[align=center]...ولك الشكر[/align]
كان يمشي في جمع المارة، ينهب الشارع الطويل، مقلِّبا بصره بين الوجوه وواجهات الأبنية والمتاجر، يكتفي من كلٍّ بالنظرة الأولى، ثم يكسر حبل فضول البصر نحو أرضية الشارع حتى لا يتعثر في إحدى الحفر الكثيرة، فبعضها يمتدّ لقامة بطول جسده...
خطر بباله تساؤل أنبت على وجهه ابتسامة لم يكد يُبدِها خشية أن يُظَنّ به ما لا يرضى؛ وهو الرجل العاقل المشهود له بالاستقامة والاتزان الخلقي. وَأَدَ الابتسامة بينما تغلغل تساؤله في عمق دوامة حيرته فأثار موجة من السخرية الخجلى، مافتئ أن أعقبها نسيم الارتياح.
بدا كمن يحدثُ نفسه عما كان بالأمس القريب يخنق الأنفاس بكلكله وتصطبغ له الوجوه بما يشبه أقنعة تنـزُّ نفاقا في لون السّنّ الْمُصفرّ المتدفق إذ تعريه الشفاه اليابسة متى ساحت بالأفئدة دفقات الوجع الممض... حاول الهروب من صورة القبضة الفولادية وهي تلجم المداد في حلق كل يراع سيّال، وتخنق العبرة في جفون الصبية الأيتام، وتحجّرُ الدمع في عيون الأيامى والثكالى، وتشلّ سوق الهاربين على مقربة من وهم الحدود، وتعرّضُ الحروف لامتهان تحريف صور الواقع، وافتراء الزور نسيجا تلبسه الجباه كي تنحني على أعتاب الأغراض الدنيئة... شردت من صدره زفرة كانت حبيسة الحيرة قبل أن تتآلف في فكره صورة شبه ناطقة: - يالِسخافة الفكرة ! ... كل ذلك أضحى أثرا بعد عين. أيكون ما حدث من تحول ناتجا عن تكرار رقمين في خانات مقدّرة في مكان ما من هلامية النسيج عددا ثم عدد، غيَّر الرقمان وجه الحياة في هذا الشارع البائس وفي المدينة ، وفي القطر، وفي القارة، بل وعلى كرة مازالت تلهو بها أصابع الأحقاب...
هكذا حدثته نفسه قبل أن تطفو في خياله على ركام الذكريات الأليمة؛صورة الآمر حين انهال عليه بأغلظ ألفاظ السباب. وخطرت أمام عينيه صورة أخرى لمحقق كان يخيط له عباءة من تُهَمٍ لم تكن لتخطر له على بال...مثل أمامه ذاك الموقف الرهيب فأحس ضغطا غريبا كالذي شعر به يومذاك وهو مكتوف اليدين إلى كرسي خشبي قدام المحقق . كان ضغطا موجعا بأسفل تجويف البطن كأنما كان مبعثه لسان لهب آخذ في الاضطرام . هي حاجة كل كائن حي يشرب الماء طمعا في نضارة يجلبها لورقة الحياة الذابلة في جوفه.
ودون تردد قصد حماما عموميا كان على جانب غير مهمل قليلا من الشارع، وعاد بعد برهة يواصل مسيره وسط جمع المارة ... أرخى سمعه بصورة لا إرادية لما يروج من أحاديث عابرة على ألسنة السائرين في الاتجاه المعاكس، فالتقطت أذنه عبارات عائمة : اتصال لاسلكي ... لغة ....برنامج ... رقمية ...ذاكرة عشوائية...
واختلطت الألفاظ وتمازجت الأصوات بالهمسات في تسارع حتى بات يسمع شبه طنين تلاحم بعد حين فحمل أحاسيسه وأفكاره إلى غابة عذراء قد لا تكون وطئتها قدم بشرية من قبل؛ حيث الحرية تلبس ريش الطواويس وتتطيب من عبير الجلنار ومن ريح زهر الليمون وتتمايس على نغم يلف هودجها الزاهي بأهازيج الطيور وحفيف الأشجار النضرة الظليلة... فما لبث أن غمغم في صوت غير مفهوم للمارة : هي ذي نسمة الحياة تكاد تطل من عيني هذه الطفلة... قالها وهو يفتح دراعيه لطفلة لم يتجاوز عمرها خامس ربيع. خمن انهاكانت تجري على غير هدى فضلت طريقها إلى يد أمها التي توارت في جمع السائرين ...آوت الصبية إلى صدره. وبدل أن تبكي كدأب الصبية عادة، افترّ ثغرها عن ابتسامة منورة كصبح يوم عيد، وهي تخرج من بين ثنايا ثوبها لعبة بحجم كف اليد وأشارت إليه أن يُدخل رقما أملته عليه في همسة خفيفة، ثم ضغط زر الإدخال على لوحة اللعبة، فظهرت على شاشتها الصغيرة قائمة بتفاصيل هوية البنية وعنوان أهلها مع جملة :
"إن لم تستطع الاتصال بأهلي فخذ بيدي إلى أقرب مركز للشرطة ولك الشكر"
كان يمشي في جمع المارة، ينهب الشارع الطويل، مقلِّبا بصره بين الوجوه وواجهات الأبنية والمتاجر، يكتفي من كلٍّ بالنظرة الأولى، ثم يكسر حبل فضول البصر نحو أرضية الشارع حتى لا يتعثر في إحدى الحفر الكثيرة، فبعضها يمتدّ لقامة بطول جسده...
خطر بباله تساؤل أنبت على وجهه ابتسامة لم يكد يُبدِها خشية أن يُظَنّ به ما لا يرضى؛ وهو الرجل العاقل المشهود له بالاستقامة والاتزان الخلقي. وَأَدَ الابتسامة بينما تغلغل تساؤله في عمق دوامة حيرته فأثار موجة من السخرية الخجلى، مافتئ أن أعقبها نسيم الارتياح.
بدا كمن يحدثُ نفسه عما كان بالأمس القريب يخنق الأنفاس بكلكله وتصطبغ له الوجوه بما يشبه أقنعة تنـزُّ نفاقا في لون السّنّ الْمُصفرّ المتدفق إذ تعريه الشفاه اليابسة متى ساحت بالأفئدة دفقات الوجع الممض... حاول الهروب من صورة القبضة الفولادية وهي تلجم المداد في حلق كل يراع سيّال، وتخنق العبرة في جفون الصبية الأيتام، وتحجّرُ الدمع في عيون الأيامى والثكالى، وتشلّ سوق الهاربين على مقربة من وهم الحدود، وتعرّضُ الحروف لامتهان تحريف صور الواقع، وافتراء الزور نسيجا تلبسه الجباه كي تنحني على أعتاب الأغراض الدنيئة... شردت من صدره زفرة كانت حبيسة الحيرة قبل أن تتآلف في فكره صورة شبه ناطقة: - يالِسخافة الفكرة ! ... كل ذلك أضحى أثرا بعد عين. أيكون ما حدث من تحول ناتجا عن تكرار رقمين في خانات مقدّرة في مكان ما من هلامية النسيج عددا ثم عدد، غيَّر الرقمان وجه الحياة في هذا الشارع البائس وفي المدينة ، وفي القطر، وفي القارة، بل وعلى كرة مازالت تلهو بها أصابع الأحقاب...
هكذا حدثته نفسه قبل أن تطفو في خياله على ركام الذكريات الأليمة؛صورة الآمر حين انهال عليه بأغلظ ألفاظ السباب. وخطرت أمام عينيه صورة أخرى لمحقق كان يخيط له عباءة من تُهَمٍ لم تكن لتخطر له على بال...مثل أمامه ذاك الموقف الرهيب فأحس ضغطا غريبا كالذي شعر به يومذاك وهو مكتوف اليدين إلى كرسي خشبي قدام المحقق . كان ضغطا موجعا بأسفل تجويف البطن كأنما كان مبعثه لسان لهب آخذ في الاضطرام . هي حاجة كل كائن حي يشرب الماء طمعا في نضارة يجلبها لورقة الحياة الذابلة في جوفه.
ودون تردد قصد حماما عموميا كان على جانب غير مهمل قليلا من الشارع، وعاد بعد برهة يواصل مسيره وسط جمع المارة ... أرخى سمعه بصورة لا إرادية لما يروج من أحاديث عابرة على ألسنة السائرين في الاتجاه المعاكس، فالتقطت أذنه عبارات عائمة : اتصال لاسلكي ... لغة ....برنامج ... رقمية ...ذاكرة عشوائية...
واختلطت الألفاظ وتمازجت الأصوات بالهمسات في تسارع حتى بات يسمع شبه طنين تلاحم بعد حين فحمل أحاسيسه وأفكاره إلى غابة عذراء قد لا تكون وطئتها قدم بشرية من قبل؛ حيث الحرية تلبس ريش الطواويس وتتطيب من عبير الجلنار ومن ريح زهر الليمون وتتمايس على نغم يلف هودجها الزاهي بأهازيج الطيور وحفيف الأشجار النضرة الظليلة... فما لبث أن غمغم في صوت غير مفهوم للمارة : هي ذي نسمة الحياة تكاد تطل من عيني هذه الطفلة... قالها وهو يفتح دراعيه لطفلة لم يتجاوز عمرها خامس ربيع. خمن انهاكانت تجري على غير هدى فضلت طريقها إلى يد أمها التي توارت في جمع السائرين ...آوت الصبية إلى صدره. وبدل أن تبكي كدأب الصبية عادة، افترّ ثغرها عن ابتسامة منورة كصبح يوم عيد، وهي تخرج من بين ثنايا ثوبها لعبة بحجم كف اليد وأشارت إليه أن يُدخل رقما أملته عليه في همسة خفيفة، ثم ضغط زر الإدخال على لوحة اللعبة، فظهرت على شاشتها الصغيرة قائمة بتفاصيل هوية البنية وعنوان أهلها مع جملة :
"إن لم تستطع الاتصال بأهلي فخذ بيدي إلى أقرب مركز للشرطة ولك الشكر"
تعليق