أحلام الكحالي
أنهى بسام المنور دراسته الجامعية ، وعاد إلى بلدته حاملاً معه طموحاته العريضة التى كانت الهدف بالنسبة له .. إذا ما الذي يمنع من أن يصل الى رأس الهرم في بلده ؟! ولكي يضع قدمه على الطريق الصحيح ، بدأ البحث عن عمل في مجال تخصصه ، ألا أن الصعوبات راحت تقف أمامه الواحدة تلو الأخرى حتى ضاقت في وجهه السبل.. ولكن لا.. ما هكذا يمكن أن تتبخر طموحاته وآماله ، فاستطاع بعزمه وإصراره أن يجتاز العديد من العقبات والإخفاقات التي اعتبرها تافهة ، وقرر أن يفتح مكتباً للخدمات ، لتصريف أعمال المواطنين وإتمام معاملاتهم الرسمية في الدوائر الحكومية ، وكم أسعده أن وجد غرفة تشرف على مكتب الخدمات الوحيدة المملوك للسيد مرزوق ، وقرر أن يتخذها مكتباً له .. مما أعاد إليه البسمة التي باتت لا تفارق وجهه الحسن
خيل له طموحه ، بأنه سوف يخطف الأضواء ، وبأنه يستطيع أن يجتذب الكل إلى مكتبه ، كان غالباً ما يذرع مكتبه ذهاباً وإيابا في أنفة وكبرياء ليقنع نفسه بأن الزبائن سوف يطرقون بابه إن عاجلاً أم آجلاً ، وساعتئذٍ سوف يقدرونه حق قدره ، ويعرفون من هو بسام المنور ، الذي لن يعجزه حل أية مشكلة قد تعرض عليه ، وكيف يطرق أبواب المسؤولين ليخلص معهم أمور موكليه ، ولكن الأيام تمضي ، ولا أحد يطرق بابه إلا تلك القلة من الصُّيّع الذين يأتون إليه للثرثرة وطحن الهواء ، وشرب القهوة ، ثم يغادرونه دون أن يكلفه أي منهم بقضية أو حل لإشكال ، وبات لا هم لديه إلا مراقبة رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية والسياسية المرموقة وهم يدخلون ويخرجون من مكتب السيد مرزوق لقضاء حاجاتهم ، وفي كثير من الأحيان لمناقشة القضايا الحياتية اليومية ، وها هو الوقت يمضي ولا أحد يطرق بابه إلا ذلك النفر القليل من الصُيع بقصد الثرثرة لا أكثر ، وبدأ يستشعر مرارة الهزيمة التي بدأت تزرع في أعماقه شيئاً من الضغينة والحقد على مرزوق وزواره الذين راح يصفهم بالتافهين وأصحاب النفخة الكذابة
وبعد تفكير عميق أدرك بسام أنه كان مخطئاً عندما اعتقد أنه باستئجار مكتب يشرف على مكتب مرزوق يستطيع أن يرصد تحركاته ، وأن يخطف زبائنه ، وبعد كل ذلك الفشل ، أدرك بأنه سيصاب بمس من جنون إن هو أبقى مكتبه مقابل مكتب مرزوق ، أخذ يفكر في نقل مكتبه إلى مكان آخر وسرعان ما وجد الحل ، فالدار التي تربى فيها كبيرة وإخوانه وأخواته الذين كانوا يملأونها يوماً ما قد تزوجوا جميعاً وكل منهم رحل إلى منزله الجديد ليبدأ حياة جديدة ولم يبق في الدار الآن سوى أمه بعد أن مات والده ، فماذا يحدث لو أن أمه نقلت مكان إقامتها إلى إحدى الغرف الداخلية واستعمل هو الغرفة المتواجدة مقابل الشارع كمكتب ؟ وما أن طرقت الفكرة رأسه حتى انفرجت أساريره وشاعت ابتسامة الرضى في وجهه وراح يردد لنفسه: "إنه الحل الوحيد الذي يكفل لي حل كل مشاكلي ، وعلى رأسها أزمتي النفسية التي كادت أن تذهب عقلي ، علي أن أكون موضوعياً ، لقد قيل رأس الحكمة معرفة الذات ، ولكن ماذا سأفعل إن اعترض أشقائي على هذا الأمر؟ سوف يتذكر كل واحد منهم بأن له حقاً في الدار ، وربما طالبوني بدفع أجرة ، أو ..لا .. لا.. إن أمورهم المادية جيدة ولن يقفوا حجر عثرة أمامي ، سوف أجد آلف طريقة وطريقة لإقناعهم" .
اتسعت الابتسامة بين شفتيه ،وضرب صدره في كبرياء ، ولكن سرعان ما تبدلت ملامح وجهه ، وتنهد في غيظ وهو يردد لنفسه،" إن نيران الغيرة والحسد سوف تحرقني إن أبقيت مكتبي مقابل هدا اللعين ، أنا لا أريد أن أموت بالسكتة القلبية ، آه منك يا زمن ، تباً لطالعي ، إن هذا المرزوق مرزوق فعلاً .. ولكن يجب أن لا أستسلم ، لقد أمضيت عمري أحرض ضده ،أطلقت عليه مختلف النعوت السلبية ، اتهمته بالفساد ، أطلقت عليه اسم أحد رجال المخابرات البارزين لكي أصمه بالعار ، ولكن لم يصدقني أحد سوى بعض المعا تيه من أقربائي ، والمصيبة أنني كلما حرضت عليه زادت مكانته الاجتماعية والسياسية ، وأنا مكانك سر" وعاد يتنهد في حرقة قبل أن يردف لنفسه : "لماذا يا ربي ؟! ربي رحماك من هذا العذاب ، قلبي يكاد ينفطر من الأحزان ، ما العمل ؟! علي أن أتماسك خاصة وأني معروف لدى الجميع بقوة شخصيتي وبنجاحي بعد النجاح الذي حققته أثناء الدراسة ، علي أن أحافظ على هذه الصورة حتى لا أفقد احترامهم ، إنهم لا يعلمون بم أفكر ، ولكن الناس لها الظاهر.."..
وتيقظت حواسه فجأة عندما رأى رهطاً من رجال الشرطة يحيطون بمكتب "مرزوق" وراح يخمس ويسدس ،"أيمكن أن يكون قد وقع التيس ؟.. أيمكن أن تكون جاءت من غائب علمه؟!" وفي تشف بائن هتف: "وأخيراً وقعت يا مرزوق ، سوف أتصل بالأصدقاء وأقول لهم ، لقد حضرت الشرطة لكي تفتش في مكتبك عن المخدرات .. سوف أتصل بالصديق سلمان ، الذي سوف يطير فرحاً ، سيحلق في الجو كالعصافير.. ياااااااااااه"
وما أن غدا عند قمة النشوة في التشفي ، حتى صدمه منظر الداخل إلى مكتب مرزوق، فنفخ غيظه وحنقه الذي فقأ النشوة والسعادة التي تولدت في أعماقه ، وفي انكسار حدث نفسه : " يا الله .. خاب ظني .. إن قاضي القضاة بعظيم قدره يقوم بزيارته ..كيف سيصدقني الناس بعد الآن ؟ وأنا أتهمه بأبشع التهم ؟ لا بأس .. إن هناك من الأقرباء والأصدقاء من البسطاء سيصدقون كل ما سأقوله ، وأصحاب المصلحة في نشر الشائعات أياً كانت ،سوف يصدقون ، خاصة عندما يعتقدون بأنه يشكل خطراً على نفوذهم ، لا .. لا.. المشكلة أنه لا يرد على الشائعات ، أشتمه ليل نهار.. أمام جميع الناس ، وأحياناً ً تصب شتائمي في أذنيه مباشرة ، ولكنه لا يكترث ، فأنا لست رقماً في معادلته ، سأتفجر إذا ما واصل تجاهله لي ، ثم نفخ غيظه وحنقه وسخطه وهو يغني بصوت شائه الألم: "أنا من ضيع بالأوهام عمره" …
ولكنه صمت فجأة ، ثم عاد يقول لنفسه بصوت فيه حدة وغيط:
- إذا كنت أعيش في الوهم فمن الأفضل لي أن انتحر..
ثم صعد إلى بيت أمه ، وقد اكفهرت ملامح وجهه ، وبان الأسى والحسرة في عينيه .. وما أن رأته أمه وهو يتأفف ويتأوه حتى تساءلت في جزع:
- مالك يا حبيبي؟
- الوضع الاقتصادي خانني ..لم أنجح في توفير أجرة المكتب.
فهزت أمه رأسها وهي تقول بصوت لم يخل من توبيخ :
- احمد الله حتى ربنا يوفقك يا ابني..احمد الله .. أنا عمري ما سمعتك تحمده في يوم من الأيام
وفي صوت لم يخل من لهوجة وارتباك قال:
- الحمد لله.. الحمد لله ..لكن يجب أن نجد الحل..
أخذ يتجول في الغرفة الرئيسية المطلة على الشارع العام..ثم أغمض عينيه مفكراً : "هل يجعلها مكتباً ، أم غرفة انتظار؟!!".. راح يحدث نفسه بصوت مسموع تسلل إلى أذني أمه : "يفضل أن تكون غرفة انتظار ، وأما الغرفة المواجهة لها من الداخل ستكون غرفة مكتب لي..هنا آتي بسكرتيرة جميلة ..آه.. سكرتيرة..هذه الحركة غابت عني في المرة الأولى"…ثم هزّ رأسه في إعجاب بالفكرة ، ففاجأته أمه بصوت لم يخل من قلق:
- آخر الحال أضحيت تحاكي نفسك..
- لا..لا.. يا ست الحبايب .. أرجو أن تفكري معي قليلاً ثم إني لا أستطيع الاستغناء عن دعائك لي بالتوفيق
- الدعاء مقدور علي..رح الله يوفقك ويوفق إخوتك.. ولكن ما باستطاعة من هي مثلي أن تعمل ؟!
- أنت الخير والبركه ، ما رأيك أن أنقل مكتبي للغرفتين الأماميتين وتنقل عفشات الدار للغرفه الداخلية ؟ وهكذا أوفر مكتبا لي وأنت ترتاحين من تنظيف الغرفتين .. إن تنظيف وتعسيف الدار كل يوم يسبب لك التعب ..ويجب أن ترتاحي ..
رشقته أمه بعينين اغرورقتا بالدموع وهي تقول بصوت متلجلج :
- أنت عارف أن زوارنا كثيرون ، كيف أنام ونجلس في الداخل ونحشر زوارنا ..ثم كيف تتسع الغرفة الداخلية لأخوانك وأخواتك وأولادهم .. أعتقد أن عليك البحث عن مكان آخر.. الله يرضى عليك ..
تابع حديث أمه والغضب يغلي في أعماقه ، وما أن صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها حتى صرخ في وجهها قائلاً بصوت حاد امتلأ بالجفاء:
- أنت كبرت وعجزتِ تريدين يومك ويوم غيرك ؟ أنت بزيادة عليك غرفه الداخلية .
ثم شرع ينقل الأثاث الموجود في الغرفة التي كان يقف بها ، والمطلة على الشارع العام ، إلى الغرفة الداخلية ، وأخذ يكدسه فوق بعضه البعض ، وأمه تقف غير مصدقة لما تسمع وترى ، وبصوت حزين قالت:
- هذه أخرتها معك يا بسام ..؟
- لا أولها والا آخرها .. هذا هو قرار
- وهل وصل بك الحال إلى هذا الحد ؟
- يالله ..قومي بسرعة عن الكرسي لا وقت لدي لمثلك..!!
في هذه اللحظة فوجئ بسام بأخيه محسن وهو يدخل إلى الغرفة التي باتت خاوية من أثاثها ، فتساءل محسن في دهشة :
- ما هذا . هل تريدون إخلاء الدار، أم رشقوها؟.
هنا استأنست الأم بحضوره وراحت تروي له ما فعله شقيقه بسام ، وفي تردد قال محسن:
- يا أخي ألا تعتقد أنه كان عليك أن تستشيرنا أولاً؟..
- إنكم تعيشون في بيوتكم فرحين ، وهذا هو بيتي وأنا حر فيه..
- ألا تعلم ان ما خلفه أبوك لك ولأخوتك.. ارجع كل شيء مكانه قبل ما أحرمك عتبتها..
وقبل أن ينطق بسام كانت يداه تأخذان بتلابيب شقيقه محسن ، الذي رد حركته بصفعة حادة أدارت رأسه ..فراحت الأم تصرخ وتبكي والعراك يشتد بين ولديها ..وفجأة ، سقطت على الأرض مغشياً عليها ..وعندما رآها بسام ، أصيب بجزع كبير، فجرى من الدار وهو يصيح:
- انكم تريدون أن أضيع وأنجن..
وابتعد عن المنزل وهو يصرخ ويصيح .. في حين أخذ محسن يعمل على إعادة الوعي لأمه.
أنهى بسام المنور دراسته الجامعية ، وعاد إلى بلدته حاملاً معه طموحاته العريضة التى كانت الهدف بالنسبة له .. إذا ما الذي يمنع من أن يصل الى رأس الهرم في بلده ؟! ولكي يضع قدمه على الطريق الصحيح ، بدأ البحث عن عمل في مجال تخصصه ، ألا أن الصعوبات راحت تقف أمامه الواحدة تلو الأخرى حتى ضاقت في وجهه السبل.. ولكن لا.. ما هكذا يمكن أن تتبخر طموحاته وآماله ، فاستطاع بعزمه وإصراره أن يجتاز العديد من العقبات والإخفاقات التي اعتبرها تافهة ، وقرر أن يفتح مكتباً للخدمات ، لتصريف أعمال المواطنين وإتمام معاملاتهم الرسمية في الدوائر الحكومية ، وكم أسعده أن وجد غرفة تشرف على مكتب الخدمات الوحيدة المملوك للسيد مرزوق ، وقرر أن يتخذها مكتباً له .. مما أعاد إليه البسمة التي باتت لا تفارق وجهه الحسن
خيل له طموحه ، بأنه سوف يخطف الأضواء ، وبأنه يستطيع أن يجتذب الكل إلى مكتبه ، كان غالباً ما يذرع مكتبه ذهاباً وإيابا في أنفة وكبرياء ليقنع نفسه بأن الزبائن سوف يطرقون بابه إن عاجلاً أم آجلاً ، وساعتئذٍ سوف يقدرونه حق قدره ، ويعرفون من هو بسام المنور ، الذي لن يعجزه حل أية مشكلة قد تعرض عليه ، وكيف يطرق أبواب المسؤولين ليخلص معهم أمور موكليه ، ولكن الأيام تمضي ، ولا أحد يطرق بابه إلا تلك القلة من الصُّيّع الذين يأتون إليه للثرثرة وطحن الهواء ، وشرب القهوة ، ثم يغادرونه دون أن يكلفه أي منهم بقضية أو حل لإشكال ، وبات لا هم لديه إلا مراقبة رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية والسياسية المرموقة وهم يدخلون ويخرجون من مكتب السيد مرزوق لقضاء حاجاتهم ، وفي كثير من الأحيان لمناقشة القضايا الحياتية اليومية ، وها هو الوقت يمضي ولا أحد يطرق بابه إلا ذلك النفر القليل من الصُيع بقصد الثرثرة لا أكثر ، وبدأ يستشعر مرارة الهزيمة التي بدأت تزرع في أعماقه شيئاً من الضغينة والحقد على مرزوق وزواره الذين راح يصفهم بالتافهين وأصحاب النفخة الكذابة
وبعد تفكير عميق أدرك بسام أنه كان مخطئاً عندما اعتقد أنه باستئجار مكتب يشرف على مكتب مرزوق يستطيع أن يرصد تحركاته ، وأن يخطف زبائنه ، وبعد كل ذلك الفشل ، أدرك بأنه سيصاب بمس من جنون إن هو أبقى مكتبه مقابل مكتب مرزوق ، أخذ يفكر في نقل مكتبه إلى مكان آخر وسرعان ما وجد الحل ، فالدار التي تربى فيها كبيرة وإخوانه وأخواته الذين كانوا يملأونها يوماً ما قد تزوجوا جميعاً وكل منهم رحل إلى منزله الجديد ليبدأ حياة جديدة ولم يبق في الدار الآن سوى أمه بعد أن مات والده ، فماذا يحدث لو أن أمه نقلت مكان إقامتها إلى إحدى الغرف الداخلية واستعمل هو الغرفة المتواجدة مقابل الشارع كمكتب ؟ وما أن طرقت الفكرة رأسه حتى انفرجت أساريره وشاعت ابتسامة الرضى في وجهه وراح يردد لنفسه: "إنه الحل الوحيد الذي يكفل لي حل كل مشاكلي ، وعلى رأسها أزمتي النفسية التي كادت أن تذهب عقلي ، علي أن أكون موضوعياً ، لقد قيل رأس الحكمة معرفة الذات ، ولكن ماذا سأفعل إن اعترض أشقائي على هذا الأمر؟ سوف يتذكر كل واحد منهم بأن له حقاً في الدار ، وربما طالبوني بدفع أجرة ، أو ..لا .. لا.. إن أمورهم المادية جيدة ولن يقفوا حجر عثرة أمامي ، سوف أجد آلف طريقة وطريقة لإقناعهم" .
اتسعت الابتسامة بين شفتيه ،وضرب صدره في كبرياء ، ولكن سرعان ما تبدلت ملامح وجهه ، وتنهد في غيظ وهو يردد لنفسه،" إن نيران الغيرة والحسد سوف تحرقني إن أبقيت مكتبي مقابل هدا اللعين ، أنا لا أريد أن أموت بالسكتة القلبية ، آه منك يا زمن ، تباً لطالعي ، إن هذا المرزوق مرزوق فعلاً .. ولكن يجب أن لا أستسلم ، لقد أمضيت عمري أحرض ضده ،أطلقت عليه مختلف النعوت السلبية ، اتهمته بالفساد ، أطلقت عليه اسم أحد رجال المخابرات البارزين لكي أصمه بالعار ، ولكن لم يصدقني أحد سوى بعض المعا تيه من أقربائي ، والمصيبة أنني كلما حرضت عليه زادت مكانته الاجتماعية والسياسية ، وأنا مكانك سر" وعاد يتنهد في حرقة قبل أن يردف لنفسه : "لماذا يا ربي ؟! ربي رحماك من هذا العذاب ، قلبي يكاد ينفطر من الأحزان ، ما العمل ؟! علي أن أتماسك خاصة وأني معروف لدى الجميع بقوة شخصيتي وبنجاحي بعد النجاح الذي حققته أثناء الدراسة ، علي أن أحافظ على هذه الصورة حتى لا أفقد احترامهم ، إنهم لا يعلمون بم أفكر ، ولكن الناس لها الظاهر.."..
وتيقظت حواسه فجأة عندما رأى رهطاً من رجال الشرطة يحيطون بمكتب "مرزوق" وراح يخمس ويسدس ،"أيمكن أن يكون قد وقع التيس ؟.. أيمكن أن تكون جاءت من غائب علمه؟!" وفي تشف بائن هتف: "وأخيراً وقعت يا مرزوق ، سوف أتصل بالأصدقاء وأقول لهم ، لقد حضرت الشرطة لكي تفتش في مكتبك عن المخدرات .. سوف أتصل بالصديق سلمان ، الذي سوف يطير فرحاً ، سيحلق في الجو كالعصافير.. ياااااااااااه"
وما أن غدا عند قمة النشوة في التشفي ، حتى صدمه منظر الداخل إلى مكتب مرزوق، فنفخ غيظه وحنقه الذي فقأ النشوة والسعادة التي تولدت في أعماقه ، وفي انكسار حدث نفسه : " يا الله .. خاب ظني .. إن قاضي القضاة بعظيم قدره يقوم بزيارته ..كيف سيصدقني الناس بعد الآن ؟ وأنا أتهمه بأبشع التهم ؟ لا بأس .. إن هناك من الأقرباء والأصدقاء من البسطاء سيصدقون كل ما سأقوله ، وأصحاب المصلحة في نشر الشائعات أياً كانت ،سوف يصدقون ، خاصة عندما يعتقدون بأنه يشكل خطراً على نفوذهم ، لا .. لا.. المشكلة أنه لا يرد على الشائعات ، أشتمه ليل نهار.. أمام جميع الناس ، وأحياناً ً تصب شتائمي في أذنيه مباشرة ، ولكنه لا يكترث ، فأنا لست رقماً في معادلته ، سأتفجر إذا ما واصل تجاهله لي ، ثم نفخ غيظه وحنقه وسخطه وهو يغني بصوت شائه الألم: "أنا من ضيع بالأوهام عمره" …
ولكنه صمت فجأة ، ثم عاد يقول لنفسه بصوت فيه حدة وغيط:
- إذا كنت أعيش في الوهم فمن الأفضل لي أن انتحر..
ثم صعد إلى بيت أمه ، وقد اكفهرت ملامح وجهه ، وبان الأسى والحسرة في عينيه .. وما أن رأته أمه وهو يتأفف ويتأوه حتى تساءلت في جزع:
- مالك يا حبيبي؟
- الوضع الاقتصادي خانني ..لم أنجح في توفير أجرة المكتب.
فهزت أمه رأسها وهي تقول بصوت لم يخل من توبيخ :
- احمد الله حتى ربنا يوفقك يا ابني..احمد الله .. أنا عمري ما سمعتك تحمده في يوم من الأيام
وفي صوت لم يخل من لهوجة وارتباك قال:
- الحمد لله.. الحمد لله ..لكن يجب أن نجد الحل..
أخذ يتجول في الغرفة الرئيسية المطلة على الشارع العام..ثم أغمض عينيه مفكراً : "هل يجعلها مكتباً ، أم غرفة انتظار؟!!".. راح يحدث نفسه بصوت مسموع تسلل إلى أذني أمه : "يفضل أن تكون غرفة انتظار ، وأما الغرفة المواجهة لها من الداخل ستكون غرفة مكتب لي..هنا آتي بسكرتيرة جميلة ..آه.. سكرتيرة..هذه الحركة غابت عني في المرة الأولى"…ثم هزّ رأسه في إعجاب بالفكرة ، ففاجأته أمه بصوت لم يخل من قلق:
- آخر الحال أضحيت تحاكي نفسك..
- لا..لا.. يا ست الحبايب .. أرجو أن تفكري معي قليلاً ثم إني لا أستطيع الاستغناء عن دعائك لي بالتوفيق
- الدعاء مقدور علي..رح الله يوفقك ويوفق إخوتك.. ولكن ما باستطاعة من هي مثلي أن تعمل ؟!
- أنت الخير والبركه ، ما رأيك أن أنقل مكتبي للغرفتين الأماميتين وتنقل عفشات الدار للغرفه الداخلية ؟ وهكذا أوفر مكتبا لي وأنت ترتاحين من تنظيف الغرفتين .. إن تنظيف وتعسيف الدار كل يوم يسبب لك التعب ..ويجب أن ترتاحي ..
رشقته أمه بعينين اغرورقتا بالدموع وهي تقول بصوت متلجلج :
- أنت عارف أن زوارنا كثيرون ، كيف أنام ونجلس في الداخل ونحشر زوارنا ..ثم كيف تتسع الغرفة الداخلية لأخوانك وأخواتك وأولادهم .. أعتقد أن عليك البحث عن مكان آخر.. الله يرضى عليك ..
تابع حديث أمه والغضب يغلي في أعماقه ، وما أن صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها حتى صرخ في وجهها قائلاً بصوت حاد امتلأ بالجفاء:
- أنت كبرت وعجزتِ تريدين يومك ويوم غيرك ؟ أنت بزيادة عليك غرفه الداخلية .
ثم شرع ينقل الأثاث الموجود في الغرفة التي كان يقف بها ، والمطلة على الشارع العام ، إلى الغرفة الداخلية ، وأخذ يكدسه فوق بعضه البعض ، وأمه تقف غير مصدقة لما تسمع وترى ، وبصوت حزين قالت:
- هذه أخرتها معك يا بسام ..؟
- لا أولها والا آخرها .. هذا هو قرار
- وهل وصل بك الحال إلى هذا الحد ؟
- يالله ..قومي بسرعة عن الكرسي لا وقت لدي لمثلك..!!
في هذه اللحظة فوجئ بسام بأخيه محسن وهو يدخل إلى الغرفة التي باتت خاوية من أثاثها ، فتساءل محسن في دهشة :
- ما هذا . هل تريدون إخلاء الدار، أم رشقوها؟.
هنا استأنست الأم بحضوره وراحت تروي له ما فعله شقيقه بسام ، وفي تردد قال محسن:
- يا أخي ألا تعتقد أنه كان عليك أن تستشيرنا أولاً؟..
- إنكم تعيشون في بيوتكم فرحين ، وهذا هو بيتي وأنا حر فيه..
- ألا تعلم ان ما خلفه أبوك لك ولأخوتك.. ارجع كل شيء مكانه قبل ما أحرمك عتبتها..
وقبل أن ينطق بسام كانت يداه تأخذان بتلابيب شقيقه محسن ، الذي رد حركته بصفعة حادة أدارت رأسه ..فراحت الأم تصرخ وتبكي والعراك يشتد بين ولديها ..وفجأة ، سقطت على الأرض مغشياً عليها ..وعندما رآها بسام ، أصيب بجزع كبير، فجرى من الدار وهو يصيح:
- انكم تريدون أن أضيع وأنجن..
وابتعد عن المنزل وهو يصرخ ويصيح .. في حين أخذ محسن يعمل على إعادة الوعي لأمه.
تعليق