بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة الجدلية بين درامية الواقع ودرامية التجربة الشعرية (1)
في تجربة .. محمود الأزهري
دراسة : عبد الجواد خفاجي
ل " محمود الأزهري " ـ شاعر نجع حمادي ـ تجربة تستحق أن نتوقف معها كثيرا ، في وقت ينحدر فيه الجنوب الشعري مع انحدار
النيل إلي الشمال ليتوه في زحمة النفير الحاثي المركزي . ثمة أصوات في الجنوب تحدث دون أن تنحدر ، محققة ذاتيتها الحداثية
النقيض ، الحداثة عندها محادثة للواقع وليست لنموذج يحتذي ، ومن
ثم تكتسب هذه الأصوات عبقا يخصها وحدها .. ينبع أساسا من إيمانها
بأنها هنا وليست هناك .. ومن ثم فإن قناعاتها إذ تؤسس رؤاها تنطلق
في الأساس من يقينها بأنها منفية رغم جوهريتها ، ومن شعورها بأنها مستلبة وأنها شكليا تمثل ذيل الخارطة / الوطن / الكينونة ، رغم
أنها جذريا أصل لكل هذا الوجود .. إنها إشكالية الجوهر والعرض التي يقابلها إشكالية المركز والطرف .
تتردد الذات بين قطبي المظهر الخادع البريق والجوهر المطمور ، تتحسس أصالتها وكينونتها ، يعز عليها أن تفرط في أصالتها وسمتها وقناعاتها ، ومن ثم إذ تتلمس الشعر تعلن عن صيحة تواجدها : ها هنا صوت أصيل ، موجود وجودا حقيقيا لا هامشيا ، يصنع حداثته بما لا يمثل حداثة الآخر / المركز .
لذلك لن يكون بحثنا عن ملامح للأصالة في شعر محمود الأزهري ، لأنها لم تكن أبدا أمرا عارضا ، بل هي صفة جوهرية فيه ، فهي تجربة ومهما بدا أنها تحقق غربتها كمنحي حداثي ، إلا أنها أبدا لم تحقق تغربها كمنحي أزموري في الشعر لا يمثل جادة الحداثة أو حتى هامش الأصالة . فهي بداية تنطلق من المكان الذي يخصها ، وتوغل
في تاريخه ، محافظة على المتلقي من خلال محافظتها على مكتسباته الثقافية والتراثية الحضارية ، ودون أن تغيب خصائص
التجربة الموضوعية في الوراء ، ودون أن تغيب خصائص الذات
الشاعرة أيضا . إنها النكهة المتولدة لتوها معبقة برائحة التاريخ ،
والأصالة التي تؤطرها خصائص شعرية وذاتية تنطلق نحو حداثة
تركز على الجدة من خلال شاعرية فذة ، ومن خلال عمل إجرائي
يحول الواقع إلي فن . لهذا حسمت التجربة موقفها من المحددات الأصلية للشعر كالموسيقي ، فاعتمدت التفعيلة كمقياس أساسي تقتضيه
ضرورة التفرقة بين فن الشعر ، وفن النثر ، وتستلزمه طبيعة القصيدة
العربية ، بما يؤكد أن التجربة أفادت من التراكم الغنائي في القصيدة العربية . وهو إذ يؤكد هذا الملمح الموسيقي يلتزم بالقافية كخصيصة في بنية القصيدة التراثية ، لكنه إذ يرفض اعتسافها ينوع فيها أو يجاوزها أو يسقطها مرحليا في بعض أجزاء القصيدة ، بما يشي بأنه لا يرفض القافية كإيقاع نغمي ، ولكنه يرفض اعتسافها أو تصيدها .
ومن ناحية أخرى ، تبدو التجربة أصيلة في بعدها عن التجريد والتجارب الذهنية ، وفي بعدها عن التحطيم السافر للتركيبات المألوفة للغة على كافة المستويات النحوية والصرفية والدلالية والصوتية .. ومهما بدت المفردة عند الأزهري مجافية .. في بعض الأحيان ..
لدلالة المواضعة ، إلا أنها تنطلق منها إلي دلالة جديدة تحوي بداخلها دلالة المواضعة .. وطبيعي أن يكون استخدام الشاعر للغة منطويا على
وعيه باللغة وبالحياة معا ، وطبيعي أن يخدم الشاعر لغته مثلما هو
مستخدم لها .. لهذا لا تفقد تجربة الأزهري قارئها ، لأنها لا تقدم شفرة مجردة ، أو رسالة علوية صادرة من ذات متعالية متشنجة لا صلة لها بحياة القارئ أو وعيه أو مكتسباته التراثية والحضارية .
وإن كنا لا نعدم صفات للأصالة في إطار رؤية الشاعر أيضا تلك التي تحدد موقفها تماما من التراث العربي والإسلامي والإنساني بعامة ، ونقدم رؤية واضحة تنضح بأصالة الذات ووعيها بتراثها
وتاريخها .ولننطلق ـ إذن ـ إلي ميزة أخرى لتجربة الأزهري ، ربما
سنرصد معها ملامح للجدة والمعاصرة في آن . وهي ميزة نوعية
إلي حد كبير .. فمهما قيل عن تجربة الأزهري إنها غنائية ، فليس كل
قصيدة غنائية قادرة على أسر متلقيها وجذبه حتى النهاية ، أو حتى قادرة على استفزاز قارئها نحو تحقيق هدف القصيدة إن شيئا كهذا يبدو وهما شعريا عند الأزهري ، إذ يسعي إلى توحيد القارئ مع تجربته من خلال معطيات فنية تبدو مطمحا لأي عمل فني معاصر ،
ومهما كان المطمح نبيلا ، ومهما يكن القارئ مستهدفا ، فإن ذلك لن
يتحقق إلا من خلال توظيف العناصر ، الدرامية في العمل الشعري بما
يحقق البناء الدرامي للقصيدة وربما أن هذا لن يتحقق شكليا في قصيدة ما ، ما لم يكن شاعرها أساسا مفكرا بالشعر ، يصنع قصيدة لها موقف من الحياة والواقع، وتنم عن رؤية شاملة متسعة لهما ، ولعل هذا المنحي هو ما يسمي بالنزعة الدرامية في الشعر . وهنا تكمن العصرنة في الشعر . وأبدأ في هذا بالتفرقة بين وجه القصيدة التراثية الغنائية وبين القصيدة الغنائية المعاصرة الدرامية (2) : لقد سيطرت الغنائية على تراثنا الشعري في عصور سالفة ، ولكننا ومهما شغفنا
بهذه القصائد ، فإننا لن نبحث فيها إلا عن جماليات السطح والمعني المحدد ومناسبة اللفظ للمعني ، ووصف عاطفة الشاعر . لكننا أبدا لن نصل إلي رؤية وراء القصيدة يمكن أن نخرج منها بموقف الشاعر من
الواقع أو من الحياة أو حتى من نفسه . القصيدة الغنائية تؤسس مشروعها الشعري للتغني بعاطفة ما وتبحث عن غرض شعري ومن
ثم فهي معدومة الرؤية وتسير في خط أفقي في بنائها ، وتهتم كثيرا بالتوصيل والتفهيم ، وغالبا ما تكتظ بالنصائح والحكم والأمثال والتقرير والنصاعة والمباشرة ، وهي أحادية السياق ، سكونية السطح ،
رتيبة ، مباشرة المضمون ، ومن ثم فهي قصيدة وصف ، تصف المشاعر الداخلية كما تصف الجبل والبحيرة .. غارقة في الدلالات
المباشرة والمعني المعجمي للألفاظ والصور البيانية الحسية أو التي
تجسم المعنوي أو العكس. ومما لاشك فيه ، أن وجه الحياة في عصرنا في تغير دائم ، والعالم من حولنا ـ ونحن جزء منه ـ يشهد تطورات يومية هائلة وانهيارات منتظمة ودائبة للمشاريع الكبرى والصغرى في العالم ، وإذا كانت القصيدة الغنائية هي سجل العرب ، فإن قصيدة اليوم سجل لهذه الانهيارات والتغيرات المتلاحقة في قريتنا الصغيرة ، بما يستوجب أن يكون الشاعر مستوعبا وواعيا بهذا التغير وهذا الانهيار.. له رؤيته التي تحدد كينونته وسط هذا التبدل المضطرد ، وله وعيه الذي يداخل به الحياة ، ويقيم من خلاله علاقة جدلية مع الحياة . ولهذا أيضا من المفترض ألا تكون القصيدة الحديثة سكونية
بحالة ما ، ويجب أن تلاحق هذا التغير بتغيرها الدائم ، ولكي تكون بالفعل سجلا لحياتنا العصرية لابد أن تكون بشكل ما قصيدة درامية ،
لأن الواقع / الحياة من حولنا درامية إلى حد كبير .
درامية الحياة / التجربة الشعرية :
يتخذ الأزهري المرأة بمظهريتها وسمتها العصري مادة خاما يشكل منها منجزه الشعري ، ويعكس من خلال علاقته بها رؤيته التي تشف
عن مفارقة الحياة وغرائبيتها ، ويجعلها بصفة لازمة كآخر لازم لتأجج
الصراع الدرامي وكوسيط لازم الوجود يبدأ الفعل الشعري حركته بحركة هذا الوسيط الذي يربط الذات بالحياة أو يقف حائلا بينها وبين الحياة . لهذا رأينا المرأة / الأنثى / الآخر / الوسيط تقفز إلى عنوان القصائد لتستولي عليها تماما مثل " شاهندة " أو سؤال عنها
" أين صفية " أو صفة لها " القتول " أو " قمر كامن " .. وبعيدا عن العناوين ، فإن الأسماء المؤنثة تشيع في جل قصائده كعلم على شخصية
نسائية ، بيد أن الغالب في قصائده ، ذلك الاهتمام بالفعل النسائي كمفجر شعري تبدأ معه الذات الشاعرة في رصد كثير من ملامح الحياة العصرية بعلاقاتها ومظاهرها وتحدد في الوقت ذاته موقعها ومطالبها وتعلن عن رغباتها وترصد اشتراطات الواقع عليها في ذات
الوقت الذي تشف عن رغبتها وحرمانها وضالتها .. إننا وأمام هذا لا نعدم أن نري الأنثى تتمدد في النصوص مجتمعة مشكلة في كل مجمل النصوص وجه الحياة العصرية بعامة ، ومن ثم ومن خلال رصده ملامح الأنثى وسلوكها وعاداتها في القصائد ، يمكننا أن نقيم
نموذجا للحياة العصرية وليس هذا فحسب بل لرؤية الشاعر لهذا النموذج ، ولا نعدم أن نلمس وضعية الذات الشاعرة بكل معاناتها
وعذاباتها وحرمانها :
" إنني ولد راضع لبنا من سهاد
منحنه لنا بلد
ما تعاشر إلا الفساد .. فساد
..................
بلد تركتني لأكتب شعرا بليدا
يسمي القواقع لؤلؤ شعر جديد "
وفي مقطع آخر من هذه القصيدة :
" يتشعب مني الفؤاد
فأكتب شعرا
يحسن أن نتزوج من ثيبات .."
وفي المقطع الأخر من هذه القصيدة المعنونة " تشعب " يقول :
" ودعته المدينة /
راح يرقب نسوتها الآبقات /
سرقت منه طربوشه
الأزهري /
توجه تلقاء مسجدها /
قال : إني أتوب /
أبدا لن أعود لفعل الصلاة هنا /
خائفا ، يترقب أضحي /
لكزته بمعصمها امرأة /
أمسكت يده /
سلبت منه كيس نقود وقع /
بابتسامتها /أعلنت أسفا حضريا /
وتومئ أن ../
صار رقا /
فتابعها ..!!".
هكذا أسرته المدينة بنسائها وسرقت طربوشه الأزهري ..وأوقعته في عبودية جبلته البشرية . وفي قصيدة " كنه الشيء "
تقف المرأة بينه وبين الله تعالي :
" وبدأت أخاف الله تعالي /
من جراء اللغة المزروعة بي /
حين ـ يهم القلب ليسجد /
تعترض صفية /
ما بين القلب وبين المحراب /
يا لعن الله صفية .. ".
غير أننا وفي مجمل علاقاته بالمرأة ، يمكننا أن نرصد الملامح الدرامية لهذا الحياة والواقع المعاصر والتي تتركز أساسا في عناصرها الأساسية :
الإنسان والصراع وتناقضات الحياة . في قصيدته (ثلاثية الخيبة) :
" خيبة
حين تلفح سلمي عباءتها خلفها
وتنادي الوليد الصغير : يتابعها
فأحار
وأمكث حيث أنا
أتساءل : تقصدني ؟!
فتجيء العساكر ترجمني
وأسافر!".
هكذا يقف العسكر / الواقع المتسلط ، حائلا مميتا بين الذات وبزوغ الأمنية التي تستهدف الاتصال بالمرأة / الدنيا التي كثيرا ما تتجاهله
وتتنكر له . في قصيدته " اختلاط المشاهد ":
" خاطبتها بالشعر .. بالأحلام
بالورد الندي !
وكسوتها حللا من الكلم المنور
في الدجى قلبا أبي
فتنكرت
أمسكت ذيل ثيابها فترفعت !
تلك التي عين المها هي عينها
عين المها في الشعر ..
لكن عينها قدامي
خاطبتها فقست على
مضت أمامي "..
في قصيدته " فرحتان " تتماهي المرأة في القصيدة في الحياة
إذ فرحة الشاعر بالقصيدة : المرادف الفني للحياة الحقيقية في جوانيات الشاعر بما تحمله من قيم جوهرية وجمالية وروحية ليفاجأ ما إن تبدأ فرحته بميلاد القصيدة / الحياة أنها امرأة سهلة عارية مشاع .. ومن ثم تتحول الفرحة إلي جرح ، إذ يستنزف الشاعر طاقته في السفر الجميل نحو
جوهر الحياة مستكشفا قيمها الجميلة ليفاجأ بأنه لم يقدم سوي امرأة / قصيدة يتعاطاها الناس كوسيلة للتلهي الرخيص .. وهكذا يصبح كل شيء
تافها ورخيصا : القصيدة ـ المرأة ـ الحياة .
" فرحة للقصائد
حين تخالط أحلامنا في السفر
ونفاجأ حين كتابتها
أنها امرأة سهلة
وبدون خمار ، بدون حجاب
بدون رداء
إنها ثمرة في الطريق مشاع
فيأكله العابرون جميعا بدون حياء
فرحة من دماء ..".
هكذا يتحول فعل الواقع إلي أكل .. وهكذا يأكل فرحة يصنعها الشاعر من
دمائه .. وبضياع طاقة الشاعر سدى يصبح كل شيء في الواقع مبددا : المرأة ـ الشعر ـ الحياة نفسها بدد . أمام هذا التناقض يغير وجهته إلي امرأة تقف خلف القلب كمرجع عاطفي يحاورها بالشعر فتأبي :
" وأخري لمن جلست خلف قلبي
فحاورها القلب بالشعر
زيفا أبت
فاستفزت دمي العربي
فشاكسها مرة ثانية
أشارت إلي ورم
في التراث العتيق
بكت
حين ذاك
فؤادي صمت !!".
وهكذا هي الهوة تتسع بين الفرحة وبين الواقع ، فلم يعد ثمة متسع للتحنان أو العواطف أو حتى الاستمتاع بوجه الحياة الشعري أو بفيض عاطفي ، ينسرب إلي القصائد من خلال تواصل الذات أو اتصلالها بالأنثى .. هذا وقد داهمت اللحظة الشعرية أورام خبيثة كثيرة متأصلة ..
أإلي هذا الحد ينفتح هويس الجرح ليشمل الماضي التراث بكل ما يحمله من أورام لا تزال تنغص الحاضر .. ؟ أإلي هذا الحد تبدو جراح الشاعر متأصلة ومنزاحة عبر التاريخ كوجع قديم منزلق .. ؟ ! أإلي هذا الحد لم يكن جرح الشاعر طارئا .. ؟ أإلي هذا الحد يحول فرحة الشاعر إلي جرح ما يلبث أن ينغص اللحظة ..؟! ألهذا يري الشاعر عبثية تجربته في واقع متشح بالحزن والجراح ؟ في قصيدته " صورة " يبدأ بالتساؤل :
" هل جلست وحيدا
لكي تكتب الشعر عن صورة البنت هذه ؟
أم جلست لتختلس الحزن من مقلتيها
ليكتبه القلب
بعض الدمى في الفضاء
دمى من دماء ؟
وتجسد حزنك من مبدأ اليتم إلي سوأه الشعر
ثم إلي وجع العرب والمسلمين الأوائل !"
لعله تساؤل استنكاري إذن : أن يطمح إلي تحقيق مشروع جمالي في واقع ملبد بالبلادة والحزن .. كيف إذن أن يحول هذه المأساة إلي ملهاة ؟.. لعل المفارقة أنه حقق ذلك على صورة مجافية لطبيعة الذات ، إذ يضطر إلي مداخلة الواقع من زاوية يرتضيها هذا الواقع .
" فخرجت وبين يدي ورق
معلن في الصفحة الآخرة
عن نوع من الخمر
خمره لا تجن
فاشربوها لكي تنعموا بالهدوء
وسط أجوائنا العائلية
تسألون : صورة البنت هذه
إنها طرفة في مجلة
وليست قضية
فلا تحملوا البندقية ".
ألهذا الحد تصل سخرية الشاعر من الواقع حين يدفعه إلي التلهي بالخمر والنساء ، ويحمله إلي تناسي القضية .. إنها مأساة الذات في واقع مأساوي حين تضطر إلي ممارسة السخرية حينا ، ومداهنة الواقع حينا ، وإدانته حينا آخر :
" أي بنية
تعالي هنا جانبي
واهدئي
سنسوى ـ معا ـ شعرك المتهدل هذا
آه .. من هدله؟
تتساءل أرواحنا :
من كسر فيك البراءة ،
من جرح الجمجمة ؟
تندبين ـ إذن ـ أمك الضائعة
أم أخاك الرضيع ذهبت تقصيه أنت على جنب ".
إلي هذا الحد يجافي الشاعر حلمه الجميل ، وقد ودع كل فرصة لاختلاس الفرحة من بين مقلتي البنت إلي التفجع بمأساة الواقع العربي ؟!
" سوف يبحث إخوتنا القائمون على الأمر بالعدل
بعض الحقائق
أما التفاهات : أنت وحزنك ...
بؤسك .. بعض القصائد /
... ما لهم وهم الشرفاء ـ بمسألة الاغتصاب !
أي بنية
اهدئي ..
إن قلبي لا يتحمل هذا الحزن
واحذفي من سطور التذكر أهلك /
حتى يتم محبو السلام تدارسهم للقضايا
التي مزقت فكر هذا الوطن
ثم .. سوف نوفر ألف كفن ".
ألهذا الحد يبدو الواقع مأساويا ومتناقضا عندما لا يهتم أولي الأمر بحل قضية اغتصاب الأرض وتشريد وقتل أهلها بقدر اهتمامهم بتوفير الأكفان للموتى .. وإلي هذا الحد تتحدد مسئولية العرب إزاء القضية .؟! ليس هذا فحسب ، بل كيف تستمر التجربة في هذا الواقع بعيدا عن هذا الخط الدرامي المؤسس على التناقض والفقد واستلاب الروح .
" وهل تذكر روحي
من بعد ذلك
طيب العبير
ولون الزهر ؟! "
وهكذا تتحدد في شعر الأزهري أبرز سمات التفكير الدرامي بوصفه تفكيرا موضوعيا إلي حد كبير !! ففي إطار هذا التفكير يدرك الإنسان أن ذاته لا تقف وحدها معزولة عن بقية الذوات الأخرى وعن العالم الموضوعي بعامة .. وإنما هي دائما ومهما كان استقلالها ، ليست إلا ذاتا مستمدة أو لا من ذوات تعيش في عالم موضوعي تتفاعل فيه مع ذوات أخري . إن الذات والموضوع معا وما بينهما من علاقات متبادلة هما اللذان يصنعان الموقف والشعور وليس في وسع الفنان الذي يدرك هذه الحقيقة إلا أن يتمثل ما يحسبه موقفا أو فكرا أو شعورا ذاتيا إلا في إطار البنية الدرامية الموضوعية العامة للحياة ". (3)
في قصيدة " جسد طاغ " تتجسد هذه السمة الموضوعية عندما يدمج الشاعر ذاته كإنسان وكشاعر بالذات العربية على إطلاقها ليبدأ في مخاطبتها متأملا وضعيته كصعلوك وسط صعاليك الشعراء العرب بعامة ، وكشاعر يحمل على كاهله سجل العرب
" فيك طغيانك الآدمي
وتدعوه إرث قريش وبكر وتيم
وكل صعاليك هذي الصحاري التي خورت
ثم ما أنبتت غيره الشعر
ـ هذا الذي قد تزوج ريحا عقيما –
وها أنت ذا تدعيه
وتملا شدقيك بالنار
تزعم أنك توجت رأس لبيد وزهير
بتاج الفخار
وأين ابن عبس ليزداد عجبا
فها نحن ذا نتحاور باللغة العربية
نسأل نفس السؤال القديم
متى غادر الشعراء الحزانى سرابيلهم
فوق درج الحروف؟
لكي نتغنى بحزن جديد ؟"
هكذا تدمج الذات نفسها وسط قائمة طويلة ممتدة عبر التاريخ ليتسع أمامها هويس الانفتاح على مجمل الشعراء بوضعياتهم الاجتماعية وبتركيبتهم النفسية وبحظوظهم من الدنيا ليعيد السؤال القديم " هل غادر الشعراء من متردم ؟" بصيغة تتناسب مع وضعية الشاعر في هذا العصر " متى غادر الشعراء الحزانى سرابيلهم ؟" هذه هي صورة الحزن الدائم الذي يتسربل به الشعراء منذ القدم لا تزال متمثلة في شخصي .. إنني كذات مازلت أحمل سمات تكاد تكون ثابتة في كل الشعراء التشرد ـ الحزن ـ الغربة ـ الدهشة . لكنني أبدا لم أكن متخليا عن إرثي القديم ومازلت محافظا على لغتي كشاعر خادم للغة ومستخدم لها ، ومع ذلك لم أورث غير الحزن ولكي يكون الشاعر موضوعيا في هذه الرؤية وحتى لا تكون مثل هذه المشاعر مجرد وهم خادع يخامر الذات أو أنها مجرد تشاؤمية غير مبررة لجأ إلي حيلة ذكية موضوعية تماما تتمثل خارج الذات : إنه مشهد صفية والكلب . لينقلنا
عن طريق " الحركة " كسمة درامية من موقف خاص إلي موقف مقابل .ومن عاطفة وشعور إلي عاطفة وشعور مقابلين وهي سمة درامية في بناء العمل عندما لا يسير في خط طولي فقط .. ومن ثم يتجه عرضيا أيضا ليبرز كل السطوح والأعماق ، ولا غرو فإن طبيعة الحياة نفسها قائمة على هذا الأساس الدرامي ، إذ يتخفي الباطن وراء الظاهر . لهذا يأخذ التفكير الدرامي في الاعتبار أن كل فكرة تقابلها فكرة وأن التناقضات وإن كانت سلبية في ذاتها ، فإن تبادل الحركة بينهما يخلق الشيء الموجب .
ولقد مهد الشاعر للنقلة إلي مشهد صفية بوصلة أملاها ذكاء الشاعر الفنان الذي لا يصدم قارئه بقدر ما يتهادي به إلي ذروة الدراما . فنجده يمهد
" الحقيقة تعكس أشياءها
في رمال معذبة للفؤاد
على شاطئ من حديد ".
يريد أن يقول على سبيل الحكمة :" التاريخ يعيد نفسه " وعلى وجه أكثر خصوصية تاريخ الشعراء بكل أحزانه وعذاباته يعيد نفسه أكثر استفحالا، ولكي أكون موضوعيا تعالوا معي إلي مشهد صفية .
لهذا تتجه القصيدة " أو ينتقل الكادر" في حركة ممهدة إلي مشهد صفية
" الواقع الموضوعي " لتبدأ الذات في مخاطبة نفسها :
" فلماذا إذن قد جبنت أمام صفية ؟
كيف نفسك قد طاوعتك ؟
كيف تحل رباط امرئ القيس
من تتداعي على حد شهوته الهالكات ؟..."
إنها معاتبة الذات إذن أمام مشهد صفية بجسدها الطاغي وقد حركت الشهوة الآدمية للجنس تلك الكامنة خلف الشاعرية .. إنه المطلب البيولوجي الملح.. تتجلي قمة مأساة الذات في لومها نفسها وهي المكبلة بإرثها الملجم وأعرافها الصارمة وفضيلتها المفترضة كل ذلك ينمحي أمام جسد صفية وتطفر على الشاعر صفات " امرؤ القيس " الحسية واندفاعه وفورانه الجنسي .. لهذا تلوم الذات نفسها .. لكأن الشاعر يبحث عن بطولته وذاته التي تدعي التماسك والمسئولية والفضيلة و.. كثير من الصمود وقد تبدل إلي .. آخر مشمول بجبن اللحظة
" فلماذا إذن قد جبنت أمام صفية ؟"
وكان الأحرى أن يلوم "صفية " التي حركت بتبرجها شهوته .. لكنما هل تملك الذات حق توجيه هذا اللوم إلي " صفية " وهي الذات الهشة المضيعة التي ترسف في وضعيتها الراسخة في الهوان ؟ .. لهذا تلوم الذات نفسها ..إنه جلد الذات عندما تعجز عن جلد الواقع وفي لحظات الإحباط .
إنها قمة الدراما أن تكون المفارقة جلد الذات لنفسها وهي التي من حقها كبقية الذوات أن تشبع بيولوجيا .. هذا هو الحق الطبيعي في الحياة أن نتخطى مرحلة الإشباع البيولوجي هذا إلي رغبات أخري أكثر اتصالا بجوهر الحياة وقيمها الراقية كالحب والحرية والانتماء وما إلي ذلك . أرأينا إذن كيف كان التساؤل محركا للفكر والشعور ومؤثرا في حفزنا إلي التفاعل بالشعر ؟! ثم يدخل بنا الشاعر إلي المقابل الموضوعي لكل ما بداخله والمتمثل في مشهد صفية ويحرك الكادر :
" تتهادي على عشب أيامها
وتنادي على كلبها
لينام على صدرها .. لينام .."
أإلي هذا الحد تصل المفارقة حدها الأقصى عندما ينام الكلب على صدر صفية ، بينما يظل الشاعر محروما مستمرا في ضلاله الشعري .
" المضلل أنت .. تغني ..
" يطير الحمام .. يحط الحمام " ... ؟" ..
وهكذا نجد الغنائية الفكرية عند محمود الأزهري قادرة على أن تكون موضوعية وقادرة على التقاط التفصيلات الحية واختيار ما هو جوهري دون أن تتحول القصيدة إلي قصة .. يستمر في التقاط المشاهد المتنافرة أو المتقابلة ، ويتنقل بينها من خلال التجسيد لكل ما هو معنوي كخاصية أساسية في التفكير الدرامي بجانب الحركة .
كذلك لا يكف التفكير الدرامي عن طرح التساؤلات بين نقلاته
:" فكيف تفكر في القدس ؟
كيف تفكر في شجر
يتراقص عند حدود الخيام ؟" .
ثم يعود مرة أخري إلي مشهد صفية :
" تتضاحك محدثة شغبا
وتغازل ،
تلطم بحرا
تضاءل مرتحلا في الظلام
وتنادي على كلبها
لينام على صدرها ، لينام
المضلل أنت / تفكر .."
كما لا يكف عن الالتفات من الذات الشاعرة المضيعة إلي الذات الباصرة المتحسرة
" المضلل أنت
تفكر
يضربني الجن ليلا
والنسوة العاهرات نهارا
حين عيني صفية تلتقيان بعينيك
تلعن أمك ".
ألهذا الحد تصل الدراما ذروتها عند مفارقة محزنة ، إذ يصل الكلب إلي وضعية لن يصل إليها الشاعر مهما طال حلمه .. ألهذا يلعن أمه ويستمر في الصراخ ؟
" تصرخ ..
تدعو رمال القبيلة
كي تحمل الصدفات سيوفا
تقاتل من أجل شهوتك المستكنة في داخلك
علمتنا الرمال التي أجدبت
اشتهاء النساء .."
وإلي هذا الحد تكون التجربة مفضية إلي تصور محبط لوضعية الشاعر وكينونته وصيرورته النهائية كمخلوق أحط من الكلب وإلي هذا الحد يكون الشعر مضللا حين يصور لصاحبه وهما غير الحقيقة المفزعة هذه :
" المضلل أنت ..
ومازلت متكئا...
فوق صدر اللغة
فتنزل على وهج من رحيق
على وهج من حريق
على وهج من دخان ".
حتى الأمر الأخير المحفز للذات :
" فيا أيها البشري
اتكئ فوق صدر صفية "
لا ينم عن ترقية ما .. فهو في أحسن الأحوال سيحل محل الكلب ، ليتكشف لنا هول الرؤية التي يحملها النص ، وهول المفارقة أيضا أن يكون صدر صفية وسادة للكلاب وأن يكون تنازل الشاعر عن عرش حرمانه إلي الإشباع مساويا لمسخه كلبا ..وبالنداء يا أيها البشري تنفتح الرؤية على مساحة واسعة تضم البشر جميعا هؤلاء الكلاب الذين ينامون على صدر النساء الجميلات بينما يتفرد الشاعر بتواجد أرقي مع الحرمان على عرش البهاء الشعري . إنها جدلية التسامي / التدني ـ الحرمان/ الإشباع ـ أو المطلب البيولوجي / المطلب المعنوي . جدليات يثيرها النص ليعكس من خلالها وضعية الذات الشاعرة في واقع يؤطرها بكل احتياجاتها ونزعاتها وحرمانها في آن ، ويعكس كذلك الهوة المفارقية بين الذات والواقع .
أهم عناصر التعبير الدرامي في تجربة الأزهري :
لعل أهم العناصر التعبيرية الدرامية في تجربة الأزهري هو التقابل بين الصورة الداخلية للذات والصورة الخارجية للواقع . وهو تقابل من حيث الدلالة والتكوين والحركة والحركة المقابلة .. في قصيدة " النوازل " يبدأ مستعينا بالتاريخ كمتسع براح للرؤى الحالمة والتطلعات الباحثة عن المخلص / القدرة / المثال ليجده في الإمام أبي الليث السمرقندي .. ومن خلال الحوار مع الشيخ والذاكرة والتساؤل والسخرية من الواقع ، تتضافر الأساليب لعرض الأجواء الداخلية المحبطة تحت وطأة نوازل هذا العصر .
" يستحث الخطي هائما في السماء
يتذكر ليثا
كيف خطت يداه "النوازل"؟!
و كيف سمرقند كانت جميلة
تعدل ما أهملته يد العرب الفاتحين الأوائل ؟".
هكذا تتحدد وجهة الذات إذ تفر إلي ماضيها تستمسك بتراثها لتستدعي صورة الإمام (أبي الليث) مؤلف كتاب " النوازل " الذي عالج فيه المشكلات الفقهية التي جدت بالمجتمع في عصره ..
هكذا يبدأ الشاعر البحث عن كتاب لنوازلنا العصرية ! .. تبدو أجواء الذات محبطة وراغبة في الخلاص من وجع عصري :
" أفتني سيدي الشيخ
في امرأة
كنت أوقظها الفجر ، توقظني
نستحم معا
ونهيئ أنفسنا للصلاة /اللقاء !
وتقر بأن الإله أراد لها أن تكون سكن
وتحوقل سبعا إذا ما أتاني الغضب / سورة الشرح .."
وهكذا تنفرج الرؤية ، وتكشف عن أجواء الذات التي تتلمس الوجود في التزامها بالشريعة كمنهج .. وتتأمل من أيامها ـ عبثا ـ أن تظفر بهذه المرأة المثال ، التي تؤمن سلوكيا ووجدانيا بهذا المنهج . بيد أن ذروة إحباطات الذات في الظفر بهذا النموذج المثال / المرأة / الحياة يتجلي في المقطع الذي يقول:
" ما كنت أدرك أن الزمان
سيغتالنا بعد حين
ويحولهن إلي قطعة من جحيم
آه يا شيخنا
إننا فجأة انبعثنا دمي في زمن
فيه لفظ الرجال
كجرح زمن
فدخلنا الكهوف / المكاتب ".
هذه هي الحالة الداخلية للذات وما يختلج في مخيلتها من صور فاضلة للحياة / المرأة .. إنها الصورة المصون للحياة والتي تكونت في الذاكرة والتي قطرها ورسبها التراث الإسلامي والقروي الذي تشربته الذات الشاعرة .. صورة تفتقدها الآن في واقعها الحاضر ومن ثم تستشعر الذات جراحها ومأساتها وقد ضيعت منها ملامح الحياة الأصيلة .
وقد عرض الشاعر لصورة المرأة المصون النموذج المفتقد في قصيدته وقدم جميع أوصافها وحالاتها وطباعها .. ثم تنفرج القصيدة بعدها عن الصورة المقابلة للمرأة العصرية وقد خرجت إلي الشاعر / الحياة / العمل/ التفاعل السلبي / المهزلة ، مغادرة بيت زوجها وحياتها الطبيعية إلي الكهوف / المكاتب :
" تلعب بالشطرنج
وبجانبنا امرأة
بفساتينها الزاهيات
وركبتها العارية
إنما النسوة القائمات على الأمر بالعدل
ـ والأمر شوري ـ
وبالتسلية ".
إنها امرأة دمية للتسلية توزع التسلية بالعدل على الرجال والأمر شوري .. إنها عبثية النظرة الدرامية أن تسوي بين الحكم والتسوية فكليهما شوري .. إنها السخرية من الواقع الدرامي المفارق:
" انبعثنا دمي في زمان
سمرقند لا ليث فيها
ليكمل باب النوازل !!"
هذه هي الصورة المفتقدة للرجل المخلص وللرجل بعامة في مقابل تواجد الأنثى وطغيانها واستئثارها بالحياة / التسلية . ولعل الصورة الكاشفة للمقابلة في هذه القصيدة ـ أيضا ـ هي :
" في المساء الذي الليل يركبه
طوحت شعرها
هالني منظر الشعر
ـ يا شيخنا-
فبهت
وقالت : أحمق أنت طول حياتك
ما تفهمت إلا
يطهره الماء شرعا وإلا التراب !
إنني ذاهبة
أ ستعد بعطر البلاد التي تدعيها بلاد الفرنجة
فالمدير سيشركني ندوته !!
/ وكأن المحيض أتاني أنا ..". إنها ذروة الدراما أن يحيض الرجل، ويقبع في البيت ، ملتزما بشرع الله يبحث كيفية التطهر بالماء والتراب بينما المرأة ستسافر مع المدير إلي بلاد العطر .. إنها الحركة والحركة المضادة .. أن ينزوي الرجل بينما تعلن هي : " إنني ذاهبة " كذلك يتجلي هذا التناقض في الحركة والتكوين في الصورة الأخير من القصيدة :
" ومكثت أقلب في دفتر الغابرين
وكدت أجن
من " لزوم المعري "
و"قياس زفر " !!
ما يثير انتباهي إلا كعب الحذاء
حين أرض المكان تهز به
وبالضحكة الجلجلة
.. " ونحن رجال " !! "
إنها مأساوية الحال أن تودع الذات المشهد معلنة من أسف " ونحن رجال !" لكأنها تتمنطق بآخر ما لديها من إعلان ساخر وما بقي من الرجال غير حروف الاسم .
ولعل العنصر الطاغي الثاني من العناصر التعبيرية الدرامية في تجربة الأزهري هو التقابل بين الألفاظ والعبارات الشعرية ذات التأثير الدرامي بما يشي بتقابل الأبعاد النفسية . فمثلا في قصيدة " نظرة في سكون ":
(وفي آخر الحفل ..
عند انشطار الظلام
ليبدأ تكوين يوم جديد !
وعند ابتداء السكون
المحمل بالصفو
هذا الذي يعشق القلب صوته
أكون أخذت بحظي
عند ذهابي لنومي
ففي النوم أبني من الحلم قصرا
إلي أن يجئ النهار ..
فحظي حالة صحوى يأس
سؤال يوشوشني
كيف أعبر مرحلة من هدوء ؟!
بعيد اعتيادي هذا الصخب ؟! )
لعل المقابلات بين " الظلام ـ تكون يوم جديد" ـ " الليل ـ النهار " " الحلم ـ اليأس " ـ " النوم ـ الصحو " ـ الهدوء ـ الصخب " ـ " الصوت ـ السكون " .. كلها مقابلات دالة وناقلة لموات الشاعر في لحظة توالد النهار وتصادمه مع هذا النهار/ حضن الصخب واليأس ، ودالة في حالة كون الشاعر كائن ليلي يعشق الهدوء والسكينة ، وكونه يعتنق الحلم ويهرب إلي قصور لا وجود لها في هذه الدنيا / الحفل الذي يتحد كل حظه فيه بمجرد المشاهدة من بعد . وفي قصيدة " القتول" :
( للقتول عيون
عيون القتول
ملبدة بالغيوم
ملبدة يا صفاء
ملبدة يا هناء
ملبدة كالسماء ..!!
ويا شاعر العشق والهجر والحزن والفرح والخطبة المنبرية
تعال إلينا
فرأس القتول مفكك
وإن القتول تحب الغناء
وتشدو به في زمان التوصل
فكيف تغني القتول ؟
وكيف يكون الغناء جميلا ؟!
وفي حين أن التعاسة
تملا أرض العرب !)
لا شك أن حالة من اليأس تشمل الذات وتؤطر رؤيتها في زمان تتساوي فيه الأغنية بالموتية ويصبح فيه الممكن الوحيد هو أن تفارق الروح الخناجر موتا . لا غناء ولا شعر إذن .. وقد تلوثت حتى أصداء الشعر وانصبغت بصورة العصر .. فلم يعد الشعر عند الشاعر ينضح بالهدهدة الروحية والتحليق الخيالي والترامي نحو عالم الأنوثة الجميل أو حتى وسيلة لتزجيه الفراغ .. الأنثى / القتول أيضا منصبغة بلون العصر ولم تعد صالحة لممارسة صلاحيات الروح العاشقة ، ولعل تلك المشاعر التي تنطوي على إدانة الحاضر ومأساوية الشعر وسط حشد الوقائع المحزنة .. كل هذه الأجواء النفسية التي تنم عن حس درامي ورؤية تتشح بالدراما كصراع وقلق وحركة وتنقل من جو إلي آخر مفارق قد يكون حلميا أو تراثيا أو الماضي أو ما أشبه ذلك .. ما كان يمكن أن تصلنا كل هذه الأجواء بنفس الدرجة من التأثير وما كان لها أن تحدث تأثيرها المطلوب لولا أن الشاعر استخدم مفردات متقابلة الدلالات يمكن إبراز هذه الأجواء من خلالها مثل
"ملبدة بالغيوم ودلالة أسماء العلم : صفاء ، هناء " وبين " العشق والهجر"
و"الحزن ـ الفرح " وبين (الغناء والتعاسة ) وبين (الهجر والتواصل ) .
ومن العناصر الدرامية في التعبير أيضا في تجربة الأزهري
" الأسلوب القصصي " بما يحفظ للقصيدة فنيتها كقصيدة دون أن تتحول إلي قصة ، أو بالمعني هو يستخدم الأسلوب القصصي كوسيلة فنية في الشعر دون تورط في كتابة قصة . ولاشك هو أسلوب يتطلب شاعرا له أكثر من مقدرة الشاعر وأكثر من مقدرة القاص .
هذا الأسلوب القصصي داخل الشعر له وظيفته الفنية الدرامية لأن يمشهد الموقف الشعوري ويجسده ويأتي به في صورة حكائية تربطه بالواقع الدرامي وبالحياة الواسعة . وفي نفس الوقت يضفي الحيوية على القصيدة ويثبت بشكل ما أن القصيدة لم تكن غير ثمره تفاعل بين الشاعر والعالم الخارجي . والأسلوب القصصي شائع في جل قصائد الأزهري حين يروي عن شخوصه وحين يحاورهم وحين ينقل أفعالهم وأحاديثهم وردود أفعالهم وملامح نفسياتهم وحين ينقل التفاصيل الصغيرة وحين ينقل بعض ملامح المكان وحين يشير إلي الزمان وحين يركز على حادثة بعينها ويتتبعها وحين يشد كل الخيوط نحو عقدة درامية . قصائد كثيرة متعددة تتكئ بشكل لافت على هذا الجو القصصي في قصيدته " تلك الساعة " ـ مثلا ـ يدخل بناء إلي قلب المشهد دون تمهيد يقول :
" يمشي في الشارع
تلميذ طيب
وبصحبته تلميذ طيب
تمشي امرأة من خلف
ومن قدام ..".
هكذا ودون أن نكمل نشعر بأننا بإزاء قصة وأن ثمة علاقات وتفاعلات ستتم بين الشخوص " التلميذ الطيب وصاحبه والمرأة التي في الخلف وتلك التي من قدام " وأن ثمة حوارات ستدور .. فيكمل :
" وتمشي بالجانب
وتناورنا
فتعدل شعرا
ترفع يدها ... بحذاء الخد
تنظم شنطة يدها
تتبدي خشيتها منا !"
ولا يكتفي بذلك بل ينقل القص للحكى عن جوانيات الشخوص :
" تتوهم أنا نشرب منها / الخل .. "
ويستمر في تتبع فعل المرأة / فعل القص
" إذ كانت تعبر
كانت تهتز
وأنا أتاول
حالتنا
وأفسر للتلميذ الطيب
أنا لسنا أشرارا "
ويضطر أحيانا لكسر رتابة الحوار في ثنايا القص مثل :
" الجورب مقطوع .. ـ وأنا الجزمة .."
وهكذا نشعر ونحن نعاين القصيدة ، أننا نعاين القصة داخلها ، ولا أخفي طرافة هذا الأسلوب وأهميته في صنع درامية القصيدة وفي أسر المتلقي وتشويقه .. وثمة عناصر كثيرة للدراما في شعر الأزهري لو تتبعناها واحدة إثر واحدة لطال بنا المقام . فالأزهري يتميز من هذا الناحية بأنه مفكر شعري قادر على تفنيد العالم ومحاورته ومن ثم فهو قادر على صنع درامية شعرية مؤثرة وناقلة لدراما الحياة نفسها . ومن ثم فإننا لا نعدم " الحوار" و" المونولوج الداخلي " والتساؤلات بأنواعها وكثير من التنقلات وأساليب الالتفات .
يكفي أن نقول إننا إذ نعاين تجربة الأزهري نتمثل في هذا الشعر دراما الإنسان الذي يحاول أن يعي ذاته وسط حشد الوقائع وإن شئنا الواقعات التاريخية التي تصنع في مجملها نسيج الحياة لذلك يلجأ إلي التجسيد والموضوعية دون أن يجنح نحو التجربة ويفر كثيرا إلي ماضيه ليستشهد به أو ليجره إلي حاضرة المشهد الحاضر كطرف نقيض يباكت به الحاضر أحيانا وأحيانا ليري الحاضر عبر متسلسلة مأساوية كحلقة متصلة بالماضي ، بما يشي بأنه واع بتاريخه وتاريخ أمته وأنه كشاعر معاصر يري نفسه كحلقة أخيرة أوسع مما سبقها في متسلسلة الزمن الزنبركية الممتدة إلي الوراء . حقيقة هو الشاعر المعاصر .. صوت ضمن سيمفونية من الأصوات التي تتجاوب عبر التاريخ بكل أبعاده الإنسانية والزمكانية . وإنه لصوت يتمثل اللغة والفن بما يمثل وعيه وحضارته . وإنه لصوت
الأزهري الذي يجعلنا بشكل ما نقبل عليه بحماس وهو يردد
" أحبائي
أنا قلب
وألفاظ مجهزة
فؤادي ذلك المسكين يحفظها
ويفهم ذلك الرمز الذي تعنيه هاتيك القصائد
دمعة أشعاركم
شجن ... ورقة
وإيقاع يهز مشاعري هزا
ويعصف بى ،
ويقتلني
ويضربني على دف ..
ويتركني بأوتار ممزقة
أحبائي
على أشعاركم أحيا
فهل أشعاركم تغني عن الجوع
الذي قد عذب الأهلا "
الهوامش : (1) ألقيت هذه الدراسة في ندوة جماعة (آمون ) الأدبية بنجع حمادي مساء الثلاثاء الموافق18 يناير2000
2- يرجع في هذا إلى د. عز الدين إسماعيل الشعر العربى المعاصر – المكتبة الأكاديمية – الباب الثانى – الفصل الخامس –النزعة الدرامية ص239
3- المرجع السابق
نشرت هذه الدراسة بمجلة الشعر عدد 110- 2003م
.
العلاقة الجدلية بين درامية الواقع ودرامية التجربة الشعرية (1)
في تجربة .. محمود الأزهري
دراسة : عبد الجواد خفاجي
ل " محمود الأزهري " ـ شاعر نجع حمادي ـ تجربة تستحق أن نتوقف معها كثيرا ، في وقت ينحدر فيه الجنوب الشعري مع انحدار
النيل إلي الشمال ليتوه في زحمة النفير الحاثي المركزي . ثمة أصوات في الجنوب تحدث دون أن تنحدر ، محققة ذاتيتها الحداثية
النقيض ، الحداثة عندها محادثة للواقع وليست لنموذج يحتذي ، ومن
ثم تكتسب هذه الأصوات عبقا يخصها وحدها .. ينبع أساسا من إيمانها
بأنها هنا وليست هناك .. ومن ثم فإن قناعاتها إذ تؤسس رؤاها تنطلق
في الأساس من يقينها بأنها منفية رغم جوهريتها ، ومن شعورها بأنها مستلبة وأنها شكليا تمثل ذيل الخارطة / الوطن / الكينونة ، رغم
أنها جذريا أصل لكل هذا الوجود .. إنها إشكالية الجوهر والعرض التي يقابلها إشكالية المركز والطرف .
تتردد الذات بين قطبي المظهر الخادع البريق والجوهر المطمور ، تتحسس أصالتها وكينونتها ، يعز عليها أن تفرط في أصالتها وسمتها وقناعاتها ، ومن ثم إذ تتلمس الشعر تعلن عن صيحة تواجدها : ها هنا صوت أصيل ، موجود وجودا حقيقيا لا هامشيا ، يصنع حداثته بما لا يمثل حداثة الآخر / المركز .
لذلك لن يكون بحثنا عن ملامح للأصالة في شعر محمود الأزهري ، لأنها لم تكن أبدا أمرا عارضا ، بل هي صفة جوهرية فيه ، فهي تجربة ومهما بدا أنها تحقق غربتها كمنحي حداثي ، إلا أنها أبدا لم تحقق تغربها كمنحي أزموري في الشعر لا يمثل جادة الحداثة أو حتى هامش الأصالة . فهي بداية تنطلق من المكان الذي يخصها ، وتوغل
في تاريخه ، محافظة على المتلقي من خلال محافظتها على مكتسباته الثقافية والتراثية الحضارية ، ودون أن تغيب خصائص
التجربة الموضوعية في الوراء ، ودون أن تغيب خصائص الذات
الشاعرة أيضا . إنها النكهة المتولدة لتوها معبقة برائحة التاريخ ،
والأصالة التي تؤطرها خصائص شعرية وذاتية تنطلق نحو حداثة
تركز على الجدة من خلال شاعرية فذة ، ومن خلال عمل إجرائي
يحول الواقع إلي فن . لهذا حسمت التجربة موقفها من المحددات الأصلية للشعر كالموسيقي ، فاعتمدت التفعيلة كمقياس أساسي تقتضيه
ضرورة التفرقة بين فن الشعر ، وفن النثر ، وتستلزمه طبيعة القصيدة
العربية ، بما يؤكد أن التجربة أفادت من التراكم الغنائي في القصيدة العربية . وهو إذ يؤكد هذا الملمح الموسيقي يلتزم بالقافية كخصيصة في بنية القصيدة التراثية ، لكنه إذ يرفض اعتسافها ينوع فيها أو يجاوزها أو يسقطها مرحليا في بعض أجزاء القصيدة ، بما يشي بأنه لا يرفض القافية كإيقاع نغمي ، ولكنه يرفض اعتسافها أو تصيدها .
ومن ناحية أخرى ، تبدو التجربة أصيلة في بعدها عن التجريد والتجارب الذهنية ، وفي بعدها عن التحطيم السافر للتركيبات المألوفة للغة على كافة المستويات النحوية والصرفية والدلالية والصوتية .. ومهما بدت المفردة عند الأزهري مجافية .. في بعض الأحيان ..
لدلالة المواضعة ، إلا أنها تنطلق منها إلي دلالة جديدة تحوي بداخلها دلالة المواضعة .. وطبيعي أن يكون استخدام الشاعر للغة منطويا على
وعيه باللغة وبالحياة معا ، وطبيعي أن يخدم الشاعر لغته مثلما هو
مستخدم لها .. لهذا لا تفقد تجربة الأزهري قارئها ، لأنها لا تقدم شفرة مجردة ، أو رسالة علوية صادرة من ذات متعالية متشنجة لا صلة لها بحياة القارئ أو وعيه أو مكتسباته التراثية والحضارية .
وإن كنا لا نعدم صفات للأصالة في إطار رؤية الشاعر أيضا تلك التي تحدد موقفها تماما من التراث العربي والإسلامي والإنساني بعامة ، ونقدم رؤية واضحة تنضح بأصالة الذات ووعيها بتراثها
وتاريخها .ولننطلق ـ إذن ـ إلي ميزة أخرى لتجربة الأزهري ، ربما
سنرصد معها ملامح للجدة والمعاصرة في آن . وهي ميزة نوعية
إلي حد كبير .. فمهما قيل عن تجربة الأزهري إنها غنائية ، فليس كل
قصيدة غنائية قادرة على أسر متلقيها وجذبه حتى النهاية ، أو حتى قادرة على استفزاز قارئها نحو تحقيق هدف القصيدة إن شيئا كهذا يبدو وهما شعريا عند الأزهري ، إذ يسعي إلى توحيد القارئ مع تجربته من خلال معطيات فنية تبدو مطمحا لأي عمل فني معاصر ،
ومهما كان المطمح نبيلا ، ومهما يكن القارئ مستهدفا ، فإن ذلك لن
يتحقق إلا من خلال توظيف العناصر ، الدرامية في العمل الشعري بما
يحقق البناء الدرامي للقصيدة وربما أن هذا لن يتحقق شكليا في قصيدة ما ، ما لم يكن شاعرها أساسا مفكرا بالشعر ، يصنع قصيدة لها موقف من الحياة والواقع، وتنم عن رؤية شاملة متسعة لهما ، ولعل هذا المنحي هو ما يسمي بالنزعة الدرامية في الشعر . وهنا تكمن العصرنة في الشعر . وأبدأ في هذا بالتفرقة بين وجه القصيدة التراثية الغنائية وبين القصيدة الغنائية المعاصرة الدرامية (2) : لقد سيطرت الغنائية على تراثنا الشعري في عصور سالفة ، ولكننا ومهما شغفنا
بهذه القصائد ، فإننا لن نبحث فيها إلا عن جماليات السطح والمعني المحدد ومناسبة اللفظ للمعني ، ووصف عاطفة الشاعر . لكننا أبدا لن نصل إلي رؤية وراء القصيدة يمكن أن نخرج منها بموقف الشاعر من
الواقع أو من الحياة أو حتى من نفسه . القصيدة الغنائية تؤسس مشروعها الشعري للتغني بعاطفة ما وتبحث عن غرض شعري ومن
ثم فهي معدومة الرؤية وتسير في خط أفقي في بنائها ، وتهتم كثيرا بالتوصيل والتفهيم ، وغالبا ما تكتظ بالنصائح والحكم والأمثال والتقرير والنصاعة والمباشرة ، وهي أحادية السياق ، سكونية السطح ،
رتيبة ، مباشرة المضمون ، ومن ثم فهي قصيدة وصف ، تصف المشاعر الداخلية كما تصف الجبل والبحيرة .. غارقة في الدلالات
المباشرة والمعني المعجمي للألفاظ والصور البيانية الحسية أو التي
تجسم المعنوي أو العكس. ومما لاشك فيه ، أن وجه الحياة في عصرنا في تغير دائم ، والعالم من حولنا ـ ونحن جزء منه ـ يشهد تطورات يومية هائلة وانهيارات منتظمة ودائبة للمشاريع الكبرى والصغرى في العالم ، وإذا كانت القصيدة الغنائية هي سجل العرب ، فإن قصيدة اليوم سجل لهذه الانهيارات والتغيرات المتلاحقة في قريتنا الصغيرة ، بما يستوجب أن يكون الشاعر مستوعبا وواعيا بهذا التغير وهذا الانهيار.. له رؤيته التي تحدد كينونته وسط هذا التبدل المضطرد ، وله وعيه الذي يداخل به الحياة ، ويقيم من خلاله علاقة جدلية مع الحياة . ولهذا أيضا من المفترض ألا تكون القصيدة الحديثة سكونية
بحالة ما ، ويجب أن تلاحق هذا التغير بتغيرها الدائم ، ولكي تكون بالفعل سجلا لحياتنا العصرية لابد أن تكون بشكل ما قصيدة درامية ،
لأن الواقع / الحياة من حولنا درامية إلى حد كبير .
درامية الحياة / التجربة الشعرية :
يتخذ الأزهري المرأة بمظهريتها وسمتها العصري مادة خاما يشكل منها منجزه الشعري ، ويعكس من خلال علاقته بها رؤيته التي تشف
عن مفارقة الحياة وغرائبيتها ، ويجعلها بصفة لازمة كآخر لازم لتأجج
الصراع الدرامي وكوسيط لازم الوجود يبدأ الفعل الشعري حركته بحركة هذا الوسيط الذي يربط الذات بالحياة أو يقف حائلا بينها وبين الحياة . لهذا رأينا المرأة / الأنثى / الآخر / الوسيط تقفز إلى عنوان القصائد لتستولي عليها تماما مثل " شاهندة " أو سؤال عنها
" أين صفية " أو صفة لها " القتول " أو " قمر كامن " .. وبعيدا عن العناوين ، فإن الأسماء المؤنثة تشيع في جل قصائده كعلم على شخصية
نسائية ، بيد أن الغالب في قصائده ، ذلك الاهتمام بالفعل النسائي كمفجر شعري تبدأ معه الذات الشاعرة في رصد كثير من ملامح الحياة العصرية بعلاقاتها ومظاهرها وتحدد في الوقت ذاته موقعها ومطالبها وتعلن عن رغباتها وترصد اشتراطات الواقع عليها في ذات
الوقت الذي تشف عن رغبتها وحرمانها وضالتها .. إننا وأمام هذا لا نعدم أن نري الأنثى تتمدد في النصوص مجتمعة مشكلة في كل مجمل النصوص وجه الحياة العصرية بعامة ، ومن ثم ومن خلال رصده ملامح الأنثى وسلوكها وعاداتها في القصائد ، يمكننا أن نقيم
نموذجا للحياة العصرية وليس هذا فحسب بل لرؤية الشاعر لهذا النموذج ، ولا نعدم أن نلمس وضعية الذات الشاعرة بكل معاناتها
وعذاباتها وحرمانها :
" إنني ولد راضع لبنا من سهاد
منحنه لنا بلد
ما تعاشر إلا الفساد .. فساد
..................
بلد تركتني لأكتب شعرا بليدا
يسمي القواقع لؤلؤ شعر جديد "
وفي مقطع آخر من هذه القصيدة :
" يتشعب مني الفؤاد
فأكتب شعرا
يحسن أن نتزوج من ثيبات .."
وفي المقطع الأخر من هذه القصيدة المعنونة " تشعب " يقول :
" ودعته المدينة /
راح يرقب نسوتها الآبقات /
سرقت منه طربوشه
الأزهري /
توجه تلقاء مسجدها /
قال : إني أتوب /
أبدا لن أعود لفعل الصلاة هنا /
خائفا ، يترقب أضحي /
لكزته بمعصمها امرأة /
أمسكت يده /
سلبت منه كيس نقود وقع /
بابتسامتها /أعلنت أسفا حضريا /
وتومئ أن ../
صار رقا /
فتابعها ..!!".
هكذا أسرته المدينة بنسائها وسرقت طربوشه الأزهري ..وأوقعته في عبودية جبلته البشرية . وفي قصيدة " كنه الشيء "
تقف المرأة بينه وبين الله تعالي :
" وبدأت أخاف الله تعالي /
من جراء اللغة المزروعة بي /
حين ـ يهم القلب ليسجد /
تعترض صفية /
ما بين القلب وبين المحراب /
يا لعن الله صفية .. ".
غير أننا وفي مجمل علاقاته بالمرأة ، يمكننا أن نرصد الملامح الدرامية لهذا الحياة والواقع المعاصر والتي تتركز أساسا في عناصرها الأساسية :
الإنسان والصراع وتناقضات الحياة . في قصيدته (ثلاثية الخيبة) :
" خيبة
حين تلفح سلمي عباءتها خلفها
وتنادي الوليد الصغير : يتابعها
فأحار
وأمكث حيث أنا
أتساءل : تقصدني ؟!
فتجيء العساكر ترجمني
وأسافر!".
هكذا يقف العسكر / الواقع المتسلط ، حائلا مميتا بين الذات وبزوغ الأمنية التي تستهدف الاتصال بالمرأة / الدنيا التي كثيرا ما تتجاهله
وتتنكر له . في قصيدته " اختلاط المشاهد ":
" خاطبتها بالشعر .. بالأحلام
بالورد الندي !
وكسوتها حللا من الكلم المنور
في الدجى قلبا أبي
فتنكرت
أمسكت ذيل ثيابها فترفعت !
تلك التي عين المها هي عينها
عين المها في الشعر ..
لكن عينها قدامي
خاطبتها فقست على
مضت أمامي "..
في قصيدته " فرحتان " تتماهي المرأة في القصيدة في الحياة
إذ فرحة الشاعر بالقصيدة : المرادف الفني للحياة الحقيقية في جوانيات الشاعر بما تحمله من قيم جوهرية وجمالية وروحية ليفاجأ ما إن تبدأ فرحته بميلاد القصيدة / الحياة أنها امرأة سهلة عارية مشاع .. ومن ثم تتحول الفرحة إلي جرح ، إذ يستنزف الشاعر طاقته في السفر الجميل نحو
جوهر الحياة مستكشفا قيمها الجميلة ليفاجأ بأنه لم يقدم سوي امرأة / قصيدة يتعاطاها الناس كوسيلة للتلهي الرخيص .. وهكذا يصبح كل شيء
تافها ورخيصا : القصيدة ـ المرأة ـ الحياة .
" فرحة للقصائد
حين تخالط أحلامنا في السفر
ونفاجأ حين كتابتها
أنها امرأة سهلة
وبدون خمار ، بدون حجاب
بدون رداء
إنها ثمرة في الطريق مشاع
فيأكله العابرون جميعا بدون حياء
فرحة من دماء ..".
هكذا يتحول فعل الواقع إلي أكل .. وهكذا يأكل فرحة يصنعها الشاعر من
دمائه .. وبضياع طاقة الشاعر سدى يصبح كل شيء في الواقع مبددا : المرأة ـ الشعر ـ الحياة نفسها بدد . أمام هذا التناقض يغير وجهته إلي امرأة تقف خلف القلب كمرجع عاطفي يحاورها بالشعر فتأبي :
" وأخري لمن جلست خلف قلبي
فحاورها القلب بالشعر
زيفا أبت
فاستفزت دمي العربي
فشاكسها مرة ثانية
أشارت إلي ورم
في التراث العتيق
بكت
حين ذاك
فؤادي صمت !!".
وهكذا هي الهوة تتسع بين الفرحة وبين الواقع ، فلم يعد ثمة متسع للتحنان أو العواطف أو حتى الاستمتاع بوجه الحياة الشعري أو بفيض عاطفي ، ينسرب إلي القصائد من خلال تواصل الذات أو اتصلالها بالأنثى .. هذا وقد داهمت اللحظة الشعرية أورام خبيثة كثيرة متأصلة ..
أإلي هذا الحد ينفتح هويس الجرح ليشمل الماضي التراث بكل ما يحمله من أورام لا تزال تنغص الحاضر .. ؟ أإلي هذا الحد تبدو جراح الشاعر متأصلة ومنزاحة عبر التاريخ كوجع قديم منزلق .. ؟ ! أإلي هذا الحد لم يكن جرح الشاعر طارئا .. ؟ أإلي هذا الحد يحول فرحة الشاعر إلي جرح ما يلبث أن ينغص اللحظة ..؟! ألهذا يري الشاعر عبثية تجربته في واقع متشح بالحزن والجراح ؟ في قصيدته " صورة " يبدأ بالتساؤل :
" هل جلست وحيدا
لكي تكتب الشعر عن صورة البنت هذه ؟
أم جلست لتختلس الحزن من مقلتيها
ليكتبه القلب
بعض الدمى في الفضاء
دمى من دماء ؟
وتجسد حزنك من مبدأ اليتم إلي سوأه الشعر
ثم إلي وجع العرب والمسلمين الأوائل !"
لعله تساؤل استنكاري إذن : أن يطمح إلي تحقيق مشروع جمالي في واقع ملبد بالبلادة والحزن .. كيف إذن أن يحول هذه المأساة إلي ملهاة ؟.. لعل المفارقة أنه حقق ذلك على صورة مجافية لطبيعة الذات ، إذ يضطر إلي مداخلة الواقع من زاوية يرتضيها هذا الواقع .
" فخرجت وبين يدي ورق
معلن في الصفحة الآخرة
عن نوع من الخمر
خمره لا تجن
فاشربوها لكي تنعموا بالهدوء
وسط أجوائنا العائلية
تسألون : صورة البنت هذه
إنها طرفة في مجلة
وليست قضية
فلا تحملوا البندقية ".
ألهذا الحد تصل سخرية الشاعر من الواقع حين يدفعه إلي التلهي بالخمر والنساء ، ويحمله إلي تناسي القضية .. إنها مأساة الذات في واقع مأساوي حين تضطر إلي ممارسة السخرية حينا ، ومداهنة الواقع حينا ، وإدانته حينا آخر :
" أي بنية
تعالي هنا جانبي
واهدئي
سنسوى ـ معا ـ شعرك المتهدل هذا
آه .. من هدله؟
تتساءل أرواحنا :
من كسر فيك البراءة ،
من جرح الجمجمة ؟
تندبين ـ إذن ـ أمك الضائعة
أم أخاك الرضيع ذهبت تقصيه أنت على جنب ".
إلي هذا الحد يجافي الشاعر حلمه الجميل ، وقد ودع كل فرصة لاختلاس الفرحة من بين مقلتي البنت إلي التفجع بمأساة الواقع العربي ؟!
" سوف يبحث إخوتنا القائمون على الأمر بالعدل
بعض الحقائق
أما التفاهات : أنت وحزنك ...
بؤسك .. بعض القصائد /
... ما لهم وهم الشرفاء ـ بمسألة الاغتصاب !
أي بنية
اهدئي ..
إن قلبي لا يتحمل هذا الحزن
واحذفي من سطور التذكر أهلك /
حتى يتم محبو السلام تدارسهم للقضايا
التي مزقت فكر هذا الوطن
ثم .. سوف نوفر ألف كفن ".
ألهذا الحد يبدو الواقع مأساويا ومتناقضا عندما لا يهتم أولي الأمر بحل قضية اغتصاب الأرض وتشريد وقتل أهلها بقدر اهتمامهم بتوفير الأكفان للموتى .. وإلي هذا الحد تتحدد مسئولية العرب إزاء القضية .؟! ليس هذا فحسب ، بل كيف تستمر التجربة في هذا الواقع بعيدا عن هذا الخط الدرامي المؤسس على التناقض والفقد واستلاب الروح .
" وهل تذكر روحي
من بعد ذلك
طيب العبير
ولون الزهر ؟! "
وهكذا تتحدد في شعر الأزهري أبرز سمات التفكير الدرامي بوصفه تفكيرا موضوعيا إلي حد كبير !! ففي إطار هذا التفكير يدرك الإنسان أن ذاته لا تقف وحدها معزولة عن بقية الذوات الأخرى وعن العالم الموضوعي بعامة .. وإنما هي دائما ومهما كان استقلالها ، ليست إلا ذاتا مستمدة أو لا من ذوات تعيش في عالم موضوعي تتفاعل فيه مع ذوات أخري . إن الذات والموضوع معا وما بينهما من علاقات متبادلة هما اللذان يصنعان الموقف والشعور وليس في وسع الفنان الذي يدرك هذه الحقيقة إلا أن يتمثل ما يحسبه موقفا أو فكرا أو شعورا ذاتيا إلا في إطار البنية الدرامية الموضوعية العامة للحياة ". (3)
في قصيدة " جسد طاغ " تتجسد هذه السمة الموضوعية عندما يدمج الشاعر ذاته كإنسان وكشاعر بالذات العربية على إطلاقها ليبدأ في مخاطبتها متأملا وضعيته كصعلوك وسط صعاليك الشعراء العرب بعامة ، وكشاعر يحمل على كاهله سجل العرب
" فيك طغيانك الآدمي
وتدعوه إرث قريش وبكر وتيم
وكل صعاليك هذي الصحاري التي خورت
ثم ما أنبتت غيره الشعر
ـ هذا الذي قد تزوج ريحا عقيما –
وها أنت ذا تدعيه
وتملا شدقيك بالنار
تزعم أنك توجت رأس لبيد وزهير
بتاج الفخار
وأين ابن عبس ليزداد عجبا
فها نحن ذا نتحاور باللغة العربية
نسأل نفس السؤال القديم
متى غادر الشعراء الحزانى سرابيلهم
فوق درج الحروف؟
لكي نتغنى بحزن جديد ؟"
هكذا تدمج الذات نفسها وسط قائمة طويلة ممتدة عبر التاريخ ليتسع أمامها هويس الانفتاح على مجمل الشعراء بوضعياتهم الاجتماعية وبتركيبتهم النفسية وبحظوظهم من الدنيا ليعيد السؤال القديم " هل غادر الشعراء من متردم ؟" بصيغة تتناسب مع وضعية الشاعر في هذا العصر " متى غادر الشعراء الحزانى سرابيلهم ؟" هذه هي صورة الحزن الدائم الذي يتسربل به الشعراء منذ القدم لا تزال متمثلة في شخصي .. إنني كذات مازلت أحمل سمات تكاد تكون ثابتة في كل الشعراء التشرد ـ الحزن ـ الغربة ـ الدهشة . لكنني أبدا لم أكن متخليا عن إرثي القديم ومازلت محافظا على لغتي كشاعر خادم للغة ومستخدم لها ، ومع ذلك لم أورث غير الحزن ولكي يكون الشاعر موضوعيا في هذه الرؤية وحتى لا تكون مثل هذه المشاعر مجرد وهم خادع يخامر الذات أو أنها مجرد تشاؤمية غير مبررة لجأ إلي حيلة ذكية موضوعية تماما تتمثل خارج الذات : إنه مشهد صفية والكلب . لينقلنا
عن طريق " الحركة " كسمة درامية من موقف خاص إلي موقف مقابل .ومن عاطفة وشعور إلي عاطفة وشعور مقابلين وهي سمة درامية في بناء العمل عندما لا يسير في خط طولي فقط .. ومن ثم يتجه عرضيا أيضا ليبرز كل السطوح والأعماق ، ولا غرو فإن طبيعة الحياة نفسها قائمة على هذا الأساس الدرامي ، إذ يتخفي الباطن وراء الظاهر . لهذا يأخذ التفكير الدرامي في الاعتبار أن كل فكرة تقابلها فكرة وأن التناقضات وإن كانت سلبية في ذاتها ، فإن تبادل الحركة بينهما يخلق الشيء الموجب .
ولقد مهد الشاعر للنقلة إلي مشهد صفية بوصلة أملاها ذكاء الشاعر الفنان الذي لا يصدم قارئه بقدر ما يتهادي به إلي ذروة الدراما . فنجده يمهد
" الحقيقة تعكس أشياءها
في رمال معذبة للفؤاد
على شاطئ من حديد ".
يريد أن يقول على سبيل الحكمة :" التاريخ يعيد نفسه " وعلى وجه أكثر خصوصية تاريخ الشعراء بكل أحزانه وعذاباته يعيد نفسه أكثر استفحالا، ولكي أكون موضوعيا تعالوا معي إلي مشهد صفية .
لهذا تتجه القصيدة " أو ينتقل الكادر" في حركة ممهدة إلي مشهد صفية
" الواقع الموضوعي " لتبدأ الذات في مخاطبة نفسها :
" فلماذا إذن قد جبنت أمام صفية ؟
كيف نفسك قد طاوعتك ؟
كيف تحل رباط امرئ القيس
من تتداعي على حد شهوته الهالكات ؟..."
إنها معاتبة الذات إذن أمام مشهد صفية بجسدها الطاغي وقد حركت الشهوة الآدمية للجنس تلك الكامنة خلف الشاعرية .. إنه المطلب البيولوجي الملح.. تتجلي قمة مأساة الذات في لومها نفسها وهي المكبلة بإرثها الملجم وأعرافها الصارمة وفضيلتها المفترضة كل ذلك ينمحي أمام جسد صفية وتطفر على الشاعر صفات " امرؤ القيس " الحسية واندفاعه وفورانه الجنسي .. لهذا تلوم الذات نفسها .. لكأن الشاعر يبحث عن بطولته وذاته التي تدعي التماسك والمسئولية والفضيلة و.. كثير من الصمود وقد تبدل إلي .. آخر مشمول بجبن اللحظة
" فلماذا إذن قد جبنت أمام صفية ؟"
وكان الأحرى أن يلوم "صفية " التي حركت بتبرجها شهوته .. لكنما هل تملك الذات حق توجيه هذا اللوم إلي " صفية " وهي الذات الهشة المضيعة التي ترسف في وضعيتها الراسخة في الهوان ؟ .. لهذا تلوم الذات نفسها ..إنه جلد الذات عندما تعجز عن جلد الواقع وفي لحظات الإحباط .
إنها قمة الدراما أن تكون المفارقة جلد الذات لنفسها وهي التي من حقها كبقية الذوات أن تشبع بيولوجيا .. هذا هو الحق الطبيعي في الحياة أن نتخطى مرحلة الإشباع البيولوجي هذا إلي رغبات أخري أكثر اتصالا بجوهر الحياة وقيمها الراقية كالحب والحرية والانتماء وما إلي ذلك . أرأينا إذن كيف كان التساؤل محركا للفكر والشعور ومؤثرا في حفزنا إلي التفاعل بالشعر ؟! ثم يدخل بنا الشاعر إلي المقابل الموضوعي لكل ما بداخله والمتمثل في مشهد صفية ويحرك الكادر :
" تتهادي على عشب أيامها
وتنادي على كلبها
لينام على صدرها .. لينام .."
أإلي هذا الحد تصل المفارقة حدها الأقصى عندما ينام الكلب على صدر صفية ، بينما يظل الشاعر محروما مستمرا في ضلاله الشعري .
" المضلل أنت .. تغني ..
" يطير الحمام .. يحط الحمام " ... ؟" ..
وهكذا نجد الغنائية الفكرية عند محمود الأزهري قادرة على أن تكون موضوعية وقادرة على التقاط التفصيلات الحية واختيار ما هو جوهري دون أن تتحول القصيدة إلي قصة .. يستمر في التقاط المشاهد المتنافرة أو المتقابلة ، ويتنقل بينها من خلال التجسيد لكل ما هو معنوي كخاصية أساسية في التفكير الدرامي بجانب الحركة .
كذلك لا يكف التفكير الدرامي عن طرح التساؤلات بين نقلاته
:" فكيف تفكر في القدس ؟
كيف تفكر في شجر
يتراقص عند حدود الخيام ؟" .
ثم يعود مرة أخري إلي مشهد صفية :
" تتضاحك محدثة شغبا
وتغازل ،
تلطم بحرا
تضاءل مرتحلا في الظلام
وتنادي على كلبها
لينام على صدرها ، لينام
المضلل أنت / تفكر .."
كما لا يكف عن الالتفات من الذات الشاعرة المضيعة إلي الذات الباصرة المتحسرة
" المضلل أنت
تفكر
يضربني الجن ليلا
والنسوة العاهرات نهارا
حين عيني صفية تلتقيان بعينيك
تلعن أمك ".
ألهذا الحد تصل الدراما ذروتها عند مفارقة محزنة ، إذ يصل الكلب إلي وضعية لن يصل إليها الشاعر مهما طال حلمه .. ألهذا يلعن أمه ويستمر في الصراخ ؟
" تصرخ ..
تدعو رمال القبيلة
كي تحمل الصدفات سيوفا
تقاتل من أجل شهوتك المستكنة في داخلك
علمتنا الرمال التي أجدبت
اشتهاء النساء .."
وإلي هذا الحد تكون التجربة مفضية إلي تصور محبط لوضعية الشاعر وكينونته وصيرورته النهائية كمخلوق أحط من الكلب وإلي هذا الحد يكون الشعر مضللا حين يصور لصاحبه وهما غير الحقيقة المفزعة هذه :
" المضلل أنت ..
ومازلت متكئا...
فوق صدر اللغة
فتنزل على وهج من رحيق
على وهج من حريق
على وهج من دخان ".
حتى الأمر الأخير المحفز للذات :
" فيا أيها البشري
اتكئ فوق صدر صفية "
لا ينم عن ترقية ما .. فهو في أحسن الأحوال سيحل محل الكلب ، ليتكشف لنا هول الرؤية التي يحملها النص ، وهول المفارقة أيضا أن يكون صدر صفية وسادة للكلاب وأن يكون تنازل الشاعر عن عرش حرمانه إلي الإشباع مساويا لمسخه كلبا ..وبالنداء يا أيها البشري تنفتح الرؤية على مساحة واسعة تضم البشر جميعا هؤلاء الكلاب الذين ينامون على صدر النساء الجميلات بينما يتفرد الشاعر بتواجد أرقي مع الحرمان على عرش البهاء الشعري . إنها جدلية التسامي / التدني ـ الحرمان/ الإشباع ـ أو المطلب البيولوجي / المطلب المعنوي . جدليات يثيرها النص ليعكس من خلالها وضعية الذات الشاعرة في واقع يؤطرها بكل احتياجاتها ونزعاتها وحرمانها في آن ، ويعكس كذلك الهوة المفارقية بين الذات والواقع .
أهم عناصر التعبير الدرامي في تجربة الأزهري :
لعل أهم العناصر التعبيرية الدرامية في تجربة الأزهري هو التقابل بين الصورة الداخلية للذات والصورة الخارجية للواقع . وهو تقابل من حيث الدلالة والتكوين والحركة والحركة المقابلة .. في قصيدة " النوازل " يبدأ مستعينا بالتاريخ كمتسع براح للرؤى الحالمة والتطلعات الباحثة عن المخلص / القدرة / المثال ليجده في الإمام أبي الليث السمرقندي .. ومن خلال الحوار مع الشيخ والذاكرة والتساؤل والسخرية من الواقع ، تتضافر الأساليب لعرض الأجواء الداخلية المحبطة تحت وطأة نوازل هذا العصر .
" يستحث الخطي هائما في السماء
يتذكر ليثا
كيف خطت يداه "النوازل"؟!
و كيف سمرقند كانت جميلة
تعدل ما أهملته يد العرب الفاتحين الأوائل ؟".
هكذا تتحدد وجهة الذات إذ تفر إلي ماضيها تستمسك بتراثها لتستدعي صورة الإمام (أبي الليث) مؤلف كتاب " النوازل " الذي عالج فيه المشكلات الفقهية التي جدت بالمجتمع في عصره ..
هكذا يبدأ الشاعر البحث عن كتاب لنوازلنا العصرية ! .. تبدو أجواء الذات محبطة وراغبة في الخلاص من وجع عصري :
" أفتني سيدي الشيخ
في امرأة
كنت أوقظها الفجر ، توقظني
نستحم معا
ونهيئ أنفسنا للصلاة /اللقاء !
وتقر بأن الإله أراد لها أن تكون سكن
وتحوقل سبعا إذا ما أتاني الغضب / سورة الشرح .."
وهكذا تنفرج الرؤية ، وتكشف عن أجواء الذات التي تتلمس الوجود في التزامها بالشريعة كمنهج .. وتتأمل من أيامها ـ عبثا ـ أن تظفر بهذه المرأة المثال ، التي تؤمن سلوكيا ووجدانيا بهذا المنهج . بيد أن ذروة إحباطات الذات في الظفر بهذا النموذج المثال / المرأة / الحياة يتجلي في المقطع الذي يقول:
" ما كنت أدرك أن الزمان
سيغتالنا بعد حين
ويحولهن إلي قطعة من جحيم
آه يا شيخنا
إننا فجأة انبعثنا دمي في زمن
فيه لفظ الرجال
كجرح زمن
فدخلنا الكهوف / المكاتب ".
هذه هي الحالة الداخلية للذات وما يختلج في مخيلتها من صور فاضلة للحياة / المرأة .. إنها الصورة المصون للحياة والتي تكونت في الذاكرة والتي قطرها ورسبها التراث الإسلامي والقروي الذي تشربته الذات الشاعرة .. صورة تفتقدها الآن في واقعها الحاضر ومن ثم تستشعر الذات جراحها ومأساتها وقد ضيعت منها ملامح الحياة الأصيلة .
وقد عرض الشاعر لصورة المرأة المصون النموذج المفتقد في قصيدته وقدم جميع أوصافها وحالاتها وطباعها .. ثم تنفرج القصيدة بعدها عن الصورة المقابلة للمرأة العصرية وقد خرجت إلي الشاعر / الحياة / العمل/ التفاعل السلبي / المهزلة ، مغادرة بيت زوجها وحياتها الطبيعية إلي الكهوف / المكاتب :
" تلعب بالشطرنج
وبجانبنا امرأة
بفساتينها الزاهيات
وركبتها العارية
إنما النسوة القائمات على الأمر بالعدل
ـ والأمر شوري ـ
وبالتسلية ".
إنها امرأة دمية للتسلية توزع التسلية بالعدل على الرجال والأمر شوري .. إنها عبثية النظرة الدرامية أن تسوي بين الحكم والتسوية فكليهما شوري .. إنها السخرية من الواقع الدرامي المفارق:
" انبعثنا دمي في زمان
سمرقند لا ليث فيها
ليكمل باب النوازل !!"
هذه هي الصورة المفتقدة للرجل المخلص وللرجل بعامة في مقابل تواجد الأنثى وطغيانها واستئثارها بالحياة / التسلية . ولعل الصورة الكاشفة للمقابلة في هذه القصيدة ـ أيضا ـ هي :
" في المساء الذي الليل يركبه
طوحت شعرها
هالني منظر الشعر
ـ يا شيخنا-
فبهت
وقالت : أحمق أنت طول حياتك
ما تفهمت إلا
يطهره الماء شرعا وإلا التراب !
إنني ذاهبة
أ ستعد بعطر البلاد التي تدعيها بلاد الفرنجة
فالمدير سيشركني ندوته !!
/ وكأن المحيض أتاني أنا ..". إنها ذروة الدراما أن يحيض الرجل، ويقبع في البيت ، ملتزما بشرع الله يبحث كيفية التطهر بالماء والتراب بينما المرأة ستسافر مع المدير إلي بلاد العطر .. إنها الحركة والحركة المضادة .. أن ينزوي الرجل بينما تعلن هي : " إنني ذاهبة " كذلك يتجلي هذا التناقض في الحركة والتكوين في الصورة الأخير من القصيدة :
" ومكثت أقلب في دفتر الغابرين
وكدت أجن
من " لزوم المعري "
و"قياس زفر " !!
ما يثير انتباهي إلا كعب الحذاء
حين أرض المكان تهز به
وبالضحكة الجلجلة
.. " ونحن رجال " !! "
إنها مأساوية الحال أن تودع الذات المشهد معلنة من أسف " ونحن رجال !" لكأنها تتمنطق بآخر ما لديها من إعلان ساخر وما بقي من الرجال غير حروف الاسم .
ولعل العنصر الطاغي الثاني من العناصر التعبيرية الدرامية في تجربة الأزهري هو التقابل بين الألفاظ والعبارات الشعرية ذات التأثير الدرامي بما يشي بتقابل الأبعاد النفسية . فمثلا في قصيدة " نظرة في سكون ":
(وفي آخر الحفل ..
عند انشطار الظلام
ليبدأ تكوين يوم جديد !
وعند ابتداء السكون
المحمل بالصفو
هذا الذي يعشق القلب صوته
أكون أخذت بحظي
عند ذهابي لنومي
ففي النوم أبني من الحلم قصرا
إلي أن يجئ النهار ..
فحظي حالة صحوى يأس
سؤال يوشوشني
كيف أعبر مرحلة من هدوء ؟!
بعيد اعتيادي هذا الصخب ؟! )
لعل المقابلات بين " الظلام ـ تكون يوم جديد" ـ " الليل ـ النهار " " الحلم ـ اليأس " ـ " النوم ـ الصحو " ـ الهدوء ـ الصخب " ـ " الصوت ـ السكون " .. كلها مقابلات دالة وناقلة لموات الشاعر في لحظة توالد النهار وتصادمه مع هذا النهار/ حضن الصخب واليأس ، ودالة في حالة كون الشاعر كائن ليلي يعشق الهدوء والسكينة ، وكونه يعتنق الحلم ويهرب إلي قصور لا وجود لها في هذه الدنيا / الحفل الذي يتحد كل حظه فيه بمجرد المشاهدة من بعد . وفي قصيدة " القتول" :
( للقتول عيون
عيون القتول
ملبدة بالغيوم
ملبدة يا صفاء
ملبدة يا هناء
ملبدة كالسماء ..!!
ويا شاعر العشق والهجر والحزن والفرح والخطبة المنبرية
تعال إلينا
فرأس القتول مفكك
وإن القتول تحب الغناء
وتشدو به في زمان التوصل
فكيف تغني القتول ؟
وكيف يكون الغناء جميلا ؟!
وفي حين أن التعاسة
تملا أرض العرب !)
لا شك أن حالة من اليأس تشمل الذات وتؤطر رؤيتها في زمان تتساوي فيه الأغنية بالموتية ويصبح فيه الممكن الوحيد هو أن تفارق الروح الخناجر موتا . لا غناء ولا شعر إذن .. وقد تلوثت حتى أصداء الشعر وانصبغت بصورة العصر .. فلم يعد الشعر عند الشاعر ينضح بالهدهدة الروحية والتحليق الخيالي والترامي نحو عالم الأنوثة الجميل أو حتى وسيلة لتزجيه الفراغ .. الأنثى / القتول أيضا منصبغة بلون العصر ولم تعد صالحة لممارسة صلاحيات الروح العاشقة ، ولعل تلك المشاعر التي تنطوي على إدانة الحاضر ومأساوية الشعر وسط حشد الوقائع المحزنة .. كل هذه الأجواء النفسية التي تنم عن حس درامي ورؤية تتشح بالدراما كصراع وقلق وحركة وتنقل من جو إلي آخر مفارق قد يكون حلميا أو تراثيا أو الماضي أو ما أشبه ذلك .. ما كان يمكن أن تصلنا كل هذه الأجواء بنفس الدرجة من التأثير وما كان لها أن تحدث تأثيرها المطلوب لولا أن الشاعر استخدم مفردات متقابلة الدلالات يمكن إبراز هذه الأجواء من خلالها مثل
"ملبدة بالغيوم ودلالة أسماء العلم : صفاء ، هناء " وبين " العشق والهجر"
و"الحزن ـ الفرح " وبين (الغناء والتعاسة ) وبين (الهجر والتواصل ) .
ومن العناصر الدرامية في التعبير أيضا في تجربة الأزهري
" الأسلوب القصصي " بما يحفظ للقصيدة فنيتها كقصيدة دون أن تتحول إلي قصة ، أو بالمعني هو يستخدم الأسلوب القصصي كوسيلة فنية في الشعر دون تورط في كتابة قصة . ولاشك هو أسلوب يتطلب شاعرا له أكثر من مقدرة الشاعر وأكثر من مقدرة القاص .
هذا الأسلوب القصصي داخل الشعر له وظيفته الفنية الدرامية لأن يمشهد الموقف الشعوري ويجسده ويأتي به في صورة حكائية تربطه بالواقع الدرامي وبالحياة الواسعة . وفي نفس الوقت يضفي الحيوية على القصيدة ويثبت بشكل ما أن القصيدة لم تكن غير ثمره تفاعل بين الشاعر والعالم الخارجي . والأسلوب القصصي شائع في جل قصائد الأزهري حين يروي عن شخوصه وحين يحاورهم وحين ينقل أفعالهم وأحاديثهم وردود أفعالهم وملامح نفسياتهم وحين ينقل التفاصيل الصغيرة وحين ينقل بعض ملامح المكان وحين يشير إلي الزمان وحين يركز على حادثة بعينها ويتتبعها وحين يشد كل الخيوط نحو عقدة درامية . قصائد كثيرة متعددة تتكئ بشكل لافت على هذا الجو القصصي في قصيدته " تلك الساعة " ـ مثلا ـ يدخل بناء إلي قلب المشهد دون تمهيد يقول :
" يمشي في الشارع
تلميذ طيب
وبصحبته تلميذ طيب
تمشي امرأة من خلف
ومن قدام ..".
هكذا ودون أن نكمل نشعر بأننا بإزاء قصة وأن ثمة علاقات وتفاعلات ستتم بين الشخوص " التلميذ الطيب وصاحبه والمرأة التي في الخلف وتلك التي من قدام " وأن ثمة حوارات ستدور .. فيكمل :
" وتمشي بالجانب
وتناورنا
فتعدل شعرا
ترفع يدها ... بحذاء الخد
تنظم شنطة يدها
تتبدي خشيتها منا !"
ولا يكتفي بذلك بل ينقل القص للحكى عن جوانيات الشخوص :
" تتوهم أنا نشرب منها / الخل .. "
ويستمر في تتبع فعل المرأة / فعل القص
" إذ كانت تعبر
كانت تهتز
وأنا أتاول
حالتنا
وأفسر للتلميذ الطيب
أنا لسنا أشرارا "
ويضطر أحيانا لكسر رتابة الحوار في ثنايا القص مثل :
" الجورب مقطوع .. ـ وأنا الجزمة .."
وهكذا نشعر ونحن نعاين القصيدة ، أننا نعاين القصة داخلها ، ولا أخفي طرافة هذا الأسلوب وأهميته في صنع درامية القصيدة وفي أسر المتلقي وتشويقه .. وثمة عناصر كثيرة للدراما في شعر الأزهري لو تتبعناها واحدة إثر واحدة لطال بنا المقام . فالأزهري يتميز من هذا الناحية بأنه مفكر شعري قادر على تفنيد العالم ومحاورته ومن ثم فهو قادر على صنع درامية شعرية مؤثرة وناقلة لدراما الحياة نفسها . ومن ثم فإننا لا نعدم " الحوار" و" المونولوج الداخلي " والتساؤلات بأنواعها وكثير من التنقلات وأساليب الالتفات .
يكفي أن نقول إننا إذ نعاين تجربة الأزهري نتمثل في هذا الشعر دراما الإنسان الذي يحاول أن يعي ذاته وسط حشد الوقائع وإن شئنا الواقعات التاريخية التي تصنع في مجملها نسيج الحياة لذلك يلجأ إلي التجسيد والموضوعية دون أن يجنح نحو التجربة ويفر كثيرا إلي ماضيه ليستشهد به أو ليجره إلي حاضرة المشهد الحاضر كطرف نقيض يباكت به الحاضر أحيانا وأحيانا ليري الحاضر عبر متسلسلة مأساوية كحلقة متصلة بالماضي ، بما يشي بأنه واع بتاريخه وتاريخ أمته وأنه كشاعر معاصر يري نفسه كحلقة أخيرة أوسع مما سبقها في متسلسلة الزمن الزنبركية الممتدة إلي الوراء . حقيقة هو الشاعر المعاصر .. صوت ضمن سيمفونية من الأصوات التي تتجاوب عبر التاريخ بكل أبعاده الإنسانية والزمكانية . وإنه لصوت يتمثل اللغة والفن بما يمثل وعيه وحضارته . وإنه لصوت
الأزهري الذي يجعلنا بشكل ما نقبل عليه بحماس وهو يردد
" أحبائي
أنا قلب
وألفاظ مجهزة
فؤادي ذلك المسكين يحفظها
ويفهم ذلك الرمز الذي تعنيه هاتيك القصائد
دمعة أشعاركم
شجن ... ورقة
وإيقاع يهز مشاعري هزا
ويعصف بى ،
ويقتلني
ويضربني على دف ..
ويتركني بأوتار ممزقة
أحبائي
على أشعاركم أحيا
فهل أشعاركم تغني عن الجوع
الذي قد عذب الأهلا "
الهوامش : (1) ألقيت هذه الدراسة في ندوة جماعة (آمون ) الأدبية بنجع حمادي مساء الثلاثاء الموافق18 يناير2000
2- يرجع في هذا إلى د. عز الدين إسماعيل الشعر العربى المعاصر – المكتبة الأكاديمية – الباب الثانى – الفصل الخامس –النزعة الدرامية ص239
3- المرجع السابق
نشرت هذه الدراسة بمجلة الشعر عدد 110- 2003م
.
تعليق