الــيــد الــخــفــيــة
إيمان امرأة لم يُـكـتـب لها الزواج إلا وهي في عـقـدها الـرابـع حيث تذوقت مرارة الانتظار ، واكتوت بناره ، وبنظرات الناس اللاذعة والتي كانت تـشي بالشيء الكـثير . الحـظّ كان يعاكسها طول مشوار حياتها المليئة بالآهات ، والإخفاقات التي كأنها لم توجـدْ إلا لتكون مـن نصيبها وحظها التعس . كانت مُـتـدينة مؤمنة حريصة كل الحرص على أداء الفرائض في وقـتها ، تعمل لآخـرتها أكثر ما تعمل لدنياها . مع زوجها كانت تعـيش حياة وادعة كـلها تفاهـم ، لا تنافـر فـيه ، ولا تصادم . لكن هـذا الصفاء بدأ يتعكّـر بسبب الانتظار الذي طال ، وحوّل حياتها إلى كابوس مخيف قهّـار ، سلب منها ما عاشته مـن رخاء ، وأبى إلا أن يمنعه مـن الاستمـرار ، ويلازمها كظلها ليلَ نهار . إيمان مضتْ خمسُ سنوات على زواجها ولم تُـنجب ذرية تُـسعِـدُ صاحب الدار ، الذي تـتغـيّـر عاداته باستمرار . لـقـد جـرّبت كل الطرق المؤدية إلى الإنجاب ، لكن مشيئة الله لم تقـلْ لما هـو مُنتظـرٌ كُـن فـيكـون . لقـد كانت صابرة محتسبة أمرها عند الله ، رغـم الأذى الذي لحـقها مـن بعْـلها الذي تـنكّـر لكل شيء جميل عاشاه سويا ، وكـثيـرا ما كان يُـشهـر سيف الطلاق في وجهها عندما يحتدِم النقاش بينهما حـوْل عُـقـمها هي وسلامته هـو . لقد كان عـنيدا لم يثـق فـيها ــ رغم إحضارها لشهادة الطبيب التي تُـثبت سلامتها هي الأخرى ــ ، لكـونها لم تصطحبه معها يوم زيارتها له ، مما جعله يُـقسم أنها عـقيم ولا يمكـنها أن تـلِـد أبدا ، والمسألة ما هي إلا مسألة وقت فـقـط كي يطلقها .
احتسبتْ إيمان أمْـرها عند الله ، وقضت ليلتها متوترة لم تُـغمض لها عـيْـنٌ ، ولم يتوقـف لها دمعٌ ، ولم يفـتـرْ فمُها عـن الدعاء والتوسّل إلى الله كي يُفـرّج كـرْبها ، ويُبدّد غـيْمها ، ويُـظهـر صدقها ، ويُـفـنّـد ادّعاء زوجها السّليط اللسان . ولم يمض سوى أسبوع واحد حتى ظهـر البرهان ، واستجاب الرحمن لعبده المؤمن المُهان . إن إيمان حامل في شهرها الأول .
مرة أخرى عاد الزوج إلى معاملة زوجته بالحُـسنى ، وعاد أيضا الدفء إلى بيتهما بعـد أن هجـره لسنوات طوال . مـرّت فترة الحمل بشهورها التسعة كأن شيئا لم يقع مـن قـبل ، إلى أن جاء يوم المخاض ذات صباح شتائيّ باكـر ، حيث قاومتْ إيمان وجعها ، وكـتمتْ أنفاسها ، كي لا يسمع زوجها النائم بقـربها أنـيـنها فتحـرمه لـذة النوم الذي كان يغـط فيه غـطيطا . إنّ ألمها كان يُنسيها فيه فـرحُها القادم ، من سنين الحرمان الآثم الذي خيّم عـليها كالليل القاتم الجاثم على صدرها كجبل قاعد قائم . صبــرُ إيمان وصمتُها ، قطعهما ألـمٌ حادٌّ مفاجئ ، دفعاها إلى إطلاق صرخة مدوّية في أرجاء البيت كالرعـد الناقـم في يوم غـائـم .
الصرخة كانت كافية كي توقظ الزوج مذعـورا مهموما مكلـوما . نظـر إلى زوجته التي كانت ما تزال تئنّ وتتألم وهي واضعة ٌ يدها على بطنها ، وبسرعة نهـض من فـراشه وهــو يـنُـودُ، وساعـدها على الوقـوف وارتـداء ملابسها ، وحمل لوازم المولود القادم ، وما هي إلا دقائق حتى كانا معا في المستشفى القريب مـن محل سكناهما .
في المستشفى ظل الزوج رفقة زوجته طوال اليوم دون أن تـلِـد ، مما اضطره إلى العودة إلى المنزل للاستراحة قليلا ، والتزود بقليل من الطعام . في غيابه وضعـتْ إيمان حملها بعـد صراع مـريـر مع المـوت والحياة ، لكـنها أصيـبتْ بنزيف حادّ وخـطيـر ، دخلتْ على إثره في غـيبوبة ليوم كامل ، ولمّا استعادتْ وعْـيهـا
وفتحتْ عـينيها ، لم تجـد زوجها بقربها ، فسألت عنه ، فـقيل لها بأنه حضـر وانصرف بسرعة لمّا رأى المولود . استغـربتْ إيمانُ تصرّف زوجها ، وفي خِـضمّ استغرابها لاحظت عائلته وهي متحلقة حـول القادم الجديد ، ولا أحد منها هـنّـأها أو بارك لها فيه . بل هناك من كان ينظـر إليها نظرة احتـقار وازدراء لم تألفها مـن قبل . وما هي إلا هُـنـيهة حتى انصرف الجميع ، ووجدت نفـسها وحيدة مع مولودها الافـتـراضي الذي
وقع له ما وقع أثناء غـيـبـوبتها . تحاملتْ على نفـسها ، وقامتْ مـن مكانها ، وألـقـت عـليه نظرة فاحصة رؤومة فلم تُـصدق ما رأت . إنه لا يشبه والديه ، لقد كان لونُ بشرته أسود ، مما جعـلها تصاب بالصدمة وعـدم القدرة على الصبر . بعـد مُضي أسبوع شوهـدت إيمان وهي تمشي في الشارع العام حافية القدمين ، وشعـرها الطويل مُنـسـدلٌ على كـتـفـيها ، وهي تُـردّد كلاما .... بصوت مرتـفع تـتـقـطّع له الأكـباد ، وتـقـشعِـرّ له الأبــدان .
تـــازة في : 9 / 4 / 8
أحمد القاطي المغرب
تعليق