بطل المقاومة [قصة واقعية]

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد معمري
    أديب وكاتب
    • 26-05-2009
    • 460

    بطل المقاومة [قصة واقعية]

    بطل المقاومة [قصة واقعية]
    [align=justify]
    طرقات متتالية وبشدة على باب منزلي.. فزعت ابنتي الرضيعة حتى تعالى صراخها.. زوجتي بجانبي ترتعش كأنها جالسة في الصقيع.. كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباح يوم الجمعة.. هرعت مهرولا صوب الباب بثياب النوم.. فتحتها.. عساكر الاحتلال الفرنسي اقتحمت منزلي بقوة.. سألني ملازم بلغتهم:
    - من هو نبيل شريف؟
    - أنا..
    استقبلت لكمة قوية على مملكة وجهي.. عبر عن قساوتها وجبروتها دمي النازف من أنفي وفمي.. عاودني بركلة بحذائه الصلب فهويت إلى أرض بيتي حيث سقيتها بدمي.. انحنى وألوى يدي وراء ظهري ثم قيدني.. أمر جنوده بإشارة.. خربوا بيتي عن آخره.. لم يعثروا عن شيء... نهبوا بعض المال الذي كنت أخبؤه للضرورة القصوى، و حلي زوجتي.. في هذا الحين كان يرفسني هذا الملازم اللعين رفسا.. وتارة يضع حذاءه فوق رقبتي حتى أكاد أفقد آخر أنفاسي...
    في سيارتهم رموني كما ترمى النفايات.. وضع الجنود أقدامهم المتسخة فوق جسدي.. فزادوني ألما فوق ألم.. وإلى المخفر أوصلوني.. وإلى العميد قدموني، بنظرة شزر حملق في بنيتي المُنهدّة، وبصوت خشن:
    - الاسم الكامل؟
    - نبيل شريف
    - مكان الولادة والسنة؟
    - تافوغالت، سنة 1920
    - عملك؟
    - رجل إطفاء.
    - من هو رئيس العصابة الذي تعمل له؟
    - لا أعمل مع أحد من هذا القبيل ولا أعرف أحدا..
    « رباه! لكمة أخرى أغلقت عيني اليمنى..»، كنت حينها ساهيا مع الأسئلة، وأطياف خيال مصيري وأسرتي، وصوت آلة الرقن في سكون الليل الأخير...
    لم تكف تلك اللكمة اللعينة التي أتت من يد أثيمة.. بل بصق على مملكة وجهي، شتمني...
    - تكلم أيها الوغد! من رئيس العصابة؟
    - لا أعرف.. لا أعرف..
    - أنزلوا الوغد إلى.. حتما سيخبرنا..
    أنزلوني أدراجا أسفل المخفر.. أدخلوني غرفة رقم تسعة.. جردوني من ثيابي.. كانت أربعون يوما من العذاب الأليم.. عذاب الوحوش.. حتى يئسوا من صورتي وكلامي المتلاشي وبنيتي التي دُكّت.. كانوا عندما يريدونني للاستنطاق يحملونني من ذراعي وقدماي يتجرجران على الأرض.. لم أكن حينها أستطيع المشي ولا الأكل.. لم أدر كيف بقيت على قيد الحياة كلما مرت صور التعذيب أمام جبيني... كل التحقيقات والاستنطاقات باءت بالفشل.. لم أعترف لهم بأي شيء...
    حكمت علي المحكمة الاستعمارية بستة أشهر سجنا نافدة مع الأشغال الشاقة ونقلي من سجن مدينة وجدة إلى سجن "العاذر" بمدينة الجديدة بتهمة ممارسة السياسة ضد الاستعمار...

    كانت الرحلة شاقة.. حوالي ثمان مائة كيلومتر في شاحنة عسكرية لا تتعدى سرعتها ستون كيلومترا في الساعة.. كانت المسافة شبيهة بجو جنائزي.. كل المعتقلين صامتون.. سوى الحرس بأسلحتهم من يتكلمون بين الفينة والأخرى.. أستنبط من خلال كلامهم وملامح وجوههم المبشرة بجهنم.. أن في صدورهم خوف لا مثيل له، لا أستطيع وصفه عجزا مني على وصفه كما تحسسته...

    دخلنا السجن.. بعد التسجيل وحلاقة الرأس وتجريدنا من ملابسنا التي تحمل عرقنا.. ألبسونا لباسا مخططا ومرقما.. كان رقمي 729 ورقم زنزانتي 1191أواه! مجموعهما يساوي سنة ميلادي؟!..

    ستة أشهر في حقول واد أم الربيع أشقى، وواد الخريف كانت أوراقه في عقلي، وواد الشتاء كان صقيعها حياتي وواد الصيف كان زمهريره في قلبي... كلها الأيام مرت أحزانا لا عيدا ولا فرحا.. كل ما كنت أراه كان يمحقني، لم يكن يدر حالتي إلا من كان حينها جانبي يراني كما أراه في كفن قد طواه...

    خبر أنسانا فواجعنا، خبر أعاد البسمة إلى ثغورها، خبر أعاد نبض القلوب بحياة الفرح.. خبر استقلال المغرب، وعودة الملك محمد الخامس من المنفى... أفراح وأعراس في الهواء الطلق الذي يهب بريح الحرية والسيادة.. كنا ننتظر ساعة الفرج.. دق ناقوس الفرج.. خرجنا من السجن.. تعالت نظرتي صوب الإدارات.. راية المغرب ترفرف بريح الحرية والبطولة...

    عدت إلى مدينتي.. كانت المسافة طويلة أكثر بكثير من سابقتها.. كانت الثواني تمر علي كأنها سنوات.. ربما كانت أطول مدة في حياتي أتلهف فيها للوصول إلى بيتي... طويت المسافات بكل صبر وحسرة وتصورات.. لا أعرف شيئا عن مصير أسرتي كما كانت لا تعرف شيئا عني.. مرت أسابيع مع زوجتي والأهل والأصدقاء عن أحاديث العذاب والآلام.. كم خلفت من الدموع والمواساة...

    بعد أخذ ورد.. تمكنت من العودة إلى عملي.. التقيت مع زميلي في المهنة الذي بلغ عني النقيب.. كان معي تلك الليلة حينما هرّبت إخواني المقاومين في سيارة الإسعاف... هو إبليس الذي بسببه عانيت ما عانيت، وعانت زوجتي ما عانت.. والغريب في الأمر أنه أصبح يملك بطاقة مقاوم.. ونال مكافأة مالية كبيرة من طرف مكتب المقاومة.. كما أنه ترقى من درجة إطفائي إلى ضابط صف... لم يكن في وسعي سوى قول: حسبي الله ونعم الوكيل...

    عملت في هذه المهنة الشريفة حتى سن التقاعد مبتدئا من إطفائي من الدرجة الثانية، منتهيا بدرجة عريف أول في مدة ستة وثلاثين سنة من إخماد الحرائق، وإنقاذ الغرقى، وإسعاف المصابين... خصمت لي الدولة ثماني سنوات بحجة أنني عملت أربع سنوات مؤقتا، ثم ألقي علي القبض بسبب المقاومة.. وعندما استأنفت عملي مكثت أربع سنوات أخرى مؤقتا؟!...

    ذهبت يوما إلى مدينة الرباط.. إلى مكتب المقاومة.. طلبوا مني إحضار شهادة إثبات بالمقاومة من طرف الشخصين المعترف بهما.. عدت إلى مدينتي وأنا أحمل حقيبة الأمل.. اتصلت بالمعنيين.. لم يكن أدنى تساءل.. حملت المطلوب، وشهادة السجن.. حملت حقيبتي وقصدت مدينة الرباط... كان الأمل كبيرا.. سلمت إلي بطاقة المقاومة مع وعد عما قريب بمكافأة مالية...

    لا أقول كم ركبت القطار الخشبي من الدرجة الرابعة من مدينة وجدة إلى مدينة الرباط.. لا أقول كم طلب مني تجديد الوثائق.. لا أقول كم أخبروني بأن ملفي عما قريب سيلحقه دوره...

    في سنة 1989 توفي زوجي.. قام أحد أبنائي لملاحقة الملف باسمي.. طلبوا منه تجديد الملف.. جدد الملف... ثم عاد آلاف المرات... طلبوا منه كل الوثائق من جديد.. لم تعجز ابني الأوراق المطلوبة... في آخر المطاف طلب منه.. مبلغ عشرين ألف درهم من أجل رفع الملف من الأسفل إلى الأعلى.. رفض ابني مبدئيا هذا الطلب...
    كانت زيارة الملك محمد السادس إلى مدينة وجدة.. أشار ابني إليه برسالة يحملها في يده اليمنى.. وقف الملك وأمره بالمجيء بكل تواضع.. سلمه ابني الرسالة.. وضعها في جيبه.. رجع ابني إلى الرصيف اختطفه مفتشو الشرطة بكامل السرية.. داخل المخفر طلبوا منه بطاقته الوطنية ثم استفسروه.. وأطلقوا سراحه...

    بعد أسبوعين، جاءتنا رسالة من القصر الملكي تحمل البشرى: صاحب الجلالة محمد السادس أعطى أمره للنظر في قضية ملف هذا البطل المقاوم...

    سنوات بعد هذه الرسالة.. وبعد ذهاب ومجيء.. توفيت أمي زوجة البطل المقاوم سنة 2006 ولازال الملف في الأسفل...
    [/align]
    [align=left]بقلم: محمد معمري[/align]
    [glint]
    كل مواضيعي قابلة للنقد

    [/glint]https://maammed.blogspot.com/
  • مكي النزال
    إعلامي وشاعر
    • 17-09-2009
    • 1612

    #2
    رد: بطل المقاومة [قصة واقعية]

    قصة مؤلمة أعرف فصولها الأولى فكل الاحتلالات هكذا سيئة وبذيئة وجنودها أنذال ولها عملاء يدلّون على المقاومين (ربما لم تذكرهم هنا بصراحة).
    أدعو الله ألا تكون خاتمة قصتك تنطبق على ما سيجري عندنا.
    شكراً لتذكيرنا بتاريخ رهيب وحاضر مؤلم.

    واستـُشهدَ الأملُ الأخيرُ

    تعليق

    • محمد معمري
      أديب وكاتب
      • 26-05-2009
      • 460

      #3
      رد: بطل المقاومة [قصة واقعية]

      المشاركة الأصلية بواسطة مكي النزال مشاهدة المشاركة
      قصة مؤلمة أعرف فصولها الأولى فكل الاحتلالات هكذا سيئة وبذيئة وجنودها أنذال ولها عملاء يدلّون على المقاومين (ربما لم تذكرهم هنا بصراحة).
      أدعو الله ألا تكون خاتمة قصتك تنطبق على ما سيجري عندنا.
      شكراً لتذكيرنا بتاريخ رهيب وحاضر مؤلم.
      [align=justify]
      بسم الله الرحمن الرحيم
      السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
      أخي الكريم مكي أشكرك جزيل الشكر على اهتمامك ومشاعرك الطيبة...
      نعم أخي الكريم ما قلته سوى فتات ومع ذلك مؤلم ويبين جبروت وطغيان وظلم الغرب الذي صنع منهجا للعالم اسمه "حقوق الإنسان" ليهتك به أعراض من يريد باسم هذا المنهج، ويعاقب به من يريد ودائما تحت هذا اللواء...
      مودتي وتقديري
      [/align]
      [glint]
      كل مواضيعي قابلة للنقد

      [/glint]https://maammed.blogspot.com/

      تعليق

      يعمل...
      X