بسم الله الرحمن الرحيم
قصة موسى - عليه السلام - بين النقل والتأويل
الحمد لله الذي أنزل على حبيبه القرآن , ليكون هُدى للناس ونورا , والصلات والسلام على خير الأنام , كان للمؤمنين رحمة ورسولا . أما بعد :
قصة موسى - عليه السلام - شغلت العلماء والمفسرين على مرّ التاريخ منذ نزول القرآن الكريم , إلى أيامنا هذه . من الناس من أخذها كعبرة للأمم , فلم يقف إلا على ظاهر الآيات القرآنية ومواعظها , ومنهم من أوغل فيها ليُغطي الفراغات بين محطاتها بالاستئناس بكتب الأديان الأخرى , كاليهودية والنصرانية , والاجتهادات الشخصية , ونقل ما جرى على ألسنة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ( رضوان الله عليهم جميعا ) دون الرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ومنهم من ذهب وراء الباحثين في النصوص التي تركها الفراعنة واليونان والرومان والكلدانيين على جدران المباني والقبور والصخور والألواح وورق البردى . حتى من أراد الرجوع إلى أمهات التفاسير , فسيجد الحشو الاسرائيليّ , وشطحات المؤولين , وخيالات المُحللين من عُشاق قراءة القصص الأسطورية مُتربعة هُناك براحة ويُسر . إذا ما سألت أحدا من أين جئت بهذه الرواية ؟ يُسارع بالرد : وردت في ابن كثير , أو القرطبي , أو الزمخشري .. وهكذا , لنرجع إلى هذه الكتب ونسأل أصحابها عن مصادرهم التي اعتمدوا عليها , لنجد الرد : قيل , وسمعت عن فلان حدثنا فُلان ... دون رفع الكلام إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -
نحن لسنا أعلم من هؤلاء العلماء , لكنني أزعم أننا على اطلاع أوسع في شتى العُلوم , بعد الثورة المعلوماتية العالمية , وسهولة الوصول إلى كل ما توصل إليه العلم منذ ذلك الزمان , فمع التراكمات العلمية , وبزوغ شمس بعض النظريات بعد التثبت من حقيقتها , وأفول نجم أخرى بعد إثبات خطأها , سنُحاول أن نسرد قصة موسى - عليه السلام - تماما كما سردتها النصوص القرآنية في الآيات المتفرقة بين سُوَره , ونُحدد الأماكن , ونُعين الأرض المباركة , ونُبين الأرض المُقدسة . ونُبعد الأنظار نهائيا عن تُرّاهات اليهود حول هذه القصة , ونطوي صفحة , طالما اعتمدها عُلماء ومُفسرون على أنها حقيقة قائمة . وما هي في الحقيقة إلا حشو , جاء من خيال أحبار اليهود , وشطحات بعض الرّواة .
نحن لسنا أعلم من هؤلاء العلماء , لكنني أزعم أننا على اطلاع أوسع في شتى العُلوم , بعد الثورة المعلوماتية العالمية , وسهولة الوصول إلى كل ما توصل إليه العلم منذ ذلك الزمان , فمع التراكمات العلمية , وبزوغ شمس بعض النظريات بعد التثبت من حقيقتها , وأفول نجم أخرى بعد إثبات خطأها , سنُحاول أن نسرد قصة موسى - عليه السلام - تماما كما سردتها النصوص القرآنية في الآيات المتفرقة بين سُوَره , ونُحدد الأماكن , ونُعين الأرض المباركة , ونُبين الأرض المُقدسة . ونُبعد الأنظار نهائيا عن تُرّاهات اليهود حول هذه القصة , ونطوي صفحة , طالما اعتمدها عُلماء ومُفسرون على أنها حقيقة قائمة . وما هي في الحقيقة إلا حشو , جاء من خيال أحبار اليهود , وشطحات بعض الرّواة .
ولادة موسى عليه السلام
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :
طسم
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
القصص ( 1- 13 )
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
القصص ( 1- 13 )
من بداية القصة , أخبرنا الله بما يُفيدنا , إذ ليس هُناك ذكر كامل لأنباء موسى وفرعون , لكنّ ما ذكره لنا هُو الحق , وما ذكره لنا ليس بقليل أيضا .
فرعون علا وتكبر وتجبر , وكانت من سياسته التفريق بين الطوائف , وبالتالي التفريق في المُعاملة , لكنه كان أقسى ما يكون , مع طائفة العبرانيين , الذين هُم : بني إسرائيل . فاستعبدهم , واستضعفهم , وقتل أبناءهم , وترك نساءهم أحياء , كأنه ينتقم منهم . ولم يذكر الله سبحانه عن خلفية هذا الاجراء من قتل الأبناء واستحياء النساء , وكل القصص التي قرأتها عن الحلم الذي رآه فرعون حول طفل يولد من بني إسرائيل , فيكبر , ويقود شعبه ليدمر مملكة فرعون , أو النار التي تأتي من ناحية بيت المقدس , وكل القصص المُشابهة , ليس لها أصل أبدا , وما جاء عن ابن عباس ليس له دليل يدعمه , أو يوصله إلى صحة الحديث , أو ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولو كانت فعلا حقيقية , لذكرها الله كما ذكر رؤيا ملك يوسف - عليه السلام - لأهميتها , حتى العهد القديم عند اليهود لا يذكر ذلك , بل يذكر أمرا , قد يكون قريبا من الحقيقة , وهو غيظ فرعون من بني إسرائيل لكثرة مواليدهم , وخوفه من تناميهم في المُستقبل , فيسيطروا على مصر كما فعلوا من قبل , أيام نبي الله ( يوسف ) عليه السلام , وتحكمهم بالاقتصاد المصري بأمر من الملك الذي طلب منه يوسف - عليه السلام - أن يكون مسؤولا على مخازن الأرض من الحبوب والمنتجات الزراعية , وهكذا كانت لبني إسرائيل المكانة العالية في مصر , حتى تمكن الفراعنة الأقباط من هزيمة الفراعنة الهُكسوس , الذين كانوا حلفاء لبني إسرائيل , كما ورد في كُتب التاريخ . إذاً , هل هُناك ما يدلُّنا على أنّ هذا الاجراء ( من قتل الأبناء واستحياء النساء ) وارد عند هذا الملك المُتعالي الجبار , دون أن يكون هُناك حُلم أو ما شابه ؟ نعم , في قوله تعالى : ( وقال الملأ من قوم فرعون : أتذر موسى وقومه ليُفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ قال : سنُقتّل أبناءهم , ونستحي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون ) 127 الأعراف . وهذا الكلام كان بعد أن سار موسى - عليه السلام - وقومه ليلا . وسنأتي على ذكر هذا المشهد لاحقا إن شاء الله . نفهم من تحذير الملأ من قوم فرعون , أن بني إسرائيل سبق لهم أن أفسدوا في الأرض ( حسب ادعائهم ) وأنهم لم يدينوا بدين فرعون , ونبذوا آلهته , والعقاب : تقتيل الأبناء , واستحياء النساء . كما أن هذا العقاب ليس دائما , بل مؤقتا , على حسب ما يرتأيه فرعون . لأنه لو كان دائما , لانقرض بنوا إسرائيل من بعد ولادة موسى - عليه السلام - حتى رجوعه , وتخليص بني إسرائيل .
خافت أم موسى على ولدها ( الذي شاء الله أن يولد في فترة التقتيل ) من الذباحين من جنود فرعون , فلم تعرف كيف تتصرف , ليوحي الله إليها بأن تُرضعه ( ربما , لِألا يبكي ويبقى هادئا ) وتضعه في الصندوق , ثم تُلقيه في النهر , ليلتقطه عدو الله وعدوه . وقد اختلف العلماء في قضية الوحي , فمنهم من اعتبره إلهاما , ومنهم من قال بأنه كان هاتفا بواسطة الوحي جيريل ( عليه السلام ) , لأن الله طمأنها , ووعدها برده إليها . لكنني أرى أنه لو كان جبريل ( عليه السلام ) لرأت آية حيّة أمامها تجعلها تطمئن جيدا , ولما أصبح قلبها فارغا , وما كادت تودي به , لولا أن الله ربط على قلبها , وصبّرها . فماذا حصل : الله أوحى لها بواسطة التخيُّل , ألقى في قلبها ( سيناريو ) الانقاذ , إي بالالهام , لأنها ليست نبيّ , وإلا ما كانت لترمي بابنها في النهر , ولكن ما من حل أمامها غير أن تؤمن بما رأته في إدراكها اللاواعي من خلال الايمان بالخالق , فبقيت غير متأكدة من فعلها النشيء عن الالهام الرباني لها , والدليل : أنها طلبت من ابنتها أن تُراقبه من بعيد , وقلبها أصبح فارغا من الصبر , لتخرج هي أيضا وراءه , لكن الله ربط على قلبها , وأعطاها شُحنة إضافية من الصبر . فما كان إلا ما أوحى الله لها . وجده آل فرعون , فالتقطوه من النهر , وهمّوا ليقتلوه , لأنهم علموا بأنه من بني إسرائيل , ولكن زوجة فرعون نهتهم عن ذلك , وأقنعت زوجها أنه يُمكن الاستفادة منه , إذ ليس له أهل , وهم ليس لهم ابن ( قُرّة عين لي ولك ) فلماذا لا يكون لهم ابنا ومؤنسا ؟ ولو كانت مسألة قتل الأولاد تتعلق بحُلم رآه الفرعون , وآمن به , ما تركه لحظة واحدة على قيد الحياة . وافق فرعون على فكرة زوجته , فأمرت له بمرضعة , تلو أخرى , والطفل لا يقبل أيا منهن . وأخته بطبيعة الحال جاءت إلى المكان بعد النداء على المرضعات , أي أنها دخلت عليهم لسبب قوي , وهو حاجة بيت الفرعون إلى مُرضعة . فنصحتهم بمرضعة . وهُنا , لم تسترد أم الطفل طفلها فحسب , بل نالت أجرا من زوجة الفرعون على إرضاعه , وعلمت أن إلهام الله لها كان حقا وصدقا , وأن الله على كل شيء قدير . هُنا ينتهي السرد القصصي القرآني عن حياة موسى - عليه السلام - الرضيع . والغريب , أن العهد القديم أيضا يتوقف عند هذه النقطة , لينتقل مُباشرة إلى مرحلة الشباب , فمن أين جاءت قصة التمرة والجمرة لموسى الطفل ؟ إذ أن هُناك من قال : أن موسى - عليه السلام - شدّ بقوة لحية الفرعون , فهم الأخير بقتله , فقالت له زوجه أنه غير مُدرك , ولتُدلل له على صدقها , أحضرت إليه تمرة وجمرة , فقالت : إن التقط التمرة فاقتله , وإن التقط الجمرة فلا تفعل , فجاء جبريل - عليه السلام - وأمسك بيد الطفل ليلتقط الجمرة , فالتقطها ووضها في فمه , فكانت العُقدة التي طلب من الله لاحقا أن يفكها له . وهذه القصة لا أراها إلا ضربا من الخيال , وعليها علامات استفهام كبيرة , إذ أن فرعون قرر الابقاء على حياة الطفل وهو رضيع , وزوجته لم تتعلق به بعد , فما باله يفعل وقد تعلقت به زوجه ؟! كما أن فرعون لم يكن تافها وغبيا إلى هذه الدرجة ليفحص طفل ويختبره بهذه الطريقة الساذجة . لأنه يعلم أن الطفل بمجرد لمسه للجمرة , سيرميها من فوره , لأنه لن يتحمل حرارتها , ما بالنا به يحملها , ويتمكن منها ليُصوبها نحو فمه , ويضعها على لسانه , تكون قد أحرقت أصابعه بالكامل , كما أنه من المعروف عن الأطفال التقاطهم لأي شيء أمامهم حتى يتفحصوه , خاصة إذا كان غريبا عنهم , فإن كان يعرف التمرة من قبل , فسيلتقط الجمرة حتما للتعرف عليها . إذا , ما هي العقدة التي كانت في لسانه ؟ سنذكرها إن شاء الله في حينها .
فرعون علا وتكبر وتجبر , وكانت من سياسته التفريق بين الطوائف , وبالتالي التفريق في المُعاملة , لكنه كان أقسى ما يكون , مع طائفة العبرانيين , الذين هُم : بني إسرائيل . فاستعبدهم , واستضعفهم , وقتل أبناءهم , وترك نساءهم أحياء , كأنه ينتقم منهم . ولم يذكر الله سبحانه عن خلفية هذا الاجراء من قتل الأبناء واستحياء النساء , وكل القصص التي قرأتها عن الحلم الذي رآه فرعون حول طفل يولد من بني إسرائيل , فيكبر , ويقود شعبه ليدمر مملكة فرعون , أو النار التي تأتي من ناحية بيت المقدس , وكل القصص المُشابهة , ليس لها أصل أبدا , وما جاء عن ابن عباس ليس له دليل يدعمه , أو يوصله إلى صحة الحديث , أو ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولو كانت فعلا حقيقية , لذكرها الله كما ذكر رؤيا ملك يوسف - عليه السلام - لأهميتها , حتى العهد القديم عند اليهود لا يذكر ذلك , بل يذكر أمرا , قد يكون قريبا من الحقيقة , وهو غيظ فرعون من بني إسرائيل لكثرة مواليدهم , وخوفه من تناميهم في المُستقبل , فيسيطروا على مصر كما فعلوا من قبل , أيام نبي الله ( يوسف ) عليه السلام , وتحكمهم بالاقتصاد المصري بأمر من الملك الذي طلب منه يوسف - عليه السلام - أن يكون مسؤولا على مخازن الأرض من الحبوب والمنتجات الزراعية , وهكذا كانت لبني إسرائيل المكانة العالية في مصر , حتى تمكن الفراعنة الأقباط من هزيمة الفراعنة الهُكسوس , الذين كانوا حلفاء لبني إسرائيل , كما ورد في كُتب التاريخ . إذاً , هل هُناك ما يدلُّنا على أنّ هذا الاجراء ( من قتل الأبناء واستحياء النساء ) وارد عند هذا الملك المُتعالي الجبار , دون أن يكون هُناك حُلم أو ما شابه ؟ نعم , في قوله تعالى : ( وقال الملأ من قوم فرعون : أتذر موسى وقومه ليُفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ؟ قال : سنُقتّل أبناءهم , ونستحي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون ) 127 الأعراف . وهذا الكلام كان بعد أن سار موسى - عليه السلام - وقومه ليلا . وسنأتي على ذكر هذا المشهد لاحقا إن شاء الله . نفهم من تحذير الملأ من قوم فرعون , أن بني إسرائيل سبق لهم أن أفسدوا في الأرض ( حسب ادعائهم ) وأنهم لم يدينوا بدين فرعون , ونبذوا آلهته , والعقاب : تقتيل الأبناء , واستحياء النساء . كما أن هذا العقاب ليس دائما , بل مؤقتا , على حسب ما يرتأيه فرعون . لأنه لو كان دائما , لانقرض بنوا إسرائيل من بعد ولادة موسى - عليه السلام - حتى رجوعه , وتخليص بني إسرائيل .
خافت أم موسى على ولدها ( الذي شاء الله أن يولد في فترة التقتيل ) من الذباحين من جنود فرعون , فلم تعرف كيف تتصرف , ليوحي الله إليها بأن تُرضعه ( ربما , لِألا يبكي ويبقى هادئا ) وتضعه في الصندوق , ثم تُلقيه في النهر , ليلتقطه عدو الله وعدوه . وقد اختلف العلماء في قضية الوحي , فمنهم من اعتبره إلهاما , ومنهم من قال بأنه كان هاتفا بواسطة الوحي جيريل ( عليه السلام ) , لأن الله طمأنها , ووعدها برده إليها . لكنني أرى أنه لو كان جبريل ( عليه السلام ) لرأت آية حيّة أمامها تجعلها تطمئن جيدا , ولما أصبح قلبها فارغا , وما كادت تودي به , لولا أن الله ربط على قلبها , وصبّرها . فماذا حصل : الله أوحى لها بواسطة التخيُّل , ألقى في قلبها ( سيناريو ) الانقاذ , إي بالالهام , لأنها ليست نبيّ , وإلا ما كانت لترمي بابنها في النهر , ولكن ما من حل أمامها غير أن تؤمن بما رأته في إدراكها اللاواعي من خلال الايمان بالخالق , فبقيت غير متأكدة من فعلها النشيء عن الالهام الرباني لها , والدليل : أنها طلبت من ابنتها أن تُراقبه من بعيد , وقلبها أصبح فارغا من الصبر , لتخرج هي أيضا وراءه , لكن الله ربط على قلبها , وأعطاها شُحنة إضافية من الصبر . فما كان إلا ما أوحى الله لها . وجده آل فرعون , فالتقطوه من النهر , وهمّوا ليقتلوه , لأنهم علموا بأنه من بني إسرائيل , ولكن زوجة فرعون نهتهم عن ذلك , وأقنعت زوجها أنه يُمكن الاستفادة منه , إذ ليس له أهل , وهم ليس لهم ابن ( قُرّة عين لي ولك ) فلماذا لا يكون لهم ابنا ومؤنسا ؟ ولو كانت مسألة قتل الأولاد تتعلق بحُلم رآه الفرعون , وآمن به , ما تركه لحظة واحدة على قيد الحياة . وافق فرعون على فكرة زوجته , فأمرت له بمرضعة , تلو أخرى , والطفل لا يقبل أيا منهن . وأخته بطبيعة الحال جاءت إلى المكان بعد النداء على المرضعات , أي أنها دخلت عليهم لسبب قوي , وهو حاجة بيت الفرعون إلى مُرضعة . فنصحتهم بمرضعة . وهُنا , لم تسترد أم الطفل طفلها فحسب , بل نالت أجرا من زوجة الفرعون على إرضاعه , وعلمت أن إلهام الله لها كان حقا وصدقا , وأن الله على كل شيء قدير . هُنا ينتهي السرد القصصي القرآني عن حياة موسى - عليه السلام - الرضيع . والغريب , أن العهد القديم أيضا يتوقف عند هذه النقطة , لينتقل مُباشرة إلى مرحلة الشباب , فمن أين جاءت قصة التمرة والجمرة لموسى الطفل ؟ إذ أن هُناك من قال : أن موسى - عليه السلام - شدّ بقوة لحية الفرعون , فهم الأخير بقتله , فقالت له زوجه أنه غير مُدرك , ولتُدلل له على صدقها , أحضرت إليه تمرة وجمرة , فقالت : إن التقط التمرة فاقتله , وإن التقط الجمرة فلا تفعل , فجاء جبريل - عليه السلام - وأمسك بيد الطفل ليلتقط الجمرة , فالتقطها ووضها في فمه , فكانت العُقدة التي طلب من الله لاحقا أن يفكها له . وهذه القصة لا أراها إلا ضربا من الخيال , وعليها علامات استفهام كبيرة , إذ أن فرعون قرر الابقاء على حياة الطفل وهو رضيع , وزوجته لم تتعلق به بعد , فما باله يفعل وقد تعلقت به زوجه ؟! كما أن فرعون لم يكن تافها وغبيا إلى هذه الدرجة ليفحص طفل ويختبره بهذه الطريقة الساذجة . لأنه يعلم أن الطفل بمجرد لمسه للجمرة , سيرميها من فوره , لأنه لن يتحمل حرارتها , ما بالنا به يحملها , ويتمكن منها ليُصوبها نحو فمه , ويضعها على لسانه , تكون قد أحرقت أصابعه بالكامل , كما أنه من المعروف عن الأطفال التقاطهم لأي شيء أمامهم حتى يتفحصوه , خاصة إذا كان غريبا عنهم , فإن كان يعرف التمرة من قبل , فسيلتقط الجمرة حتما للتعرف عليها . إذا , ما هي العقدة التي كانت في لسانه ؟ سنذكرها إن شاء الله في حينها .
يتبع
تعليق