تفرّع وشفافية الرمز في "زبد فوق الرمال"
بقلم: الشاعر فهيم أبو ركن
لا يحظى النقد بعناية الكثير من الباحثين والدارسين في وسطنا العربي، بسبب احتياجه للتفرّغ، ولم تظهر إلاّ قلّة من الدراسات المتخصصة التي تتناول الأجناس الأدبية أو المذاهب والقضايا النقدية، في حين تكثر مقالات المجاملة السطحية التي تتناول هذا الكتاب أو ذاك الكاتب؛ بالمدحِ المُجامل حينًا، حيث تُسْقَطُ المصطلحات الفخمة الجاهزة إسقاطًا ميكانيكيًا، فيوصف النص إن كان لصديق أو قريب، بالأصالة والتجربة الناضجة، دون بيانِ مواطن الجمال فيه لإثباتِ ما يستحق المديح، مما يجعل النقد نوعَا من المديح الجاف حُبًّا بالكاتب وانتصارًا له بوجه أي نقدٍ سلبي، وإمّا قدحًا لغرضٍ في نفس الناقد تضامنًا مع صديق وتطبيقًا للمثل القائل عدّو عدوّي صديقي أو كما يحلو للبعض القول: عدوّي عدو صديقي! لذا نقول بإيجاز إن نصيب نقد الشعر من البحث والدراسة الموضوعيين كان ضئيلاً وباهتًا.
فنقد الشعر والأدب عامة يعتمد في الأصل على الفهم الجمالي ثم على الإدراك التأويلي وإمكانية الرؤيا وحالات الاتصال والانفصال في النص الإبداعي، في ماهيته وجوهره؛ كالتحليل الكيميائي لمعرفة مركبات المادة وعناصرها. وعليه، فالقراءة النقدية يجب أن ترتبط بعنصرين، إذ يخدم الفهمَ الجماليَّ التذوّقُ الذاتيُّ الذي يعتمد على العاطفة والإحساس والتجربة الحياتية، لأن ما يؤثر فيَّ غير ما يؤثّر فيكَ. والمراد بالعاطفة: الحالة الوجدانية التي تدفع بالإنسان إلى الميل للشيء أو الانصراف عنه، وما يتبع ذلك من حب أو كره، من سرور أو حزن، من رضًا أو غضب. من هنا نفهم الاختلافات في تقييم بعض الأعمال، حيث يتحرك النصُّ في فضاءات بين ذات الشاعر وذات القارئ المتلقّي – في هذا الحالة "الناقد".
إن مقياس العاطفة الأول هو صدق المبدع وأصالته وابتعاده عن الزيف، وهذا ما نجده واضحًا لدى شاعرنا جورج جريس فرح الذي يعبّر عن عواطفه وأفكاره فتشعر أنه صادق غير متكلّف، وأن الدافع لانبثاق النص حقيقي، ويمتاز بعمق تجربته الشعرية.
ولكي لا يبقى كلامنا مصطلحًا فارغًا أو شعارًا جاهزًا، تعالوا نسمعه يتحدّث بلسان المرأة إذ يقول في ص 5:
أحبُّ أن نمضي معًا/في سيرنا../ تبقى معي/أبقى معَك/ فأنتَ لو سبَقتَني/ أخافُ ألاّ أتبَعَك.
إنه التعبير الجميل عن الرغبة الحقيقية بالمساواة. فالمرأة لا تريد أن تشعر أنها متأخرة وأن الرجل يسبقها؛ وتكتمل أصالة الصورة في الفقرة الثانية حين يؤكّد الشاعرُ بلسان المرأة الرغبة في المساواة الحقيقية البعيدة عن الأنانية، فهي لا تريد أن تسبقه أيضًا، بل التساوي به، فيقول الشاعر بلسانها:
لا، لا تَسِر خَلفي/ ولا توكِل إليَّ قيادَتَك/ بل كُن إلى جنبي/ ودعني/ أستمدُّ صداقَتَك.
إنها صورة واضحة شفافة رقيقة، فيها الصدق والفكر التقدّمي والعاطفة الأصيلة.
أما الإدراك التأويلي فيخدم التجاوز العاطفي الظاهر، إلى الرؤيا الباطنية، وهي التزاوج بين الإحساس بالمؤثراتِ الخارجية وانعكاسه الغامض في العقل الباطن، وهذا يفسر الصور الغامضة أو الرمزية السريالية التي يستعصي تفسيرها أحيانًا على المبدع نفسه، أو الصور الموحية التي تترك مجالاً للقارئ كي يسرح بفكره وخياله.
تعالوا نسمع الشاعر يشير لنا منذ البداية في عنوان القصيدة إمكانية التأويل. فعنوان القصيدة هو "ذاك الذي..." فمن هو ذاك الذي؟ أنه:
ذاك الذي أصابَنا/وحلَّ في قلوبنا/رُمنا لنا لهوًا بهِ/ فإذ بهِ يلهو بنا/ لو غابَ عنّا لهوُهُ/ فما الذي ينتابُنا؟
إلى أن يقول: يظلُّ في أعقابِنا/ كالظلِّ في دروبِنا/ حيَّرَتا في أمرِنا/ واحتارَ منّا وبِنا!
في كل القصيدة لم يُفصح الشاعر عن "ذاكَ الذي" مع أن الرمز شفاف، إلا أنه يبقى موحيًا يُعطي للقارئ هذه المساحة من حرّية التخيّل والتفكير، وقد جاءت شفافية الوجدانية نتيجة لمصداقية الشاعر العاطفية الواضحة.
وعلى هذا المنوال جاءت أيضًا قصيدة "تلكَ التي.." حيث لا يُفصح عنها، بل يأتي برموز تدلّنا إليها في إيحاء شفّاف يبتعد عن الغموض المبهَم الذي لا نجد له أثرًا في هذا الكتاب.
يبدأ الشاعر الأستاذ جورج جريس فرح القصيدة بإيحاءات عامة، فيقول:
تلكَ التي منها أنا/ والبعدُ عنها يستحيل/ في حبها ذقتُ الضنى/ ما مثل آلامي مثيل.
ونتساءل: من هي "تلك التي"..؟ هل هي حبيبته؟ هل هي أمه؟ أم أخته؟ أم زوجته؟ ولكن سرعان ما يأتينا الشاعر برمز فرعي يضيفُ دلالاتٍ أخرى، إذ يقول:
في أرضِها الزيتونُ والصُّبّارُ/ يُفضي للنخيل...
إذا، هذا عنصر جديد نقلنا إلى التفكير بالوطن والأرض. وتوق الشاعر إلى الوطن يُلمّح بأنه لوطنٍ متكاملٍ. فكيف يترجم هذا التوق؟ إنه يعرف بالعقل الباطن أن الزيتون والصبار ينبتانِ في الشمال، لكنه لا يكتفي بالشمال، يريد الجنوبَ أيضًا، ورمز الجنوب ذي الطابع الصحراوي هو النخيل، فنراه يضيفُ قولهُ "يُفضي للنخيل" ليؤكد حبه وتمسّكه بالجنوب. لكن الشاعر في الفقرة التالية يضيفُ فرعًا إيحائيًا آخر حين يقول:
من حرفِها صُغتُ القصائدَ/كالقلائدِ/ للبلابلِ كي تغرِّدَ/والحمائم للهديل.
فيتساءل القارئ مرّة أخرى وفي اتجاه آخر: هل هي اللغة التي يعشقها؟ ثم ينهى القصيدة بتساؤل موحٍ يُبقي جميعَ القراءات مفتوحةً: "هل إلى/ أبوابِ جنَّتِها سبيل؟"
تلك هي نماذج من أسلوب الشاعر في نثر رموزه وتركيب صُوَرِه الشعرية. أما الديوان كوحدة كاملة فهو نصوص وجدانية صادقة إذا نظرنا إليه من مقياس المعنى، فهو يعالج معاني الحب والعدل والصداقة، وهذه موضوعات قيّمة تُعطي المعنى عمقًا ومكانة يؤثران في نفسية القارئ.
ولو نظرنا إلى الديوان من منظار الجدّة والابتكار، نجد أن الشاعر قدّم مواضيع الحب والعشق والإخلاص والوفاء في نطاق التزامه بالأسلوب العادي المقبول، ولم يراهن على صُورٍ جديدة ، ربما لقناعته الذاتية كالبعض، بأن القارئ ينفر من الجديد الغامض الذي يحتاج إلى استساغة ومراسٍ كبيرين، حتى أنه في بعض الأحيان استسلم إلى الصور المكرَّرة أو التراكيب الجاهزة، وأسوق على سبيل المثال: مخمل خدَّيكِ (ص33) تكتوي في نارها (ص 30) قلبي إليكِ يكادُ يسبقني (ص 23) وغيرها.
وقد اتَّسمت بعض هذه الصور بالعمق لأنها جاءت كالحكمة التي تمثل اختزال قدر كبير من التجربة الإنسانية وتقديمها في عبارة موجزة بليغة. فمثلاً في ص 95 يقول مخاطبًا صديقة:
قد لا يُمكنني أن أمنعَ عثرة قدميك/لكن يمكن لي مدُّ يدي /كي لا تهوي..
قد لا تجمعنا أحلامٌ أو آمالٌ/ لكني أسقي آمالَكَ كي لا تذوي
قد لا يعجبني رأيٌ منكَ ومُعتَقَدٌ / أو قولٌ ينبع عن قصدٍ / أو عن سَهوِ
لكني أصغي إكرامًا لصداقتنا / كي يبقى موصولاً أبدًا / حبلُ الصَّفوِ.
أما من ناحية الأسلوب الذي يتمثّل في البناء اللغوي للشعر، كاختيار المفردات وصياغة التراكيب والعبارات والموسيقى الداخلية والخارجية، فقد أجاد الشاعر في اختياره. فها نحن نلحظ أن إيقاع الوزن كان سريعًا في بعض النصوص حيث دعَت إليه الحاجة، مثل ص 28: صلاتي / رجائي / ابتهالي / دُعائي
وص 46: شاغَلَتني / غافَلَتني / سرقت من الكتاب / لقَنَتني / علَّمَتني / في الهوى أسرارَها /
أربَكَتني / جَعَلَتني / أقتفي آثارها
وص 69: شرَّقنا غرَّبَنا / أبعَدَنا.. قرَّبَنا / بعثَرَنا.. فرَّقَنا / أعادنا.. رَتَّبَنا / يا ليتَ أن أراحَنا / بقدرِ ما أتعَبَنا.
بينما نجد الوزن رزينًا حيث احتاج المعنى ذلك، فمثلاَ في ص 33:
دُعيــتُ يــومًا لِعَـرضٍ مِـن مُبــدِعٍ عَـلــَمِ
قد ذاعَ صيتًا وأضحى المعروفَ في الأُمَمِ
وقفــتُ أرصُـدُ رَسمًا من مُجمَــلِ الـرُّسُـمِ
رسمًــا لهيئــةِ أُنثــى فــي غايــةِ السَّـقــَمِ..
وأما بالنسبة للألفاظ فيمكن لنا أن نصف أسلوب الشاعر بالأسلوب السهل، وهو ما ارتفعت ألفاظه عن ألفاظِ العامة، وخلا من اللفظ الغريب الذي يحتاج إلى بيان وتفسير. وهذا النوع من الأساليب الذي تأتي فيه الكلمات في مكانها المناسب لتفي بالدلالة المرجوّة، رغم قربه وسهولته، إلاّ أن إبداعه وإنشاءه ليس بالأمر السهل الهيِّن.
نتمنى للشاعر دوام الصحة والإبداع والتوفيق.
تعليق