معالم من التجربة الصوفية في المغرب
عندما تحدث ابن خلدون عن التصوف وصفه بأنه علم حادث في الملة، وككل العلوم الحادثة في الملة عرف التصوف جدلا كبيرا بين قبوله ورفضه، قُبِل التصوف لأنه اعتبر تعميقا للتجربة الدينية وحاثا على التقوى ومرغبا في الزهد فيما يقبل عليه الناس من متاع، ولأنه خلف أعلامه الكبار ممن يفتخر بهم العالم الإسلامي عموما كالجنيد والمحاسبي والغزالي وابن عربي الحاتمي وابن مشيش والشاذلي وابن عطاء الله السكندري وغيرهم… وَرُفض التصوف لأنه لم يبوئ العقل منزلته التي يستحقها، وأفرز عبر تاريخه ظواهر بشرية غريبة وسلوكات إنسانية تند على الفهم العقلي.
وسنحاول في هذه العجالة إلقاء نظرات عجلى على جانب من التجربة الصوفية في المغرب في العصور المتأخرة، وهي جزء من التجربة الصوفية عند المسلمين في عصور الضعف والانحطاط، إلى أن يسمح المقام بتفصيل أكثر.
فنقول :
تشكل التجربة الصوفية بالمغرب عنصرا جوهريا في البنية الثقافية المغربية إن لم نقل إن هذه التجربة، في العصور المتأخرة، أصبحت لحمة الثقافة المغربية وسداها. ذلك ما أحاول بيانه في هذه النظرات السريعة التي جعلتها على شكل تأملين نقديين سريعين وخاتمة:
التأمل الأول : في هذا التأمل أقف عند أصل وطبع :
- أقصد بالأصل ما يتعلق بما أسميه بالنشأة الآخرة للثقافة المغربية وهي النشأة التي جاءت بعد ما أصبح يسمى بموت العلم في المغرب. لقد عرف المغرب قبل القرن الثامن نهضة علمية كبرى سرعان ما خبت جذوتها ما بعد ابن خلدون، إن صح لنا أن نحقب تاريخ الثقافة المغربية ما قبل ابن خلدون وما بعده، نشأت الثقافة المغربية نشأة أخرى أو بعبارة صاحب المورد الهني أن العلم إنما أحياه بالمغرب ثلاثة من الشيوخ : سيدي محمد بن أبي بكر الدلائي ، وسيدي محمد بن ناصر في درعة، وسدي عبد القادر الفاسي بفاس. إن الملاحظة الأولى التي نسجلها هاهنا هي نشأة الثقافة المغربية نشأة صوفية ابتداء من القرن التاسع الهجري السادس عشر الميلادي… نحن هنا بطبيعة الحال بعيدين عما وقع في أوربا عندما تمت النشأة الأخرى للثقافة الغربية على أساس الرياضيات مع ديكارت ونقد العقل مع كنط والقول بالسيرورة والتحول مع هيجل. هذا ليس حكم قيمة طبعا، إنما وجب التنبية للمقارنة فقط وذلك لتقدير حجم المسافة…..
- أما الطبع فأقصد به هذه الملاحظة العميقة التي قررها صاحب فهرس الفهارس في كتابه الغني وهي ملاحظة تتعلق بطبع المغاربة في الكتابة، نحن نعرف أن المغاربة قد عرفوا بقلتهم في التأليف وعرفوا كذلك، ولعل الأمر هو نتيجة لما سبق، بعدم احتفالهم برجالهم وتدوين أخبارهم، لكن ملاحظة الكتاني التي تقول إن المغاربة يؤلفون بحسب البضاعة النافقة في زمانهم لا على حسب مقدرتهم ومعلوماتهم ستفسر لنا بشكل كبير وفرة المؤلفات الصوفية في المغرب وانصراف النخبة المغربية إلى التقييد الصوفي للاستجابة لرغبة المغاربة النهمة إلى الكتب الصوفية فترتب عن ذلك إهمال أنواع أخرى ومهمة من التقاييد العلمية.
التأمل الثاني
أتناول فيه مسألتين :
- المسألة الأولى تتعلق بعلاقة التجربة الصوفية بالتجربة الدينية في المغرب:
- والمسألة الثانية تتعلق بمفهوم الولي في المغرب الذي هو حامل التجربة الصوفية ومنتجها.
1 -
المسألة الأولى في علاقة التجربة الدينية بالتجربة الصوفية؛
نتساءل أولا: ماذا نقصد هنا بالتجربة الدينية ثم التجربة الصوفية؟ التجربة الدينية هي لحمة بين عقيدة في المطلق وبين سلوكات وأعمال موجهة بضراعة وخشوع نحو هذا المطلق. في جميع التجارب الدينية نجد هذين العنصرين حاضرين، في ديننا الحنيف التجربة الدينية هي عقيدة وعمل، إيمان وإسلام، أما التجربة الصوفية فهي أولا جزء من التجربة الدينية ثم هي ثانيا تأويل باطني لهذه التجربة. من هذه المنطلق نلاحظ أن علاقة التجربة الصوفية بالتجربة الدينية في إطار الممارسة الصوفية في المغرب تتخذ أحد مظاهرها الصارخة مظهر توسيع ومظهر تضييق.
* أقصد بالمظهر الأول عدة أمور أقدمها على شكل تجارب صوفية من الممارسة الصوفية المغربية، وقد اخترت كلمة "توسيع" على أي كلمة أخرى لتجنب ما أمكن أحكام القيمة.
- إذا كان علم الحديث من أهم العلوم التي أسسها المسلمون وضبطوا قواعدها بمنطق علمي صارم فإننا نلاحظ أن أسانيد الصوفية أوسع من أسانيد أهل الحديث : فالصوفية يقبلون في أسانيدهم الانقطاع في الرواية، فعدم الاتصال المباشر بين رجال السند لا يقدح فيه لأنه قد يكون انتسابا روحيا بين الشيخ وخلفه.. كما يلاحظ في المجال نفسه أن افتتان الصوفية بالسند العالي جعلهم يختلقون ما أصبح يسمى بالمعمر، فهذا عبد الحي الكتاني ينقل في فهرس الفهارس اسم معمر عاش قرابة 700سنة. كما يلاحظ في المجال نفسه ظهور رواية عالية عن شمهروش قاضي الجان والرواية عن طريق الخضر.
- يمكن أن نعتبر التجربة الصوفية كما تجلت في الملاماتية ضربا من توسيع لهذه التجربة الدينية: فالملاماتي يبيح لنفسه فعل ما لا يبيحه الشرع وذلك ليصرف الناس عنه لأنه يحب الاستتار. إن التجربة الدينية تتسامح مع كثير من الناس الذين يدركهم ما يسمونه ب"الجذب العظيم" فيسقط عنهم التكليف.
- توسيع المجال العلمي لقبول علوم تنتمي إلى مجال غرائبي فأصبحنا في الإطار الصوفي نتحدث عن علم الأسماء الذي يستخدم به الجان وغيرها من العلوم التي يقتحم بها عالم الغيب….،
- قبول التجربة الدينية المغربية التتلمذ على الأميين، فأصبحنا نتحدث عن الأميين الذين اعتبروا في تاريخ الثقافة المغربية من كبار العارفين، فهذا محمد بن عبد الحفيظ الدباغ كان من كبار العارفين وكان أميا وكان كثير الاجتماع بالنبي في اليقظة والمنام وكان يجتمع بالخضر كما يحكي عنه صاحب السلوة[1].
2 –
أنتقل إلى المظهر الثاني الذي يتجلة في تضييق التجربة الصوفية للتجربة الدينية، وآخذ كمثال على ذلك ما تلح عليه التجربة الصوفية من الزهد وترك الطيبات حتى لتكاد تحرمها على المرء " قل من حرم زينة الله .." يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك .." وأخذ المريدين بأساليب من التربية لقهر نفوسهم بالذل والإهانة : ولنا في الإشارة إلى الطريقة التي ربي بها ابن عجيبة أبلغ قول.
المسألة الثانية تتعلق بمفهوم الولي كما تجلى في التجربة الصوفية المغربية :
إذا كانت الولاية في التجربة الدينية مرتبطة بالإيمان والتقوى والعمل الصالح في رحلة إلى الله في إطار حياة عادية لإنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فإننا أصبحنا في إطار التجربة الصوفية نجدنا أمام ظواهر بشرية جديدة كادت أن تقلب النظر في مفهوم الإنسان ذاته :
يكاد عالم الأولياء في المغرب أن يكون عالم الأقطاب والأوتاد والأفراد والأجراس بل وأيضا عالم المجاذيب والبهاليل، وقد بلغ الكتاني في السلوة عن بعض الأكابر أنه كان يقول في رجال خارج باب الفتوح بفاس "كادوا أن يكونوا أنبياء" ويعتقد الكتاني نفسه أن الأمر كذلك[2]. فأصبحنا نسمع عن صوفية يشاهدون الذات الإلهية عيانا كما هو حال الشيخ سدي محمد بن علي الزمراني الطالب دفين باب الفتوح من مدينة فاس[3]،.لكن ما يستحق التأمل حقا هو انتشار ظاهرة البهاليل في المغرب. ينظر إلى البهلول في الثقافة الصوفية باعتباره ذلك الشخص الذي ظاهر فعله خراب وباطنه صواب[4]، فهذا صاحب السلوة وهو يتحدث عن أبي الشتاء الخمار ويقول عنه إنه وإن كان من كبار المشايخ والأحوال الربانية والجذب ودوام الغيبة فقد كان بينهم جليلا فياضا ساقط التكليف يقول وهذا محل الشاهد "كان وقته كثير البهاليل وأكثرهم ممتدون منه"، فكأنه بهذه الشهادة شيخ البهاليل في المغرب. لكن ما يلفت النظر قي هذا الصنف من الأناسي أنهم يطلبون من الناس أمورا ينكرها الشرع ويشكل الامتناع عن الاستجابة لهم عقابا لهم : فهذا أحدهم يطلب من الحافظ لسانه ليمصه فلما امتنع أصيب باللقوة[5]، وهذا سيدي بوعياد الورياكلي دفين دار الصاغة من عدوة القرويين بفاس كان يفعل أفعالا ينكرها الشرع : منها ما يستحيي المرء من أن يحكيها في هذا المقام، ومع ذلك فالعامة مطبقون على ولايته والتبرك به.[6] وهنا أمثلة كثيرة عن ذلك يمكن تعقبها في السلوة وغيرها.. فظاهرة الأولياء المجاذيب والبهاليل الذين يخرمون ظاهر الشرع أصبحت عامة في تاريخ المغرب بل وفي المشرق كذلك في العصور المتأخرة.....
خاتمة :
إن التجربة الصوفية هي محايثة بقوة للتجربة الدينية عند المغاربة، وقد عدها المغاربة عنصرا أساسيا من بنيتهم الدينية، واعتبروا الجنيد إمامهم في هذا المضمار، لكن ما اشتهر عن هذا الصوفي السالك أنه كان يعتبر التجربة الصوفية مقيدة بالكتاب والسنة وهو الأمر الذي وقع فيه تجاوز كبير في العصور المتأخرة. فضلا عن ذلك فالتجربة الصوفية هي في عمقها تجربة فردية وقد أبرز لنا تاريخ الصوفية شطحات كثير منهم يوقع التصريح بها العوام في تخبط فكري وعقدي كبير....وللموضوع مسالك وشعب لها قول آخر....
________________________________________
[1] - سلوة الأنفاس للكتاني ج1 الترجمة رقم 335.
[2] - سلوة ج2 رقم الترجمة 598.
[3] - السلوة ج2 الترجمة 437. وص 187.
[4] - السلوة ج 2 ص 34.
[5] - فهرس الفهارس ص 252.
[6] - سلوة الأنفاس ج1 ص 161-161.
تعليق