الآخر، قصة من تأليف خورخِه لويس بورخِس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أسامة أمين ربيع
    عضو الملتقى
    • 04-07-2007
    • 213

    الآخر، قصة من تأليف خورخِه لويس بورخِس

    [align=right]حدثت هذه الواقعة في شهر شباط / فبراير [(ت)] من سنة 1969 في كِمبريدج التي تقع شمالي مدينة بوسطن [الولايات المتحدة الأمريكية]، ولم أروها لأحد حينها لأنِّي أردت بادئ الأمر نسيانها كي لايصيبني الجنون، أمَّا اليوم، ونحن في سنة 1972، فأعتقد أنِّي إن رويتها فسيحسبها الناس مجرد حكاية، ولربما مع مرور الوقت أعدُّها بدوري كذلك. أعرف أنِّي قضيت لحظات عصيبة وقتها، وأنِّي عانيت ماهو أقسى من ذلك في الليالي الساهدة التي تلتها، ولكنَّ هذا لايعني البتة احتمال أن يمسَّ سردي مشاعر الآخرين.


    كنت أستريح على مقعد عند ضفة نهر تشارلز قرابة الساعة العاشرة صباحاً. على بُعد نحو خمسمئة متر على ميمنتي ثمَّة صرح أجهل اسمه. المياه الرمادية تجرف قطعاً كبيرة من الثلج، وحتماً كان منظر الماء يذكرني بالطقس وبعنصر هِرقليط ( ) الخالد. لقد نمتُ بقدر كاف، وأعتقد أني نجحت البارحة في شدِّ اهتمام طلابي للمحاضرة التي ألقيتها. لايوجد أيُّ مخلوق حولي...
    فجأة، شعرت بأنَّي عشت هذه اللحظات من قبل (وهذا يوافق حالة تعب كما يقول أخصائيو علم النفس). ثمَّة شخص جالس في الطرف الآخر من مقعدي. كنتُ أفضِّل البقاء وحدي ولكن لم أجد أنه من اللائق النهوض فوراً. بدأ الآخر بالصفير بصوت خفيض، وعندها انتابني أول شعور بالتكدُّر في ذلك الصباح، فماكان يدندنه، أو ماكان يحاول دندنته (في الحقيقة ليست لديَّ أذن موسيقية) هو ”لاتاپِرا“ لإلياس رگولِس ( ). نقلني هذا اللحن إلى صحن دار زالت منذ عهد بعيد وذكَّرني بألڤارو مِليان لافينور ( ) المتوفى منذ أمد بعيد، ثمَّ تتالت كلمات المقطع الأول. لم يكن الصوت صوت ألڤارو بل صوتاً يحاول محاكاته، وقد تعرَّفت عليه رغم نشازه.
    تقرَّبت منه وسألته :
    سيدي، أنت من الأورغواي أو من الأرجنتين ؟
    ــ من الأرجنتين، ولكني أسكن في جنيڤ منذ سنة 1914.
    تلى جوابه صمت طويل، ثمَّ استأنفتُ قائلاً :
    عند الرقم 17، شارع مالانيو، مقابل الكنيسة الروسية ؟
    فأومأ بالإيجاب.
    قلت له بتصميم : في هذه الحال إنك تدعى خورخِه لويس بورخِس. أنا أيضاً أدعى خورخِه لويس بورخِس. نحن الآن في سنة 1969 وفي مدينة كِمبريدج.
    ــ لا. قال ذلك بصوتي وبرجع آتٍ من ماض سحيق.
    ثم ردَّد بعد برهة قائلاً :
    أنا الآن في جنيڤ، أجلس على مقعد عند ضفة نهر الرون، الغريب في الأمر أننا متشابهان، غير أنك أعمر مني بكثير، لقد أخذ الشيب من رأسك.
    فمالبثت أن أجبته :
    أستطيع أن أثبت لك أني لاأفتري عليك الكذب. سأروي لك أشياء لايعرفها أحد غيرنا. في بيتنا إبريق متَّة ( ) من فضة ذو قوائم على شكل ثعابين جلبه جدُّ جدنا من البيرو، وعندنا أيضاً طست فضي على شكل سرج. في خزانة غرفتك ثمَّة صفَّا كتب، بينها الأجزاء الثلاثة لترجمة ”لانِ“ لألف ليلة وليلة مزدانة برسوم موشَّحة بماء الفضة مع هوامش بين الفصول مكتوبة بخط دقيق، ومعجم اللاتينية لكيشرا ( )، وجرمانيا لتاسيتوس ( ) باللاتينية مع ترجمة لجوردون، ونسخة من ”دون كيخوته“ من إصدار الناشر جارنيير، وديوان ”ألواح سانجر“ لريـڤِرا إيندارتِه ( ) وعليها إهداء المؤلف، ورواية ”سارتور رسارتوس“
    لكارليل ( )، وسيرة حياة أميِل ( )، ونشرة عن السلوك الجنسي لشعوب البلقان مخـبَّأة وراء الكتب الأخرى. ولم أنسَ أيضاً ماحدث عصر ذات يوم في الطابق الأول من ساحة دوبور.
    قال مصحِّحاً : دوفور ( ).
    ــ تماماً، دوفور. هل يكفيك ذلك ؟
    ــ لا، هذا لايثبت شيئاً على الإطلاق. إذا كنتم تحلمون بي فمن الطبيعي أن تعرفون ماأعرفه، ولاطائل من قائمتكم المطنبة هذه.
    كان محقاً في تفنيده. قلت له :
    إن كان هذا الصباح وهذا اللقاء أضغاث أحلام فيجدر بكلِّ واحد منَّا الاعتقاد بأنه الحالم. ربما ننقطع عن الحلم أو نستمر فيه، ولكن إلى حين حدوث ذلك يلزمنا قبول الحلم كما قبلنا الكون وكما نقبل التناسل والنظر بالعيون والتنفس.
    ــ وإنْ طال الحلم ؟ «قال ذلك باضطراب».
    لتهدئة روعه، وروعي أيضاً، أبديت رباطة جأش ليست من شيمتي، ثمَّ قلت له :
    استغرقَ حلمي سبعين سنة. في نهاية الأمر عندما نتذكر الماضي ليس بوسعنا إلاَّ ملاقاة أنفسنا، وهذا مايحدث لنا الآن، إلاَّ أننا شخصان معاً. ألا تريد معرفة شيء عن ماضيَّ الذي هو المستقبل الذي ينتظرك ؟
    فأومأ دون أن ينبس ببنت شفة.
    تابعت كلامي، تائهاً بعض الشيء :
    أمُّنا في أتمِّ صحتها، وهي تسكن في بيتها الواقع عند تقاطع الشارعين شاركاس ومايبو في بوينس أيرس، أمَّا أبونا فمتوفٍّ منذ ثلاثين سنة. لقد مات بمرض القلب، أصابه فالج أودى بحياته. كانت يده اليسرى الموضوعة على اليمنى كيدِ طفل مركونة إلى يد عملاق. مات وقد عيل صبره من مجيء الموت، ولكن دون شكوى. كماسبق أن توفَّت جدتنا في البيت نفسه، قبل عدة أيام من رحيلها طلبت حضورنا جميعاً إليها ثمَّ قالت : ”إني امرأة طاعنة في السن والموت يدبُّ فيَّ ببطء. أطلبُ أن لايُذعر أحد منكم من أمر طبيعي كهذا“. تزوجتْ أختك نورا وعندها طفلان. بالمناسبة، كيف حال العائلة ؟
    بخير. الوالد دائماً مايلمزُ الدين. مساء البارحة قال أنَّ عيسى ]عليه السلام[ مثل اليساريين الذين لايجازفون البتة، وأنه لهذا السبب كان يتكلم بالرموز.
    تردَّد قليلاً ثم قال :
    وحالكم ؟
    ــ لاأعرف عدد الكتب التي ستكتبها ولكني أعرف أنها ستكون كثيرة. ستنظم أشعاراً تعطيك نشوة لامثيل لها وستكتب حكايات خيالية. ستلقي محاضرات مثل أبيك ومثل الكثيرين من أجدادنا.
    سعدت أنه لم يسألني عن فشل تلك الكتب أو نجاحها. تابعت مغيِّراً لهجتي :
    أمَّا بخصوص التاريخ ... حدثت حرب أخرى، تقريباً بين المتخاصمين أنفسهم. لم تتلكَّأ فرنسة في التسليم، خاضت إنجلترة والولايات المتحدة الأمريكية معركة تاريخية مثل معركة واترلو ضدَّ دكتاتور ألماني يدعى هتلر. في سنة 1946 قام في بوينس أيرس روساس جديد، دكتاتور شبيه إلى حدٍّ ما بالقديم ( ). وفي سنة 1955 أنقذتنا ولاية قرطبة، كما فعلت ولاية إنتر ريوس من قبل. لاشيء اليوم على مايرام. روسية في طريقها لابتلاع الكرة الأرضية، لم تقرر الولايات المتحدة الأمريكية المعرقَلة بهراء الديمقراطية أن تصبح إمبراطورية. يوماً بعد يوم يصبح بلدنا أكثر إقليمية. وهو يغدو أكثر إقليمية وأيضاً أكثر غروراً كما وكأنه يتقوقع على نفسه، ولن أفاجئ إذا مااستُبدل يوماً تعليم لغة الغواراني ( ) بتعليم اللاتينية.
    لاحظتُ أنه لم يعد يوليني انتباهاً، فقد راعه الـمُحال الذي لابد منه. ورغم أني لم أعرف عاطفة الأبوة شعرت تجاه هذا الشاب المسكين بفورة حبٍّ كما لو أنه كان أقرب إليَّ من فلذة كبدي. رأيت كتاباً بين يديه، فسألته عن عنوانه.
    ردَّ عليَّ بشيء من الزهو : إنه”الممسوسون“ أو في رأيي ”الشياطين“ لفِدور دوستويڤسكي.
    ــ نسيته تماماً. ماهو مضمونه ؟
    ماإن قلت ذلك حتى أدركت أنَّ سؤالي كان بمثابة زلَّة لاتُغتفر.
    ــ هذا الكاتب الروسي العظيم هو أول من سبر أغوار متاهات الروح السلاڤية.
    عرَّفتني هذه البلاغة عن هدوء روعه.
    سألته عن الكتب الأخرى التي تناولها لهذا الكاتب العظيم.
    ذكر لي عنوانين أو ثلاثة، ومنها ”القرين“.
    سألته إن كان يميز الشخصيات عن بعضها البعض، كما هي عليه الحال في كتابات جوزيف كونراد ( ) وإن كان ينوي الاستمرار في تحليل مؤلفاته برمتها.
    ــ في الواقع لا، أجابني مع مسحة من الدهشة.
    سألته عن مايكتبه في الوقت الراهن، فقال أنه يحضِّر ديوان شعر سيدعوه ”الأناشيد الحمراء“ Los himnos rojos، وقد جال بباله تسميته ”إيقاعات حمراء“.
    قلت له : لابأس في ذلك. يمكنك أن تنحو نحو سوابق حسنة، مثل ”القصيد الأزرق“ لروبِن داريو ( ) و ”الأغنية الرمادية“ لڤرلين ( ).
    دون أن يسمعني، شرح لي كيف سيتغنَّى كتابه بالأخوَّة بين البشر أجمعين، فليس بوسع الشاعر في عصرنا هذا أن يولي ظهره لزمانه.
    بقيت متفكِّراً وسألته إن كان يشعر حقاً بأخوَّته مع الناس كافة. مثلاً مع كلِّ المكفِّنين ومع كلِّ سعاة البريد ومع كلِّ الغوَّاصين ومع كلِّ من يسكن منازل ذوات عناوين زوجية ومع كلِّ البُكم، ... الخ، فقال لي أنَّ كتابه مستوحى من الجماهير المضطهدة ومن المنبوذين.
    أجبته : لاتعدو جماهيرك من المضطهدين والمنبوذين عن كونها محض تجريد، فوحدهم الأشخاص يأخذون اعتبارهم عندما يكون للفرد وجود. وكما نادى أحد الإغريق ذات مرة : « ليس إنسان الأمس كإنسان اليوم »، وربما يكون كلانا على هذا المقعد في جنيڤ أو في كِمبريدج دليلاً على ذلك.
    باستثناء فترات التاريخ العصيبة، عادة ماتستغني الخطوب الجلل عن العبارات المؤثرة. يحاول امرئٌ وهو يُحتضَر تذكُّر نقش لمحه أثناء طفولته، يتحدث الجنود الذين يكرِّون في المعركة عن الطين أو عن قائدهم. كان ظرفنا فريداً من نوعه، وفي الحقيقة لم نكن مستعدين له. تحدثنا بالطبع عن الآداب، وأعتقد أنَّ ماقلته لايتعدَّى ماأقوله للصحفيين عادة. كانت ذاتي تؤمن بابتداع تحولات جديدة أو باكتشافها، أمَّا أنا فقد آمنت بالتحولات الموافقة لصلات وثيقة بين الأشياء وبمايقبله خيالنا، مثل شيخوخة البشر والشفق، الأحلام والحياة، الزمن الجاري والماء. عرضت عليه رأيي الذي مالبث أن قدَّمه في كتاب بعد سنوات عديدة.
    كان يصغي إليَّ بالكاد، ومالبث أن قال فجأة :
    لو كنتم مكاني، كيف تفسرون نسيان لقائكم مع رجل مسنٍّ قال لكم ـ في سنة 1918 ـ أنه أيضاً بورخِس ؟
    لم أفكر بهذا المعضل من قبل. أجبته دون يقين :
    ربما كانت حادثة غريبة إلى درجة أنَّي حاولت نسيانها بعد ذلك.
    فأردف على استحياء :
    كيف حال ذاكرتكم ؟
    فهمتُ أنَّ رجلاً قد تجاوز السبعين هو بمثابة رجل ميت في رأي فتى لم يتعدَّى العشرين ربيعاً، فأجبته :
    تُشبه في غالب الأحيان النسيان، ولكنها مازالت تعثر على مايُطلب منها. في هذه الآونة أتعلَّم الإنجليزية القديمة ولستُ الأسوأ بين أقراني.
    لقد استغرق حديثنا أكثر ممايمكنني أن أحسبه محض أضغاث أحلام.
    بغتة وافتني فكرة فقلت له :
    يمكنني أن أثبت لك فوراً بأنك لا تحلم بي. استمعْ إلى هذا البيت الذي لم تقرأه من قبل.
    بتمهل بدأت بإلقاء البيت الشهير :
    يحني الكون الأفعواني جسده المرصَّع بالأفلاك.
    L'byre - univers tordant son corps écaillé d'astres.
    شعرت بانشداهه الوجل. ردده بصوت خفيض، متلذذاً بكل كلمة من الكلمات الألقة.
    ثمَّ تمتم : حقاً لايسعني أبداً تأليف بيت كهذا.
    لقد جمع هيجو( ) بيننا.
    أتذكَّر الآن أنه ردَّد قبلها بحماس القصيدة القصيرة التي يستذكر فيها وولت ويتمان ( ) شطر ليلة قضاها على شاطئ البحر بسعادة مطلقة.
    عقَّبتُ على ذلك قائلاً أنه إن كان ويتمان قد أنشدها فلأنه كان يصبو إلى عدم حدوثها فعلاً، فالقصيدة تكون أروع إن خـمَّنا فيها التعبير عن رغبة ولم تكن مجرَّد سرد لواقعة.
    نظر إليَّ طويلاً ثمَّ هتف :
    أنت لاتعرف ويتمان حقَّ المعرفة، فهو غير قادر على الادعاء.
    لم يمر نصف قرن من الزمان سدى. فعبر هذه المحادثة بين شخصين ذوي قراءتين متمازجتين وذوقين مختلفين أدركتُ أن ليس بوسعنا التفاهم مع بعضنا البعض. لقد كنَّا مختلفين كثيراً ومتشابهين جداً، وليس بمقدورنا خداع بعضنا البعض فذلك يجعل الحوار عسيراً، وكلُّ واحد منَّا كان نسخة كاريكاتورية عن الآخر. كان الموقف غريباً جداً إلى درجة استحالة دوامه طويلاً. ولم يكن مجدياً تقديم مشورة له أو بدء نقاش معه، فمصيره الحتمي هو أن يصبح ماأنا عليه الآن.
    تذكرت فجأة قصة لكولريدج ( ) مفادها أنَّ شخصاً يحلم بأنَّه يعبر الجنة وأنَّه أُعطي زهرة كدليل على عبوره.
    وعند استيقاظه وجد الزهرة بجانبه. راودتني فكرة صُنعة مماثلة فقلت له :
    اسمعْ، أمعكَ بعض النقود ؟
    أجاب نعم، عندي نحو عشرين فرنكاً. سأدعو هذا المساء سيمون جيشلينسكي إلى مطعم ”الكروكوديل“.
    قل لسيمون أن يزاول الطبَّ في كاروج( ) وأن يُتقن مهنته. حسناً، أعطني قطعة من عندك.
    أخرجَ ثلاث قطع فضية وبعضاً من الصرافة، ودون أن يفهم شيئاً قدَّم إليَّ واحدة من القطع الكبيرة.
    ناولته بدلاً منها واحدة من الأوراق النقدية الأمريكية التي تختلف عن بعضها البعض في القيمة ولكنها تأخذ دائماً المقاسات نفسها، فتفحصها بلهفة.
    هتف : هذا مُحال، إنها تحمل تأريخ سنة 1964 !
    (قيل لي بعد عدة أشهر أنَّ الأوراق النقدية لاتؤرَّخ البتَّة).
    ثم تمتم : هذا في عداد المعجزات، والمعجزات تخيفني، فالذين شهدوا نشور العازر ( ) يذكرون ذلك بهلع.
    تأمَّلت في حقيقة أننا لم نتغير، فمابرحنا نستشهد بالإنجيل.
    ومالبث أن مزَّق الورقة النقدية نتفاً صغيرة ثم استرجع قطعته.
    كنتُ قد نويت رميها في النهر، فالمسار الذي ستأخذه القطعة الفضية حتى سقوطها في النهر الفضي كان سيضفي صورة مؤثرة على قصتي، ولكن لم تكن إرادة القدر كذلك.
    أردفتُ قائلاً أنَّه يقلُّ هول الغيبيات إذا حدثت مرتين، ثمَّ عرضتُ عليه التلاقي في الغد على المقعد نفسه الموجود في الآن ذاته في عهدين مختلفين وفي مكانين مختلفين.
    قبِلَ عرضي فوراً وقال دون إلقاء النظر على ساعته أنه قد تأخر. كان كلانا يكذب ويدرك أنَّ مُحاوره يكذب أيضاً. قلت له بأنَّ ثمَّة من سيأخذني من هنا.
    قال متعجباً : يأخذكم ؟
    نعم. ستفقد جُلَّ بصرك عندما تبلغ عمري. لن ترى سوى اصفراراً، ظلالاً وضياءات. لاتقلق من ذلك. ليس انحسار البصر التدريجي بفاجعة، فهو يدبُّ كليْلة صيف بطيئة.
    ثمَّ افترقنا دون أن يتلامس جسدانا. لم أذهب في الغد إلى الموعد، وربما لم يذهب إليه الآخر بدوره.
    تفكَّرتُ كثيراً في هذه الواقعة التي لم أروها لأحد، وأعتقد أني فككت لغزها. كان اللقاء حقيقياً ولكنَّ الآخر تجاذب معي أطراف الحديث وهو في حلم، ولذلك كان بوسعه نسياني ؛ أمَّا أنا فتحدثت معه في اليقظة ومازالت ذكراه تعذبني.
    كان الآخر يحلم بي، ولكن دون مشقة. وأفهم الآن أنَّه كان يحلم ببلوغ التأريخ المستحيل المدوَّن على ورقة الدولار.




    الهوامش

    (أ) نُشرت هذه القصة ضمن مجموعة قصصية عنوانها « كتاب الرمل » : El Libro de Arena, Emecé Editores, S.A. Buenos Aires, 1975.
    (ب) Jorge Luis Borges (1899 - 1986) من مواليد بوينس أيرس، قاص وشاعر وكاتب. يعدُّ أرفع أدباء الأرجنتين على الإطلاق وتعدُّ أعماله من كلاسيكيات الأدب العالمي في القرن العشرين، وقد ترجمت إلى العديد من اللغات. درس الثانوية في سويسرة وعاش في إسبانية حتى سنة 1921. نشر بواكير شعره في الأرجنتين سنة 1923. عمل في أشغال كثيرة في الحياة العامة ودرَّس في الجامعة، كما كان عضواً في مجمع الآداب الأرجنتيني. سافر مراراً إلى الولايات المتحدة وأوربة واليابان وألقى فيها الكثير من المحاضرات وأدار العديد من حلقات البحوث الأدبية. صدرت له وعنه بعض الأعمال باللغة العربية، منها :
    المرايا والمتاهات، ترجمة إبراهيم الخطيب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ، 1987.
    الأحلام المشرقية - بورخِس في متاهات ألف ليلة وليلة، تأليف عيسى مخلوف، دار النهار، بيروت، 1996.
    سيرة ذاتية، بورخِس، ترجمة عبد السلام باشا، ميريت للنشر والتوزيع، القاهرة، 2001.
    مع بورخِس، مساء عادي في بوينس أيرس، تأليف : ويليس بارنستون، ترجمة : د. عابد اسماعيل، دار المدى، دمشق، 2002.
    ذاكرة شكسبير، بورخِس، ترجمة مها رفعت عطفة، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2002.
    الصانع، بورخِس، ترجمة سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون تأريخ.
    (ت) مابين المعترضتين ] [ هو إضافة من المترجم.
    Heraclitus فيلسوف يوناني قال بأنَّ النار هي الجوهر الأول.
    Elías Regules مؤلف موسيقي من الأورغواي، ولاتاپِرا La Tapera هي مقطوعة شعبية استوحاها من أنغام المزيج العرقي في أمريكة الجنوبية، وهي معروفة جداً في الأرجنيتين والأوروغواي.
    Alvaro Melián Lafinur شاعر أرجنتيني وعضو في مجمع الآداب الأرجنتيني، وهو من عائلة بورخِس وله دور كبير في نشر بواكير أعمال هذا الأخير.
    نبتة يُشرب منقوعها في الماء الفاتر في بلدان أمريكة الجنوبية وفي بعض الدول العربية التي هاجر أبناؤها إلى تلك البلدان.
    Luis Quicherat باحث لغوي فرنسي من القرن التاسع عشر.
    Tacitus مؤرخ لاتيني عاش في القرن الأول الميلادي. كتب العديد من المؤلفات المهمة إلى جانب عمله السياسي، منها : الحوليَّات وجرمانيا وحوار المؤلفين. جعله أسلوبه المعبِّر والموجز أحد أعلام النثر باللغة اللاتينية.
    Jose Rivera Indarte صحفي أرجنتيني وكاتب متخصص في التاريخ والاقتصاد السياسي من القرن التاسع عشر، عدَّد في ديوانه ألواح سانجر Las Tablas de Sangre أسماء ضحايا الدكتاتور روساس Rosas الذي حكم الأرجنتين في أواسط القرن التاسع عشر.
    Carlyle Thomas مؤرخ إنكليزي وناقد من القرن التاسع عشر، مناهض للمادية والعقلانية. يرى في الشخصيات الاستثنائية محوراً ومحرِّكاً للتاريخ السياسي والفكري.
    Amiel Henri Frédéric كاتب سويسري ناطق بالفرنسية من القرن التاسع عشر. حلل حياته بدقة في أعماله معبراً عن خجله وقلقه في الحياة.
    في الواقع، الاسم الصحيح للساحة هو بور دو فور Bourg de Four، ويبدو أنَّ بورخِس أراد هنا العبث بذاكرتيهما...
    المقصود به بِرون Péron الذي حكم الأرجنتين في الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي وتمثَّل حكمه بنوع من الإصلاح القَسري.
    Guarani لغة متداولة بين هنود أمريكة الجنوبية.
    Joseph Conrad روائي إنكليزي بولندي المولد اتخذ من المغامرات البحرية موضوعاً للكثير من رواياته.
    Rubén Darío شاعر نيكاراغوي من القرن التاسع عشر، كان وراء حركة الحداثة في أمريكة اللاتينية. من أعماله، القصيد الأزرق El verso azul وأناشيد الحياة والأمل.
    Verlaine Paul شاعر فرنسي من القرن التاسع عشر، عرف الكثير من التقلبات في حياته، نادى بمرونة الشعر وموسيقيته، وهو يعدُّ أحد رواد المدرسة الرمزية، له القصائد اللعينة والأغنية الزرقاء La chanson bleue.
    إشارة للأديب والشاعر الفرنسي ڤيكتور هيجو.
    Walt Whitman شاعر أمريكي من القرن التاسع عشر يعرف برسول الديمقراطية ونصير« الإنسان العادي ».
    Coleridge Samuel شاعر إنكليزي من القرن التاسع عشر وهو أحد رواد المدرسة الرومانسية في الشعر الإنكليزي.
    Carouge أحد أحياء جنيڤ حالياً وكان إحدى ضواحيها في عهد بورخِس.
    هو الرجل الذي أحياه عيسى عليه السلام بعد موته.[/align]
  • أسامة أمين ربيع
    عضو الملتقى
    • 04-07-2007
    • 213

    #2
    يمكن تحميل القصة مع إخراج صحفي بصيغة بي دي إف (214.56 KB) من الرابط : http://www.mediafire.com/?cs0xetzyxcx

    تعليق

    • رود حجار
      أديب وكاتب
      • 28-07-2007
      • 180

      #3


      [align=right]شكراً جزيلاً للأستاذ" أسامة ربيع " للقصة والترجمة الرائعتين،

      لست أدري إن كانت الترجمة لكم ؟

      فقد كنت أود الاستفسار عن بعض الكلمات لم يتضح لي معناها" صنعة " على سبيل المثال؟

      بالإضافة إلى أن بعض الكلمات أحسست أنها لم تعط تشبيها نستخدمه في لعتنا العربية " ليس انحسار البصر التدريجي بفاجعة، فهو يدبُّ كليْلة صيف بطيئة."

      هل نستخدم هنا" يدب" للتعبير عن بطء مرور ليلة الصيف؟


      مع الشكر والتقدير.


      * ملاحظة في نهاية المطاف، يبدو أن الرابط لا يعمل.
      [/align]
      التعديل الأخير تم بواسطة رود حجار; الساعة 11-09-2007, 22:50.
      كنْ صديقاً للحياة واجعل الإيمان راية
      وامضِ حراً في ثبات إنها كل الحكاية
      وابتسم للدهر دوماً إن يكن حلواً ومراً
      ولتقل إن ذقت هماً: "إنّ بعد العسر يسراً"

      تعليق

      • أسامة أمين ربيع
        عضو الملتقى
        • 04-07-2007
        • 213

        #4
        [align=right]الأستاذة نسيم،

        الترجمة لي، وهي معمولة ضمن إطار المسابقة التي نجريها بين الحين والآخر مع زملائي في شركة النشر "ترجمات". المشاركون في شركة ترجمات هم من أهل العلوم الأساسية، ونحن نقوم بترجمة الكتب العلمية إلى العربية، ولكن لكي نبقى ملتصقين بالحسِّ الفني والمعاني الأدبية نقوم بإنجاز بعض الترجمات الأدبية الصعبة وعمل دراسة عليها...

        هذه قصة غرائبية تتحدى الزمان والمكان، التعبيرات فيها فريدة حتى باللغات الأجنبية، وقد ترجمتها انطلاقاً من الأصل الإسباني إضافة إلى الترجمتين الإنكليزية والفرنسية، ويمكنني القول دون ادعاء أنَّ هذه الترجمة تفوق الترجمتين الإنكليزية والفرنسية في سبرها لأغوار عوالم بورخِس، الكاتب المفضل عندي، وخاصة كونه استلهم عوالمه من تراثنا العربي وأنه عاش في جنيف، وهذا ما مكنني من التحقق من أشياء تناولها بورخس في قصته وأثبتها ضمن الملاحظات.

        الألفاظ المستعملة منتقاة بعناية ومزركشة بإيحاءات من الآيات القرآنية ومن التعبيرات البليغة، وكلُّ ذلك مقصود، فمن جانب هو للوصول إلى مستوى عبارات بورخِس نفسها، وأيضاً للتميز في المسابقة مع الزملاء....

        الصُنعة هي الصُنعة الأدبية، بضم الصاد، أمَّا عن الدَبِّ والدبيب فهو تماماً كناية عن السريان البطيء الخدر الذي لامناص منه... وهذه الجملة بالطبع موجودة في النص الأصلي وليست من وحي الصور العربية للانتشار البطيء.

        والرابط يعمل تماماً وقد جربته الآن.[/align]

        تعليق

        • رود حجار
          أديب وكاتب
          • 28-07-2007
          • 180

          #5
          شكراً للإجابة ،

          واسمح لي بتوضيح سؤالي ثانية،

          أمَّا عن الدَبِّ والدبيب فهو تماماً كناية عن السريان البطيء الخدر الذي لامناص منه... وهذه الجملة بالطبع موجودة في النص الأصلي وليست من وحي الصور العربية للانتشار البطيء.
          هل نستخدم التعبير المستخدم باللغة المترجم منها حتى وإن لم يوافق تماماً ما هو مستخدم في اللغة المترجم إليها؟

          أقصد أليس من الأفضل كنص مترجَم أن نستخدم كلمة " يسري أو ينتشر أو يزحف" مثلاً وهي كلمة مستخدمة للتعبير عن انتشار الليل في لغتنا من استخدام كلمة" يدب "

          وهي غير متداولة جداً ؟

          أم أن هذا يعتبر " خروج أو عدم تقيد بالنص مثلا" ؟

          وسؤالي هذا على سبيل المثال في الترجمة عموماً.



          مع الشكر لكم والتقدير
          التعديل الأخير تم بواسطة رود حجار; الساعة 06-10-2007, 14:53.
          كنْ صديقاً للحياة واجعل الإيمان راية
          وامضِ حراً في ثبات إنها كل الحكاية
          وابتسم للدهر دوماً إن يكن حلواً ومراً
          ولتقل إن ذقت هماً: "إنّ بعد العسر يسراً"

          تعليق

          • أسامة أمين ربيع
            عضو الملتقى
            • 04-07-2007
            • 213

            #6
            قل لشهاب الدين يا حاكماً ... في شرعه الحب على الجار جار
            آويت في ذا الشهر ضيفاً يرى ... أن دبيب الليل مثل النهار
            وهو فقيهٌ أشعري الخُصى ... يعلم الصبيان باب الظهار
            إياك إن لاحت له غفلةٌ ... لف كبار البيت بعد الصغار

            عن الوافي بالوفيات، الصفدي

            تعليق

            • أسامة أمين ربيع
              عضو الملتقى
              • 04-07-2007
              • 213

              #7
              [align=right]كما تلاحظين أستاذة نسيم المعنى موجود في اللغة العربية وإن كان غير مشهور.

              أمَّا عن سؤالك، فليست هناك قاعدة عامة لذلك، الأفضل طبعاً الالتزام بالنص الأصلي إن كانت الصورة المنقولة مفهومة تقريباً، وربما سيضيف ذلك صورة جديدة على اللغة العربية.

              أمَّا التعويض عن الصورة بصورة أخرى فيأتي في حال ابتعاد التعبير عن المعنى المألوف في اللغة العربية. مثال، عرفت مؤخراً أنه في اللغة الكردية يقال لشخص غار من شخص آخر فقلده أو حذا حذوه : احترق أنفه...[/align]

              تعليق

              • رود حجار
                أديب وكاتب
                • 28-07-2007
                • 180

                #8
                نعم، لاحظت استخدام التعبير في الأبيات الشعرية ...

                وأشكرك للإجابة على سؤالي، وللإضافات القيمة...

                وكذلك المعلومات الجديدة عن الصور الطريفة المستخدمة في اللغة الكردية...
                كنْ صديقاً للحياة واجعل الإيمان راية
                وامضِ حراً في ثبات إنها كل الحكاية
                وابتسم للدهر دوماً إن يكن حلواً ومراً
                ولتقل إن ذقت هماً: "إنّ بعد العسر يسراً"

                تعليق

                • هالة صلاح الدين لولو
                  • 28-08-2007
                  • 6

                  #9

                  قصة جميلة وترجمة أجمل !

                  تعليق

                  يعمل...
                  X