سأصل ...!
صحوت ذات صباح على صراخها ، يدوي في أرجاء المنزل ؛ إنها تبحث عني ، لم تجد وجبة إفطارها على المائدة كعادتها ، لم تجد البيت مرتبا كما تعودت أن تجده كلما استيقظت من النوم...لكن لا أستطيع النهوض ، الحرارة أنهكت جسمي الضعيف ، ولم ألملم ما تبقى مني لأقوم بما أقوم به كل يوم من طبخ وكنس وأشغال لا تنتهي ... أعرف أنها لن تأخذها الرأفة بي ، ولن تهتم لحالتي على الرغم من الحرارة التي يغلي لها مخ عظامي .. ياربي متى .. ياربي متى ترحمني هذه المرأة ...؟!
متى تكف عن إيذائي وتحويل مشاعري إلى أشلاء ؟ ، هاهي خطواتها تبعث في أوصالي الخوف : إنها تقترب من غرفتي
_ ماذا تفعلين ... أما زلت نائمة ...؟
_خالتي لا أستطيع القيام ، الحرارة أنهكت جسمي.
_ حرارة ...؟؟؟ !!!! أنت تصابين بالمرض ! هذا الجسم الصلب يصاب بالمرض ؟
أنت تتمارضين ، قومي لأشغالك ، كفاك تكاسلا ، إخوتك سيذهبون إلى المدرسة ، من يجهز لهم الفطور ..؟
_ حاضر يا خالة سأقوم حالا
قمت أجرجر ما تبقى من قوتي ؛ لأعد الفطور ، وأغسل تلك الأطباق ، وأرتب تلك الغرفة ، وأنشر الغسيل . ..
في المساء عاد أبي من عمله ، استقبلته كعادتي ..قبلت رأسه وأخذت عنه الأكياس التى يحملها ...نظر إلي ، وضع يده على جبهتي :
_ ما هذا ؟ حرارتك مرتفعة يا ابنتي .
_فقط بعض التعب يا أبي ، لا تشغل بالك .
مضغتني بنظراتها ، فعرفت أنها تريدني أن أنصرف ، ولا أكمل الحديث مع أبي ، هي تقوم بذلك في كل مرة تراني أكلم فيها أبي أو يكلمني ، أعرف أنها تخاف أن أشكو إليه ما تفعله بي
؛ لكنني لا أفعل ، لن أحمله فوق ما يحمل من هموم ؛ إنه يعود إلى البيت متعبا ، ويحتاج الراحة ، مثلما يحتاج العطشان شربة ماء.
يكفيه همّ إخوتي الصغار ، صحيح هم ليسوا أشقائي لكن هم إخوتي ، ولا ذنب لهم فيما تفعله زوجة أبي من معاملة قاسية معي.
هكذا مرت الأيام والسنوات ، وها أنذا أطرق باب الثلاثين من عمري ...
لطالما حلمت كأي فتاة بفارس يأتي لينقذني مما أنا فيه ، لم أرده فارسا مغوارا كما في المسلسلات ، بل كنت أريده سندا أتكئ عليه في حياتي ونكون أسرة ... لكن كيف لهذا الفارس أن يأتي وزوجة أبي ترد على كل من يطرق الباب بدعوى أنني مازلت صغيرة.....
مللت هذا ( الروتين ) الذي يخنقني ، يشدني إلى قاع سرداب اليأس ، أريد أن أفعل شيئا في حياتي ، فالإنسان لم يخلق للأكل والشرب ، بل لمهمة على هذا الكوكب. ...
قررت أن أغير حياتي وأن أمزق حاجز الخوف من التعبير عن رغباتي ، عزمت الأمر لأحدث أبي بأمر طالما فكرت فيه ، لكن قسوة زوجة أبي كانت تذبح العبارات على شفتي قبل أن تولد !
حين عاد أبي من العمل ذات يوم ، فحدثته عن رغبتي ، ورجوته أن يقبل ولأنه كان يحبني ويشعر بمعاناتي قبل دون تردد ، لكن زوجة أبي اعترضت بشدة صرخت :
_ أي خياطة هذه التي تريدين تعلمها ، أنسيت أن إخوتك لا زالوا صغارا ، ويحتاجون الرعاية ، من سيقوم بأشغال البيت ؟
أجبتها قبل أن تسترسل : لن أفرط في أي شيئ يا خالة ، لا تخشي شيئا ، سأقوم بأشغال البيت كالعادة.
_ وكيف تستطيعين التوفيق بين الأمرين ؟ ...بلهجة متهكمة
_ سأتدبر أمري ، أنظم وقتي فالنظام سيوفر علي كثيرا من الوقت لأقوم بكل ما تريدين. قبلت رأس أبي راجية موافقته ، ونظراتي حبلى باستعطافه.
صدح صوت أبي بالقرار : ..
غدا إن شاء الله ! سيكون أول يوم لك في مشغل الخياطة ! .
اتسعت ابتسامتي حتى فاضت على وجهي ، ومسحت غبار الخوف عنه ، فأرسلت عيناي دمعات لها مذاق الفرحة !
استيقظت باكرا كما العادة ، قمت بكل واجباتي ، حتى طعام الغذاء جهزته ، كي أسد أي ثغرة تحاول منها الدخول لتحطم رغبتي لتعلم الخياطة ... ارتديت ملابسي ، حملت حقيبة اليد وراحت قدماي تلتهمان المسافة بنهم إلى مقر المشغل .
كانت السيدة التي تعلمنا ، امرأة طيبة ، رأيت الاهتمام بي في تصرفاتها معي ، إنها قريبة جارتنا ، ربما عرفت منها بعض ظروفي الظاهرة للعيان ؛ فراحت تعلمني بدايات الخياطة بأسلوب أتمكن به من إتقان العمل بسرعة ، و فاجأتها بحماسي وإصراري على التعلم وابتكار موديلات جديدة ...
تذكرت هوايتي الطفولية ، رسم الملابس التي كنت أرسمها على الورق وأقطعها وألبسها لدميتي ...ابتكرت تصاميم لفساتين ذات طابع إسلامي ، أجل فقد كنت أعاني من شراء الفساتين حين أذهب للتسوق ؛ أغلب مايباع له مذاق أوروبي مما يقال عن لابساته " كاسيات عاريات " فساتين تكشف أكثر مما تستر ...تصاميمي أصبحت متميزة ، جميع زميلاتي في المشغل أعجبن بها ، ومما زادني حماسا على مواصلة ما أنجزته من تصاميم ، نظرة معلمتي التي شعرت بهواء الزهو والافتخار والثقة يملأ رئتي ، وأنا أرى في نظراتها الإعجاب بما صممته من فساتين ، شجعتني لأستمر ، ومن فضل الله علي أن زارت المشغل صديقة المعلمة وهي أجنبية ؛ فأرتها المعلمة التصاميم وأعجبت بها كثيرا ، وصاحت : ( واااااو ) هذا رائع ! ؛ رغم أن لا عري فيها إلا أنها تصاميم مبتكرة ورائعة أنت !
كانت هذه العبارة زادا لي لأكمل الطريق في ابتكار تصاميم لها نكهة إسلامية. ....
وصارت زوجة أبي تضع لي العراقيل ، كي لا أكمل ما أقوم به ، كنت أرى غضبها وحشا يريد أن يفترسني ؛ وهي ترى بريق عيني يتراقص فرحا ، وأنا أمسك الموديلات التي أخيطها وأرتبها لأعرضها على المعلمة .
فراحت تعرضني بضاعة على صديقة لها أو جارة في سوق العرض والطلب لزواج من شيخ يبحث عن من يخدمه دون راتب ...ومما أسكتها ، و ألجم رغبتها في التخلص مني أن أبي عاد يوما وسمعها تعرضني على جارة لشيخ في عمر جدي وقد زاد شهيتها خبر : أنه ثري ؛ لتضرب عصفورين بحجر واحد ، التخلص مني والإفادة من مال الشيخ .
صاح أبي في وجهها متوعدا إياها إن استمرت في ذلك !
وبعد أعوام قضيتها في التعلم ، زاد نهمي لمواصلة طريق تصميم الفساتين ، حلم طالما حلمت به أن أسوق فساتين من تصميمي ... عرضت على أبي أن يمنحني حق التصرف في غرفة من غرف المنزل لأحولها إلى مشغل صغير .
عارضت زوجة أبي الفكرة ، ووافقها أبي مدعية أن ليس في المنزل غرف زائدة عن الحاجة
لكنني لم أستسلم ، فبدأ رفضهما يزداد قوة بخاصة أن الأمر يتطلب رأس المال وأبي لا يملك المبلغ.
قررت أن أنحت صخر رفضهما بمعول إصراري الذي استمد قوته من توكلي على الله تعالى ، ثم من جبال صبري على أن أكمل الطريق وسأصل يوما ما ... ألححت عليه في الطلب ليوافق لأنني لن أكلفه شيئا.
أجاب باستغراب من إصراري : يا ابنتي ، المشروع يتطلب رأس مال وأنا _ كما تعلمين _ لا أستطيع أن أوفره لك ؛ فراتبي أضعف من ذلك.
_ لا عليك يا أبي فقط ؛ امنحني الإذن ؛ لأحول غرفة من غرف المنزل إلى مشغل ، هناك غرفة لا نستغلها ، أي نعم هي صغيرة لكن تكفيني في بداية المشوار لتحقيق حلمي.
_ لكن الغرفة صغيرة يا ابنتي.
_ لابأس ! سأفعل كل ما أستطيعه ؛ لأبيع ما أخيطه ، وسأوفر المال لأوسع المشغل ، لن أتخلى عن هدفي ، وأريد أن أنجز شيئا في حياتي .
ابتسم أبي وهز رأسه بالموافقة ، طرت فرحا ، لكن سرعان ما انتحرت ابتسامتي حين فكرت في رأس المال !
لم أعرف كيف أتصرف ، من أين سأحصل على مبلغ لشراء ماكينات الخياطة ولوازم العمل والقماش.
فكرت في صديق أبي ، إنه رجل ذو سعة من المال ولا يرد من يطرق بابه يطلب فرجا لكربة ، ذهبت أطرق منزله ومن فضل الله وكرمه أنه وافق أن يقرضني مبلغا من المال.
بدأت أضع أول لبنة في صرح " مصنع لخياطة الفساتين " طلبت من مجموعة من زميلاتي في مشغل تعليم الخياطة أن يلتحقن لمساعدتي ونقتسم الأرباح حسب عمل كل واحدة منهن واجتهادها في إتقان العمل
وهاهو المصنع الصغير يتنفس أكسجين الإنجاز ، إنه أول فستان أقوم بخياطته ، وطلبت من زميلاتي أن ننجز مجموعة من التصميم نفسه .
كانت فرحتنا عارمة ، حين أنجزنا الطلب لمحل لبيع الملابس النسائية ،
وهاهو حصاد عملنا نتذوقه ، كان بمذاق الشهد ، فرحتي بالإنجاز كانت أكبر من فرحتي بالربح الذي حصلنا عليه !
جزء منه دفعته قسطا من أقساط الدين وجزء آخر وضعته في يدي والدي واشتريت هدية لزوجة أبي ، والباقي اشتريت به أقمشة ، ولوازم العمل .
بدأت تصاميمي تعرف نوعا من الشهرة والانتشار ، فسارعت في عرض الفساتين على محلات أخرى ، تعرض سعرا أكثر.
دفعت كل أقساط الدين ، وزاد الطلب على الفساتين ، وزادت رغبتي في مواصلة إنجاز آخر
لكن كيف ؟ والمصنع صغير ولا يستوعب إلا عددا قليلا من ماكينات الخياطة وأدواتها .
بدأ الإحباط يزحف نحو إصراري من جديد ، وينقض على عزيمتي في مواصلة الطريق ، لكن سرعان ما كسرت سهامه قبل أن تنغرس فيه فتحطمه!
رحت أبحث عن مكان أكثر اتساعا ليسع عددا أكبر من ماكينات الخياطة ، وبفضل من الله يسر لي كراء محل أكثر اتساعا ، وأصبح للمعمل عملاء أكثر ، وطلبات اضطرتني أن أستزيد من العاملات .
اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى المصنع يكبر ويزداد شهرة ، تمنيت لو كانت أمي معي
لترى ما أنجزته !
عدت للبيت ؛ فاستقبلتني زوجة أبي بابتسامة لم أعهدها منها ، وشكرتني أنني لا أكلف أبي مصاريف البيت أو مصاريف دراسة أخوتي
دخلت غرفتي فرشت سجادتي ، شاكرة ربي أن أنعم عليّ من فضله ، وأنني صرت صاحبة معمل للملابس النسائية .
شعرت بطعم آخر لحياتي. طعم فرحة الإنجاز الذي لا يضاهيه طعم آخر حلاوة ..
أصبح لحياتي معنى ، وفزت حين أنجزت ! .
صحوت ذات صباح على صراخها ، يدوي في أرجاء المنزل ؛ إنها تبحث عني ، لم تجد وجبة إفطارها على المائدة كعادتها ، لم تجد البيت مرتبا كما تعودت أن تجده كلما استيقظت من النوم...لكن لا أستطيع النهوض ، الحرارة أنهكت جسمي الضعيف ، ولم ألملم ما تبقى مني لأقوم بما أقوم به كل يوم من طبخ وكنس وأشغال لا تنتهي ... أعرف أنها لن تأخذها الرأفة بي ، ولن تهتم لحالتي على الرغم من الحرارة التي يغلي لها مخ عظامي .. ياربي متى .. ياربي متى ترحمني هذه المرأة ...؟!
متى تكف عن إيذائي وتحويل مشاعري إلى أشلاء ؟ ، هاهي خطواتها تبعث في أوصالي الخوف : إنها تقترب من غرفتي
_ ماذا تفعلين ... أما زلت نائمة ...؟
_خالتي لا أستطيع القيام ، الحرارة أنهكت جسمي.
_ حرارة ...؟؟؟ !!!! أنت تصابين بالمرض ! هذا الجسم الصلب يصاب بالمرض ؟
أنت تتمارضين ، قومي لأشغالك ، كفاك تكاسلا ، إخوتك سيذهبون إلى المدرسة ، من يجهز لهم الفطور ..؟
_ حاضر يا خالة سأقوم حالا
قمت أجرجر ما تبقى من قوتي ؛ لأعد الفطور ، وأغسل تلك الأطباق ، وأرتب تلك الغرفة ، وأنشر الغسيل . ..
في المساء عاد أبي من عمله ، استقبلته كعادتي ..قبلت رأسه وأخذت عنه الأكياس التى يحملها ...نظر إلي ، وضع يده على جبهتي :
_ ما هذا ؟ حرارتك مرتفعة يا ابنتي .
_فقط بعض التعب يا أبي ، لا تشغل بالك .
مضغتني بنظراتها ، فعرفت أنها تريدني أن أنصرف ، ولا أكمل الحديث مع أبي ، هي تقوم بذلك في كل مرة تراني أكلم فيها أبي أو يكلمني ، أعرف أنها تخاف أن أشكو إليه ما تفعله بي
؛ لكنني لا أفعل ، لن أحمله فوق ما يحمل من هموم ؛ إنه يعود إلى البيت متعبا ، ويحتاج الراحة ، مثلما يحتاج العطشان شربة ماء.
يكفيه همّ إخوتي الصغار ، صحيح هم ليسوا أشقائي لكن هم إخوتي ، ولا ذنب لهم فيما تفعله زوجة أبي من معاملة قاسية معي.
هكذا مرت الأيام والسنوات ، وها أنذا أطرق باب الثلاثين من عمري ...
لطالما حلمت كأي فتاة بفارس يأتي لينقذني مما أنا فيه ، لم أرده فارسا مغوارا كما في المسلسلات ، بل كنت أريده سندا أتكئ عليه في حياتي ونكون أسرة ... لكن كيف لهذا الفارس أن يأتي وزوجة أبي ترد على كل من يطرق الباب بدعوى أنني مازلت صغيرة.....
مللت هذا ( الروتين ) الذي يخنقني ، يشدني إلى قاع سرداب اليأس ، أريد أن أفعل شيئا في حياتي ، فالإنسان لم يخلق للأكل والشرب ، بل لمهمة على هذا الكوكب. ...
قررت أن أغير حياتي وأن أمزق حاجز الخوف من التعبير عن رغباتي ، عزمت الأمر لأحدث أبي بأمر طالما فكرت فيه ، لكن قسوة زوجة أبي كانت تذبح العبارات على شفتي قبل أن تولد !
حين عاد أبي من العمل ذات يوم ، فحدثته عن رغبتي ، ورجوته أن يقبل ولأنه كان يحبني ويشعر بمعاناتي قبل دون تردد ، لكن زوجة أبي اعترضت بشدة صرخت :
_ أي خياطة هذه التي تريدين تعلمها ، أنسيت أن إخوتك لا زالوا صغارا ، ويحتاجون الرعاية ، من سيقوم بأشغال البيت ؟
أجبتها قبل أن تسترسل : لن أفرط في أي شيئ يا خالة ، لا تخشي شيئا ، سأقوم بأشغال البيت كالعادة.
_ وكيف تستطيعين التوفيق بين الأمرين ؟ ...بلهجة متهكمة
_ سأتدبر أمري ، أنظم وقتي فالنظام سيوفر علي كثيرا من الوقت لأقوم بكل ما تريدين. قبلت رأس أبي راجية موافقته ، ونظراتي حبلى باستعطافه.
صدح صوت أبي بالقرار : ..
غدا إن شاء الله ! سيكون أول يوم لك في مشغل الخياطة ! .
اتسعت ابتسامتي حتى فاضت على وجهي ، ومسحت غبار الخوف عنه ، فأرسلت عيناي دمعات لها مذاق الفرحة !
استيقظت باكرا كما العادة ، قمت بكل واجباتي ، حتى طعام الغذاء جهزته ، كي أسد أي ثغرة تحاول منها الدخول لتحطم رغبتي لتعلم الخياطة ... ارتديت ملابسي ، حملت حقيبة اليد وراحت قدماي تلتهمان المسافة بنهم إلى مقر المشغل .
كانت السيدة التي تعلمنا ، امرأة طيبة ، رأيت الاهتمام بي في تصرفاتها معي ، إنها قريبة جارتنا ، ربما عرفت منها بعض ظروفي الظاهرة للعيان ؛ فراحت تعلمني بدايات الخياطة بأسلوب أتمكن به من إتقان العمل بسرعة ، و فاجأتها بحماسي وإصراري على التعلم وابتكار موديلات جديدة ...
تذكرت هوايتي الطفولية ، رسم الملابس التي كنت أرسمها على الورق وأقطعها وألبسها لدميتي ...ابتكرت تصاميم لفساتين ذات طابع إسلامي ، أجل فقد كنت أعاني من شراء الفساتين حين أذهب للتسوق ؛ أغلب مايباع له مذاق أوروبي مما يقال عن لابساته " كاسيات عاريات " فساتين تكشف أكثر مما تستر ...تصاميمي أصبحت متميزة ، جميع زميلاتي في المشغل أعجبن بها ، ومما زادني حماسا على مواصلة ما أنجزته من تصاميم ، نظرة معلمتي التي شعرت بهواء الزهو والافتخار والثقة يملأ رئتي ، وأنا أرى في نظراتها الإعجاب بما صممته من فساتين ، شجعتني لأستمر ، ومن فضل الله علي أن زارت المشغل صديقة المعلمة وهي أجنبية ؛ فأرتها المعلمة التصاميم وأعجبت بها كثيرا ، وصاحت : ( واااااو ) هذا رائع ! ؛ رغم أن لا عري فيها إلا أنها تصاميم مبتكرة ورائعة أنت !
كانت هذه العبارة زادا لي لأكمل الطريق في ابتكار تصاميم لها نكهة إسلامية. ....
وصارت زوجة أبي تضع لي العراقيل ، كي لا أكمل ما أقوم به ، كنت أرى غضبها وحشا يريد أن يفترسني ؛ وهي ترى بريق عيني يتراقص فرحا ، وأنا أمسك الموديلات التي أخيطها وأرتبها لأعرضها على المعلمة .
فراحت تعرضني بضاعة على صديقة لها أو جارة في سوق العرض والطلب لزواج من شيخ يبحث عن من يخدمه دون راتب ...ومما أسكتها ، و ألجم رغبتها في التخلص مني أن أبي عاد يوما وسمعها تعرضني على جارة لشيخ في عمر جدي وقد زاد شهيتها خبر : أنه ثري ؛ لتضرب عصفورين بحجر واحد ، التخلص مني والإفادة من مال الشيخ .
صاح أبي في وجهها متوعدا إياها إن استمرت في ذلك !
وبعد أعوام قضيتها في التعلم ، زاد نهمي لمواصلة طريق تصميم الفساتين ، حلم طالما حلمت به أن أسوق فساتين من تصميمي ... عرضت على أبي أن يمنحني حق التصرف في غرفة من غرف المنزل لأحولها إلى مشغل صغير .
عارضت زوجة أبي الفكرة ، ووافقها أبي مدعية أن ليس في المنزل غرف زائدة عن الحاجة
لكنني لم أستسلم ، فبدأ رفضهما يزداد قوة بخاصة أن الأمر يتطلب رأس المال وأبي لا يملك المبلغ.
قررت أن أنحت صخر رفضهما بمعول إصراري الذي استمد قوته من توكلي على الله تعالى ، ثم من جبال صبري على أن أكمل الطريق وسأصل يوما ما ... ألححت عليه في الطلب ليوافق لأنني لن أكلفه شيئا.
أجاب باستغراب من إصراري : يا ابنتي ، المشروع يتطلب رأس مال وأنا _ كما تعلمين _ لا أستطيع أن أوفره لك ؛ فراتبي أضعف من ذلك.
_ لا عليك يا أبي فقط ؛ امنحني الإذن ؛ لأحول غرفة من غرف المنزل إلى مشغل ، هناك غرفة لا نستغلها ، أي نعم هي صغيرة لكن تكفيني في بداية المشوار لتحقيق حلمي.
_ لكن الغرفة صغيرة يا ابنتي.
_ لابأس ! سأفعل كل ما أستطيعه ؛ لأبيع ما أخيطه ، وسأوفر المال لأوسع المشغل ، لن أتخلى عن هدفي ، وأريد أن أنجز شيئا في حياتي .
ابتسم أبي وهز رأسه بالموافقة ، طرت فرحا ، لكن سرعان ما انتحرت ابتسامتي حين فكرت في رأس المال !
لم أعرف كيف أتصرف ، من أين سأحصل على مبلغ لشراء ماكينات الخياطة ولوازم العمل والقماش.
فكرت في صديق أبي ، إنه رجل ذو سعة من المال ولا يرد من يطرق بابه يطلب فرجا لكربة ، ذهبت أطرق منزله ومن فضل الله وكرمه أنه وافق أن يقرضني مبلغا من المال.
بدأت أضع أول لبنة في صرح " مصنع لخياطة الفساتين " طلبت من مجموعة من زميلاتي في مشغل تعليم الخياطة أن يلتحقن لمساعدتي ونقتسم الأرباح حسب عمل كل واحدة منهن واجتهادها في إتقان العمل
وهاهو المصنع الصغير يتنفس أكسجين الإنجاز ، إنه أول فستان أقوم بخياطته ، وطلبت من زميلاتي أن ننجز مجموعة من التصميم نفسه .
كانت فرحتنا عارمة ، حين أنجزنا الطلب لمحل لبيع الملابس النسائية ،
وهاهو حصاد عملنا نتذوقه ، كان بمذاق الشهد ، فرحتي بالإنجاز كانت أكبر من فرحتي بالربح الذي حصلنا عليه !
جزء منه دفعته قسطا من أقساط الدين وجزء آخر وضعته في يدي والدي واشتريت هدية لزوجة أبي ، والباقي اشتريت به أقمشة ، ولوازم العمل .
بدأت تصاميمي تعرف نوعا من الشهرة والانتشار ، فسارعت في عرض الفساتين على محلات أخرى ، تعرض سعرا أكثر.
دفعت كل أقساط الدين ، وزاد الطلب على الفساتين ، وزادت رغبتي في مواصلة إنجاز آخر
لكن كيف ؟ والمصنع صغير ولا يستوعب إلا عددا قليلا من ماكينات الخياطة وأدواتها .
بدأ الإحباط يزحف نحو إصراري من جديد ، وينقض على عزيمتي في مواصلة الطريق ، لكن سرعان ما كسرت سهامه قبل أن تنغرس فيه فتحطمه!
رحت أبحث عن مكان أكثر اتساعا ليسع عددا أكبر من ماكينات الخياطة ، وبفضل من الله يسر لي كراء محل أكثر اتساعا ، وأصبح للمعمل عملاء أكثر ، وطلبات اضطرتني أن أستزيد من العاملات .
اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى المصنع يكبر ويزداد شهرة ، تمنيت لو كانت أمي معي
لترى ما أنجزته !
عدت للبيت ؛ فاستقبلتني زوجة أبي بابتسامة لم أعهدها منها ، وشكرتني أنني لا أكلف أبي مصاريف البيت أو مصاريف دراسة أخوتي
دخلت غرفتي فرشت سجادتي ، شاكرة ربي أن أنعم عليّ من فضله ، وأنني صرت صاحبة معمل للملابس النسائية .
شعرت بطعم آخر لحياتي. طعم فرحة الإنجاز الذي لا يضاهيه طعم آخر حلاوة ..
أصبح لحياتي معنى ، وفزت حين أنجزت ! .
تعليق