مأساة إسماعيل / قصة / أحمد القاطي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد القاطي
    أديب وكاتب
    • 24-06-2009
    • 753

    مأساة إسماعيل / قصة / أحمد القاطي

    مــأساة إســماعـيـل
    لا شيء يمكنه أن يصرفني عـن السكن في البادية . هذه العبارة هي التي كانت تسمعها كـنزة من زوجها كلما طلبت منه الرحـيل إلى المدينة من أجـل التمتع بما تزخر به من أشياء تـفـتـقـد في القـرية . لقد كانت كثيرة المطالب ، والثرثرة على غـير ما اتصف به زوجها المهدي . فهو قد اكتسب الاحترام والتقديـر من جيرانه إلى درجة أنه كان المرجع الوحيد الذي تـتم العودة إليه من أجـل حـل الخلافات التي كانت تـقع بيـن سكان القـرية ، ومغادرة من أحبهم وقدروه كان من المستحيلات التي تطلب منه . قراراته وأحكامه في الفصل في النزاعات كلها كانت صائبة لا أحد يجادل في عدالة ، ورؤية صاحبها الثاقـبة . لقد كان إنسانا ورعا حافظا لكتاب الله الحكيم ، محياه دائما تعلوه إشراقة ابتسامة صادقة ، وجبهته كانت آثار الصلاة واضحة عليها من كثرة السجود لله الواحد القهار . لا تراه إلا والسبحة في يده ، لم يسمع عنه قط أنه تخلف يوما عـن الصلاة في المسجد مع الناس ، أو تـلفظ بكلام فاحش يجـرح الإحساس، أو أصدر حكما من أجل إرضاء الأهواء ، وكسب ثـقة أصحاب النفـوس المريضة العمياء . كل الولائم التي كانت تـقام كان أول من يستدعى إليها باعـتباره فـقـيها عالما من جهة ، ونظرا لصوته الرخيم الشجي الذي كان ينفـذ إلى أعماق مستمعيه الذيـن كانوا ينصتون إليه في إكبار وانبهار من جهة أخرى . الوليمة بدون حضوره كانت لا تساوي شيئا ،لهذا كان من يقيمها أول ما يفكر فيه هـو استدعاؤه ، والذهاب عنده من أجل استقدامه . لقـد كان رجلا متقدما في السن قـد تجاوز عقده التاسع ، ورغم ذلك كان يتمتع بذاكرة قوية ، يتحدث عـن الأحداث التي وقعت في الأمس البعيد وكأنها حدثت في اليوم القـريب . لما مرض لم يمهله المرض طويلا . لقد أسلم الروح لبارئها وهو ساجد مع المصليـن يصلي صلاة الفجر في المسجد . جنازته كانت عرسا حضره الأقارب والأباعد ، وبكوه بكاء حارا ، وودعوه إلى مثواه الأخير ، وهم غـيـر مصدقيـن أنه مات .
    الهادي الابـن الوحيد للمهدي ، المتزوج والذي له أبناء ، كل ما ورثه عـن أبيه ، كان عبارة عن ضيعة وسكن متواضع مشيد فوقها . لقد كان على عكس أبيه غيـر قنوع .
    طموحاته وتطلعه إلى مستقـبل أفضل ، كانا يفـرضان عليه التفكير في مستقـبل الأبناء ، وتجاوز كل العقبات الكأداء ، وتحسيـن ظروف عيشهم التي لا تـقبل الإبطاء . هذا التفكير قاده إلى بيع السكن والضيعة اللذين ورثهما عـن أبيه ، واقـتـناء بديـل لهما أقرب إلى المدرسة والسوق الأسبوعي للقرية . في إقامته الجديدة كان هناك شيء خطيـر يقـلق راحته ، لكنه احتـفظ بالسر في نفسه ولم يبح به إلى أي أحد . وضع الهادي خطة عمل نصب عينيه ـ وظل يعمل بتفان وكـدّ ونكران للذات ـ أثمـرت عـن تنامي خيراته وممتلكاته من ضياع ، وأشجار مثمرة وأنعام ، حتى أصبح حديث الخاص والعام . لما كبر أبناؤه قرر من جديد الرحـيل والذهاب معهم إلى المدينة حفاظا على سلامتهم ، ولرعايتهم ومراقبتهم عـن كـثب حتى لا تضيع طباعهم وتـُفسدهم عادات المدينة التي سمع ويسمع عنها الشيء الكـثير .
    قـبل الرحيل رتب الهادي أموره ، حيث بحث له عـن " ربّاع " وأسكـنه في منزله ، وطلب منه أن يعـتـني بممتلكات منزله وأنعامه وأشجاره التي ستصبح أمانة في عنقه وأوصاه بما يلي :
    ــ اسمع يا إسماعـيـل ، ما تركته لك من ممتلكات وأغراض خاصة ، هي أمانة عندك أرجو أن تكون عند حسن ظني بالاعـتناء بها كما لو كانت لك . فالأنعام إن أحسنت رعايتها توالدت وتكاثرت ، والأشجار إن تعهدتها بالخدمة والسقي أينعت وأثمرت ، والأرض إن حـرثـتها ونوّعت حرثها حصدت وجنيت و .....
    ــ أنا في خدمتك وطوع أمرك يا عمي الهادي ، فليهنأ بالك.
    ــ بالي مرتاح يا إسماعـيـل ، فأنا لم أخترك إلا بعد تروّ وتفكير عـمـيقـيـن .
    ــ هـل هناك من وصية أخرى يا عمي ، كل ما ذكرته لي يدخل في مجال عملي وأنا أعرفه جيدا أكثر من غيري ؟
    ــ نعم لقد كـدت أن أنسى ، انظر إلى البيت المقـفـل الكائن على يسارك ، هـل رأيته ؟
    ــ أي بيت ، هـل الذي بابه غير مصبوغة ؟
    ــ لا أقصد البيت الذي بابه مصبوغة باللون البني .
    ــ نعم إني عرفته الآن .
    ــ ذاك البيت يحتوي على بعض أغراض أبي رحمه الله ، ومحبتها في قلبي خاصة رغم عدم أهميتها من الناحية المادية ، لكن أهميتها عندي كبيرة من الناحية الروحية . فاحذر أن يتم الدخول إلى البيت والعـبث بها أو رميها .
    ــ لا عـليك يا عمي الهادي ، اطمئن ، سأحرص بنفسي على تطبيـق ما أوصيتني به مهما كلفني الأمر من ثمن .
    مرت سنتان على رحيل الهادي ، التزم فيهما إسماعـيل
    بكل وصاياه ، وجنى فيهما الخير العميم من وراء عمله الدؤوب ، الذي لم يطله الفتور أو اللغوب . لكن في فصل شتاء السنة الثالثة ، تغيـرت عادات إسماعـيل كـثيرا.
    لقد أصبح دائم الذهاب إلى المدينة ، والتردد على حاناتها لشرب الصهباء التي أصبح مدمنا عـليها ، ومنفـقا لماله على زمرة من المدمنين ـ الذين تعرف إليهم ـ بكـل سخاء .
    بعد قضاء ليلة حمراء في المدينة ، عاد إسماعـيل إلى بيته وهــو ثمل قد لعبت الصهباء بعقله ، ولم يعد يتذكر ما ذا يفعل . مــر أمام البيت ذي الباب المصبوغ باللون البني ، فاعتقد أن رائحة كريهة تنبعث منه . فـتح قـفله عنوة ودخل إليه ضاربا وصايا الهادي عرض الحائط . في الداخل لم يجد شيئا مما اعـتـقـد . كـل ما كان هناك أثاث منزلي قديم كبعض الأفرشة والملابس التي لم تعد صالحة لأي شيء .
    دون وعي منه قام برمي الملابس القـديمة في مزبلة الدار ، وذهـب إلى غرفته لينام . في فراشه ما أن بدأ الكرى يغازل عينيه حتى سمع صوتا يخاطبه قائلا له :
    ــ إسماعـيل ، يا إسماعـيل ، لقد خـنت الأمانة ، ونقضت العهد بينك وبين من أنقذك من المهانة . ردّ ما رميته في مزبلة الدار إلى مكانه قبل أن يحل بك أمر مكروه ، فتندم حيث لن ينفعك الندم أيها المعتوه .
    طول الليل لم يكـف صاحب الصوت عـن تنبيه إسماعـيل ، ودعوته إلى رد الملابس إلى مكانها ، لكنه لم يفعل ظنا منه أن ما كان يسمعه هــو من تأثير ما احتساه من كؤوس النبيذ . في الصباح لما قامت زهرة زوجة إسماعـيل ، عجنت الدقيـق وأكثرت من دعكه ودلكه خوفا من تعليقات زوجها العـيّاب ، الذي أضحى لأتفه الأسباب يكشر عـن الأنياب . وقـت انتهائها انتبهت إلى الباب المفتوح لكنها لم تعره اهتماما . نظفت كعادتها حوش الدار من روث الأنعام ، وجمعته ثم خرجت لتلقي به في مزبلة الدار . في تلك الأثناء انتبهت إلى الملابس الملقاة فيها . بفـطنتها وربطها بيـن الأشياء ، علمت أن وجودها هناك هــو من فعـل إسماعيل الذي تجاوز الخطوط الصفراء والحمراء . جمعت الملابس ، وأعادتها إلى مكانها المعهود ، وأغلقـت الباب الذي لم يرد أن ينغلق كسابق عهده ، وانصرفـت إلى إتمام أشغال بيتها ليتها تسلم من لسان زوجها السليط ، الذي أصبح ينعتها بابنة اللقيط بـن اللقيط . ذهـبت إلى البيدر كالنحلة خفة ومعها كيس من الخيش ملأته تبنا ، ثم عرجت على مكان فيه " وكيد " (1) وملأت القـفة ثم دخلت إلى البيت الذي فيه الكانون ونصبت الأثافي ووضعت فوقها
    " الفرّاح " (2) وأوقدت النار وجلست قبالتها تنتظر الوقـت المناسب لوضع العجيـن المقرص فوقه لطهـوه وإعداده للأكل . إبان انتظارها بدأت زهرة ترى حيوانات لم تألف رؤيتها حيث هي . في أول الأمر حطت حمامة بيضاء فـوق رأسها ، وفي المرة الثانية رأت قطة تدور بجانبها ، رغم أنها لا تتوفـر على مثيلة لها . لما انتهت من عملها حضرت الفطور وقدمته لزوجها الذي كان قد نهض بعد حين من نومه . تناوله على عجـل ، وأخرج البغـل من الإسطبـل ثم وضع( البردعة ) على ظهـره وفوقها
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
    1) وكيد : روث البهائم اليابس .
    2) الفرّاح : إناء من الفخار لطهو العجين المقرص .
    الـخـُـرْج ، وظل النهار بكامله ينقـل من مكان غـيـر بعيد تربة تدعى " مزواغ " توضع فوق سطوح المنازل وتدك بعد بلّها بالماء لمنع المطر من النفاذ إلى داخـل البيـوت .
    في المساء ، بعد انتهائه من العمل قصد إسماعيل المدينة وظل في إحدى حاناتها يحتسي كؤوس الخمر . لم يغادرها إلا بعد أن أساء إلى أحد المدمنين الذي كان بجواره مما اضطر صاحب الخمارة إلى الأمر بإلقائه في الخارج . عاد إلى منزله وهو يجـر ذيول الخيبة والمذلة غير مستسيغ لما تعرض له من إهانة . لما وصل كرر فعل الأمس وعـبث بمحتويات البيت وهـو في حالة هـستيـرية لم يـر عـليها من قـبل ، ثم ذهـب إلى النوم . في فراشه زاره صاحب صوت الأمس وخاطبه قائلا له :
    ــ لقد بلغ السيل الزبى ، بتجاوز طغيانك المدى ، فجهـز نفسك للرحيل غدا ،غدا ،غدا ، غ د ا .
    كيف لثمل أن يعي ما يقال له ؟ لقد نام ملء جفنيه ، وقضى الليل جله وهو يغط غطا . لم يغادر فراشه إلا بعد أن أصبحت الشمس في كبد السماء . على غير عادته لم يتناول فطوره . نادى على زهرة بأعلى صوته ، وبنبرة فيها كثير من الحدة :
    ــ يا زهـرة ، تعالي إلى هنا كي تساعديني على ترميم سقـف " نحيفة " (1) الحـوش .
    رغـم ما كان لديها من أشغال امتثلت زهرة لأمر زوجها كي تجـنب نفسها غضبه . صعدت إلى سطح البيت كما طلب منها وظل هـو في حـوش الدار . كان يحمل على
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    1) نحيفة الحوش : سقيفة تمتد من كل غرفة إلى الحوش .
    عاتقه السقائف ويصعد بها درج السلم الخشبي ، فـتـتسلمها
    منه وتضعها جانبا فوق السطح . لما نقـل كـل السقائف ، أخذ القفة وبدأ يملأها بالتراب المسمى " مزواغ " ، ولما كان يكمل ملأها ، كان يحملها هي الأخرى على عاتقه ويصعد بها درج السلم الخشبي ، ويسلمها إليها فتأخذها منه وتـفـرغها في جانب آخـر قـريب من السقائف . زهرة غـير المتمرسة بمثـل هـذا العمل ، لم تـنتبه إلى الخطأ الذي ارتكبته بوضع كل من السقائف والتراب في مكان متقارب . وهكـذا ما أن أوصل إسماعـيـل القـفـة الأخيرة إلى زهـرة وأفـرغـتها ، ونـزل لأخـذ قـسط من الراحة تحـت
    " النحيفة " حتى انهار سقـفها بما فوقه من ثـقـل وطمره بالكامل . صراخ زهـرة وطلبها للنجدة لم ينفعاها في شيء . سكنها كان بعيدا عـن الجيـران الذين يمكنهم أن يساعدوها . نزلت من فوق السطح واعتمدت على نفسها في محاولة يائسة وشبه مستحلية لإنقاذ إسماعـيـل . بعد جهد جهيد استطاعت زهرة أن تنتشل زوجها من تحت الأنقاض لكنه كان جثة هامدة بفعل ما تساقط عليه من أحجار .
    بكت زهرة زوجها بكاء حارا ، واستعانت بعائلتها التي حضرت بعد سماعها الخبر على دفنه . الهادي لما علم بموت إسماعـيل قدِم إلى القرية وقـدّم تعازيه لزهرة وطمأنها على مصيـرها بعد موت زوجها . لقد أخبرها بأنه سوف يحتفـظ بها ، وسوف يخصص لها إقامة خاصة ، ومساعدة هامة تتدبر بها عـيشها . لكن زهرة سرعان ما غادرت القرية وعادت للعيش مع أهلها ، مؤثرة السلامة كما آثرها الهادي لما غادر إلى المدينة .
    تــــازة في : 26 / 05 / 2007م
    أحمد القاطي المغرب
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    الاستاذ المبدع الاديب أحمد القاطي

    نص زاه قوي السرد واللغة
    مأساة اسماعيل كان سببها هو بتخاذله للوفاء بالأمانة
    بانغماسه لتلك الآفة التي أودت بحياته وعقله
    عكس زوجه التي دأبت في الحفاظ عليها
    قصة فيها من العبر الكثير

    تحية وتقدير استاذنا الفاضل
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • أحمد القاطي
      أديب وكاتب
      • 24-06-2009
      • 753

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
      الاستاذ المبدع الاديب أحمد القاطي

      نص زاه قوي السرد واللغة
      مأساة اسماعيل كان سببها هو بتخاذله للوفاء بالأمانة
      بانغماسه لتلك الآفة التي أودت بحياته وعقله
      عكس زوجه التي دأبت في الحفاظ عليها
      قصة فيها من العبر الكثير

      تحية وتقدير استاذنا الفاضل
      ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ

      المبدعة مها راجح .

      أسعد الله أوقاتك بكل خير أيتها الطيبة .

      تواصلك الدائم أعتز به وأقدره .

      أحاول جهد المستطاع أن أسلط الضوء على بعض المشاكل التي تعيشها مجتمعاتنا ، من المحيط إلى الخليج .
      شكرا على الثناء الجميل ، والمرور الأجمل .

      أحمد القاطي يحييك .

      تعليق

      يعمل...
      X