لعنة الزغاريـــــد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رشيد الميموني
    مشرف في ملتقى القصة
    • 14-09-2008
    • 1533

    لعنة الزغاريـــــد

    لعنة الزغاريــــــــد


    في مثل هذا اليوم ، وفي مثل هذا الوقت بالذات و الشمس آيلة للغروب منذ سنوات ، تلقت الخبر المشؤوم الذي رج القرية رجا .. تلا ذلك قدوم رهط من الأهالي يحملون جثة زوجها بعد إصابته بطلق ناري وهو يصطاد رفقة أخيه من أمه "حشلاف".. سنوات تجرعت فيها مرارة الصمت و الشوق للانتقام .. تشعر كأنها تعيش المأساة من جديد .. بل إنها عاشتها طوال تلك السنين ، يوما بيوم و لحظة بلحظة .. تذكر كيف أخذت عزيزا ، ابنها الوحيد في حضنها ، وكيف نظرت إلى عينيه البريئتين الوجلتين وهي تصر على أسنانها هامسة :
    - أنت الذي ستأخذ بثأر أبيك .. هذا ليس عمك .. هذا وحش .. وهو عدوي و عدوك .. وعدو أبيك .. فهمت ؟
    لم يفهم الصبي ذي الست سنوات .. لكنه أدرك أن ذاك الذي كان يناديه عمي قد انقلب غولا ذا أنياب تهم بنهشه هو وأمه .
    لم تشك زينب أبدا ولو للحظة في أن "حشلاف " قتل أخاه ، وشاركها في هذا كثير من الأهالي . بل إن كثيرا منهم من أكد سماعه له و هو يتوعد زوجها سرا أن يثأر لقتل كلبه الوفي ، بعد أن صدر أمرا بقتل كافة الكلاب الضالة . كان أخوه شيخ القبيلة و كانت هيبته تشمل كل الربوع .
    اليوم ، وقد مر على ذلك الحادث زمن طويل ، تغيرت القرية . فنزح من نزح و اغتنى من اغتنى ، وقدم أناس و رحل آخرون ، إلا هي . بقيت و بقي حشلاف . بقيت وحيدة مع ابنها تتعهده بالرعاية . وبقي حشلاف ينتظر على أمل أن تغير رأيها فيه .. بل و تقبله زوجا بعد أن كان يعتقد أن الأمر سيتم تلقائيا بعد مقتل أخيه شيخ القبيلة . لكنه عدل عن إرسال من يرجوها قبول ذلك دون أن ييأس .. التقاها مرة عند الغدير و أثارته بفتوتها و صرامتها البادية في عينيها ، وقال لها برقة :
    - هيه .. يا زينب .. الم يلن قلبك ؟
    نظرت إليه شزرا و الشرر يكاد يتطاير من عينيها ، و أجابت :
    - احمد الله على أنك حي حتى هذا اليوم .. و إلا كنت مزقتك بيدي هاتين .
    قهقه ضاحكا و قال :
    - زينب تقتل ؟ .. لا أظن أن هذه الرقة تؤذي أحدا .
    - صدقت .. لست مثلك .. لكنك حتما ستلاقي نفس مصير الرجل الذي تدعي أنه أخوك .
    - اعقلي يا امرأة و انظري إلى مصلحتك و مصلحة ابنك ..
    لم تجبه ، وجمعت الغسيل الذي بين يديها كيفما اتفق ، و انصرفت تاركة إياه يتأملها في حسرة و لهفة .
    اليوم .. لم يعد أحد يسمع منه إلحاحا على الزواج منها ، ولا وعيدا من جانبها للثأر لزوجها . بدا الأمر كهدنة خفية عقدت بينهما .. بل بلغ الأمر بالبعض إلى الاعتقاد أن المياه ربما تكون عادت إلى مجاريها بينهما .. كيف ؟ و متى ؟.. الله أعلم .
    إنما الشيء الأكيد هو أن بعض التحول حدث حين قدم أحد المجاذيب إلى القرية مباشرة بعد رحيل عزيز بشهرين .. كان شخصا لا يأكل لحما ولا أي شيء يطبخ ، ولا يقبل نقودا .. جاء واتجه نحو بيت الشيخ القتيل و قبع عند عتبة الباب . خرجت زينب و أطعمته لبنا و تينا ثم كسته .. لكنه رفض الثياب ونظر إليها مليا ثم قال :
    - حاجتك مقضية إن شاء الله ..
    ردت بلهفة :
    - من فمك لباب السماء يا سيدي .. ادع فقط أن يموت ذاك المجرم مقتولا كما قتل أخوه .
    منذ ذلك اليوم ، لم تسمع من زينب شكوى أو وعيد . بل إنها صارت أكثر ألفة مع ساكنة القرية بعد فترة من الانطواء و العزلة .. واتهامها البعض بالتستر على الجريمة ، بل و التواطؤ مع القاتل .
    كان عزيز قد كبر وازداد قوة ووسامة مثل أبيه . ورغم نفوره من عمه حشلاف ، فإنه كان يرد على تحيته ويجالسه في القهوة على غفلة من أمه .. ولم تفت الأهالي لحظة وداعه لها وهو يهم بالرحيل من أجل الدراسة .. كان عابسا وهي تضمه باكية .. فقال مقدم القرية :
    - يبدو أنها لم تفلح في غرس فكرة الانتقام لأبيه في نفسه ..
    وما بين رحيل عزيز و قدوم المجذوب وما تلا ذلك من أحداث هزت القرية ، صارت زينب أكثر انسجاما و عادت إليها حيويتها شيئا فشيئا .. وهاهي اليوم تستعد لحضور زفاف ابنة حشلاف ، بل ولتكون "نكافة"..
    كل العيون تتابعها و هي ترفل في حلتها التي عوضت لباس الحداد .. توزع الابتسامات وتزغرد .. وحشلاف يكاد يطير فرحا ..ولا يكاد يفوت فرصة للاقتراب منها و الهمس لها .
    والحفل في أوجه ، تقدم المجذوب نحو الحضور بأسماله المرقعة وهم متحلقين حول المائدة يأكلون ، ورفع عصاه الغليظة عاليا و هو يصرخ :
    - لعنة الله على القوم الظالمين .
    انتهره البعض ، لكن آخرين استنكروا ذلك قائلين :
    - هو من أولياء الله .. دعوا الليلة تمر بسلام .. تعال أيها الشريف .. وشاركنا الطعام .
    - دم .. دم .. أنا لا آكل دما ..
    ثم خرج لا يلوي على شيء .. وجم الحضور و ساد الصمت كأن على الرؤوس طيرا .. وخرج حشلاف غاضبا .. ويحكي بعض من حضر الحفل أن زينب ، وفي لحظة خشوع و انسجام مع إيقاع "الحضرة" ، انتصبت واقفة و أطلقت زغرودة طويلة .. ضحكت وبكت وهي تطلق شعرها ودقات الدفوف تتسارع .. ثم نهضت و عقصت شعرها و أطلقت زغرودة أخرى ..
    - مات حشلاف .. سقط من أعلى الشط ..
    هكذا صاح المقدم وهو يشق الصفوف باحثا عن بعض الرجال الذين هرولوا حيث الجرف السحيق .. و أسرع الأهالي كلهم ينظرون إلى أسفل .. وأقبلت زينب تنظر من أعلى إلى الجثة الملقاة على الصخور .. ثم التفتت إلى الحشد و قد زادها ضوء البدر هيبة .. وفي اللحظة التي أقبل فيها الرجال يحملون الجثة ، أطلقت زغرودة أخرى ، وعادت إلى الحفل ..
    - الملعونة .. تزغرد لموت سليفها ..
    - دعوها .. فهي ليست ملك نفسها .. وما تفعله ليس بخاطرها .
    - صارت مثل هذا المجذوب المشؤوم .. يجب التخلص منهما و إلا حلت اللعنة على هذه البلدة .
    - بل ستحل اللعنة إذا امتدت إليهما يد بأذى .. عد إلى أكلك و املأ بطنك أيها البغل .
    منذ تلك الليلة ، اختفى المجذوب وعادت زينب إلى عزلتها وانطوائها ، لكن بريقا غريبا ظل يومض في عينيها إلى يوم عاد عزيز لتحتضنه بالدموع و الزغاريد .



    7 شعبــان 1430هـ
    30 يوليوز 2009 م
  • العربي الكحلي
    عضو الملتقى
    • 04-05-2009
    • 175

    #2
    [align=justify][/align]أخي ،
    قصة مفجعة .
    الى اللقاء في أخرى .
    رمضان كريم
    مع تحيات العربي الكحلي .
    النورس الجوال .
    [CENTER][SIZE="2"][COLOR="darkred"]من يزره يزر سليمان في الملـــــــك جلالا و يوسفا في الجمال
    وربيعا يضاحك الغيث فيه***زهر الشكر من رياض المعالي
    [/COLOR][/SIZE][/CENTER]

    تعليق

    • أحمد القاطي
      أديب وكاتب
      • 24-06-2009
      • 753

      #3
      العزيز رشيد الميموني .

      قصة جميلة تعبر عن واقع مغربي أليم ، لغة ومكانا وشخوصا ... ونهايتها

      مأساوية .

      كل التقدير لأخي رشيد .

      رمضان مبارك كريم ، وكل رمضان وأنت بأل خير .

      ويجالسه في القهوة / المقهى

      هذا التعبير يستعمله المغاربة وأنا واحد منهم .

      أحمد القاطي يحييك .

      تعليق

      • رشيد الميموني
        مشرف في ملتقى القصة
        • 14-09-2008
        • 1533

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة العربي الكحلي مشاهدة المشاركة
        [align=justify][/align]أخي ،
        قصة مفجعة .
        الى اللقاء في أخرى .
        رمضان كريم
        مع تحيات العربي الكحلي .
        النورس الجوال .
        أخي العربي ..
        رمضان مبارك كريم وكل عام و أنت بخير ..
        أسعدني مرورك و ثناؤك على القصة ..
        وإلى اللقاء كما قلت مع قصة أخرى إن شاء الله ..متمنيا أن تحةز كل نصوصي على إعجابك .
        لك مودتي .

        تعليق

        • رشيد الميموني
          مشرف في ملتقى القصة
          • 14-09-2008
          • 1533

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة أحمد القاطي مشاهدة المشاركة
          العزيز رشيد الميموني .

          قصة جميلة تعبر عن واقع مغربي أليم ، لغة ومكانا وشخوصا ... ونهايتها

          مأساوية .

          كل التقدير لأخي رشيد .

          رمضان مبارك كريم ، وكل رمضان وأنت بأل خير .

          ويجالسه في القهوة / المقهى

          هذا التعبير يستعمله المغاربة وأنا واحد منهم .

          أحمد القاطي يحييك .
          الأخ العزيز أحمد القاطي

          أبادلك التحية و رمضان مبارك عليك و على جميع الأهل و الأحباب وكل عام و أنت بخير ..
          سعدت بهذا المرور العبق و سرني ثناؤك على القصة ..
          و الحقيقة أن بضع سنوات في أحضان جبال الريف كانت كافية لكي تختزن ذاكرتي أشياء عدة من الوسط الجبلي و عاداته وكذا تناقضاته ..
          مصطلح القهوة تعمدت الإبقاء عليه حتى يكون أقرب لجو القصة ..
          و أذكر أني قرأت للكاتب الكبير نجيب محفزظ عدة روايات يستعمل فيها مصطلح القهوة ..
          أخي أحمد .. أنا جد سعيد بهذا التواصل الأخوي . أحييك بدوري متمنيا أن أظل دائما عند حسن ظنك .

          تعليق

          • مجدي السماك
            أديب وقاص
            • 23-10-2007
            • 600

            #6
            تحياتي

            اخي رشيد الميموني..تحياتي
            قصتك جميلة.فيها وجع. استمتعت بها.
            كل عام وانت بخير.
            مودتي
            عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

            تعليق

            • رشيد الميموني
              مشرف في ملتقى القصة
              • 14-09-2008
              • 1533

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة مجدي السماك مشاهدة المشاركة
              اخي رشيد الميموني..تحياتي
              قصتك جميلة.فيها وجع. استمتعت بها.
              كل عام وانت بخير.
              مودتي
              أخي الغالي مجدي
              أشكرك من أعماق القلب على مرورك و تشجيعك ..
              ثناؤك على قصتي يزيدني تحفيزا ..
              كل عام و أنت بألف خير ..
              دامت لك المودة الخالصة .

              تعليق

              • ريما ريماوي
                عضو الملتقى
                • 07-05-2011
                • 8501

                #8
                ويبقى السؤال هل مات صاحبنا قضاء وقدر..
                أم بيد فاعل مجهول ومن يكون؟

                شكرا لك... استمتعت هنا...


                تحيتي وتقديري.


                أنين ناي
                يبث الحنين لأصله
                غصن مورّق صغير.

                تعليق

                • رشيد الميموني
                  مشرف في ملتقى القصة
                  • 14-09-2008
                  • 1533

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة ريما ريماوي مشاهدة المشاركة
                  ويبقى السؤال هل مات صاحبنا قضاء وقدر..
                  أم بيد فاعل مجهول ومن يكون؟

                  شكرا لك... استمتعت هنا...


                  تحيتي وتقديري.
                  قد لا أفيك حقك من الشكر والامتنان ريما على ما منحته لكتاباتي من اهتمام
                  أملي أن تكون كل قصصي في مستوى ذائقتك الأدبية الراقية
                  مع خالص مودتي

                  تعليق

                  يعمل...
                  X