الرهــان والـــوتــد القــاتــل
ككل من هم في سنه ، لم يعد عيسى يفكر إلا في الكيفية التي تمكنه من التخلص من الشقاء الذي يصبح ويمسي عليه . لقد أعياه العمل في المجال الفلاحي مع أبيه . الأيام تتشابه ، فهي كلها ضنك ، وكدح ، وروتيـن ممل إلى حد الثمالة . العمل صباحا ومساء ، والمستقـبل مجهول مع أب ما زال تفكيره تقـليديا إلى حد القرف . فهو لا حق له في المطالبة بأجر عمله ، لأن أباه هـو الوصي عليه في جميع أموره رغم أنه أصبح متزوجا وراشدا ومسؤولا عـن أسرة لها مطالب وطموحات آنية ومستقبلية فرضها العصر بإلحاح . لكن كيف السبيل إلى تحقيقها في ظل وضعيته الحالية التي تبدو أمام عينيه سوداوية إلى حد التشاؤم واليأس ؟ ابنه البكر ، يراه ينمو ويترعرع أمام عينيه ، ولا يريده أن يواجه نفس المصير الذي يعيشه هـو . هذه الوضعية الكابوس ، التي أصبح يعيشها عيسى حولت حياته إلى جحيم لا أحد يعلمه إلا هـو . لقد أصبح يفـضل العزلة والانطواء ، وغاب عنه مرحه الذي عرف به داخل أسرته
. فهو دائم الشرود ، والتفكير والتيه في عوالم الغد الذي يريده أن يكون مشرقا وضاء متلألئا كتلألئ الشمس في كبد السماء . إنه طالما حدثه أحد من أفراد عائلته ولم ينتبه إلى كلامه إلا بعد سماع قهقهات الضحك المتعالية من حوله ، والتي كانت تعنيه بالدرجة الأولى . تكرار تصرفات عائلته معه دفعته إلى تجنب الجلوس معها ، وحب الخلوة أكثر . هذا التغير المفاجئ في حياة عيسى أقلق عائلته التي لم يقـو أي فرد فيها على مفاتحته فيه لمعرفة سره ، ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان . فالعائلة تعرف مزاجه الحاد ، وعصبيته الزائدة عـن الحد . لهذا تركـت للقدر وحده تولي أمر ما عجزت عن فعله .
عيسى بعد الانتهاء من عمله ، وللهروب من نظرات عائلته التي تطارده وتلاحقه كظله ، وجد له ملاذا في المقهى الذي كان يلتقي فيه مع أصدقائه ، ويلعب معهم الورق ، ويتجاذب معهم أطراف الحديث حول القرطيط " الخماس " الذي كان يعمل عند أبيه وهاجـر إلى فرنسا وبعد غياب سنة عاد وفي رصيده مبلغ مالي مهم وسيارة
لا أحد يملك نظيرا لها في القرية التي يسكن فيها . التحول الذي عرفته وضعية القرطيط في ظرف وجيز،أضحى حديث العام والخاص في القرية و جعل أكثر من واحد يفكر في الهجرة إلى بلاد الأحلام والعم سام . لم لا والقرطيط " الخماس " موجود في القرية ، ويعرض على الراغبين في الذهاب إلى فرنسا أداء ثمن " الكـونطرادا " فقط .
إنها فرصة من ذهب ، هكذا قال عـيسى في نفسه . فالقرطيط سبق له أن عمل عند أبيه ، وإن هو فاتحه في أمر الذهاب لا شك أنه سوف لن يرده خائبا . لكن ما السبيل للوصول إلى القرطيط ؟ فهو قد أصبح رجلا مهما بعدما كان منبوذا في السابق لا أحد يرغـب في الحديث معه أو مصادقته ، أو الجلوس معه . ولمحو هذه الصورة القاتمة التي ما زالت تؤرق ذهنه وتجعـل الكرى يهجر جفنيه عندما يعود إلى بلده ،أقام القرطيط وليمة وعزم إليها أهـل القرية دون استثناء .
لقد كان يوم الوليمة مميزا بليلته المقمرة الهادئة القائظة ، وبـ " شيخات الأطلس " اللائي فـتـنّ عـقـول الشباب والشيب وهـن يهـززن رمانات صدورهـن الممتـلئة ، ويحركن أردافهن المكـتـنزة على إيقاع الكمنجة في شكـل دائري مثير لم يألف رؤيته القرويون من قـبل عـن كـثـب ، طورا يمينا ويسارا، وأطوارا أخـر إلى الأمام وإلى الخلف في حركات خفيفة تأسر الألباب ، وتحيي الميت من النفـوس ، وتعيد الشباب إلى من شاب ، والرجولة والفحولة إلى من أصابه العجز . إنها " فياغرا" من إبداع مغربي خاص .
لم ينس عيسى السبب الأساس الذي أتى من أجله ، فاغتنم فرصة انشغال المدعوين برقص الشيخات ، ومرور القرطيط بمحاذاته فخاطبه قائلا :
ــ سنتـذكرك كثيرا بهذه الليلة أ القرطيط .
ــ تستحقـون كـل الخيـر يا عيسى ، لكن أيـن هــو أبوك ، إني لم أره حتى الآن ؟
ــ إن الحياء يمنعه من الوقوف بجانبي ، إنه في الجهة المقابلة لي مع البخشوش ، انظر كيف يضحك ، وكيف يشد على قفاه من الضحك كأنه ابـن العشريـن .
اشرأبّ القرطيط ذو القامة القصيرة لرؤيته من بين أصحاب الرؤوس الواقفة أمامه لكنه لم يستطع رغم محاولاته المتكررة والدؤوبة ، فعدل عـن ذلك موصيا عيسى أن ينقـل إليه سلامه الحار ، وعرفانه له بجميله السابق وهمّ بالانصراف ، لكن عيسى استوقفه وقال له :
ــ إني أريد أن أتكلم معك في أمر مهم شرط أن يبقى سرا بيننا .
ــ أنا رهـن إشارتك ، لكن لغط الناس وصياحهم يمنعاني من سماعك ، تمتع بهذه الليلة كبقية الناس وغدا أراك في المقهى صباحا لتناول الفطور هناك ، فالأسرار لا يكشف عنها في الأعراس والأسواق ، وأماكن الاختلاط والازدحام إلى حد الاختناق .
كان القرطيط يتكلم مع عيسى وهو ماش لأن أحد الطالبيـن كان ينادي عليه ويستعجله الأمر ، وما أن غاب عن أنظاره حتى هم ّ منصرفا إلى داره على أمل أن يستيقظ باكرا ولا يُخلف الموعد الذي يَعقد عليه الكثير من الآمال والأحلام . التقى الطرفان ، وتم الاتفاق بينهما على أن يرسل القرطيط " الكونطرادا " لعيسى بمجرد عودته إلى عمله على أساس أن يكون سداد الثمن بعد الذهاب والعمل .
بـرّ القرطيط بوعده وأرسل " الكونطرادا " لعيسى الذي بعد القيام بالإجراءات القانونية استطاع الذهاب إلى فـرنسا والنزول عنده حيث استقـبله استقبالا حارا ، وأكرم ضيافته ، ويسّر له مأموريته . مرت سنة من العمل استطاع عـيسى خلالها أن يؤدي ما عليه من دين نحو القرطيط ،وأن يجتاز امتحان السياقة بنجاح ، وأن يشتري سيارة . جـِدّه في العمل جعل مشغله يضرب به المثل في الانضباط ، وينوّه به ، إلى درجة أنه أصبح مقربا منه لثـقـته فيه وتفانيه في العمل بوجوده أو غير وجوده . على عكس العمال الذين يعمل معهم ، فبمجرد ما يغيب ربّ العمل إلا ويتوانون ويتقاعسون عـن القيام بواجبهم فتقـلّ جديتهم في العمل من جهة وتقـل معها كمية الغلة المجموعة في نهاية العمل من جهة أخرى ، الشيء الذي كان يغـيظ رب العمل دون استطاعته القيام بأي شيء لمعاقبة المتهاونيـن نظرا لحاجته إليهم . فجني الغلة لا يحتمل التأخر ، وتسليمها في الوقت المتفق عليه إلى أرباب المصانع جعلاه في حاجة إلى كل العمال ، بل إلى المزيد من أجل الوفاء بالتزاماته مع كل الأطراف وفي الآجال المحددة ، لهذا كان يستحملهم على مضض . أضف إلى ذلك المرض العضال الذي يعاني منه والذي جعـل من عيسى الذراع الأيمن له . فهو يعتمد عليه ويثق فيه ثقة كاملة لأنه جرّبه أكثر من مرة ، ووجده أهلا للثقة والاعتماد عليه في السراء والضراء . هذه المكانة التي أصبح يحظى بها من لدن رب عمله هي التي كانت تشفع له بالبقاء أكـثـر وعدم زيارة أهله في المغرب رغم مرور أربع سنوات بالكامل على غـيابه عـن بـيته . لكن الرسالة الأخيرة التي تلقاها من زوجته قلبت حياته رأسا على عـقـب ، ودفعته إلى التعجيل بالعودة قصد تدبر أمر ابنه المراهـق الذي انحرف عن الجادة كما جاء في الرسالة التي توصل بها .
عاد عيسى إلى أهله ، وفي نفس الليلة التي وصـل ، لاحظ تغير ابنه المهدي الذي لا يحمل من هذا الاسم إلا الاسم ، لقـد كبـر إلى درجة أن من يراه يعطيه أكثر من عمره الحقيقي . فـرغم عودة أبيه من المهجر لم يغير عادته . فمنذ انقطاعه عـن الدراسة ، كان لا يعود إلى النوم إلا بعد منتصف الليل ، وهو نفـس السلوك الذي قام به رغم حضور أبيه . لاحظ الأب كل شيء لكنه لم يشأ الحديث معه في الأمر قصد تـنبيهه ودعوته إلى الانضباط وترك أصدقاء السوء الذين يرافق . لقد أجل ذلك إلى يوم لاحـق كي لا يعكر جو السعادة الذي خيم على الدار بقدومه ، فالعائلة مجتمعة ، والظرف غـير مناسب لتـقـديم النصائح والإرشادات و....
في يوم الغد الذي يصادف عيد ميلاد المهدي كان عيسى ينوي الحديث معه في الأمـر لكنه لم يفعل ، ولن يفعله أبدا .
لماذا ؟
المهدي الذي كان يرتدي " سلهاما " لجده ، كعادته اجتمع مع أترابه حيث كانوا يلعبون الورق على ضوء شمعة لا تكاد تضيء نفسها في ليلة دامسة شديدة السواد حيث لا يمكـنك أن تـتبيـن ما يجري حولك على بعد أمتار قـليلة . لقـد خسر كـل المال الذي أعطاه أبوه ، ولم يعد له الحق في اللعب ، لكنه كان يلح على اللعب ، ويطلب من الملـقـب بـ " الجذام " أن يقرضه مائة درهم ليجرب حظه من جديد . هذا الأخيـر ، وتحت إلحاح المهدي ، وكي يتخلص من عناده فـقـط وافـق على طلبه لكن بشرط قائلا
له :
ــ هــل تريد فعلا مائة درهم ؟
ــ نعم وغـدا سوف أعيدها إليك بمجرد ما أتسلمها من أبي .
ــ إذن عليك أن تذهـب إلى المكان المسمى بـ " عـيـن الرماد " وتـدق هذا الوتد هناك . وإذا فعلت ونجحت سوف أعطيك مائة درهم أخرى في الصباح عندما أتأكد من قيامك بالعملية المتفق عليها . فما رأيك ؟
أحجم المهدي عن الجواب وبدأ يتلعثم في كلامه لأنه يعي جيدا خطر المهمة التي كـُلف بالقيام بها . فـ " عـيـن الرماد " معروفة بجنية تسكنها وفي ليلة مثـل هذه مستحيـل القيام بمغامرة غـير محسوبة العـواقـب . سكـوت المهدي دفع الملقب بـ " الجذام " إلى إثارته واستـفـزازه بنزْعه عنه صفة الرجولة ، فما كان من المهدي إلا أن قبـل التحدي . أخذ منه الوتـد ، وتوجــه قاصدا " عيـن الرماد ". في طريقه إلى العين التي تبعد بحوالي كيلومترين عـن مكان وجود رفاقه ، كان المهدي يحمل معه شمعة أضاءها ليهتدي بها إلى طريقه الوعرة ، وبعد قطعه لأكثر من نصف المسافة ، اعـتـقـد أنه سمع هـسيسا كان كافيا ليضطرب ، ويزلّ ويفـقـد توازنه لتسقـط من يده الشمعة وتنطفئ . حاول المهدي العثور عـليها لكن دون جدوى .
لقد جلس وتسمّر في مكانه مرهفا السمع للتأكد من خلو المكان من أي مخلوق، ففكر في العودة ، والعدول عن فكرة دق الوتد . لكن ماذا سوف يقـول عنه أصدقاؤه في الغد ؟
التـفكـيـر في ألسنة أصدقائه اللاذعة دفعه إلى متابعة سيره بخطى وئيدة ، لكن الظلام الذي كان يخيم على المكان كان يزيده رهبة وفي نفس الوقت إصرارا على ربح رهان التحدي . مسافة قصيرة أصبحت تـفـصله عن تحقيـق ما عجز عن تحقيقه كل أبناء القرية ،غـيـر أنها كانت بالنسبة إليه طويلة إلى ما لا نهاية له . لقد بدأ يحس بشعر رأسه يقف ، وفرائصه ترتعد ، والعرق يغطي كل شبر في جسده . بالكاد من شدة الفزع أصبح يحرك قدميه ويتحامل على المشي . العين أمامه ، الأمور تبدو عادية لا شيء يبعث على الخوف الآن ، هكذا قال في نفسه وهـو يمشي مشية المتثاقل إلى أن وصل . لما أخرج من جيبه الوتد الذي كان مشحوذا من جهته السفلى كالسكين ، وهـمّ بدقه في الأرض
رأى امرأة قريبة منه لابسة البياض وعينيها كالجمرتين تشعان نورا ، وهي تنظر إليه دون أن تطرف لها عين ، أو أن تصدر منها أي حركة . ما رآه المهدي بأم عينيه كان كافيا تحت وطأة الخوف لدفعه إلى العدول عـن إتمام العملية التي أتى من أجلها ، حيث ولى هاربا بأقصى سرعة ، ودون إبطاء . لكنه أثناء هربه زلـّت قدمه فسقـط على الوتد ـ الذي كان ما زال يحمله في يده ـ السقطة التي لن يقف بعدها أبدا .
أصدقاؤه الذين كان يلعب معهم الورق، بعد انتظار طـويل ، تـفـرقـوا وذهب كل واحد إلى داره ظنا منهم أن المهدي خاف وذهب إلى منزله كي ينام . عيسى انتظر المهدي طويلا إلى أن نام وهو جالس في فراشه . لما أسفـر الصباح ، شاع الخبـر الفاجعة في القرية ، كالنار في الهشيم . لـقـد عثر أحد الفلاحين على المهدي جثة هامدة سابحة في بركة من الدماء .
أحمد القاطي
تعليق