[align=center]((.... في مرايــــــــــــــا العمر ....))[/align]
[align=left]ـ قصــــــة قصيرة ـ[/align]
[align=right]حينما توقفَ أمامَ طاولةِ التشريح لم يكنْ بحاجةٍ حقيقية لأن يلقي نظرةً علي تلك الوجوهِ المتزاحمةَِ التي تدافع أصحابُها في نهمٍ للفوزِِِِِ بمكانٍ مثالي يتمكنُ فيه الواحدُ منهم من مراقبةِ يديهِ وهي تجري في آليتِها المعتادةِ علي الجسد ِالغافي عن الحياةِ أمامَهم ... كلُ هذا أهملَه في لا مبالاةِ الاعتيادِ التي اكتسبها من طولِ عملهِ في هذا المجال ... وهذه المرةُ أيضاً لم يلقْ بالاً إلي طاولةِ التشريحِ العتيقةِ التي طالما شعُرَ أن لونَها بات يمتزجُ بصورةٍ غريبةٍ بلونِ الجسدِ الممددِ عليها كأنما تداخلت بينهما التفاصيل ... حتى منظر الفورمولِ الذي راحَ يتساقطُ عن حوافِ الطاولةِ الباليةِ بدا له عظيمَ الشبهِ بذلك الذي تشبعَ به الجسدُ البالي ونشعَ عن حوافهِ إلي حدٍ بعيد .
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
في كلِ مرةٍ كان يرفعُ فيها الغطاءَ المبللَ بفعلِ الفورمولِ كان يطالعُ الموتَ مجسماً أمامَهُ في جسدٍ مسجي بلا حيلة ... جسدٌ هامدٌ في استسلامِ من بلغَ محطتَه الأخيرة ... جسدٌ فقدَ كلَ ملامحِ الحياةِ ففقدَ جلدُه لونَها واختفي بريقُها في عينيهِ مثلما فقدَ صاحبُه الأهلية َالكاملة َقبلَ وفاتِه فجاءُوا بهِ إلي هذا المكان ... و دوماً لم تختلفْ هذه الصورةُ في عينيهِ ... سكونٌ معجزٌ محتوم .. سكونُ من أسدلتْ دونَه الستائرُ في مشهدٍ متكررٍ محسوم في مسرحيةِ الحياةِ الخالدة ... والتي لم تتوقفْ على الرغمِ من ذلك عن تكرارِِِهِ في كل ِمكانٍ ذهبَ إليه ... دائما نفسُ الصورة ... جسمٌ آفلَ عن الحياةِ بقدرِ ِما أفلتْ عنه الحياة .. جسمٌ أودعَ الحياةَ بكل ِما فيها من صخبٍ مكتفياً بحيز ٍصغير ٍلجسده ِلا يلبثُ أن يتخلى عنه هو الآخرَ رويداً رويداً ليختلط بسديم ِالوجود ِفي صمتٍ كأنما قُدر علي هذا الصمتِ أن يتحلى بجلال ٍأبدي فلا تدري وقتها هل بدأ الجسدُ رحلتَه الحقيقية َنحو الفناءِ أم أنه يطلُ على شاطئ ِالأبديةِ الخالد ... وقتها يتخلى ما بقي من جسدِه عن التماسك ِفلا تلبثُ الأنسجة ُأن تستبدل َلونَها وتماسَكها لتتنسابَ عن بعضِها شيئاً فشيئاً حتى تختفي مخلفة ًوراءَها عظاماً رمادية َاللون ِلا تلبثُ أن تفقدَ تماسَكها بدورِِها لتلحقَ بالسديم ... فيفقدُ الجسدُ هيئتَه حتى أنه كثيراً ما كان يخالُه كالجماد ... تشابكٌ منتظمٌ معقدٌ من أنسجةٍ وعضلاتٍ تتخللها أوردةٌ وشرايينٌ وأعدادٌ غيرُ قليلةٍ من الأعصابِ لا تلبثُ مع الوقتِ أن تتكشفَ عن عظامٍ دفينةٍ تتواري تحتَ هذا الغطاءِ السميك ... وكلُ مهمتهِ في هذا المكانِ كما يرى أن يفسرَ لمن أمامَه من طلابٍ علاقة َكلِ منها بالأخر ...
والواقعُ أن طلابَ الطبِ كما عهدَهم كانوا يعملون علي تعجيل ِهذه المهمةِ بلا توقف ... كانت ملامحُ الرهبةِ الأولي في التحاقِهم بهذا العالمِ لا تلبثُ أن ينحيها الفضولُ والشغفُ جانباً ... وأيديهم التي تظلُ في بداية ِالأمرِ خلفَ ظهورِهم وهم يتابعونه بينما يلقي علي مسامِعهم دروسَه علي الجثثِ في خشوع ٍلا تلبثُ أن يجذبَها الفضولُ لكشفِ مجاهلِ الجسدِ البشري ... والغريبُ أنه لا أحدَ ارتوي من نبع ِهذا المجهول ِالجاف لا لشيءٍ إلا لأنه يأبى أن يكشفَ عن مجاهلِه اللثام ... كأنما قُدر له أن يغلقَ دون أسرارهِ ألفَ بابٍ من الصمتِ حالَ موته كما كان حالَ حياته ...!
وطالما صورَ له عقلُه الأمرَ بعربةٍ تركبُها الروحُ وتبلغُ بها نهاية َالمطاف دونَ أن يدري كلاهما عن مجاهل ِالآخر ِودروبِه شيئاً فلا السائقَ ولا الراكب ... فما أحرى ألا يعلمُ ثالثٌ عن سرِهما إلا أقلُ القليل ... حتى هو نفسُه لم يفارقْه شعورُه يوماً أنه لم يرتوِ من نهر ِالفضول ِالجاف ِطوال هذه الفترة ... فكثيراً ما عبثَ به الخيالُ وهو يقفُ وحيداً بجانبِ واحدةٍ من تلك الجثثِ فتناولَ اليدَ المتخشبة َأمامَه في يده ِوتساءلَ عن ذلك السرِ الإلهي المسمي بالروح ِالماثل ِأمامَه والذي دفعَ بنبض ِالحياة ِفي يدٍ وخفي في الأخرى ...!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما انسلَ الغطاءُ كاشفاً عن الجسدِ المسجي تحتَه لم يلتفتْ طويلاً إلي بقايا الشعر ِوتضاريس ِالجسد ِالتي تعلنُ أن الجثة َلأنثى ... وبخبرتهِ الطويلةِ في هذا المجال ِكان يعلمُ أن الراحلة َكانت قد تخطت الأربعينَ بسنواتٍ وقتَ الوفاة ... وبينما يُعدلُ من وضعِ الرأسٍ في وضعها التشريحي صدمت عيناهُ ملامحُها ... وقتها تسمرَ في مكانِه ...!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما ارتعدتْ يدُه القابضة ُعلي الرأسِ جذبَها نحوَه سريعاً وقد سيطرَ عليه شعورٌ للمرةِ الأولي بحرمةِ الجسدِ الرابض ِأمامَه ... و مرتْ ثوانٍ بعدَها تسمرَ خلالها في مكانِه بلا حراك دونَ أن يلتفتَ إلي تلك الأعين ِالتي رصدتْه ُدونَ أن تعي لتلك الارتعاشةِ التي سرتْ في بدنِهِ ولا تلك النظرةِ الخاويةِ التي أطلتْ من عينيهِ أي تفسير ...!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
قليلة ٌتلك المواقفُ التي تصطدمُ فيها الحياةُ بالموتِ فلا تدري وقتَها أيسخرُ الموتُ من الحياةِ أم تبادلُهُ الحياةُ السخرية... ففي ملامح ِالوجه ِالغافي عن الحياةِ طالعَ كلَ ماضيهِ ... و في تفاصيل ِالوجه ِالمسربلةِ بالموتِ تمثلتْ كلُ نقوش ِالعمر ... طالعَ فيها أياماً ... وأحداثاً ... وحبيبة َعمرٍ تقبعُ أمامَه بعدَ كل ِهذه السنوات ... ولكن بلا حراكٍ ... و فقط جسدٌ صامت لا يستجيب..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
بخيالهِ شردَ بعيداً لماض ٍلم يعدْ يلملمُ حدودَه بدقة ... فلا هو يذكرُ الآنَ متي رآها للمرةٍ الأولي ... ولا متي التقيا ... ولم يكترثْ لذلك كثيراً ... كلُ ما يذكرُهُ أنهما التقيا في القاهرة ... وقتَها كان قد وفدَ من بلدتِهِ الصغيرةِ ليدرسَ الطب ... ووسط زحامِها الذي لم يعتدْ قسوتَهُ من قبل التقاها ... كانت عاملة َاتصالاتٍ صغيرةٍ في مركز ٍمجاور ٍلكليته ِ... لم يدرْ وقتَها لماذا انجذبَ نحوَها ... ولما هي دونَ غيرِها ... علي الرغم ِأنهُ كان حلماً للكثيرات ... لم يلتفتْ لهذا التساؤلِ بقدر ِما أهملَ كلَ الآراء ِالتي عابتْ عليه تعلقَ بها
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
نظراتُ الترقبِ من الوجوهِ المتطلعة ِإليهِ ليبدأ َكلامَه لم تعن ِله الكثيرَ هذه المرة وهو يتابعُ الصدرَ المشقوقَ في وجل ٍخفي لم يعتدْه من قبل ... والأغربُ أنه لم يجدْ في نفسِه الجرأة َليتحسسَهُ بيدِهِ ... كأنما يبعثُ مصدرٌ مجهولٌ في داخلِه ِالرهبة َمن صاحبتِهِِ ..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " احنا ملناش حد في مصر "
قالتها وهي تتناولُ زجاجة َ( الحاجة الساقعة ) .. ثم أتبعتْ وهي تهيمُ بنظرِها علي الكورنيش ِالممتد
ـ " أنا وأختي الكبيرة وماما جينا من الشرقية بعد ما بابا اتوفي عشان ما عادش لنا حد هناك "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حاولَ مرة ًأخرى أن يرفعَ الغطاءَ ... ولكن بلا جدوى ... وقد عاودتْهُ مخاوفُهُ من أن تعيَ الأعينُ المتطلعةُ نحوَهُ ما يعتملُ في داخلِهِ من أفكار ... ولما لم يقوْ علي مجابهة ِالتوتر ِالذي شملَهُ من أعلاه لأسفلِهِ فقد اندفعَ بغتةً شاقاً طريقَهُ بين حلقةِ الطلابِ المتكاتفةِ حولََهُ ... دون أن يعيَ أحدٌ منهم ما يحدث ... حتى المعيدُ الشاب الذي هرع خلفه ليستعلم عما يحدث استوقفه بإشارة من يده ... وحينما خطا بقدمِهِ داخلَ دورةِ المياهِ الملحقةِ بالمشرحةِ أغلقَ بابَها دونَه في إحكام وأمامَ الحوض ِالقديم ِتركَ العنانَ لشلال ِالماءِ ليندفعَ في غزارةٍ صاخبة ... وإلي المرآةِ العتيقةِ فوقَ الحوض ِرفعَ عينيهِ الدامعتين وتابعَ صورتَه المرتسمة َعبرَ شروخها ثم تمتمَ في ذهول:
ـ " كدا يا نوال ...!!! .. بقي بعد العمر دا كله ما تلاقيش حتة نتقابل فيها غير هنا ..!!! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
عبرَ أسلاكِ الهاتفِ أتاهُ صوتُها الملتاع
ـ فيه واحد جه طلب ايدي النهاردة و ماما موافقة
و في المكان ِالذي اعتادا الجلوسَ فيه قالت دامعة:
ـ " ماما قالت قدامك يومين ولو ما اتقدمتليش رسمي هتوافق علي العريس .. "
ثم مسحتْ عينيها بطرفِ يدها و أتبعت في رجاء:
ـ " أنت ساكت و مبتردش ليه ..!! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " ابنك عاوز يتجوز واحدة ما نعرفش أصلها ولا فصلها ... متقول له حاجة يا حاج ..؟! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " اسمع نصيحتي أنا ... الارتباط دلوقتي هيعطلك عن أحلامك ... فين الماجستير والدكتوراة .. فين طموحك يا راجل ... وبعدين يعني هما البنات هيخلصوا من الدنيا .. هو أنا يعني إللي هنصحك ما أنت طول عمرك بتنصحنا ...!! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما أتاهُ صوتُها في المرةِ التاليةِ عبرَ أسلاكِ الهاتفِ لم يجدْ ما يقولُه فوضعَ السماعة َمرةً أخري دون كلمةٍ واحدة
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ولم يمرْ بعدها الكثيرُ حتى تزوجت ...
ولم يمرْ بعد زواجِها الكثيرُ حتى سافرَ هو الآخرُ لاستكمالِ دراستًه بالخارج ِكما كان يحلم
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
وهناك بعيداً عن موطنِهِ أكلتْ الغربةُ سنواتِ عمرهِ ... وغرستْ الوحدةُ ملامحَها في ملامحِهِ ... وبينَ موانئِ الطموح ِالمختلفةِ تنقلَ كشراعٍ غريب ... مشوارٌ ينهيهِ ليبدأَ غيرَهُ ... كأنما توقفَ العالم ُبالنسبةِ إليهِ علي مجموعةٍ من شهاداتٍ علميةٍ يحصدٌ إحداها ليبدأَ المسيرَ نحوَ الأخرى ... عشراتٌ من وجوهٍ جافةٍ التقاها في رحلتِهِ ... ابتساماتٌ دبلوماسيةٌ زائفة ... وملامحٌ توارى أصحابُها خلفَ أقنعةٍ بحجةِ المصالح ... واحتفاءٌ بنجاحاتِهِ ... ومحاضراتٌ في جامعاتٍ مختلفةٍ ... وندواتٌ ... وجمودٌ ... وحنين ... ومشوارُ نجاحٍ ينتهي ليبحثَ عن غيرِهِ ليبدأَهُ ... والثمن ُباتَ سنواتُ العمرِ التي تمرُ بعيداً ... بلا أهلٍ و لاوطن ... والغريبُ أنهُ لم يتوقفْ لينتبهَ لذلك ... لم ينتبهْ مرةً واحدةً أن سنواتِ العمرِ مرتْ بلا زوجةٍ ولا أبناء ... أو لم يعط ْلنفسِهِ الوقتَ ليفعل ... شعُرَ بذلك فقط يومَ أن مالَ بذهول ٍعلي مرآتِهِ فطالعَ فيها غزوُ شعيراتٍ بيضٍ بينَ ثنايا شعرِهِ لم تعدْ مواراتُهُ لها ممكنة كما كانَ يفعلُ من قبل ... يومَها لم يدر ِلماذا هاجمتهُ ذكرياتُ عمرِهِ القديم و هبتْ معها ذكري نوال في أعماقِهِ من جديد ..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " ازيك يابني وحشتني ... ربنا معاك يهديك ويوفقك ... أنا بأدعيلك ... وأبوك كمان بيدعي لك ... شد حيلك ... وان شاء الله لما ترجع مصر المرة دي تلاقيني محضرالك العروسة .."
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
مع مشرقِ كل ِشمسٍ كان يتوقف ليطالعَ رتوشَ الزمنِ في ملامحِهِ ... وشعرَ رأسِهِ الذي زحفَ عليه اللونُ الأبيضُ كثلوج ٍشعُرَ لها بصقيع ٍجري في نفسِهِ كلَ يومٍ أكثرُ من سابقِهِ وما يزال ... بينما تهاجمُهُ ذكري نوال في ضراوة ٍممزوجةٍ بشعور ِالغربةِ الكئيب ... وبدأَ المللُ يهاجمُ ثنايا قلبِه ويغرقُ روحَهُ ... وبدأ يضيقُ ذرعاً بتطلعاتِهِ ... وباتَ شعورُهُ بالاختناقِ يهاجمٌهٌ كلما طالعَ في الوجوهِ التي تحاصرُهُ بنظراتِها ابتسامة ًمتملقة ًأو قناعاً من زيفٍ يغلفٌها ... حتى بدا لذاتِهِ كشبح ٍبلا معالم ... مجرد آلةٍ أقحمتْ نفسَها في سباق ٍبلا هدف ... دون َأن تحددَ لذلك السباق ِنهاية ً.. ومع مرور ِالوقتِ أصبحَ النهارُ والليلُ بالنسبةِ إليه وجهين لعملةٍ واحدةٍ صكتها الغربة .. وقتها أصبحَ يزج ُبنفسِهِ في الضجيج .. أصبحَ الليلُ وحشاً يأباهُ ويتخوفُه ويجاهدُ لينفكَ من بينَ براثنِهِ ... وأصبحَ بقاؤُهُ وحيداً ضرباً من الانتحار ... انتحارٌ بطئٌ يتركُ فيهِ جسدَهُ المنهكَ لسهامِ أفكارِهِ المؤلمة ... وذكرياتِه الأشدِ إيلاماَ ... حتى حينما توقفَ في بهوِ مسكنِهِ وحيداً وراحَ يطالعُ شهاداتِهِ التي احتلتْ جداراً كاملاً راودَهُ شعورُ الغربةِ وقتها عاصفاً مريراً ... شعورٌ حملَهُ علي تحطيمِ كلَ شهاداتِهِ كأنما ينتقمُ منها لسنواتِ عمرِهِ الضائعة ... كمن أرادَ أن يعيدَ سلعةً لم يرتضْها مقابلَ استعادةِ الثمنِ دون جدوى ... يومها لم يستفقْ مما اعتراهُ إلا علي نفسِهِ و قد استلقي فوقَ سريرٍ في المستشفي الذي يعملُ فيه ... و ملامح ِرفاقِهِ تستفسرُ عما حدث ... بعدَها أخبرَهُ الجميعُ أنهم عثروا عليه دونَ وعيِهِ متكوماً علي بقايا شهاداتِهِ في مسكنِهِ ... ولم ينسْ بعد حينما مالَ أحدُ زملائِهِ على أذنِهِ بعدها بفترةٍ متسائلاً عن معني اسم " نوال" الذي راحَ يهذي به بلا انقطاع ٍفي غيبوبته …!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " يا ألف نهار أبيض ... يعني خلاص يا بني أنت جي المرة دي ومش هترجع بلاد برة تاني ..؟ "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما عادَ إلي طاولةِ التشريح ِمرةَ أخري ... لم يلتفتْ إلي كل ِالأعينِ المصوبةِ نحوَهُ ... ولم يكترثْ للهمس ِوالتغامز ِالذي سري فيمن حولَه ... ولا إشاراتِ الأيدي والوجوهِ التي تبادلتْ التساؤلَ عما ألمَ بهِ .... بينما تحجرتْ كلُ الأعين ِعلي ذلك العرق ِالغزير ِالذي تفصدَ عن جبينِهِ وانهمرَ كشلال ... وحينما توسط َطاولة َالتشريح ِمرةً أخرى ... امتدتْ يدُهُ صامتاً للجميع ِبإخلاء ِالطاولة والانتقال ِإلي مكان ٍآخرَ في المشرحةِ حيثُ تتراكمُ جثثٌ أخري .
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ووحيداً علي الطاولة ِامتدتْ يدُهُ المرتعدة ُالمخطوطة ُبتضاريس ِالزمنِ تفتشُ بينَ ثنايا الصدر ِالمشقوق ِعن القلب ِالميتِ المستكين ... وبينما يرتجفُ كيانُه ُالمثقلُ بأحمال ِعمر ٍطويل ٍانتابَهُ شعورٌ عاصفٌ بالوحدة و بأن الزمنَ قد توقفَ عن المرور بينما يتابعُهُ عمرُه ُبأكملِهِ من بعيد وهو يشقُ القلبَ بمبضعهِ كاشفاً عن ثناياه .. كأنما يبحثُ بينَ بقايا الدمِ المتخثرِ بداخلِهِ عن اسمِهِ ممزوجاً بالغفران ..[/align]
[align=center]ـ تمت بحمد الله ـ
20/4/2007[/align]
[align=left]ـ قصــــــة قصيرة ـ[/align]
[align=right]حينما توقفَ أمامَ طاولةِ التشريح لم يكنْ بحاجةٍ حقيقية لأن يلقي نظرةً علي تلك الوجوهِ المتزاحمةَِ التي تدافع أصحابُها في نهمٍ للفوزِِِِِ بمكانٍ مثالي يتمكنُ فيه الواحدُ منهم من مراقبةِ يديهِ وهي تجري في آليتِها المعتادةِ علي الجسد ِالغافي عن الحياةِ أمامَهم ... كلُ هذا أهملَه في لا مبالاةِ الاعتيادِ التي اكتسبها من طولِ عملهِ في هذا المجال ... وهذه المرةُ أيضاً لم يلقْ بالاً إلي طاولةِ التشريحِ العتيقةِ التي طالما شعُرَ أن لونَها بات يمتزجُ بصورةٍ غريبةٍ بلونِ الجسدِ الممددِ عليها كأنما تداخلت بينهما التفاصيل ... حتى منظر الفورمولِ الذي راحَ يتساقطُ عن حوافِ الطاولةِ الباليةِ بدا له عظيمَ الشبهِ بذلك الذي تشبعَ به الجسدُ البالي ونشعَ عن حوافهِ إلي حدٍ بعيد .
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
في كلِ مرةٍ كان يرفعُ فيها الغطاءَ المبللَ بفعلِ الفورمولِ كان يطالعُ الموتَ مجسماً أمامَهُ في جسدٍ مسجي بلا حيلة ... جسدٌ هامدٌ في استسلامِ من بلغَ محطتَه الأخيرة ... جسدٌ فقدَ كلَ ملامحِ الحياةِ ففقدَ جلدُه لونَها واختفي بريقُها في عينيهِ مثلما فقدَ صاحبُه الأهلية َالكاملة َقبلَ وفاتِه فجاءُوا بهِ إلي هذا المكان ... و دوماً لم تختلفْ هذه الصورةُ في عينيهِ ... سكونٌ معجزٌ محتوم .. سكونُ من أسدلتْ دونَه الستائرُ في مشهدٍ متكررٍ محسوم في مسرحيةِ الحياةِ الخالدة ... والتي لم تتوقفْ على الرغمِ من ذلك عن تكرارِِِهِ في كل ِمكانٍ ذهبَ إليه ... دائما نفسُ الصورة ... جسمٌ آفلَ عن الحياةِ بقدرِ ِما أفلتْ عنه الحياة .. جسمٌ أودعَ الحياةَ بكل ِما فيها من صخبٍ مكتفياً بحيز ٍصغير ٍلجسده ِلا يلبثُ أن يتخلى عنه هو الآخرَ رويداً رويداً ليختلط بسديم ِالوجود ِفي صمتٍ كأنما قُدر علي هذا الصمتِ أن يتحلى بجلال ٍأبدي فلا تدري وقتها هل بدأ الجسدُ رحلتَه الحقيقية َنحو الفناءِ أم أنه يطلُ على شاطئ ِالأبديةِ الخالد ... وقتها يتخلى ما بقي من جسدِه عن التماسك ِفلا تلبثُ الأنسجة ُأن تستبدل َلونَها وتماسَكها لتتنسابَ عن بعضِها شيئاً فشيئاً حتى تختفي مخلفة ًوراءَها عظاماً رمادية َاللون ِلا تلبثُ أن تفقدَ تماسَكها بدورِِها لتلحقَ بالسديم ... فيفقدُ الجسدُ هيئتَه حتى أنه كثيراً ما كان يخالُه كالجماد ... تشابكٌ منتظمٌ معقدٌ من أنسجةٍ وعضلاتٍ تتخللها أوردةٌ وشرايينٌ وأعدادٌ غيرُ قليلةٍ من الأعصابِ لا تلبثُ مع الوقتِ أن تتكشفَ عن عظامٍ دفينةٍ تتواري تحتَ هذا الغطاءِ السميك ... وكلُ مهمتهِ في هذا المكانِ كما يرى أن يفسرَ لمن أمامَه من طلابٍ علاقة َكلِ منها بالأخر ...
والواقعُ أن طلابَ الطبِ كما عهدَهم كانوا يعملون علي تعجيل ِهذه المهمةِ بلا توقف ... كانت ملامحُ الرهبةِ الأولي في التحاقِهم بهذا العالمِ لا تلبثُ أن ينحيها الفضولُ والشغفُ جانباً ... وأيديهم التي تظلُ في بداية ِالأمرِ خلفَ ظهورِهم وهم يتابعونه بينما يلقي علي مسامِعهم دروسَه علي الجثثِ في خشوع ٍلا تلبثُ أن يجذبَها الفضولُ لكشفِ مجاهلِ الجسدِ البشري ... والغريبُ أنه لا أحدَ ارتوي من نبع ِهذا المجهول ِالجاف لا لشيءٍ إلا لأنه يأبى أن يكشفَ عن مجاهلِه اللثام ... كأنما قُدر له أن يغلقَ دون أسرارهِ ألفَ بابٍ من الصمتِ حالَ موته كما كان حالَ حياته ...!
وطالما صورَ له عقلُه الأمرَ بعربةٍ تركبُها الروحُ وتبلغُ بها نهاية َالمطاف دونَ أن يدري كلاهما عن مجاهل ِالآخر ِودروبِه شيئاً فلا السائقَ ولا الراكب ... فما أحرى ألا يعلمُ ثالثٌ عن سرِهما إلا أقلُ القليل ... حتى هو نفسُه لم يفارقْه شعورُه يوماً أنه لم يرتوِ من نهر ِالفضول ِالجاف ِطوال هذه الفترة ... فكثيراً ما عبثَ به الخيالُ وهو يقفُ وحيداً بجانبِ واحدةٍ من تلك الجثثِ فتناولَ اليدَ المتخشبة َأمامَه في يده ِوتساءلَ عن ذلك السرِ الإلهي المسمي بالروح ِالماثل ِأمامَه والذي دفعَ بنبض ِالحياة ِفي يدٍ وخفي في الأخرى ...!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما انسلَ الغطاءُ كاشفاً عن الجسدِ المسجي تحتَه لم يلتفتْ طويلاً إلي بقايا الشعر ِوتضاريس ِالجسد ِالتي تعلنُ أن الجثة َلأنثى ... وبخبرتهِ الطويلةِ في هذا المجال ِكان يعلمُ أن الراحلة َكانت قد تخطت الأربعينَ بسنواتٍ وقتَ الوفاة ... وبينما يُعدلُ من وضعِ الرأسٍ في وضعها التشريحي صدمت عيناهُ ملامحُها ... وقتها تسمرَ في مكانِه ...!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما ارتعدتْ يدُه القابضة ُعلي الرأسِ جذبَها نحوَه سريعاً وقد سيطرَ عليه شعورٌ للمرةِ الأولي بحرمةِ الجسدِ الرابض ِأمامَه ... و مرتْ ثوانٍ بعدَها تسمرَ خلالها في مكانِه بلا حراك دونَ أن يلتفتَ إلي تلك الأعين ِالتي رصدتْه ُدونَ أن تعي لتلك الارتعاشةِ التي سرتْ في بدنِهِ ولا تلك النظرةِ الخاويةِ التي أطلتْ من عينيهِ أي تفسير ...!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
قليلة ٌتلك المواقفُ التي تصطدمُ فيها الحياةُ بالموتِ فلا تدري وقتَها أيسخرُ الموتُ من الحياةِ أم تبادلُهُ الحياةُ السخرية... ففي ملامح ِالوجه ِالغافي عن الحياةِ طالعَ كلَ ماضيهِ ... و في تفاصيل ِالوجه ِالمسربلةِ بالموتِ تمثلتْ كلُ نقوش ِالعمر ... طالعَ فيها أياماً ... وأحداثاً ... وحبيبة َعمرٍ تقبعُ أمامَه بعدَ كل ِهذه السنوات ... ولكن بلا حراكٍ ... و فقط جسدٌ صامت لا يستجيب..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
بخيالهِ شردَ بعيداً لماض ٍلم يعدْ يلملمُ حدودَه بدقة ... فلا هو يذكرُ الآنَ متي رآها للمرةٍ الأولي ... ولا متي التقيا ... ولم يكترثْ لذلك كثيراً ... كلُ ما يذكرُهُ أنهما التقيا في القاهرة ... وقتَها كان قد وفدَ من بلدتِهِ الصغيرةِ ليدرسَ الطب ... ووسط زحامِها الذي لم يعتدْ قسوتَهُ من قبل التقاها ... كانت عاملة َاتصالاتٍ صغيرةٍ في مركز ٍمجاور ٍلكليته ِ... لم يدرْ وقتَها لماذا انجذبَ نحوَها ... ولما هي دونَ غيرِها ... علي الرغم ِأنهُ كان حلماً للكثيرات ... لم يلتفتْ لهذا التساؤلِ بقدر ِما أهملَ كلَ الآراء ِالتي عابتْ عليه تعلقَ بها
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
نظراتُ الترقبِ من الوجوهِ المتطلعة ِإليهِ ليبدأ َكلامَه لم تعن ِله الكثيرَ هذه المرة وهو يتابعُ الصدرَ المشقوقَ في وجل ٍخفي لم يعتدْه من قبل ... والأغربُ أنه لم يجدْ في نفسِه الجرأة َليتحسسَهُ بيدِهِ ... كأنما يبعثُ مصدرٌ مجهولٌ في داخلِه ِالرهبة َمن صاحبتِهِِ ..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " احنا ملناش حد في مصر "
قالتها وهي تتناولُ زجاجة َ( الحاجة الساقعة ) .. ثم أتبعتْ وهي تهيمُ بنظرِها علي الكورنيش ِالممتد
ـ " أنا وأختي الكبيرة وماما جينا من الشرقية بعد ما بابا اتوفي عشان ما عادش لنا حد هناك "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حاولَ مرة ًأخرى أن يرفعَ الغطاءَ ... ولكن بلا جدوى ... وقد عاودتْهُ مخاوفُهُ من أن تعيَ الأعينُ المتطلعةُ نحوَهُ ما يعتملُ في داخلِهِ من أفكار ... ولما لم يقوْ علي مجابهة ِالتوتر ِالذي شملَهُ من أعلاه لأسفلِهِ فقد اندفعَ بغتةً شاقاً طريقَهُ بين حلقةِ الطلابِ المتكاتفةِ حولََهُ ... دون أن يعيَ أحدٌ منهم ما يحدث ... حتى المعيدُ الشاب الذي هرع خلفه ليستعلم عما يحدث استوقفه بإشارة من يده ... وحينما خطا بقدمِهِ داخلَ دورةِ المياهِ الملحقةِ بالمشرحةِ أغلقَ بابَها دونَه في إحكام وأمامَ الحوض ِالقديم ِتركَ العنانَ لشلال ِالماءِ ليندفعَ في غزارةٍ صاخبة ... وإلي المرآةِ العتيقةِ فوقَ الحوض ِرفعَ عينيهِ الدامعتين وتابعَ صورتَه المرتسمة َعبرَ شروخها ثم تمتمَ في ذهول:
ـ " كدا يا نوال ...!!! .. بقي بعد العمر دا كله ما تلاقيش حتة نتقابل فيها غير هنا ..!!! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
عبرَ أسلاكِ الهاتفِ أتاهُ صوتُها الملتاع
ـ فيه واحد جه طلب ايدي النهاردة و ماما موافقة
و في المكان ِالذي اعتادا الجلوسَ فيه قالت دامعة:
ـ " ماما قالت قدامك يومين ولو ما اتقدمتليش رسمي هتوافق علي العريس .. "
ثم مسحتْ عينيها بطرفِ يدها و أتبعت في رجاء:
ـ " أنت ساكت و مبتردش ليه ..!! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " ابنك عاوز يتجوز واحدة ما نعرفش أصلها ولا فصلها ... متقول له حاجة يا حاج ..؟! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " اسمع نصيحتي أنا ... الارتباط دلوقتي هيعطلك عن أحلامك ... فين الماجستير والدكتوراة .. فين طموحك يا راجل ... وبعدين يعني هما البنات هيخلصوا من الدنيا .. هو أنا يعني إللي هنصحك ما أنت طول عمرك بتنصحنا ...!! "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما أتاهُ صوتُها في المرةِ التاليةِ عبرَ أسلاكِ الهاتفِ لم يجدْ ما يقولُه فوضعَ السماعة َمرةً أخري دون كلمةٍ واحدة
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ولم يمرْ بعدها الكثيرُ حتى تزوجت ...
ولم يمرْ بعد زواجِها الكثيرُ حتى سافرَ هو الآخرُ لاستكمالِ دراستًه بالخارج ِكما كان يحلم
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
وهناك بعيداً عن موطنِهِ أكلتْ الغربةُ سنواتِ عمرهِ ... وغرستْ الوحدةُ ملامحَها في ملامحِهِ ... وبينَ موانئِ الطموح ِالمختلفةِ تنقلَ كشراعٍ غريب ... مشوارٌ ينهيهِ ليبدأَ غيرَهُ ... كأنما توقفَ العالم ُبالنسبةِ إليهِ علي مجموعةٍ من شهاداتٍ علميةٍ يحصدٌ إحداها ليبدأَ المسيرَ نحوَ الأخرى ... عشراتٌ من وجوهٍ جافةٍ التقاها في رحلتِهِ ... ابتساماتٌ دبلوماسيةٌ زائفة ... وملامحٌ توارى أصحابُها خلفَ أقنعةٍ بحجةِ المصالح ... واحتفاءٌ بنجاحاتِهِ ... ومحاضراتٌ في جامعاتٍ مختلفةٍ ... وندواتٌ ... وجمودٌ ... وحنين ... ومشوارُ نجاحٍ ينتهي ليبحثَ عن غيرِهِ ليبدأَهُ ... والثمن ُباتَ سنواتُ العمرِ التي تمرُ بعيداً ... بلا أهلٍ و لاوطن ... والغريبُ أنهُ لم يتوقفْ لينتبهَ لذلك ... لم ينتبهْ مرةً واحدةً أن سنواتِ العمرِ مرتْ بلا زوجةٍ ولا أبناء ... أو لم يعط ْلنفسِهِ الوقتَ ليفعل ... شعُرَ بذلك فقط يومَ أن مالَ بذهول ٍعلي مرآتِهِ فطالعَ فيها غزوُ شعيراتٍ بيضٍ بينَ ثنايا شعرِهِ لم تعدْ مواراتُهُ لها ممكنة كما كانَ يفعلُ من قبل ... يومَها لم يدر ِلماذا هاجمتهُ ذكرياتُ عمرِهِ القديم و هبتْ معها ذكري نوال في أعماقِهِ من جديد ..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " ازيك يابني وحشتني ... ربنا معاك يهديك ويوفقك ... أنا بأدعيلك ... وأبوك كمان بيدعي لك ... شد حيلك ... وان شاء الله لما ترجع مصر المرة دي تلاقيني محضرالك العروسة .."
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
مع مشرقِ كل ِشمسٍ كان يتوقف ليطالعَ رتوشَ الزمنِ في ملامحِهِ ... وشعرَ رأسِهِ الذي زحفَ عليه اللونُ الأبيضُ كثلوج ٍشعُرَ لها بصقيع ٍجري في نفسِهِ كلَ يومٍ أكثرُ من سابقِهِ وما يزال ... بينما تهاجمُهُ ذكري نوال في ضراوة ٍممزوجةٍ بشعور ِالغربةِ الكئيب ... وبدأَ المللُ يهاجمُ ثنايا قلبِه ويغرقُ روحَهُ ... وبدأ يضيقُ ذرعاً بتطلعاتِهِ ... وباتَ شعورُهُ بالاختناقِ يهاجمٌهٌ كلما طالعَ في الوجوهِ التي تحاصرُهُ بنظراتِها ابتسامة ًمتملقة ًأو قناعاً من زيفٍ يغلفٌها ... حتى بدا لذاتِهِ كشبح ٍبلا معالم ... مجرد آلةٍ أقحمتْ نفسَها في سباق ٍبلا هدف ... دون َأن تحددَ لذلك السباق ِنهاية ً.. ومع مرور ِالوقتِ أصبحَ النهارُ والليلُ بالنسبةِ إليه وجهين لعملةٍ واحدةٍ صكتها الغربة .. وقتها أصبحَ يزج ُبنفسِهِ في الضجيج .. أصبحَ الليلُ وحشاً يأباهُ ويتخوفُه ويجاهدُ لينفكَ من بينَ براثنِهِ ... وأصبحَ بقاؤُهُ وحيداً ضرباً من الانتحار ... انتحارٌ بطئٌ يتركُ فيهِ جسدَهُ المنهكَ لسهامِ أفكارِهِ المؤلمة ... وذكرياتِه الأشدِ إيلاماَ ... حتى حينما توقفَ في بهوِ مسكنِهِ وحيداً وراحَ يطالعُ شهاداتِهِ التي احتلتْ جداراً كاملاً راودَهُ شعورُ الغربةِ وقتها عاصفاً مريراً ... شعورٌ حملَهُ علي تحطيمِ كلَ شهاداتِهِ كأنما ينتقمُ منها لسنواتِ عمرِهِ الضائعة ... كمن أرادَ أن يعيدَ سلعةً لم يرتضْها مقابلَ استعادةِ الثمنِ دون جدوى ... يومها لم يستفقْ مما اعتراهُ إلا علي نفسِهِ و قد استلقي فوقَ سريرٍ في المستشفي الذي يعملُ فيه ... و ملامح ِرفاقِهِ تستفسرُ عما حدث ... بعدَها أخبرَهُ الجميعُ أنهم عثروا عليه دونَ وعيِهِ متكوماً علي بقايا شهاداتِهِ في مسكنِهِ ... ولم ينسْ بعد حينما مالَ أحدُ زملائِهِ على أذنِهِ بعدها بفترةٍ متسائلاً عن معني اسم " نوال" الذي راحَ يهذي به بلا انقطاع ٍفي غيبوبته …!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ " يا ألف نهار أبيض ... يعني خلاص يا بني أنت جي المرة دي ومش هترجع بلاد برة تاني ..؟ "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حينما عادَ إلي طاولةِ التشريح ِمرةَ أخري ... لم يلتفتْ إلي كل ِالأعينِ المصوبةِ نحوَهُ ... ولم يكترثْ للهمس ِوالتغامز ِالذي سري فيمن حولَه ... ولا إشاراتِ الأيدي والوجوهِ التي تبادلتْ التساؤلَ عما ألمَ بهِ .... بينما تحجرتْ كلُ الأعين ِعلي ذلك العرق ِالغزير ِالذي تفصدَ عن جبينِهِ وانهمرَ كشلال ... وحينما توسط َطاولة َالتشريح ِمرةً أخرى ... امتدتْ يدُهُ صامتاً للجميع ِبإخلاء ِالطاولة والانتقال ِإلي مكان ٍآخرَ في المشرحةِ حيثُ تتراكمُ جثثٌ أخري .
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ووحيداً علي الطاولة ِامتدتْ يدُهُ المرتعدة ُالمخطوطة ُبتضاريس ِالزمنِ تفتشُ بينَ ثنايا الصدر ِالمشقوق ِعن القلب ِالميتِ المستكين ... وبينما يرتجفُ كيانُه ُالمثقلُ بأحمال ِعمر ٍطويل ٍانتابَهُ شعورٌ عاصفٌ بالوحدة و بأن الزمنَ قد توقفَ عن المرور بينما يتابعُهُ عمرُه ُبأكملِهِ من بعيد وهو يشقُ القلبَ بمبضعهِ كاشفاً عن ثناياه .. كأنما يبحثُ بينَ بقايا الدمِ المتخثرِ بداخلِهِ عن اسمِهِ ممزوجاً بالغفران ..[/align]
[align=center]ـ تمت بحمد الله ـ
20/4/2007[/align]
تعليق