْتَبِروني أخرساً ....
                وفي يوم من الأيام التفت نحو قهوة الخرسان التي كان يمر بها يوميا
                وهو في طريقه الى المسرح . وكان يلحظ بداخلها الهدوء بالرغم من
                انها مكتظة بالزبائن . إلا انها اليوم لا تكاد تخلو من الفوضى والصراخ
                وهمهمة زبائنها . مع انهم هم نفسهم زبائن الأمس حين كان حليم ملقناً .
                هل بات الخرس يتكلمون ؟
                وهل اصبح لهم في هذا الزمن منصتون ؟
                الجزء الحادي عشر
                صمت الخرسان
                ذات مساء . وبعد إنتهاء العرض . تقدم عدد من الجالسين بالصف الأول
                وبيد أحدهم حزمة من الورد قدمها لبطل الفرقة . ثم طلب الإنفراد به
                لمناقشته بأمر ما . فبدا الأمر وكأنه صفقة عمل .
                حين أدرك المدير أنهم يتكلمون لغة الإشارة . أمر حليم بالتفاوض معهم .
                ثم همس له قائلا :
                ــ انت صاحب القرار بهذا الشأن يا حليم . فاوضهم . واعلم أن المسرح
                يمر في ضائقة مالية . فاعمل ما تراه مناسباً .
                أخذ حليم ضمة الورد بيده . ثم ابتسم وهو ينصت للضيف الذي بادر
                بالقول لحليم :
                ــ نحن قادمون من مدينة قاطنيها خرسان مثلكم . كانوا يتكلمون . إلا
                أنهم اختاروا الإحجام عن الكلام طواعية رافعين شعار اذا كان الكلام
                من فضة ؟ فالسكوت من ذهب . فهل نطمع باستضافتكم وعرض اعمالكم
                عندنا ؟ ولن نختلف على الأمور المالية . اطلبوا ما تشاؤون .

                هذه فرصة لذوي الإحتياجات الخاصة . لاحت وربما لن تتكرر .
                ألا وهي نشر ثقافة الخرسان الى جميع سكان الأرض . الذين قهروا
                طويلاً من قبل حاملي لواء اللغة وسحر البيان .
                لقد مَلُّوا الإسراف في القول على حساب الفعل . ملوا التقعير والتحقير
                والتجويد والتشكيل والإعراب وعسر الفهم .
                غدا أصحاب فن التمثيل الصامت اليوم , كالعصافير يحلقون في سماء
                الفضائيات دون مقص رقيب يبتر اعضائهم التناسلية . ودون حجاب يستر
                عوراتهم . أو عسس يعدون انفاسهم . غدوا اليوم ثواراً يعلنون صمتهم
                أمام الكلام الخالي من الروح والمضمون .
                نهض حليم فبدا كمارد الفانوس السحري وهو يشير الى الضيوف وكأنه يقول لهم :
                ــ نشد على اياديكم ونؤازركم ونحن معكم .
                غادر الوفد الضيف وقد ارتفعت على حدود المدينة لافتة مكتوب
                عليها " مدينة الخرسان تودع ضيوفها " .
                انتهى
                فوزي بيترو
                التعديل الأخير تم بواسطة فوزي سليم بيترو; الساعة 01-11-2009, 10:16.

                تعليق

                يعمل...
                X