قصّة موسى بين النّقل والتأويل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحلام الحلواني
    أديب وكاتب
    • 21-06-2009
    • 208

    قصّة موسى بين النّقل والتأويل

    بسم الله الرحمن الرحيم

    قصة موسى - عليه السلام - بين النقل والتأويل

    الحمد لله الذي أنزل على حبيبه القرآن , ليكون هُدى للناس ونورا , والصلات والسلام على خير الأنام , كان للمؤمنين رحمة ورسولا . أما بعد :

    قصة موسى - عليه السلام - شغلت العلماء والمفسرين على مرّ التاريخ منذ نزول القرآن الكريم , إلى أيامنا هذه . من الناس من أخذها كعبرة للأمم , فلم يقف إلا على ظاهر الآيات القرآنية ومواعظها , ومنهم من أوغل فيها ليُغطي الفراغات بين محطاتها بالاستئناس بكتب الأديان الأخرى , كاليهودية والنصرانية , والاجتهادات الشخصية , ونقل ما جرى على ألسنة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ( رضوان الله عليهم جميعا ) دون الرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ومنهم من ذهب وراء الباحثين في النصوص التي تركها الفراعنة واليونان والرومان والكلدانيين على جدران المباني والقبور والصخور والألواح وورق البردى . حتى من أراد الرجوع إلى أمهات التفاسير , فسيجد الحشو الاسرائيليّ , وشطحات المؤولين , وخيالات المُحللين من عُشاق قراءة القصص الأسطورية مُتربعة هُناك براحة ويُسر . إذا ما سألت أحدا من أين جئت بهذه الرواية ؟ يُسارع بالرد : وردت في ابن كثير , أو القرطبي , أو الزمخشري .. وهكذا , لنرجع إلى هذه الكتب ونسأل أصحابها عن مصادرهم التي اعتمدوا عليها , لنجد الرد : قيل , وسمعت عن فلان حدثنا فُلان ... دون رفع الكلام إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
    نحن لسنا أعلم من هؤلاء العلماء , لكنني أزعم أننا على اطلاع أوسع في شتى العُلوم , بعد الثورة المعلوماتية العالمية , وسهولة الوصول إلى كل ما توصل إليه العلم منذ ذلك الزمان , فمع التراكمات العلمية , وبزوغ شمس بعض النظريات بعد التثبت من حقيقتها , وأفول نجم أخرى بعد إثبات خطأها , سنُحاول أن نسرد قصة موسى - عليه السلام - تماما كما سردتها النصوص القرآنية في الآيات المتفرقة بين سُوَره , ونُحدد الأماكن , ونُعين الأرض المباركة , ونُبين الأرض المُقدسة . ونُبعد الأنظار نهائيا عن تُرّاهات اليهود حول هذه القصة , ونطوي صفحة , طالما اعتمدها عُلماء ومُفسرون على أنها حقيقة قائمة . وما هي في الحقيقة إلا حشو , جاء من خيال أحبار اليهود , وشطحات بعض الرّواة .

    ولادة موسى عليه السلام

    يقول سبحانه وتعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :

    طسم

    تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين
    نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
    إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
    وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
    وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ
    وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
    فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ
    وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
    وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
    وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
    وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
    فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
    القصص ( 1- 13 )


    من بداية القصة , أخبرنا الله بما يُفيدنا , إذ ليس هُناك ذكر كامل لأنباء موسى وفرعون , لكنّ ما ذكره لنا هُو الحق , وما ذكره لنا ليس بقليل أيضا .
    فرعون علا وتكبر وتجبر , وكانت من سياسته التفريق بين الطوائف , وبالتالي التفريق في المُعاملة , لكنه كان أقسى ما يكون , مع طائفة العبرانيين , الذين هُم : بني إسرائيل . فاستعبدهم , واستضعفهم , وقتل أبناءهم , وترك نساءهم أحياء , كأنه ينتقم منهم . ولم يذكر الله سبحانه عن خلفية هذا الاجراء من قتل الأبناء واستحياء النساء , وكل القصص التي قرأتها عن الحلم الذي رآه فرعون حول طفل يولد من بني إسرائيل , فيكبر , ويقود شعبه ليدمر مملكة فرعون , أو النار التي تأتي من ناحية بيت المقدس , وكل القصص المُشابهة , ليس لها أصل أبدا , وما جاء عن ابن عباس ليس له دليل يدعمه , أو يوصله إلى صحة الحديث , أو ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولو كانت فعلا حقيقية , لذكرها الله كما ذكر رؤيا ملك يوسف - عليه السلام - لأهميتها , حتى العهد القديم عند اليهود لا يذكر ذلك , بل يذكر أمرا , قد يكون قريبا من الحقيقة , وهو غيظ فرعون من بني إسرائيل لكثرة مواليدهم , وخوفه من تناميهم في المُستقبل , فيسيطروا على مصر كما فعلوا من قبل , أيام نبي الله ( يوسف ) عليه السلام , وتحكمهم بالاقتصاد المصري بأمر من الملك الذي طلب منه يوسف - عليه السلام - أن يكون مسؤولا على مخازن الأرض من الحبوب والمنتجات الزراعية , وهكذا كانت لبني إسرائيل المكانة العالية في مصر , حتى تمكن الفراعنة الأقباط من هزيمة الفراعنة الهُكسوس , الذين كانوا حلفاء لبني إسرائيل , كما ورد في كُتب التاريخ . إذاً , هل هُناك ما يدلُّنا على أنّ هذا الاجراء ( من قتل الأبناء واستحياء النساء ) وارد عند هذا الملك المُتعالي الجبار , دون أن يكون هُناك حُلم أو ما شابه ؟ نعم , في قوله تعالى : ( وقال الملأ من قوم فرعون : أتذر موسى وقومه ليُفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ قال : سنُقتّل أبناءهم , ونستحي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون ) 127 الأعراف . وهذا الكلام كان بعد أن سار موسى - عليه السلام - وقومه ليلا . وسنأتي على ذكر هذا المشهد لاحقا إن شاء الله . نفهم من تحذير الملأ من قوم فرعون , أن بني إسرائيل سبق لهم أن أفسدوا في الأرض ( حسب ادعائهم ) وأنهم لم يدينوا بدين فرعون , ونبذوا آلهته , والعقاب : تقتيل الأبناء , واستحياء النساء . كما أن هذا العقاب ليس دائما , بل مؤقتا , على حسب ما يرتأيه فرعون . لأنه لو كان دائما , لانقرض بنوا إسرائيل من بعد ولادة موسى - عليه السلام - حتى رجوعه , وتخليص بني إسرائيل .
    خافت أم موسى على ولدها ( الذي شاء الله أن يولد في فترة التقتيل ) من الذباحين من جنود فرعون , فلم تعرف كيف تتصرف , ليوحي الله إليها بأن تُرضعه ( ربما , لِألا يبكي ويبقى هادئا ) وتضعه في الصندوق , ثم تُلقيه في النهر , ليلتقطه عدو الله وعدوه . وقد اختلف العلماء في قضية الوحي , فمنهم من اعتبره إلهاما , ومنهم من قال بأنه كان هاتفا بواسطة الوحي جيريل ( عليه السلام ) , لأن الله طمأنها , ووعدها برده إليها . لكنني أرى أنه لو كان جبريل ( عليه السلام ) لرأت آية حيّة أمامها تجعلها تطمئن جيدا , ولما أصبح قلبها فارغا , وما كادت تودي به , لولا أن الله ربط على قلبها , وصبّرها . فماذا حصل : الله أوحى لها بواسطة التخيُّل , ألقى في قلبها ( سيناريو ) الانقاذ , إي بالالهام , لأنها ليست نبيّ , وإلا ما كانت لترمي بابنها في النهر , ولكن ما من حل أمامها غير أن تؤمن بما رأته في إدراكها اللاواعي من خلال الايمان بالخالق , فبقيت غير متأكدة من فعلها النشيء عن الالهام الرباني لها , والدليل : أنها طلبت من ابنتها أن تُراقبه من بعيد , وقلبها أصبح فارغا من الصبر , لتخرج هي أيضا وراءه , لكن الله ربط على قلبها , وأعطاها شُحنة إضافية من الصبر . فما كان إلا ما أوحى الله لها . وجده آل فرعون , فالتقطوه من النهر , وهمّوا ليقتلوه , لأنهم علموا بأنه من بني إسرائيل , ولكن زوجة فرعون نهتهم عن ذلك , وأقنعت زوجها أنه يُمكن الاستفادة منه , إذ ليس له أهل , وهم ليس لهم ابن ( قُرّة عين لي ولك ) فلماذا لا يكون لهم ابنا ومؤنسا ؟ ولو كانت مسألة قتل الأولاد تتعلق بحُلم رآه الفرعون , وآمن به , ما تركه لحظة واحدة على قيد الحياة . وافق فرعون على فكرة زوجته , فأمرت له بمرضعة , تلو أخرى , والطفل لا يقبل أيا منهن . وأخته بطبيعة الحال جاءت إلى المكان بعد النداء على المرضعات , أي أنها دخلت عليهم لسبب قوي , وهو حاجة بيت الفرعون إلى مُرضعة . فنصحتهم بمرضعة . وهُنا , لم تسترد أم الطفل طفلها فحسب , بل نالت أجرا من زوجة الفرعون على إرضاعه , وعلمت أن إلهام الله لها كان حقا وصدقا , وأن الله على كل شيء قدير . هُنا ينتهي السرد القصصي القرآني عن حياة موسى - عليه السلام - الرضيع . والغريب , أن العهد القديم أيضا يتوقف عند هذه النقطة , لينتقل مُباشرة إلى مرحلة الشباب , فمن أين جاءت قصة التمرة والجمرة لموسى الطفل ؟ إذ أن هُناك من قال : أن موسى - عليه السلام - شدّ بقوة لحية الفرعون , فهم الأخير بقتله , فقالت له زوجه أنه غير مُدرك , ولتُدلل له على صدقها , أحضرت إليه تمرة وجمرة , فقالت : إن التقط التمرة فاقتله , وإن التقط الجمرة فلا تفعل , فجاء جبريل - عليه السلام - وأمسك بيد الطفل ليلتقط الجمرة , فالتقطها ووضها في فمه , فكانت العُقدة التي طلب من الله لاحقا أن يفكها له . وهذه القصة لا أراها إلا ضربا من الخيال , وعليها علامات استفهام كبيرة , إذ أن فرعون قرر الابقاء على حياة الطفل وهو رضيع , وزوجته لم تتعلق به بعد , فما باله يفعل وقد تعلقت به زوجه ؟! كما أن فرعون لم يكن تافها وغبيا إلى هذه الدرجة ليفحص طفل ويختبره بهذه الطريقة الساذجة . لأنه يعلم أن الطفل بمجرد لمسه للجمرة , سيرميها من فوره , لأنه لن يتحمل حرارتها , ما بالنا به يحملها , ويتمكن منها ليُصوبها نحو فمه , ويضعها على لسانه , تكون قد أحرقت أصابعه بالكامل , كما أنه من المعروف عن الأطفال التقاطهم لأي شيء أمامهم حتى يتفحصوه , خاصة إذا كان غريبا عنهم , فإن كان يعرف التمرة من قبل , فسيلتقط الجمرة حتما للتعرف عليها . إذا , ما هي العقدة التي كانت في لسانه ؟ سنذكرها إن شاء الله في حينها .


    يتبع
  • أحلام الحلواني
    أديب وكاتب
    • 21-06-2009
    • 208

    #2
    فترة الشباب

    قال سُبحانه :


    وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
    وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
    قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
    قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ
    فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ
    فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
    وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
    القصص ( 14 - 20 )


    موسى - عليه السلام - علم بأنه من بني إسرائيل , فكان مُحسنا لله , إذ آتاه الحُكم لموقعه الاجتماعي في كنف فرعون , والعلم على صِغر , جزاء من الله خالصا . وفي يوم من الأيام , دخل المدينة في وقت كان أهلها غير مُتواجدين في طُرقاتها , لنوم , أو لأي سبب آخر , فوجد في طريقه رجلين يقتتلان , أحدهما من بني إسرائيل , والآخر من قوم فرعون . بما أن الله قال : يلتقطه عدو لي وعدو له , فهو يقصد : فرعون وقومه . فاستنجد به الاسرائيلي لما يعلمه من موسى , وما لديه من حظوة عند الفرعون , فجاء ليُبعد القبطي , فيبدو أن القبطيّ لم يشأ ترك الاسرائيلي , مما اضطر موسى ليضربه بجمع يده , وكزه ولم يقصد ايذاءه أو قتله , لأنه ندم بعد موت القبطي , ولأنه يعلم عقوبة من يقتل قبطيا عند الفراعنه , وكذلك في دين أجداده : لا يجوز له قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , فطلب العفو والمغفرة من الله , فغفر له , لأنه العليم بما في قلب موسى من حُسن نيّة . ولكن فرعون لا يؤمن بحُسن النيات . فما كان من موسى - عليه السلام - إلا أن يشكر الله على هذه النعمة ( الايمان والقُوّة ) , وأنه لن يكون نصيرا للمُجرمين . فمن عنى بالمجرمين ؟ . الاسرائيلي استصرخه ليُبعد عنه القبطيّ , لكنه لم يطلب منه أن يقتله , إذا , ما الذي جعله يقول ذلك ؟ لا شك أن موسى - عليه السلام - عندما وكز القبطي فقضى عليه , اكتشف أن الاسرائيلي كان على خطأ , كما اكتشف أن الله أعطاه إضافة للعلم قوة هائلة . ألم تقُل ابنة الرجل الكبير من مدين : إن خير من استأجرت القويّ الأمين ؟ وهذه هي النعمة التي شكر الله عليها , لأنه لا يعرف إن كان الله قد غفر له . فأصبح موسى - عليه السلام - خائفا , يترقب الأخبار , إذ أنّه ليس متأكدا أن أحدا لم يره . وفي اليوم التالي , وجد الذي اسنصره بالأمس يستصرخه , فقال له : إنك غويُّ مُبين . والغواية كما نعلم , يتصف بها الشياطين , سواء من الانس أو الجنّ . وهذه المرّة لم يكن داخلا المدينة على حين غفلة من أهلها , أي أنّ النّاس كانوا يتجولون كالمُعتاد . كما أن الله لم يذكر مع من كان يتقاتل الذي استنصره بالأمس , مع قبطي أم إسرائيليّ مثله . ولا أدري كيف يفوت العلماء أمرا كهذا ليبدأوا بالتخمين , والاختلاف على من قال : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا في الأمس ؟! فالآية واضحة كما نراها جميعا . طلب منه في الأمس النُّصرة على عدوه , واليوم يطلب منه العون على من يُقاتل , أي أنه في الأمس استغاث به لأنه كان مقدورا عليه , أما اليوم فهو ليس مغلوبا , لكنه يطلب العون ليكون غالبا , فغضب منه موسى - عليه السلام - ووصفه بالغويّ المُبين , أي أنّه ضالٌّ ظاهر الضّلالة , ولا شك في ذلك . فهل يُعقل أن يأتي ليبطش بالآخر ؟ وهو قد وعد الله أن لا يفعل , ولا يُساند المجرمين ؟! لا بُد أن موسى - عليه السلام - غضب على هذا الغويّ , لأنه كان سببا في هذا الموقف البئيس من ترقب وحذر وخوف لما سيفعله فرعون به , فأراد أن يبطش به , فقال له : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا في الأمس , إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض , وما تُريد أن تكون من المُصلحين . وَهُنا قد تكون إشارة واضحة , على أن الذي كان يُقاتله هو أيضا من شيعته , لأنّه ( حسب الاسرائيلي ) يتوجب على موسى الاصلاح بين الرجلين , لا أن ينصر أحدهما على الآخر . كما أن الذي رأى موسى وهو يقتل الفرعوني , هو ذات الرجل الذي وصفه موسى - عليه السلام - بالغويّ . وبما أنّ الناس لم يكونوا في ساعة غفلة , فأكيد , سمع القول أحد أتباع فرعون , فأخبره . ولو أنّ الرجل الآخر كان فرعونيا , ما تركه موسى - عليه السلام - ليذهب بهذه البساطة ويخبر فرعون , لكن أمر الله نفذ , ووصلت الأنباء لفرعون , فأمر باعتقاله , ليعلم بهذا رجلٌ يُحب - موسى عليه السلام - ويخاف عليه , أو ربما سمعت زوجة الفرعون بمكره , فأرسلت هذا الرجل إلى ابنها موسى لتُحذره (( الله لم يذكر من هو الرجل , فلماذا التكهن والبحث عن هويته ؟! ))وليس بعيدا , أن تكون قد أرسلت إليه متاعا للسفر أيضا . السؤال : لماذا لم يوحي الله إلى موسى - عليه السلام - بأن القوم يأتمرون به , كما فعل مع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - عند محاولة اليهود لاغتياله ؟ لأنّه ببساطة , لم يكن عليه السلام قد أوتي النُّبُوّة بعد , وإنما جاءته بعد أن كلمه الله عند الطور . ولكن , بحُكم انتمائه إلى بني إسرائيل , عرف الله من أمه التي ولدته وأرضعته , وكذلك دين أجداده إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط , لهذا كان يدعوه , ويستغفره , ويتوب إليه عندما يُخطيء , كما كانت تفعل أمّه تماما . هناك أدلّة قاطعة أخرى على أن موسى - عليه السلام - لم يكن نبيا في ذلك الوقت , سنأتي على ذكرها في حينها إن شاء الله .

    يتبع

    تعليق

    • أحلام الحلواني
      أديب وكاتب
      • 21-06-2009
      • 208

      #3
      خروج موسى - عليه السلام - ولحاقه بأهل مدين



      وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ

      فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

      وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ

      وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ

      فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ

      فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

      قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ

      قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ

      قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
      القصص ( 20 - 28 )


      بما أن الرجل جاء من أقصى المدينة ناصحا موسى - عليه السلام - بالخروج من المدينة , مُخبِرا إياه ما يأتمر به الملأ , فالسعي هُنا يأتي بمعنى الركض والهرولة , وليس هُناك ضرورة للحديث عن طُرق مختصرة غير التي سلكها الجنود , حتى أنه ليس هُناك ذكرٌ للجنود , ناهيك عن مُطاردتهم لموسى - عليه السلام - كما أنه لم يعد من الضرورة لهذا الحشو القصصي بعد أن بُلِّغَ موسى - عليه السلام - بما يُعده فرعون وملأه له , وسماعه لنصيحة الرجل , وخروجه من المدينة خائفا يترقب , وهو يدعو الله أن يُنجيه من القوم الظالمين . وبما أن الله سبحانه قال بأنه توجّه تلقاء مدين , فهذا يعني أنه كان قاصدا الذهاب إلى مدين بالذّات , وليس بالضرورة أن يكون وحيدا في الطريق , إذ أنّه قصد مكانا رئيسا يسلُكُه التُجار والقوافل . فلما وصل عند مائها , وجد عليها أمّة من الناس , أي جماعة من النّاس , لم يُحددها , ومِن دونهم امرأتان تذودان , أي مُحتبستان , تحبسان أغنامهما لألا يختلطوا بأغنام الآخرين . فتقدم موسى - عليه السلام - منهما يسألهما عن سبب هذا التصرف , فشرحتا له حال أبيهما من الضعف لكِبر السن , وأنّهن ينتظرن الرعاة حتى يذهبوا عن المكان , لتسقيا غنمهما . الآن , كيف عرفنا أنهن يسقين الغنم مع أن الله لم يذكر ذلك ؟ لاشارات واضحة في الآية : أنهن تحدثن عن الرعاة , والرعاة يصطحبون أغنامهم وأنعامهم ولا ريب . وكذلك قول الله سبحانه : فسقى لهما , وكذلك : يسقون , ولا نسقي .... وهُنا نرى , أن ما حصل مع موسى - عليه السلام - من استغراب لرؤيته هذا المَشهد , حصل معنا نحن أيضا . إذ أننا تعودنا أن نرى الرجال يعرضون خدماتهم على الفتيات المُنكسرات الضعيفات , وغير الضعيفات , فلِماذا لم يفعل الرعاة ذلك مع الفتاتين ؟ في حين أن موسى الغريب عن المكان لم يرُق له ذلك , فقام ومد يد العون لهما . ووصفُ الفتاتين لأبيهما بالكبير , أي أنه لا يقدر على تحدّي هؤلاء الرعاة , ومزاحمتهم على بئر الماء الذي من الواضح أنهم يحتكرونه للأقواء منهم . كما أن هذا الأمر يُبين لنا بالوجه القاطع , أن أبا الفتاتين ليس شُعيبا - عليه السلام - ولا حتى كبير قومه وسيدهم . هو مُجرد رجل كبير كما وصفه القرآن , وهو أيضا صالحٌ , ويؤمن بالله الواحد . ولا يجوز أن نزيد على ذلك . بعد السقاية توجه موسى - عليه السلام - إلى الظلّ , وهو يشكر الله على هذه النّعمة التي أعطاهُ إياها , وهي كما ذكرنا , القُوّة الهائلة , التي قضت على الفرعونيّ بمجرد وكزه , واليوم مكّنته أن يقوم بمزاحمة الرعاة , وإبعادهم ليسقي للبنتين , وكذلك الأخلاق الحميدة التي جعلته يصنع الخير , وينصر المظلوم . وهُنا لا أعرف من أين جاءت قصة الصخرة الكبيرة التي كان الرُعاة يضعونها فوق ماء مدين ! وأنها تحتاج إلى عشرة رجال لازاحتها . فالمشهد واضح , إذ أن الأمة من الناس كانت لا تزال موجودة , والمرأتان تحبسان أغنامهما عن غنم الآخرين , وجاء موسى - عليه السلام - يسألهما والحال هذه , فسقى لهما بالمُزاحمة وليس بعد ذهاب الرعاة , ثُمّ رجعت البنتين إلى أبيهما يزفان إليه الخبر , ولم تُخفِ إحداهما إعجابها بقوة الرجل وأمانته , إذ أن الأمانة هُنا ليس لها سوى معنى واحد من كل ما حدث : العفّة والطهارة في التعامل مع أعراض الناس , فهو إذا أمين على العرض , ولو لم يكن كذلك , لطلب أجرا عن هذه الخدمة الكبيرة , لكنه سقى لهما دون النظر إليهما , أو أن يطلب حتى طعاما منهما . لذا , أرسل الرجل الكبير إحدى ابنتيه لتدعوه إلى بيته , بحجة أنه يريد أن يجزيه على صنيعه , فجاءته على استحياء , دليل العفة والطهارة , والبكارة أيضا , ولم تتكلم كثيرا . فجاء موسى - عليه السلام - إلى الرجل , وقص عليه حكايته , فطمأنه , وهنأه بالنجاة من القوم الظالمين , دليل بُعد مدين عن نفوذ الفراعنة . ثُمّ عرض عليه أن يُزوّجه إحدى ابنتيه , على أن يقوم برعي أغنامه مدة ثمانية سنين , أو عشرة إن لم يكن في ذلك مشقة عليه , وكان هذا بمثابة المهر الذي يُقدمه لعروسه , فأتمّ أبرّ الأجلين , كما ذُكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأنا لم أتبين الخلاف بين العلماء والمفسرين في هذه الآية والله , وصدقا أقول : أنني لا أدعي العلم أبدا , لكنني أعجب من هذا الخلاف حول استئجار الرجل الكبير لموسى - عليه السلام - مُقابل طعامه وكسوته , والآية واضحة تماما , إذ قال سبحانه : ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) فهو يُريد أن يُزوجه إحدى ابنتيه , والأجر , المهر ( فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهنَّ فريضة ) النساء : ثماني حجج من العمل عنده , وهو العمل الذي كانت تقوم به ابنتي الرجل , من رعي وسقاية بطبيعة الحال , ومن البديهي أن يأكل ويشرب ويلبس من عمله عند حماه وجد أبنائه . أما لو أراد أن يعمل مقابل طعامه وشرابه , لما تزوج إحدى ابنتيه , ولما حدد أجلا أصلا لذلك , فتحديد الأجل , يدل على قدر الأجر , أي : المهر .
      قبل الاسترسال بالحديث بعد قضاء موسى - عليه السلام - الأجل , وسيره مع أهله , علينا أن نُحدد المكان لمديَن . فقد جاء في مُجمل التفاسير على أنها قبيلة , سُمّيت باسم : مدين بن ابراهيم الخليل - عليه السلام - . وشُعيبٌ - عليه السلام - من خير أنسابها . كيف سنستدل على مكانها من خلال القرآن الكريم ؟
      قال تعالى على لسان نبيه شُعيب :
      ( ويا قومِ لا يجرِمَنّكم شِقاقي أنْ تُصيبَكُم مِثلَ ما أصابَ قومَ نوحٍ أو قومَ هودٍ أو قومَ صالحٍ , وما قومُ لوطٍ مِنكُمْ بِبَعيد ) , وهُنا أجمع العلماء على أن المقصود هو : بُعدي الزمان والمكان . وعليه , يتبين لنا أن التحول في الخطاب , من التعداد للأقوام المُصابة بعذاب الله , إلى إفراد قوم لوط بالبُعد المكاني والزماني , أي أن قوم لوط أقرب من ثمود ( قوم صالح / شمال المدينة المنورة ) , إذا فهي في مُحيط البحر الميت . وحتى نقترب من المكان أكثر , نأتي على عمل قوم شٌعيب - عليه السلام - .
      قال سُبحانه على لسان نبيه شُعيب أيضا :
      ( ويا قومِ أوفوا المكيالَ والميزانَ بالقِسطِ ولا تَبخَسوا الناسَ أشياءهم ولا تَعثَوا في الأرض مُفسدين ) هود . المكيال والميزان دليلا التجارة , وبخس الناس أشياءهم , أي استنقاصهم من قيمة هذه الأشياء , وهذا دليل ورود تجار من خارج المنطقة للمُبادلة بالسِّلع . إذا , مدين تقع على خط تجاري حيوي , ودليل ذلك , أن شُعيب - عليه السلام - ذكّرهم بنعمة الغِنى التي أنعمها عليهم , إضافة إلى الكثرة في الأنفُس , إذ قال سُبحانه : ( واذكروا إذ كنتم قليلا فكَثّرَكم ) .. ( الذين كذّبوا شُعيبا كأن لم يغنوا فيها , الذين كذّبوا شُعيبا كانوا هُمُ الخاسِرون ) الأعراف . ذكر العُلماء , أن أقرب مدينة إلى هذه الصِّفات , هي ( معان ) جنوب الأردن . كما بينت بعض الآثار فيها , على أن معان كتنت مُزدهرة تجاريا قبل ميلاد المسيح بمئات السنين , إذ كانت تمر منها القوافل تِباعا , من خط الحجاز / الشام , وخط مصر / الشام , وهي قريبة أيضا من البحر الميت , وقوم لوط - عليه السلام - .

      يتبع

      تعليق

      • أحلام الحلواني
        أديب وكاتب
        • 21-06-2009
        • 208

        #4
        موسى - عليه السلام - والتكليف الرباني

        فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
        فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
        وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ
        اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
        قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
        وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
        قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ
        القصص ( 29 - 35 )

        إذا , قضى موسى - عليه السلام - أتمّ الأجلين كما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد اتفق أهل العلم على ذلك , ولا يُعقل أن لا يُتمّ كليم الله إلا ما هو أوفى وأبرّ , ولا خلاف على ذلك . لكنّه لم يتحرك فور قضاء الأجل , لأنّ الله سبحانه وتعالى قال : فلمّا قضى موسى الأجل وسار بأهله . فالواو تُفيد التمهُّل , ولو ذكر السير مباشرة دون الواو , لقُلنا أنه لم يمكث ساعة واحدة بعد انقضاء الأجل . وليس هُناك ما يؤكد قول بعض المحدثين على أنه مكث عشرة سنين أخرى , وليس هُناك ما يُفيد المُدّة التي بقيها بعدها . ما يُهُمّنا , أنّه سار بأهله وغنمه من مدين . إلى أين ؟ لا أحد يعرف , وكل القصص التي وردت في التفاسير حول وجهة موسى - عليه السلام - ليس لها أي دليل قطعي سوى التخمين . بل هُناك أسئلة منطقية , تدل على أنه لم يكُن مُتوجها إلى مصر , أوّلُها عدم ذكر الله لوُجهته , مع أنه ذكر وُجهته عند خروجه من مصر إلى مدين . ثمّ إن الله سُبحانه , ما كان ليستوقفه في الطريق ليوجهه إلى فرعون الموجود في مصر , ليقول له إذهب إلى فرعون ( مصر ) . أي أن المنطق يقول : التوجيه يأتي بعد الابتعاد عن الهدف , فالله يُريد لموسى أن يذهب إلى مصر , لكنه كان مُتجها إلى مكان آخر , فاستوقفه , وحوّل مساره , بعد تطمينه بالوقوف إلى جانبه , وإعطائه آيات عظيمة , تمنعه من العدو . ثمّ قول موسى - : قال ربّ إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون . إذا كان يعلم بالمخاطرة , فكيف يصطحب أهله وأغنامه معه إلى الخطر ؟ كما أنّ هُناك دليلا أقوى من كل هذه الأدلّة , وهو الطور , فعندما نتعرف على موقع الطور , سنعرف الطريق التي سلكها موسى - عليه السلام - .
        أنظروا ما أجمل السرد القصصي القُرآني , ولا أعرف والله لماذا لجأ علماؤنا إلى إقحام قصص ما أنزل الله بها من سُلطان , والقرآنُ بايجازه يشرح لنا الأمر بجلاء , وجمال , وإقناع , أكثر من تلك القصص التي أُقحمت من غير داعٍ في القصّة . يقول ربنا جلّ وعلا :

        فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ

        عندما يقول سبحانه : آنس من جانب الطور نارا , أي أنه رآها وحده , ولا خِلاف مع العلماء في ذلك . لكنهم عندما يقولون : بأن هذه النار لا يستطيع أن يراها أحدٌ سِواه , فهُنا نختلف معهم , وبشدّة . إذ لو أن أهله كانوا بجواره ساعة آنس النار , ولم يجد منهم أي ردة فعل , لشكّ فيما رآه . لكن , كيف نقرأ هذه المؤانسة للنار , وطلبه من أهله المُكوث ؟ لقد كانوا يسيرون ليلا , ومواصلتهم للسير ليلا , هو علم موسى - عليه السلام - بقُربه من مكان آهل بالسُكان , أو مكان آمن للمكوث فيه . لكنه ضلّ الطريق , واعتقد أنه انحرف عن المسار الصحيح , لكنّ الأمل كان يحدوه للوصول , وبنفس الوقت , كان خائفا على أهله , مما اضطرّه استكشاف الطريق أمامهم , فلمّا آنس النار , رجع إليهم , وطلب منهم المُكوث مكانهم , بعد أن أخبرهم بأنّه آنس نارا , وسيذهب ليتفحّص الوضع , علّه يجد عندها من يدلّه على الطريق , أو يأتي بجذوة منها ليتدفّأ الأهل ويستنيروا بنورها , وبطبيعة الحال , هو لا يعلم ما سيجده عندها من أقوام , فخاف اصطحاب أهله معه .هذا كُلُّ ما في الأمر . أمّا قولهم : أنها كانت ليلة ماطرة , وكانت زوجه على وشك الولادة , وجاءها المخاض في تلك الليلة , وكان يصطحب ولدين ..... الخ وكأنّ موسى - عليه السلام - كان هاربا من أهل مدين , ولم يستطع المكوث قليلا حتى تضع زوجه مولودها . أنا مُستغربة والله , لو كانت السماء ماطرة , فهل ستنفعهم النار لتقيهم من المطر ؟ لكن كان هُناك برد , نعم كان , وهذا واضح من الآية .
        نأتي إلى تعريف الطور , وقد أجمع المُفسرون على أن الطور هو الجبل المكسو بالخضرة والأشجار , وذكر ابن عباس أن الطور ما نبت من الجبال , وما لم يُنبت فليس بطور . لكننا سنُلاحظ أن الله لم يذكر الطور إلا لجبل واحد فقط في القرآن , وهو طور سينين أو طور سَيناء . وسينين أو سيناء لا يُمكن أن تكون صفة للجبل وحده , لأنه لو كانت صفة بحد ذاتها لعرّفها الله وقال : طور السيناء , لكنّ تنكيرها يدُلُّ على اسم المكان , وهذا الاسم صفة أيضا للمكان الذي تكثر فيه الخضرة والثمار , أو بمعنى آخر : البركة من الثمر . لهذا قال عنه الكثير من العُلماء , أنه جبلٌ مُبارك , عنده الوادي المُقدّس طُوى , خرجت منه أوّل شجرة زيتون تنبُتُ بالدُّهن . الآن , كيف عرفنا أنّ أوّل شجرة زيتون خرجت من الأرض كانت في هذا الجبل ؟ من سياق الآيات الكريمة التالية :

        بسم الله الرحمن الرحيم

        وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ
        ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
        ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
        ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ
        ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
        وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
        وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
        فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
        وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ

        المؤمنون
        ( 12 - 20 )


        لاحظوا أن الله بدأ بخلق الانسان , وتكوينه في رحم أمه , ومولده , ثم بدأ بتِعداد النعم عليه , حتى أتى إلى إنشاء الجنّات من نخيل وأعناب وفواكه , وهذه كلّها نِعمٌ أغرق الله فيها الأرض على الانسان عامة , سواء كان مؤمنا بالله أم كافرا , ثُمّ عطف عليها الشُّجرة التي تنبُتُ بالدُّهن من طور سيناء . فهل يُعقل أن تكون شجرة واحدة يَعُمُّ خيرُها على البشرية جمعاء ؟! بالطبع لا . لكنَّ الله أراد أن يُبيّن أنّ أول نبتٍ لها كان في هذا الطور , ثُمّ خرجت ثمرتها من هُناك , لتَعُمَّ الأرض , وتكون صِبغا للآكلين . وهُنا نسأل : هلى هُناك بيت في هذه الأيام يخلو من خيرات شجرة الزيتون ؟ ليس هُناك بقالة , أو حانوت , أو ( سوبر ماركت ) يخلو من هذه الثمرة المُباركة . كذلك , أقسم الله بهذا الجبل مرتين , فقال : ( والطور , وكتاب مسطور ) قرنَهُ بكتاب الله الكريم . و : ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ) قرنَهُ بمكّة المُكرّمة , والقدس على أغلب الروايات والمُفسرين . إنّهُ جبل مُهم جدا من الناحية القُدُسية , ولا ريب في ذلك . هل يُعقلُ أن يكون هذا الجبل في الصحراء , كما يعتقد النّاس أنَّهُ جنوب شبه جزيرة سيناء , وهو جبلٌ بُركانيٌّ لا ثمر فيه ولا شجر ؟ إذأ , أين هو ؟ سنعرف هذا في مُتابعة القِصّة .
        أتى موسى - عليه السلام - النار , وهو يسير في وادي طُوى , فسمع صوتا يُناديه من البُقعة المُباركة في الشجرة التي كانت في الشاطيء الأيمن من الجَبَل . وفي سورة النمل قال : ( فلمّا جاءها نودِيَ أن بورك من في النّار وما حولها ) وفي سورة النور : ( الله نور السماوات والأرض , مثل نوره كمشكاة فيها مصباح , المصباح في زجاجة , الزجاجة كأنها كوكبة دُرّي يوقد من شجرة مُباركة , زيتونة لا شرقية ولا غربية , يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار ) . الآن , لا أدري من أين أتى المفسرون بشجرة العوسج أو العُلّيق هُنا ؟! أم لأنها مذكورة في كُتب الاسرائيليين ؟ الله بيّن لنا أن الشجرة التي خرجت من طور سيناء هي شجرة مُباركة , ثُمّ وصف لنا البُقعة من الشجرة التي نادى منها الله نبيّهُ بالمُباركة , وكذلك وصف شجرة الزيتون ضمن وصفه لنوره بالشجرة المُباركة , كُل هذه الشواهد , والحقائق , ولا زالوا يتحزّرون حول نوع الشّجرة ! أليس هذا غريبا ؟! بورك نور الله , وبورك صوته , وبورك مَن حوله : موسى , والأشجار , والمكان . إنه مكان مُقدّس , كلُّ ما فيه مُبارك , ألم يقُل سبحانه لنبيّه - عليه السلام _ ( إنّي أنا ربُّك فاخلع نعليك إنّك بالواد المُقدّس طُوى ) ؟ كلُّ شيء مُباركٌ هُناك . لم يخف موسى - عليه السلام - من صوت النداء , وامتثل بخلع النّعلين , واستمع بخشوع لقول الله , إذ عرّفه ربّه بنفسه , وذكّره بنعمه عليه , وقصّ عليه ما كان من عملية إنقاذه وهو طفل , ثمّ إنقاذه وهو شاب , ثُم مكوثه في مدين , ثُمّ مجيئه إلى الطور بقضاء الله وقدره وتدبيره , وعرض عليه التكليف بانقاذ شعبه من فرعون , كما كلّفه بدعوة الفرعون إلى دين الله . إنّه تكليف ليس بالسهل , ولا يؤتاه إلا أولو العزم من الرسل , ففرعون كان ملكا جبارا , آتاه الله المال والقوة , وقوم موسى شعب ضعيف , لكنه صعب المِراس , مُتقلب , ومعروف عنه قتل أنبياء الله وعصيانهم لأوامره . وهل نور الله كأيّ نور ؟ وهل صوت الله كأيّ صوت ؟ لا شك أنّ مُجرد النظر إلى نوره الخارج من البُقعة المُباركة من الشّجرة , والاستماع إلى صوته العذب , يعني مُتعة لا تُضاهيها مُتعة , وإنّ كُلّ ما يُمكن للمُفسرين والعلماء تخيُّله لن يوصلهم إلى شيء , سوى أن الله عز وجلّ كلم هذا النبيّ , وخصّهُ بتلك المُتعة . فتخيّلوا مشهد الأفعى التي خرجت من عصاهُ , لتجعله يرتعب , وينسى مُتعة النظر إلى نور الله , والاستمتاع بسماع صوته , كيف سيكون عليه شكلها ؟! لا شك أنها أفعى عظيمة ومُخيفة , بحيث لا نستطيع أن نتكهّن أو نتصور منظرها الذي منع فرعون من ايذائه , وجعل السحرة يسجدون , ولا يأبهون بتقطيع الفرعون لأوصالهم . لقد كان هذا أوّلُ ردٍّ على تخوُّف موسى من الذهاب إلى فرعون . فالله عز وجل سأل نبيّه عن تلك التي بيمينه , فعرفنا أنّ موسى - عليه السلام - ليس أعسرا , وأنّ العصا في يده كأية عصا , وليست عصا النّبُوّة التي قال بعض المُحدّثين أنّه اختارها من بين عِصِيٍّ كان يحتفظُ بها شُعيب عن آبائه الأنبياء , وُصولا إلى إبراهيم - عليه السلام - . كما أثبتنا بالوجه القاطع أن الرجل الكبير من مدين ليس إلا رجلا عاديا صالحا ومؤمنا بالله . كما أنّ الله عرّفنا أن موسى - عليه السلام , يصطحب معه في سفره هذا أغناما . هذه العصا العادية , تحولت إلى أفعى مَهولة , فماذا عن اليد التي ضمّها عليه السلام إلى جيبه فخرجت بيضاء من غير سوء ؟ وقد وصف الله العصا واليد كبرهانين لفرعون على نُبُوّته , فماذا قال العُلماء عن بُرهان اليَد ؟ قال مُعظمهم بادخال اليد إلى فتحة القميص , فخرجت بيضاء ناصعة بدون شائبة أو برص . وقالوا عن : اضمم جناحك من الرّهب , أي من الخوف والفزع الذي أورثه له مشهد الأفعى , وهناك من قال أن الأمر أعم من ذلك , وأن ضم الجناح , الذي هُو اليد , كاشارة للسكينة من الرّهب , وتعليم من الله لموسى ليفعل ذلك حتى يسكَن ويطمئن . والحقيقة , أنني لا أرى في بياض اليد الخالية من البرص بُرهانا يجعل الفرعون والناظرين إليها يندهشون كمشهد الأفعى العظيم , وكأنّ يد موسى - عليه السلام - كانت مُشوّهة أو برصاء . حتى تفسيرهم للأفعى التي شبهها الله بالجانّ على أنها نوع من الأفاعي يُدعى الجانّ , غير منطقيّ , لأنّها حتى لو كانت ( الأناكوندا ) بطول تسعة أمتار , ما شغلت موسى - عليه السلام - عن نور الله وصوته ليهرب منها . لكنّها أفعى عظيمة , تلقف كل الافك الذي صنعه السحرة من العصيّ والحِبال , تهتزّ برشاقة , وشكلها مُخيف . كذلك يجب أن يكون بياضُ اليدّ , مُقنع لفرعون , كأن ينكشف اللحم عن العظم مثلا , فلا ترى إلا هيكل اليد الأبيض الناصع , يتحرك أمامك بخفة , وهذا ما قرأته لأحد الباحثين , وليس اجتهادا من عندي ( للأمانة ) , وقد دلل على ادعائه بأسلوبٍ علميّ لا أذكره , وعجزت أن أعثر على هذا البحث للأسف .
        بعد ذلك , طلب موسى - عليه السلام - مطلبين من ربّه : فكُّ عقدة اللسان , وشدّ عضده بأخيه هارون - عليه السلام - فأُعطي الاثنتين , ومعهما تطمينٌ ووعد من الله . تطمين بمرافقتهما وحفظهما هما وقومهما من الفرعون وبطشه , ووعد بالنّصر . فما هي قصة عُقدة اللسان عند موسى - عليه السّلام - ؟
        قال تعالى في سورة القصص :

        قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
        وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ

        وقال في سورة ( طه ) :

        قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
        وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
        وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
        يَفْقَهُوا قَوْلِي
        وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي
        هَارُونَ أَخِي
        اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
        وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي

        وفي سورة الشعراء :

        قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
        قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
        وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ
        وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
        قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ
        فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
        أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

        لو أنّ عُقدة اللسان كانت عيبا بالنُّطق , لأصبح هذا العيبُ مَدعاة لاستهزاء الأطفال منه عندما كان صغيرا , ولأثر على شخصيته القيادية حتما , فإن لم يفعل , فعيبُ النُّطق لن يؤثِّر على الفَصاحة في التّعبير , لكنّهُ عيبٌ لا يليق برسولٍ من أولي العزم . كذلك , الآيات هُنا بيّنت معنى الفَصاحة في اللّسان , وهي انطلاقُه في الكلام , والسبب وراء عدم الانطلاق عند موسى - عليه السلام - هو ضيقٌ في الصّدر , وضيقُ الصّدر عندهُ يأتيه في حالات مُعيّنة , مثل تكذيب النّاس له , أو ساعة الغضب , وهذه حالة غير مُنفّرة , لكنّها تُشتت التركيز , فتجعل من الصعب على المُتلقي أن يفهم . لهذا طلب أن يكون له وزيرا من أهله , أفصح ممنه لسانا . وهو معروفٌ عند قومه أيضا , وشاهدٌ أمام الفرعون وبني إسرائيل أنّ موسى من بني إسرائيل , أبوه فُلانٌ وأمّه فُلانة وأخوه فُلان , ولو أنّ الفرعون عرف أهله من قبلُ لقضى عليهم جميعا بذنبه . أمّا اللغة , فهو تربّى في بلاط الملك , وتلقى العلم أيضا , وليس لديه مُشكلة , وشعبُه بطبيعة الحال كان يتكلّم لُغة الفراعنة إلى جوار لُغته القوميّة كأيّة جالية , أو أقليّة عرقيّة في أيّ بلد .
        إذا , في هذه الليلة المُباركة , تعرّفَ موسى - عليه السّلامُ - على ربّه , وتكلّم إليه . فكلّفَهُ الله بمُهمّة دعوة الفرعون إلى الله , وخشيته , وتذكُّر نعمته عليه فيتزكّى , ويعبده وحده , وأن يسمح لبني إسرائيل بالرحيل عن أرضه مع نبيّهم موسى - عليه السلام - . كما أعطى اللهُ سبحانَه موسى سؤله , فشرح صدره , وفك عُقدة لسانه , وأرسل إلى أخيه هارون , وطمأنه بأنه سيكون معهما يسمع ويرى , ويمُدّهما بآياته الكُبرى , وسيحميهما وقومهما من فرعون وملأه , ووعدهما بأنهما وقومهما الغالبون .

        يتبع

        تعليق

        • نجوى النابلسي
          عضو الملتقى
          • 07-08-2009
          • 43

          #5
          الأخت أحلام

          أعجبتني طريقتك في رصد القصص القرآنية من القرآن نفسه فلطالما طلبت إعادة النظر في كتبنا لتضمينها إسرائيليات وقصص لا يقبلها العقل ولا المنطق ولا العلم الحديث. القرآن العظيم يشرح نفسه لو تتبعنا الكلمة والقصة في السور. وحبذا لو يقنع العلماء بأن دعوة التجديد تصب في مصلحة الاسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت بكرمه عبر أجيال من النقل .

          سلمت يداكِ

          تعليق

          • علي الطيب
            عضو الملتقى
            • 14-11-2008
            • 19

            #6
            جزاك الله خيراً
            ولقد كان إيمانه نابعاً من القلب ، لأن الله سبحانه وتعالى قد هيأه لحمل الرسالة .

            دمت بخير
            [COLOR="Blue"][CENTER][SIZE="3"][SIZE="5"][SIZE="5"]والذي نفسه بغير جمـــالٍ ... لايرى في الوجود شيئاً جميلا[/SIZE][/SIZE][/SIZE][/CENTER][/COLOR]

            تعليق

            • أحلام الحلواني
              أديب وكاتب
              • 21-06-2009
              • 208

              #7
              الأخت نجوى النابلسي

              أهلا بك غاليتي , سعيدة بمتابعتك .
              صدقت في طلبك إعادة النظر بما تضمنته كتبنا التراثية من الاسرائيليات , وهناك أناس أخذوا على عاتقهم تنقيتها وإعادة صياغتها .

              أخي الكريم / علي الطيّب

              أشكر مُتابعتك , وأتمنى أن تعُمّ الفائدة

              مودتي لكما

              تعليق

              • أحلام الحلواني
                أديب وكاتب
                • 21-06-2009
                • 208

                #8
                موسى - عليه السلام - ومعركة الخلاص مع فرعون

                خرج موسى - عليه السلام - من الطور مُنشرح الصدر , طليق اللسان , مؤيّدا برعاية الله , ومُزوّدا ببُرهانين عظيمين , ومؤازرا من أخيه ووزيره ( هارون ) , مُحمّلا برسالات ربّه إلى فرعون وقومه , وموعودا بالنّصر , وقضاء الأمر . لكنّ هذا لن يمر بهذه البساطة , وسنرى , ونسمع ما كان من نبأ موسى وفرعون بالحق .
                دخل الأخوان الرّسولان الكريمان على طاغية زمانه ( فرعون ) سلّما عليه , مُعرّفين عن نفسيهما , فقالا له قولا لينا , لعله يذّكر أو يخشى : إنّا رسولا ربّك فأرسل معنا بني إسرائيلَ , ولا تُعذّبهُم , قد جئناك بآية من ربّك , والسّلام على من اتبع الهُدى . إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى .
                بعد هذه السنين الطويلة , بدأ فرعون كلامه باللوم على موسى - عليه السّلام - مُذكرا إياه برعايته له صغيرا , وعطفه عليه , وحُبّه له , فقال :
                أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
                وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ؟
                فأجابه موسى بثبات معترفا بذنبه , كما اعترف به لربّه من قبل :
                فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ
                فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ
                وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟
                لم تنطلِ الخدعة على موسى - عليه السّلام - ولم يأبه لهذا اللوم , بل دخل في صُلب الموضوع , وذكّر فرعون باجرامه في استعباد بني إسرائيل . كما أنّ هذه الآية الكريمة , تُبيّن بوضوح تام , أنّ الرسالة جاءت بعد الفرار من فرعون . لكنّنا سنرى , أنّ الكتاب ( التوراة ) لم ينزل بعد , ومُهمّة موسى في مصر كانت مُحدّدة بتخليص بني إسرائيل .

                قال فرعون : فمن ربُّكُما يا موسى ؟
                قال : ربّنا الذي أعطى كُلّ شيء خلقه ثمّ هدى .
                ثمّ راح يشرح له :
                الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى
                كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى
                مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى .

                نظر إليهما فرعون باستهزاء , ثُمّ قلّب بصره فيمن حوله من وُزراء وأتباع , فقال باستعلاء وتكبُّر :

                يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
                فقال الملأ من قوم فرعون مُستهزئين كزعيمهم :
                أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ؟

                قبل أن نُكمل الحِوار , دعوني أذكركم بأمر بات معروفا لدى الجميع , وهو سرُّ بِناء الأهرامات , الذي قضى العلماء والمُهندسون مئات السنين يبحثون عنه , إذ كانوا يضعون نظرياتهم في نقل الحجارة العملاقة وإيصالها إلى مواقع البناء , حتى اكتشفوا في النهاية , أنّ الأهرامات ما هي إلا أبنية طينيّة , سُلّطت عليها نيران هائلة . أي أنهم كانوا يصنعون قوالب حسب الطّلب , ثُمّ يُعبئونها بالطين المُستخرج من طبيعة الأرض المصرية ذاتها , ثُمّ يَتركونه ليجف , فيُسلّطوا عليه النار , فيُصبح صلبا كالصخر . والله أخبرنا بذلك بايجاز مُعجز , كلمات بسيطة على لسان فرعون :
                فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا . وهذا يعني أيضا , أن بناء الأهرامات لم يأخذ ذلك الجُهد , أو الزمن الذي قدّره العُلماء في السابق .

                ثُمّ عاد فرعون وسأل موسى - عليه السلام - عن الأمم السابقة ممن كانوا مثل فرعون يعبدون الآلهة , ولا يؤمنون بما جاء به موسى من شرح عن هذا الرّب , ربّهم وربّ آبائهم الأولين ؟
                فقال عليه السلام :
                عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى




                ولنتذكّر هُنا قوله سُبحانه :
                وما كُنّا مُعذّبين حتى نبعث رسولا . لهذا أرجع موسى - عليه السلام - علمهم إلى الله , يفعل بهم ما يشاء , إن لم يكن قد بعث فيهم الأنبياء والرُّسل , ولم يوقع العذاب عليهم في حينها , فهُناك الدار الآخرة , لن ينساهم الله , أو يظلمهم .





                غضب فرعون من هذا الاصرار عند الرّسولين الكريمين , ويبدو أنّه عجز عن مجادلتهما , وقال لمن حوله :
                إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ .
                ثُمّ توجّه إلى موسى بخطاب غليظ , قائلا :
                لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ .
                قال موسى :
                أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ؟
                قال فرعون :
                فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .
                وهُنا جاء دور البرهانين العظيمين , فألقى موسى - عليه السلام عصاه , فإذا هي ثُعبان عظيم يهتز كأنّه الجان , وأخرج يده من جيبه , فإذا هي بيضاء ناصعة للناظرين . وهُنا نُذكّر , أن اليد البيضاء لا يُمكن أن تكون كما نظُنُّ ونتخيل بأنّها مُجرد يد خالية من البرص , ولا بُدّ أنه بياضٌ لم ير الناس مثله من قبل , ولم يعهدوه . فرعون وملأه لم يروا مثل هذا , رغم خبرتهم بالسّحرة والمُشعوذين , ولم يخفوا هذا الانبهار , حتى سارع فرعون ووصف موسى بالسّاحر العليم . فماذا عساه أن يفعل بعد ما رآه من آية ظاهرة ؟!
                لقد كذّب فرعون الرّسول مُحرّضا الملأ من قومه :
                إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
                يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ؟
                وكذلك ردّد وزراءه من بعده , وأضافوا :
                مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ .
                ثُمّ اقترحوا :
                أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
                يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ .
                فتوجّه فرعون إلى موسى مُتوعّدا إياه :
                أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ؟
                فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى .
                قال موسى :
                مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى .

                وهكذا وفّى اللهُ سبحانهُ وعده لنبيّه , وحماه من فرعون وملأه بآياته . فضرب موسى - عليه السلام - لفرعون موعدا يكون فيه الناس مُجازين من أعمالهم وأشغالهم , يوم عيدٍ يُجمعون عند الضُّحى , ليشهدوا مُبارزة بين السّحرة وموسى الذي ذاع صيتُه بعد لقائه وتحدّيه لفرعون . فمن سيتخلّف عن حدث عظيم ومُشوّق كهذا ؟!
                أمّا فرعون , فأوعز إلى مُستشاريه أن يجمعوا لهُ أعلمَ وأقوى السحرة في مملكته , وهو قلق ومتوتّر , فراح يُجزي العطايا , ويَعد بالترقيات والمناصب العليّة لمن يغلب موسى بالسّحر :

                وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ؟
                قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ .

                اجتمع الناس في المكان المُحدّد المٌستوي ( مثل ساحة واسعة ) وعلى رأسهم السحرة , ومن فوقهم فرعون ووزراؤه , ودقت ساعة المُواجهة . وقف موسى - عليه السلام - وتوجه بالخِطاب مُباشرة إلى السّحرة قائلا :
                وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ , وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى .
                موعظة بسيطة , خرمت آذان السّحرة , وجعلتهم يرتبكون :
                فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى .
                تحولقوا على أنفسهم , وذهبوا يتشاورون في قول الرجل . يُفترض أنهم أمام ساحر مثلهم , فما هذا الذي يقوله عن كذبهم وافترائهم ؟ إنهم يعلمون أنّهم لا يستطيعون تحويل العصيّ والحبال إلى أفاعي , ولكنّهم يسحرون أعيُن الناس بألاعيبهم الفنّيّة , ليعتقدوا ذلك . كما أنّهُ يُحذرهم من هذا الافتراء , ويتوعدهم بعذاب يُهلكهم , ويستأصلهم من جذورهم . طيب , إذا كان موسى ساحرا , فمن أين له كل تلك الثّقة في الوعيد ؟ وهو صادقٌ فيما وصفهم بِه , ما العمل ؟ تشاوروا في الأمر , ثُمّ خرجوا بنتيجة . سنعرفها لا حقا .
                انفضّ التشاوُر , ثُمّ راحوا يرددون كلام فرعون بينهم :
                إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى
                فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى .
                ثمّ قالوا لموسى :
                يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى .
                قال عليه السلام :
                بل ألقوا

                فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .
                فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ..
                قُلْنَا لا تَخَفْ .. إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى .

                لاحظوا كيف استطاعوا أن يُخيّلوا حتى لنبيّ الله , بأنّ حبالهم وعصيّهم تسعى , فلما أوجس موسى في نفسه خيفة , جاءه نداءُ الربّ حازما , لا حظوا التشديد على الميم في : مّوسى , قُلنا لا تخف . يا الله ما أجمل خطاب الرّب , يا الله ما أقوى تأييده لرسله . فألقى موسى عصاه , فإذا هي حيّةٌ تسعى , تلقف الحبال والعِصِيّ , حقيقة لا خيالا . كيف تبيّن ذلك ؟ عندما ألقي السّحرة ساجدين . لماذا ألقوا ساجدين ؟ لأنّهم عندما أسرّوا النجوى , وتشاوروا بعد أن رأوا إشارات صادقة تدلّ على أن من يقف أمامهم ليس بساحر , إنّما هو نبيّ الله ورسوله , نذروا أن يتبعوه إن تغلّب عليهم . كيف تأكدوا من ذلك ؟ عندما أوجس من عصيهم وحبالهم خيفة , فلو كان ساحرا لما استطاعوا أن يسحروا عينيه , ولو كان ساحرا لبقيت عصاهُ عصا , ولما تحولت إلى أفعى حقيقية , تلقف ما يأفكون . سجدوا حتى لا يُصيبهم ما وعدهم به وقد تبيّن لهم الحق .
                لقد كانت هذه أوّل هزيمة لفرعون أمام ملأه وشعبه وجنوده , كما أنها كانت أوّل انتصار لموسى وأخيه والمُستضعفين في الأرض , فهل سيتعظ ويرعوي ويأوب إلى الحق ؟
                لا . بل ذهب يتوعّد السحرة بالعذاب , حتى لا يلحقهم أحدٌ من الشعب , ويكونوا عبرة للآخرين ممن لا نوا واستجابوا لدعوة موسى وهارون - عليهما السلام . فتوجه إلى السحرة قائلا :
                آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى .
                ولكن أنّى ينفع التهديد والوعيد مع من عرف الحقّ , وعمر قلبه الايمان . فما كان من السحرة إلا أن قالوا :
                لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
                إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
                إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى
                وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى
                جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى .

                ويجدر بالذكر هُنا , أنّ ممّن آمنوا بدعوة موسى - عليه السلام - من آل فرعون , كانت زوجته التي احتضنت نبيّ الله في صغره , إذ قالت :
                ربِّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة , ونجّني من فرعون وعمله , ونجّني من القوم الظالمين
                . التحريم 11 .

                فجعلها الله مثلا يُضرب للذين آمنوا .

                يتبع

                تعليق

                • نجوى النابلسي
                  عضو الملتقى
                  • 07-08-2009
                  • 43

                  #9
                  رائع والله يا أحلام

                  تتبع القصة وربط الآيات من السور للوصول إلى الرواية الحقة

                  أتابعك بشغف

                  تعليق

                  • عبدالرؤوف النويهى
                    أديب وكاتب
                    • 12-10-2007
                    • 2218

                    #10
                    أحسن القصص

                    [align=justify]القصص القرآنى ..متعة وأى متعة .
                    "نحن نقص عليك أحسن القصص" صدق الله العظيم

                    قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر من القصص التى أعادت بناء تفكيرى فى سنواتى الأولى من عمرى .

                    كنت كثير الأسئلة لما يحدث أمامى من الأمور اليومية ..حتى كانت أمى أطال الله عمرها ومتعها بالصحة ،تضيق بى ...فأذهب إلى جدتى أم والدى رحمة الله عليهما ..فتستمع إلى ّ ثم تجيب وفقاً لما تعلمه ..لكنه لم يكن يشفى غليلى ..فكان العبث فى مكتبة والدى ومحاولة القراءة ..للبحث عن الحقيقة .

                    كنت صغيراً وأنا أتلو القرآن على شيخ الكُتاب ..وأتعجب من كثرة أسئلة سيدنا موسى وعدم صبره رغم تحذير سيدنا الخضر له.

                    ومرت سنوات العمر سراعاً ..وتبين لى أن ما يحدث من أمور الحياة ومايشاع أمامك من مواضيع قد لاتستند إلى الحقيقة ..

                    وكم كان أحمد شوقى ..رائعاً .. عندما قال :
                    " لا تأخذنا من الأمور بظاهر ***إن الظواهر تخدع الرائينا"

                    أستاذتنا الباحثة القديرة /أحلام الحلوانى ..

                    فى انتظار ما يُشفى غليلى ويُثلج صدرى.[/align]


                    تثبيت

                    تعليق

                    • فتحى حسان محمد
                      أديب وكاتب
                      • 25-01-2009
                      • 527

                      #11
                      [align=justify]أهلا وسهلا ومرحبا بمعالى المعانى المستشار / النويهى
                      ما أجمل وأروع ردك العالم ببواطن الأمور والمضطلع على مكنون أسرار العلوم ، ومنها القرآن لا غيره بدون سنة المصطفى وتابعيه من الصحابة ، وكانك مثل القرآنيين الذين لا يؤمنون بغير القرآن ويبطلون السنة المطهرة لأسباب من كونها لم تكن محفوظة مثل القرآن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
                      تبارك جمع وترتيب أستاذة أحلام لقصة سيدنا موسى وتؤمم على حسنها وصوابها ، ولم تسأل وتعرف :
                      أين الطور ؟؟
                      أين الوادى المقدس ؟؟
                      لماذا لم تخف ام موسى على أخيه هارون ، إذا ما تركنا تفسير المفسرين وحديث ابن عباس وهو من هو ابن عباس ؟؟ وكان الخوف على موسى فقط ؟؟
                      ولماذا كان الخوف لفرعون وهامان وجنودهما كما حددهم الله تبارك وتعالى ولم يجمع معهم باقى شعب مصر ؟؟؟!!!!
                      أى قبلة كان موسى يتجه غير مصر حتى عرفه الله – بالمصادفة قياسا على رأى احلام - على ذاته العلية ، وطلب منه تغير قبلته إلى مصر؟؟؟؟
                      وإن كنت تعرف فلم لم تقل لنا ؟؟
                      وإن كنت لا تعرف فلماذا لم تسأل الأستاذة ؟؟!!
                      ولماذا لم تبحث بنفسك دون الاعتماد على السيدة الوالدة وذهبت تعرف قصة موسى مع سيدنا الخضر وغيرها ، وأين تقع هذه القصة من صلب قصة موسى ؟؟ ولماذا كانت ؟؟؟

                      كما إن الفاضلة أحلام لم تؤكد لنا أين الطور وفى أى مكان ؟؟
                      لا تريد أن تقول سيناء المصرية ، عناد فى عناد والسلام ، وسيادتكم ورائها تؤمم على كلامها من غير سؤال ولا حسم ، وهى من جاءت تحملنا إلى الحسم واليقين ؟؟؟
                      على العموم لم أتدخل حتى لا أقاطعها ولا أربكها ، حتى تسير إلى اشد التعقيد لأنها لم تقابله بعد ، واثق من ذلك 0
                      وكل ما سبق من سرد لا خلاف عليه ، إلا فى تحديد قبلة موسى إلى مصر إبان عودته من مدين
                      ولم أتدخل إلا بعد إشادتك وتثبيتك للموضوع وأنت مفترض تناقش وتفند وتضيف وتخالف وغيره لا أن ترحب مثلك مثل أى زائر كريم ، فأنت المشرف على النقد ، ومن الحكمة أن تكون ملك ناصيته لا مجرد زائر 0 [/align]
                      أسس القصة
                      البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية

                      تعليق

                      • أحلام الحلواني
                        أديب وكاتب
                        • 21-06-2009
                        • 208

                        #12
                        الأستاذ القدير
                        سيادة المستشار

                        عبد الرؤوف نويهي

                        رحم الله والديك , ورحم الله والدي الذي كان دوما وراء حملي على القراءة , وأنا قُرآنيّة مُحمّديّة مُسلمة , جئتُ مِن أمّة لا شرقية ولا غربية ولا يمينية ولا يسارية , بل كما قال شيخنا العالم الجليل ( محمد متولي الشعراوي ) : أمّة فوقيّة تحتية .
                        ما أسوقه من أدلّة على كل حرف وكلمة , وعلى كل معلومة ثابتة , سواء كانت أدلّة عقلية أونقلية , لا تقبل بأي حال من الأحوال التشكيك , لأنها مُستخرجة من كتاب لا يُشكّكُ بِهِ إلا كلّ مُتّبع لهواه , أو مُتحيّزٍ لخُطاه غير المحسوبة .
                        أنا اطلعت على آراء شيوخ الاسلام , ومن بينهم ابن تيمية رحمهم الله جميعا بما يخُصّ كبار المُفسرين , فوجدتُ ما يستدعي إعادة النّظر بكُلّ ما جاءوا به من رؤيات . حتى السلف الصالح كان الخلاف بينهم جليّا وواضحا , ولست هُنا لأعرض هذه الخِلافات , بل أنا هُنا أخاطب العقل السليم المُتفتح والمُتعطش لمعرفة الحقيقة . ولم أكن لأدخل في هذا البحث , لولا رأيت وقرأت عن هذه القصّة في كِتابات الأستاذ الأديب ( فتحي حسان محمد ) , وأنا أطلب منه ( بالمُناسبة ) أن يُتابع حتى النهاية , وسيجد كلّ الاجابات الشافية على أسئلته . وقبل أن يتهمني بالابتعاد عن السّنّة , والاستخفاف بالسلف , أو رمي آراء الصحابة ( رضوان الله عليهم ) وراء ظهري , فليعلم أنّني أحفظ ما لا يقل عن ألفي حديث عن رسول الله , كما أنني قرأت الكثير عن آداب التفسير وطرق الاستدلال . وقرأت لابن تيمة أن أفضل التفاسير إلى القرآن والسنّة هو تفسير : محمد بن جرير الطبري , لأنه يذكر الأسانيد الكاملة لما يُرفع من أقوال السّلف , ويتهم الكثيرين بإقحام الاسرائيليات في تفاسيرهم , والبدع والمُحدثات من الأقوال التي لا تتفق وروح الاسلام , أو شرائعه . حتى السلف أنفسهم اختلفوا , إذا , لا ضير من مُناقشة أقوالهم واختيار الأفضل منها , أو البحث عما هو أقرب للحقيقة , لأنّه لا عصمة ولا تشريع إلا للأنبياء والرّسل الذين تلقوا الدين عن الله بواسطة وحيه مُباشرة .
                        بواسطة فتحي حسان
                        أى قبلة كان موسى يتجه غير مصر حتى عرفه الله – بالمصادفة قياسا على رأى احلام -
                        سامحك الله أستاذي , أنا قُلت أن الله قابل موسى بالمصادفة ؟؟! أم أنه جاء على قدر من الله ؟ هذه فِرية لا أقبلها من أستاذ أحترمه .
                        أستاذي فتحي , إن لم يكن عندك أرضية علمية صلبة بكتاب الله وسنة رسوله فاعرض ما أكتُبُه على كبار عُلماء الأزهر الشريف , فإن وجدوا فيه انحرافا ردوه , وإن وجدوا فيه صوابا قبلوه , وتبقى المسألة مسألة اجتهاد منهم لا أكثر ولا أقل .

                        أختي الغالية
                        نجوى النابلسي

                        مغتبطة بك , وسعيدة لتواصلك

                        مودتي واحترامي للجميع

                        تعليق

                        • فتحى حسان محمد
                          أديب وكاتب
                          • 25-01-2009
                          • 527

                          #13
                          [align=justify][align=center]اتابعك أستاذة أحلام [/align]وانتظر منك الباقى على شغف لا على تحد ولا على خلاف 0
                          وسيادتك لست فى امتحان من احد
                          مجهود كبير تشكرين عليه 0
                          ودخولى إلى قصة سيدنا موسى لم يكن لشرحها فهى وافية الشرح عند الكثير من المفسرين ، ولكن كان بغرض الترتيب الصحيح بما يناسب بناء القص القرآنى نفسه ، ولم يكن شرح المعنى يهمنى كثيرا فلن اتفوق على المفسرين ، ولكن شرح الحدث وتطوره تطورا طبيعيا منطقيا هذا ما خالفتهم فيه ، والترتيب لا يعيبهم ؛ لأنهم شغلوا بالتفسير للقرآن كله ، ولكنى شغلت بالقصص وكيفية بنائها من الناحية الأدبية القصصية 0
                          ولذا تجدين اقسم القصص إلى :
                          قصة قصيرة ( هابيل وقابيل )
                          قصة روائية ( قصة يوسف )
                          قصة ملحمية ( قصة موسى )
                          قصة قومية ( قصة بنى إسرائيل )
                          قصة مأسملهاة شخصية ( قصة سيدنا إبراهيم )
                          قصة مأسملهاة المعاناة ( قصة سيدنا ايوب )
                          قصة مأسملهاة السلوك ( قصة سيدنا لوط )
                          قصة مأسملهاة الأخلاق ( يوسف )
                          قصة مأسملهاة القيم ( قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم )
                          القصة المأساة السوداء ( قصة فرعون )
                          القصة المأساة العظيمة ( قصة الغلام فى قصة اصحاب الأخدود )[/align]
                          أسس القصة
                          البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية

                          تعليق

                          • أحلام الحلواني
                            أديب وكاتب
                            • 21-06-2009
                            • 208

                            #14
                            قضاء الأمر لموسى - عليه السلام - وهلاك فرعون وجنوده

                            لقد تحدّى فرعونُ موسى - عليه السلام - , وواعده بالسّحرة الذين سيغلبونه , فانقلب السحر على الساحر , ووقع فرعون بين مطرقة الوفاء بالعهد , وهو الايمان بموسى وهارون , وبين سنديان ملأه , إذ قالوا له :
                            أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ؟
                            قال فرعون :

                            سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
                            .

                            وقال أيضا :
                            ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ .
                            فردّ موسى قائلا :
                            إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ .
                            فأظهر رجلٌ من آل فرعون ايمانه بعد أن كان يكتمه , وتوجّه بالنّصيحة إلى فرعون وملإه قائلا :
                            أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
                            يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ
                            وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ
                            مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ
                            وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ
                            يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
                            وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ
                            الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
                            وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
                            يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ
                            مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
                            وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
                            تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ
                            لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
                            فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
                            فماذا حصل له ؟
                            فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ .


                            نكث فرعون العهد , ورجع عن وعده , وعاد إلى سياسته القمعية في قتل الأبناء , واستحياء النِّساء . كما أنّه لم يؤمن بموسى إلا القليل من قوم فرعون بالسرّ , قال تعالى :
                            فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ .

                            الحقيقة , أن المفسرين اختلفوا حول الذرّية , هل هي من قوم موسى , أم فرعون ؟وحول معنى ذُرّيّة نفسها . لكنه من الواضح أن ذُرّية هُنا جاءت بمعنى القليل , لما سبقها من استثناء ( إلا ) ولحقها من التبعيض ( من ) كما أن ابن عباس ( رضي الله عنه ) فسّرها بالقليل , ومجموعة من السلف . أما من أعاد القوم على موسى - عليه السلام - فاحتجّ بأن ضمير الغائب في قومه أقرب إلى ذِكر موسى من فرعون , ولو كانت أقرب إلى فرعون , لقال : على خوفٍ منه . كما أن ابن عباس قال بأنهم بنو إسرائيل في
                            الطبري , أما في البغوي فقال : هم اليسير من قوم فرعون , ورواية أخرى عن ابن عباس أيضا , أنهم كانوا سبعين ألفا من عائلات القبط , كانت أمهاتهم من بني إسرائيل . فأي رواية نتبع يا سادة ؟ إذا عرفنا , أن ابن كثير جاء على الروايتين ؟! أما السعدي فقال : شباب من بني إسرائيل ثبتوا على الايمان , وصبروا على الخوف .


                            إذا , نحن أيضا لنا أن نتكلّم , ونقول رأينا , لكن , مُستنبطا من القرآن نفسه :
                            أولا
                            : قوم موسى أصلا يؤمنون بالله , وهو جاء ليُنقذهم من فرعون .

                            ثانيا
                            : قوم موسى قالوا له بأنهم أوذوا قبل أن يأتيهم وبعد أن جاءهم , أي أنهم في العذاب دائمون , فكيف يخافون من فرعون , وهو أصلا يُعذبهم كل هذه السنين , ويستعبدهم لأنهم يدينون لله الواحد ؟

                            ثالثا
                            : نسي المُفسرون كلمة : وملإهم . أي أن هذه الذريّة من القوم , آمنت بموسى على خوفٍ من فرعون , وملإهم هُم , جماعتهم . ولو كانت الملأ تعود على فرعون لقال : وملإه , لكن ملأه ملؤ هذه الذرّية أيضا , فهم كتموا ايمانهم , لخوفهم من قومهم , إضافة إلى فرعون أن يفتنهم , أي , يُعذبهم .

                            يا سادة , إذا كان السّحرة جميعا سقطوا ساجدين . ألا يؤمن القليل أيضا من قوم فرعون الذين شهدوا هذه المُبارزة , وهذه الآية العظيمة , وما تبعها أيضا من آيات بينات ؟ نعم , آمن اليسير منهم , وكتموا ايمانهم , بعد أن رأوا ما حلّ بالسحرة من عذاب فرعون لهم .
                            في الوقت نفسه , هُناك من كذّب موسى من بني إسرائيل , وكفروا بما جاء به , وقالوا :
                            سحران تظاهرا , وقالوا إنّا بِكُلٍّ كافرون .
                            وهُناك من كان مُواليا تماما لفرعون , مثل قارون . والذي قال فيه ربُّ العِزّ’ :
                            إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
                            وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
                            قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
                            فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
                            وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ
                            فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ
                            وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
                            وجعله الله مع فرعون وهامان في تكذيب موسى - عليه السلام - فقال في العنكبوت :
                            وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ .
                            وقال أيضا في غافر :
                            وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
                            إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ .

                            إذا , استمع فرعون إلى تحريض ملإه على بني إسرائيل , ليبدأ الذبح والتنكيل من جديد , إضافة الاستعباد الذي كان قائما . فتوجّه موسى - عليه السلام - إلى قومه خاطبا فيهم :
                            اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ .
                            فأجابة الذين آمنوا له من قومه :
                            أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا .
                            قَالَ : عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ .
                            يا سُبحان الله , أنظروا كيف كان ردُّ موسى - عليه السلام - :
                            وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ .
                            هل سيكونوا مُصلحين , أم مُفسدين , في حال مكّن لهم في الأرض كما فعل مع فرعون وملإه ؟
                            سنرى في المُستقبل , بعد أن يُهلك الله فرعون وجُنده .
                            فأجابه قومه قائلين :
                            عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا , رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
                            وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

                            جاء الوفاء بالعد الذي قطعه الله لنبييه موسى وهارون - عليهما السلام - , ليُرسل الله آياته تِباعا إلى فرعون وقومه , حتى يشغلهم عن بني إسرائيل :
                            وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ .
                            فأقحلت الأرض , وجفّت الآبار , وشحّت المياه , لعلّهم يرتجعون , ولكنّهم :
                            فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ .
                            ثُمّ توالت عليهم آيات العذاب :
                            فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ .
                            فاض النيل , وهجم الجراد على حقولهم , ومزارعهم , فلم يُبقِ منها شيئا , وعبث برؤوسهم القمل , وغزت الضفادع بيوتهم , وأصابهُمُ الرُّعاف , فما زادهم ذلك إلا استكبارا , وتعنُّتا , وقالوا لموسى :
                            مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ .
                            في هذه الأثناء , بدأ نبيّا الله ( موسى وهارون ) بدعوة قومهما , وجمعهم حولهما , وتجهيزهم للرّحيل عند ساعة الصفر :
                            وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ .
                            فسأل موسى - عليه السلام - ربّه مسألة , فاستجاب له :
                            وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ
                            قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ .
                            وكانت استجابة الله لهذا الدّعاء , بإخراج فرعون وجنوده من الجنات والعيون والمقام الكريم , وتدمير ما كانوا يعرشون .
                            تصوّروا أيها الأخوات والاخوة , كيف سيكون عليه حال آل فرعون , وقومه , وهم يعيشون هذا العذاب فترة ليست بالقصيرة , قدّرها بعض العُلماء ببضع سنين . لقد بدأت تتفشّى فيهم الأمراض , وكثُر الموت , حتى أصبح الفرعون في حرج شديد أمام شعبه , فأرسل إلى موسى - عليه السلام - وقال :
                            يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ .
                            وبعيدا عن اختلاف المُفسّرين في معنى الرّجز , فهذه الآية تدلُّنا على المعنى الصحيح :
                            فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ .

                            ففي قوله سُبحانه :
                            إلى أجل هُم بالغوه . عرّفنا بمعنى الرّجز , إذ أنّه وقع عليهم عندما حان الأجل الذي بلغوه , وهو : الهلاك , الموت .


                            استدعى فرعونُ موسى عليه السّلام , وعاهده بالايمان إن رُفع عنهم الرّجز , فلمّا رفع الله عنهم ذلك , أعطاهم فرعون موافقته على الرّحيل , فلمّا خرج موسى من عنده , وسوس له ملأه , فنكث العهد , وأرسل في المدائن ليجمع الجُند . لكنّ الله أوحى إلى نبيّهِ موسى :
                            وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ .
                            فخرج موسى بقومه ليلا . وراح فرعونُ يجمع جنوده , وحتى يُطمئن الجنود لقلّتهم , قال لهم :
                            إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
                            وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ
                            وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ .

                            لأنّ فرعون لا يستطيع أن يجمع كُلّ جنود المملكة في ليلة واحدة , فقد استكفى بمن حوله من المدائن المُجاورة . وجنوده لم يبلغ تعدادهم المليون أو المليون ونصف كما يصف أهل الكتاب , وأنّى له أن يفعل ذلك بفترة وجيزة . كما أن هذه الأعداد التي يدّعيها اليهود , قادرة على أن تغزوا الأرض بأسرها في ذلك الزّمان . لكنّ الله لفت انتباهنا في القرآن , إلى أنّ فرعون هوّن على جُنده الأمر , ووصف مُهمّتهم كأنّها نُزهة عسكرية , مع أناس قليلين , لا سلاح , ولا خبرة في القتال . ثمّ :
                            فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ
                            فلو فرضنا أنّ فرعون بدأ بجمع الجُند عند المساء , فكم سيجمع حتى الانطلاق في الصباح ؟ أعداد قليلة , ولكن من خيرة المُقاتلين طبعا .
                            الآن , إذا كان موسى وقومه ساروا في الليل , أي بعد العشاء مُباشرة , فسيكونوا قد قطعوا بمشيتهم غير المُطمئنّة , والهاربة من العدو , بما يُعادل الستين كيلمترا حتى الشُروق , موعد انطلاق فرعون وجُنده . ومع تراكم المسافة في التسارع بين الأبطأ ( قوم موسى ) والأسرع ( فرعون وجُنده ) فسيقطع الاسرائيليون ما مقداره ثمانين أو مائة كيلمترا حتى يلتقي الفريقان . وهذا يؤكد على عدم صدق النّظريات التي قالت : بأنّ فرعون وجُنده غرقوا في النّيل , أو في بُحيرة قارون .
                            بمُساعدة ( جوجل ايرث ) نجد أن أقرب نُقطتين بين شرق النيل , وغرب خليج السويس , هما : مدينة زايد , التي تبعُد حوالي خمسين كيلومترا شمال شرق الفيوم بخط مستقيم , التي وُجد فيها آثارا لبني إسرائيل , ومنطقة ( عين السُّخنة ) على الشاطيء الغربي من خليج السُّويس , والمسافة بينهما حوالي تسعين كيلومترا بخط مُستقيم . كما يصعُبُ التكهُن بأيّ نُقطة جنوب ( عين السُّخنة ) لأن هُناك سلسلة جبال طويلة على طول الساحل , وكُلّما اتجهنا جنوبا , زادة المسافة بين النيل والبحر , لتصل أحيانا إلى مائتي كيلومترا , حيث لا يُمكن لبني إسرائيل قطع هذه المسافة الطويلة في الصحراء , دون إدراك فرعون لهم , وقتلهم .
                            وصل موسى وقومه إلى شاطيء البحر , فصرخ بعض من معه قايلين :

                            إِنَّا لَمُدْرَكُونَ .

                            إذ رأوا جنود فرعون أمامهم رأي العين , وليس أمامهم سوى البحر , فقال موسى - عليه السلام - بثقة المؤمن العارف في الله :

                            كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ

                            وهُنا , أوحى الله إلى موسى :

                            أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ

                            يا الله , يا له من مشهد عظيم , انفلق البحر إلى شقين , كُلُّ شق كأنّه جبل عظيم مرتفع , ولا شكّ أنّه ارتفع بقدر العُمق الذي من تحته , وربما أكثر . وطمأن الله بنيه قائلا :

                            فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى

                            أرض البحر أصبحت كاليابسة , ولن يستطيع فرعون من إدراكهم , لماذا ؟
                            لأن الجنود عندما رأوا ما رأوا من هذه الآية العظيمة , وهذا المشهد العجيب , وقفوا مندهشين , لا يقوون على الحُراك , مُنتظرين أوامر رجل مجنون . إذ كيف لمن رأى مثل هذا أن يتقدم ؟! لقد كانت لهم بمثابة فُرصة أخيرة للنّجاة , ولكن , أنّى لهؤلاء المجرمين أن يتّعظوا ؟!
                            ما إن زالت الدهشة , وانقشع أثر الصدمة عن فرعون وجنده , واطمأنوا بأنّ ما يروه حقيقة وليس خيالا , ورأوا كيف سلك قوم موسى طريقهم في يابسة البحر , وتجاوزوه بأمان , أعطا فرعون الاشارة المجنونة باللحاق بهم :
                            وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا .
                            راحوا يركضون وراءهم فرحين , وهم يبغون ويتعدون حدود الله , ويكفرون بآياته البينات , فما كان من الله إلا أن عاقبهم بذنبهم وكفرهم :
                            فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
                            وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ
                            وهُنا أرانا الله أمرا , لم يره أو يسمعه أحدٌ سواه من فرعون :
                            حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
                            ولكنّ الله لم يقبل منه ايمانه بعد أن أراه الآيات الكبيرات , فعصى . ليقول له مُستنكرا :
                            آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ؟!
                            ثُمّ قال :
                            فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ .
                            وها هي جُثّته اليوم , تُعرض أمام الملايين من البشر , فهل من مُتّعظ ؟

                            يتبع

                            تعليق

                            • أحمد الأقطش
                              أديب وكاتب
                              • 30-05-2008
                              • 376

                              #15
                              الأستاذة الكريمة أحلام ،،

                              أتابع ما تدرجينه في هذا الموضوع، كما أتابع ما يدرجه الأستاذ فتحي. حقيقة ً .. أجد كثيراً من التفصيلات متفقاً عليها، لكن مناطق الاختلاف منصبّة على نقاط بعينها كنتُ أتمنى التركيز عليها دون هذه الحلقات الكثيرة. ولكن على كل حال، فلا ملل مِن الغوص في الآيات الكريمة.

                              أتفق في المجمل العام مِن طرحك، لأنه قائم على التدقيق في ألفاظ القرآن. ولكن اسمحي لي ببعض التعقيبات السريعة:

                              المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
                              وهكذا كانت لبني إسرائيل المكانة العالية في مصر , حتى تمكن الفراعنة الأقباط من هزيمة الفراعنة الهُكسوس , الذين كانوا حلفاء لبني إسرائيل , كما ورد في كُتب التاريخ
                              أنتِ انتقدتِ الإسرائيليات، وحسناً فعلتِ. ولكنك وقعتِ في شَرَكِ النظريات التاريخية، وبخاصة ما يتعلق بحقبة الهكسوس، فهي فترة غامضة في التاريخ المصري القديم نظراً لقلّة الأدلة الأثرية وشحّ الروايات التاريخية القديمة، كتاريخ مانيتون إن كنتِ على دراية به.

                              موسى وقومه ليس لهم ذِكر في التواريخ والآثار المصرية المكتشفة حتى الآن، فكيف - ونحن نتعامل مع القصص الحق - نجزم بمثل هذه النظريات التي تواجه الكثير مِن النقد داخل الأروقة العلمية؟ يجب أن يكون القصص القرآني بمنأى عن هذه الأمواج المتلاطمة.

                              المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
                              ليعلم بهذا رجلٌ يُحب - موسى عليه السلام - ويخاف عليه , أو ربما سمعت زوجة الفرعون بمكره , فأرسلت هذا الرجل إلى ابنها موسى لتُحذره ..... وليس بعيدا , أن تكون قد أرسلت إليه متاعا للسفر أيضا
                              الله لم يذكر أنّ هناك مَن أرسل هذا الرجل، فلماذا التكهّن بدور لامرأة فرعون؟ هذه الجزئية تنطبق على ما تفضلتِ بانتقاده في قولك:

                              المشاركة الأصلية بواسطة أحلام الحلواني مشاهدة المشاركة
                              الله لم يذكر من هو الرجل , فلماذا التكهن والبحث عن هويته ؟!
                              .. فمحاولة ملء الفجوات القصصية على هذا النسَق هي التي جعلت القصّاص منذ عصر التابعين يحكون الكثير من الحكايات التي يظنون أنّ الأحداث تسبك بها. أحسنتِ بنقدك لهذه الحكايات التي ليس لها أصل، فلماذا قمتِ بنفس الصنيع هنا؟

                              متابع لباقي الموضوع، وأشيد بتناسقه الداخلي
                              مع خالص التحية
                              ،،
                              [poem=font="Mudir MT,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="http://www.almolltaqa.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/97.gif" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
                              تاقَت نفسي إلى نزولِ الماءِ=فأطهّر جُثتي مِن الأقذاءِ
                              لكنّ تَراكُمَ الهوى في بَدَني=يقذفني في دوّامةِ الأشياءِ![/poem]
                              ... أحمد

                              تعليق

                              يعمل...
                              X