عدت إلى منزلي خائر القوى، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا و قدأنهيت عملي الآن فقط!
كم شارعا مشيت و كم منزلا دخلت و كم وجها رأيت!
و كم ألف كلمة قلتها و كم كذبة لفقت!
تحت المياه الدافئة أنقع جسدي أتركها تنضو عنه عوالق اليوم من غبار و عرق و إرهاق.
لوهلة تمنيت لو كنت قادرا على فتح جلدي لشلال الماء المندفع لينضو ما علق بروحي أيضا من غبار النهار!
متى بدأ هذا الأمر؟
منذ عام؟ منذ عامين؟
لم أعد أذكر!
كل ما أذكره هو أنني لم أعد أنا، أصبحت اثنين كلاهما يكره الآخر و يتمنى أن يقضي عليه، اثنين متناقضين، أحدهما هو أنا كما أعرفني، نبتة خضراء يانعة نتحتها أرض المنصورة الخصبة الزكية، غذّتها بكل ما في قلبها الطاهر من صدق و أمانة و نقاء.
و الآخر هو ذلك المندوب الذي لا أعرفه، زهرة بلاستيكية مصطنعة تحيا في مدينة صاخبة، ألوانها كاذبة، براعمها كاذبة، و حتى رائحتها كاذبة!
و يمضي الأنا المزيف ليسيطر على كل حياتي، يزج بي في سباق واهم من أجل الهدف الشهري، ثم النصف سنوي، ثم السنوي، يبيع أغراضا لا تقنعني بأسعار لا ترضيني، يقسم في حماس يشرح جودتها و أهميتها و أنا أتابعه في احتقار و أهتف متألما من داخل أسر ضلوعي:
- كاذب! كاذب!
لكنه يخرسني و يرسم ابتسامته الماهرة و لمعة عينيه المبهرة و ينمق كلمات مريرة الطعم على لساني فيضحك معه العميل من حداثة طرفتي قد أعجبته سرعة بديهتي و لا يعلم كم أنها قديمة معادة كررتها حتى مللتها لكنني أتقنت عرضها و أتقنت ارتجال الضحكة و أتقنت كل جوانب الكذبة!
و حين أرى رضاه في عينيه، و حين تداعب أنفي المدرب رائحة نضجه على نيران ترغيبي، أخرج بالورقة الأخيرة ألوّح بها في وجهه المخدّر:
"البضاعة المباعة لا ترد و لا تستبدل"
و أعلم عن يقين أنه سيوافق، يجب أن يوافق، بلهفة يوافق ليمنح الشركة التي تملكني نقطة التفوّق القانوني، و يوقّع بكل سذاجة وثيقة انتصاري!
حتى إذا انصرفت و خلا لنفسه ساعة، أفاق من تأثير بسماتي و سحر كلماتي و لكن بعد فوات الأون!
عندها أكون قد ابتعدت بصيدي أعيد الشريط لضحية أخرى أبتز دماءها كي أضعه أرقاما في جدول إنجازاتي!
و تمضي الأيام تجر بعضها بعضا و تجرني معها فلا تسمح لي حتى باللهاث، تحت سلخات النهار الطويل تمضي نفسي المكدودة لا تتوقف كي تتساءل، لا تقوى على أن تتوقف، لا وقت حتى للتفكير!
بعد دوراني المستمر منذ الصباح و حتى عمق الليل لا يبقى في كياني ذرة تريد، أو ترى، أو تظن!
كل ما أتمناه الآن هو أن أندس في فراشي، و في الصباح أبدأ دوامة أخرى، و هكذا يكون كل شيء على مايرام!
لهذا بالضبط كنا في قريتنا نغمي أعين الثور قبل أن نضعه كي يدوّر الساقية، كم أشفقت اليوم على ذلك الثور المسكين!
دون كلمة زائدة أغمض عينيّ أستسلم للغيبوبة!
طوال الليل أراني أتوسط أكبر ميادين المدينة، معصوبة عينيّ مربوطا في ساقية معدنية تبدو عليها حداثة القرن الحادي و العشرين، أدور و أدور و أدور، أمامي يقف مدير الشركة التي أعمل بها منتفخ الأوداج في بذلته الغالية، يحدثني بلهجته الممطوطة مستخدما كلمات أجنبية كي يذكرني بجنسيته الفخمة التي ابتاعها من بلاد بعيدة.
من ساقيتي يتدفق نهر ذهبي يتلألأ تحت أشعة الشمس الحارقة، أبتلع ريقي الجاف و أنا أنظر إليه، أشتهيه، لكنه ينصب بكامله في أرض بعيدة، تزهر منها أوراق و عملات، كلها ليست لي.
السوط في يد المدير يلسعني به كلما أبطأت، لكنني لدهشتي الشديدة لا أشعر بالألم!
و لا أشعر بالتعب و لا بالجوع و لا بالعطش، لا أشعر بشيء!
فقط أدور صامتا في الفلك الذي صمموه لي، و لساني يلهج بكلمات لا أفهمها.
أيقظني إلحاح رنين المنبه يلكزني بعنف، نهضت لاهثا كي أرى الصبح يتسلل إلى غرفتي من بين خصاص النافذة.
يوم جديد!
و على عملي شهيد!
ألقيت بضع لقيمات في فمي، ارتديت ثيابي و بسمتي و عصابة عيني، و مضيت أذرع الشوارع من جديد.
أقرع الأبواب، أبذر التحيات الباسمة، أحصد الأموال و العرق و الدماء، ألقي بالأرقام في جدولي.
واجهني عميل جديد، تركني أسكب في أذنيه أشعار النفاق أقنعه قسرا أنه يحتاج بضاعتي التافهة، بل إن حياته لن تكتمل إلا بها!
سألني ببراءة سؤالا واحد:
- هل اشتريتها أنت؟
تجاهلت السؤال، عدت أجدل له الوعود و العهود، سألني:
- أنت عربي؟ مصري أليس كذلك؟
أومأت له بإيجاب فتابع:
- من أي مكان في مصر؟
قلت:
- من المنصورة.
قال و قد تهللت أساريره:
- بلديات! أنا أيضا من المنصورة.
ابتسمت في حنين، رأيت في ملامحه طيبة أمي و حنان أبي و شقاوة إخوتي و ابتسامة حبيبتي.
انتبهت من غفوتي، نفضت أفكاري سريعا و رحت أتابع حديثي المحفوظ.
سألني من جديد:
- هل ستشتريها أنت؟
صَمَتُّ و قد أربكني السؤال، فكرتُّ: هل أجيب مؤكد؟
هل أهتف مؤيدا؟
هل أتابع التمثيلية الهزلية و أبكي مرة أخرى دما؟
صرخت من أعماق الدمية التي أرتديها:
ألم يبق فيك و لو بقايا ضمير؟
هل تغش ابن عمك تلقي بما تبقى من هويتك في النار؟
أي عار! أي عار!
ستكون تلك أصعب كذبة!
الخزي أكبر من أن أحتمل!
العصابة تؤلم عينيّ لم أعد أقوى عليها!
في لحظة انهار القناع الباسم، لملمت بضاعتي و غمغمت بصدق أخيرا:
- كلا، لن أفعل أبدا!
ابتسم بدهشة غير فاهم، ربتُّ على كتفه، شددت على كفه، و مضيت في طريقي!
في قلب البحيرة الفخمة التي تحويها المدينة ألقيت عصابتي!
لم توقفني نظراتهم المندهشة و لا صيحاتهم المستنكرة.
سألني المدير:
- كيف تضحي براتبك الكبير؟! لن تجد شركة واحدة تمنحك مثله و لا حتى نصفه!
لم أتراجع!
لقد ألقيت العصابة ألقيتها و لم أعد أستطيع الدوران!
راح يقنعني:
- أنت مندوب ممتاز، كيف تترك هذا العمل؟ لماذا تترك هذا العمل؟
راح يسكب لي الوعود، يحاول أن يسكرني بالعهود، يحاول أن يقنعني أن أبيعه ذاتي من جديد!
ابتسمت ساخرا لنفسي، لو كنت مكانك لكنتُ قد أقنعتُني بالفعل الآن!
بتهكم تمتمت قبل أن أغلق الباب خلفي للأبد:
- عفوا أيها المدير، أنت لا تصلح لوظيفة المندوب!
* * *
تعليق