المشهد قبل الأخير

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد عيسى
    أديب وكاتب
    • 30-05-2008
    • 1359

    المشهد قبل الأخير


    1. أحمد
    جلس في ذات المكان ، يرقب الشمس التي كادت أن تغيب ، يمسك هاتفه النقال في لهفة ، ولكأنه يناجيه ،
    بجواره جلست فتاة صغيرة ، تمسك عروستها الصغيرة وتداعبها في رقة ، فارتفع حاجباه في حنان إذ رآها ..
    أمسك بيدها الرقيقة ونظر في عينيها ، كم يحس أنها تشبهه .. كم يرى فيها نفسه ..
    أحس بها وببراءة طفولتها .. كم يحسدها .. كم يتمنى لو نسي أنه رجل بالغ ولعب مثلها ، لو اختبأ من أصدقائه محاذراً ألا يمسكه أحدهم ..
    شعور رهيب لا يوصف ، قلبه يدق في قوة تكاد تخلع صدره ، وأقدام صديقه تقترب ، شعور بالرهبة والخوف والنشوة ومتعة اللعبة .. ثم تبدأ الخطوات في الاقتراب ، فتزداد النشوة لتطغى على مشاعره .. وتكون قمتها إذ يهب واقفاً ليضع يده على الجدار معلناً انتصاره ..
    هكذا كان يمتلك مصيره ورغباته بين جنبيه ، يستطيع أن يقاوم وأن ينجح ، يواجه خوفه ويغلبه .. هكذا كان يشعر بنفسه بطلاً وبالخوف صغيراً أمام قلبه وأحلامه ..
    الطفلة تهرع لتلبية نداء سيدة ترافقها ...تتعثر أرضاً فلا يعيقها هذا ، مسرعة تنهض وتواصل رحلتها خارجة من المكان ..
    الوقت يمر بطيئاً ، والهاتف على حاله صامتاً وكأنما غادرته الحياة ..
    ذراته ترتجف ، لكن النشوة ليس لها مكان ، والخوف وحده من يسيطر عليه ، والانتصار ليس وارداً أبداً .. فمتى يظهر اسمك يا مريم ..
    *****
    2. مريم
    الشمس في كبد السماء ..
    لقد اقترب الموعد الذي طال انتظاره ..
    ترتب شعرها في المرآة ..تلبس فستاناً ثم آخر ، تغير معالم وجهها مرات ومرات .. هل سأجده هناك ؟ هل لا زال ينتظرني ؟
    ما بيننا أكبر من تفاهات السنين ، صبرنا فاق كل حدود لكنك لي ولو لم تشأ كل قوانين الدنيا .. اليوم ستعرف كل شيء يا حبيبي .. ستعرف أن لقاءنا أثمر ، وأن بذرته جميلة نضرة كوردة خضراء ..بذرة تدعى وفاء ..
    من بين آهات غطت جراحات قلبها تتذكر آهاتها إذ سارت في طريق غير طريقه ..
    صرخت يومها أن سأعود .. وصرخ يومها أن سأنتظرك ..
    في ذات الموعد وذات المكان ..
    وابتعدت متوارية خلف السحاب ، تتداعى في قلبها أمواج بحر عاتية ، تتصارع كل خيالات الدنيا ، رغباتها تذوب وتذوي ، والحياة لا تعود إلا ساع الغروب .. عند شجرة السرو ذاتها التي شهدت أول لقاء ..
    ها أنا ذا يا حبيبي قادمة إليك ..
    لن يمنعني شيء ..
    لن توقفني كل الدنيا ..
    سأبدأ رحلتي إليك بعد قليل ..
    تبتسم ابتسامتها التي لا تأتي إلا مرة واحدة في اليوم ..
    ولا تكتمل إلا حين تراه ..
    تنظر إلى ساعتها في قلق وقد تذكرت شيئاً آخر لا يقل أهمية
    لماذا تأخرت عن العودة يا وفاء ..؟

    *****
    3. وفاء
    تشرق الشمس مرة واحدة في اليوم ..
    ومع أول شعاع لها تنهض إلى شباك غرفتها ..
    ما أجمل لون الشمس ؟ ما أعذب صوت العصفور ؟ ما أحلى هذا الصباح ..
    تغسل وجهها كما عودتها أمها ، ورغماً عنها تفكر فيه ..
    هل هناك أبي حقاً ؟
    ولماذا لا تراه ؟ أي سجن هذا الذي لا ينفك عنه ؟ فماذا فعل لكي يحبس كما يقول جده ؟
    والى أين يسافر كما تقول أمها ؟ ولماذا لكل روايته التي تختلف عن الآخر ؟
    تتعبها الأسئلة ، وتحار في اختيار الجواب ، لكن الضحكة ترتسم على شفتيها الصغيرتين إذ تراها ..
    عروستها الصغيرة ، رفيقة ليلها وصديقتها الوحيدة ..
    تحتصنها ولكأنها تحتضن طفلها وصغيرها .. تراقصها وتلاعبها وتمشط لها شعرها ، تشعر معها بحنين جارف وبحب بلا حدود ..
    لا تهتم لدخول جدتها عليها ، ولا تستغرب لرغبتها في الخروج معها إلى المدرسة .. لا ترى ابتسامة الشر في عينيها ، ولا تستطيع ترجمة ما تحمله عيونها ..
    لقد رأت نظرتها هذه من قبل .. فأين رأتها .. أين ؟
    ما أشبهها بعيني جدي ..!
    ********
    4. الجد
    قبل الفجر بقليل ..
    أمام المرآة يشذب شاربه ، يشعر بقوته وسطوته ، يعرف أن الدنيا كلها أصغر من جبروته .. هو الذي يأمر فيطاع ، هو الذي يعرف كل شيء ويحسب له الجميع ألف حساب ، أمواله بالملايين ، وأمام قسوته تتكسر عظمة الرجال ..
    زوجته على السرير تنظر له بنظرتها الخاوية ..
    تسمع ما يقول ، وتبدأ مهمتها كما أمرها تماماً ..
    ستصطحبين وفاء ، لن تذهب إلى مدرستها ولن تعود إلى المنزل قبل المساء ..
    ستكون بعيدة تماماً عن مسرح الجريمة .. لن تشاهد أي شيء ولن تشعر بأي تغيير ..
    ستتصل سكرتيرتي عليه ، ستقنعه بأنها صديقتها .. ولسوف يكون هناك ..
    الخطة جاهزة وفي الوقت المناسب سترى ابنتنا ما لا تحب أن تراه .. ستبتعد عنه وتنساه تماماً ..
    هكذا يجب أن تتأخر ، ويجب أن تصل في الوقت الذي يناسبنا تماماً .. التوقيت هو الذي نلعب عليه ها هنا ..
    تهز رأسها ، تبتسم بذات الملامح الخاوية ..
    تراقب عثرات الزمن التي تنحفر على ملامحه ..
    ستسقط حتماً ، ولسوف تكون سقطتك مدوية ..
    ورغماً عنها ، أحست بالشفقة على مريم ..
    لك الله يا والد ابنتها .. لك الله ..
    *******
    5. المشهد قبل الأخير ...
    لكن المشهد يتوقف أمام ناظري أحمد وهو عاجز حتى عن التفسير ..
    الطفلة خارج الحديقة تتجمد ونظراتها لا تفارقه ..
    وجدتها دامعة العينين لا تتحرك ..
    والجوال هاتفه يرن .. نغماته تبدد صمت المكان ..
    - أنا صديقتها فوافني إلى شقتي لتلقاها ..
    لكنه لا يسمع حتى صوت الصديقة الغريبة ، وأنظاره معلقة بالطفلة ..
    شعرها الأسمر ينسدل على كتفيها الصغيرتين ، وعلى وجهها تبدو نظرات متعبة حقاً ..
    ولا تتحرك ..
    ثم تعود أدراجها إليه ..
    الدمعة في عيني مرافقتها تسقط وقد فقدت إدراكها وصبرها ..
    والحواجز تتكسر لتنجلي عن حقيقة مرة ، يدركها أخيراً في المشهد قبل الأخير ..
    ” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي
    [align=center]أمــــوتُ .. أقـــــاومْ [/align]
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    من الناس من يحسب أن الحياة في الإنسان هي فقط قدرته على التنفس والحركة وربما التفكير..وينسون أن الإحساس وحده هو بوصلة الحياة فيه

    قصة ثرية ..واسلوب يتسم بالسلاسة واللغة الجميلة

    تحيتي و مودتي استاذ أحمد
    كن بخير دوما
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • أحمد عيسى
      أديب وكاتب
      • 30-05-2008
      • 1359

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
      من الناس من يحسب أن الحياة في الإنسان هي فقط قدرته على التنفس والحركة وربما التفكير..وينسون أن الإحساس وحده هو بوصلة الحياة فيه

      قصة ثرية ..واسلوب يتسم بالسلاسة واللغة الجميلة

      تحيتي و مودتي استاذ أحمد
      كن بخير دوما
      الفاضلة مها ..
      كنت على حق في قراءتك ..
      فقد يفضح الاحساس ويتغلب على كل جبروت وقسوة الدنيا ..
      وكذا بانت الأحاسيس لتفضح مؤامرات من أراد حرمان رجل من ابنته ..
      كوني بخير
      ” ينبغي للإنسان ألاّ يكتب إلاّ إذا تـرك بضعة من لحمه في الدّواة كلّما غمس فيها القلم” تولستوي
      [align=center]أمــــوتُ .. أقـــــاومْ [/align]

      تعليق

      يعمل...
      X