
دُعيتُ للعودة إلى الأرض..لأعيش حياة جديدة.. رفضت بامتنان ..غير أنه لم يكن مسموحاً بالرفض.. ماذا كان علي أن أفعل؟؟....
بعد قليل كنت أنساب عبر الفضاء..سقطت بين ذراعي ممرضة تلقفتني من رحم أمي.. كانت طفولتي الأولى رائعة..اتشبث بصدر أمي أتجرع حليباًصحياً ..أجري.. أتشقلب..أتسلق الأشجار..أقفز على الحواجز.أتبادل اللكمات والخبطات..كان زمنا رائعاً..
أما الآن..أضحيت أرضع لبناً صناعياً.. أبكي بأقل قدر ممكن تفادياً للعقاب.. وخوفاً من الوقوع بدأت المشي متأخراً.. لم أقم في يوم من الأيام بأي من الأشياء المفيدة..لم أعد أجري.. وأتشقلب.. وأتسلق الأشجار..و أقفز على الحواجز..
بصراحة طفولتي الآن رتيبة.. داخل جدران تحتجز حريتك .. كان شيئا ًصعباً عندما أقارن خبطات ولكمات تلك الأيام برتابة هذه الأيام.
كبرت وصرت شاباً..دخلت مرحلة الرومانسية.. لا يمكنك أن تتصور مدى دهشتي حينما تذكرت مراهقتي وشبابي الأولى ..كانت المشاعر صادقة ..نقية.. بينما الآن فشبابي أشبه بشباب تكبته مشاعر مدفونة.. مريرة كالحُصرم.. أنتجتها أوهام فضائية وتقنية جافة.. في الماضي كانت عاطفتنا قوية للغاية وعنيفة للغاية ..نظرة مختلسة ..إمساك بالأيدي .. كلمات غير مترابطة.. وكلمات أخرى مترابطة.. جملة هنا وجملتان هناك.. اعتراف بحبنا للآخر ..وعلى بسطة السلم.. أخطط لمستقبل ساحر.. أطلب يدها في نهاية الأسبوع .. وأتزوجها بعد ذلك بشهر.. لك أن تتخيل التفاصيل.
أما الآن تلاشت تلك الصورة.. ملامح الفتيات أضحت غريبة نتيجة التشبه بالآخر ..أزمات.. افتقار للمال.. عوز..حُب ما أن يبدأ حتى ينتهي..تبحث كل شي وتنتهي إلى أن الأفضل لك سيكون ألا تتزوج.. عواطف مبتورة ومسرات مجهضة.. ومشاريع تداعى.. معلقة بالهواء.. أوهام محطمة.
شارفتُ الأربعين..أخرج إلى الشارع.. أرتاب في التعابير على وجوه الناس في الشوارع.. لأن الشواغل ،القهر ،الكراهية والحزن وبقية الأشياء كانت تتلبس ثلاثة أرباع هذه التعابير.. صرت أعيش في خوف من ان أصبح أباً لطفل أعمى.. أو أصم ..أو أبكم ..أمراض تتحدث عنها في الصحف.. جيل ألـ -دي إن إيه - ..بينما كانت هذه الفترة من اجمل مما كان بوسع المرء أن يتخيلها في تلك الأيام الماضية.
ها أنا أخطو شيخوختي..ولكن في دار المسنين..على الرغم أنني والد لثمانية زنابق ..زنابق كريهة الرائحة..تـُثير الإشمئزاز.. حيث لم تسعني قلوبهم في الكبر.. بينما كانت شيخوختي مُحمَّلة على الأثير والريش.. إحساس العظمة والروعة والسعادة والنشوة ..احتفالات كانت تقام على شرفي ..أما الآن صور الشيخوخة تتلاشى..تتحسس طريقها إلى الظلام..
عفواً أيها القارئ.. لن أستأنف روايتي.. فقد غدت أقل تماسكاً .. وأكثر هياجاً.. وبكل وضوح أكثر هذياناً.
لذا غداً ستتلقى رسالة يحف بها السواد.. بخبر موتي.
*
تعليق