كتب مصطفى بونيف
موستــافا ...مجروح وحزيـــن !!

حتى الحزن لم يعد متاحا مثل الزمن الماضي ، زمن أفلام الأبيض والأسود ، عندما كان البطل الحزين يتوجه إلى أقرب حانة ، ويضرب بها كأسين كوكتيل ، ويخرج إلى شاطئ البحر مترنحا وهو يغني ( ظلموه ، القلب الخالي ، ظلموه ) !
حدث لي أن قلدت عبد الحليم في فيلم ( حكاية حب ) ، عندما أخبره محمود المليجي بأنه مصاب في قلبه ولا بد له من عملية جراحية لا يمكن أن تنجح بأي حال ..ولا بد أن يقطع علاقته بمريم فخر الدين ...توجه عبد الحليم وهو يلبس معطفا أسودا إلى شاطئ الإسكندرية ، وراح يغني في جو دراماتيكي ( في يوم ، في شهر ، في سنة ..تهدى الجراح وتنام ..وعمر جرحي أنا أطول من الأيام ..) .
أما أنا عندما أخبرني والد خطيبتي بأنه سيفسخ الخطوبة إذا استمر وضعي على ما هو عليه لأسبوع آخر ..لبست معطفا أسودا استلفته من جاري محمود ، وتوجهت إلى الشاطئ...لم أستطع أن أهنأ بجلسة رومانتيكية ..بسبب روائح المزابل المنبعثة من هنا وهناك ..ومع ذلك دست على قلبي المجروح ، وجلست على صخرة عالية ، وبدأت أجتهد في إخراج الدموع ..ورحت أغني للبحر الذي كان منظره زبالة ..ويرمي إلى الشاطئ علب سردين ..لدرجة أنني اقتنعت بأن السمك يأتينا معلبا ومصبرا من البحر ..أمسكت أنفي ورحت أغني ( في يوم ..في شهر ..في سنة ..)...وعشت دور موستافا الحزين ...حتي سمعت صوتا من أسفل الصخرة .." أتركنا ننام وإلا سأرسم على وجهك شوارع بهذه السكينة ..يا ابن ال..وال...وال..."...كان صوتا لرجل سكير ينام تحت الصخرة .
نزلت وأنا ألعن سنسفيل حظي التعس .." ماهذا البلد الذي لا نجد فيه مكانا نحزن فيه ! "
جلست في مكان آخر أمام الشاطئ ، ورحت أتلقى نسائم البحر التي هي أقرب إلى رائحة الأحذية القديمة ...أغمضت عيني ورحت أغني ( جبار ...في قسوته جبار )..ولم أنته من المقطع الأول حتى كسر على رأسي أحدهم زجاجة سبرتو ..
أين كان يذهب رشدي أباضة ، وفريد شوقي عندما يلم بهما حزن عميق كحزني ؟
الحانة...هل سأذهب إلى الخمارة ..وأجلس بين السكارى ، أمسك كأس الكوكتيل وأنا أغني ( تخونوه ، وعمره ما خانكم ، ولا انشغل عنكم ).؟.
دخلت الحانة ..وأطلقت السلام على الجالسين كمن يدخل عرسا ..( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا جماعة (
فرد الجميع في نفس واحد ( وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ) .
وقف عجوز طاعن في السن ، أكل الدهر على ظهره وشرب ، ثم قال لي " تعال يا حاج اشرب معنا ، الخير كثير هنا ، من هنا الطريق السريع إلى جهنم ..ادخل جهنم وأنت تغني وسعيد )...ثم سقط مغشيا عليه !
اقترب مني النادل: " ماذا ستشرب يا مولانا ؟ "..
همست له " أعطني أذنيك أريد أن أقول لك شيئا " ...
دنا منى بذقنه ..قائلا " نعم ماذا تريد في يومك اللي مش فايت ؟" ، فأدركت أن الرجل لم يعد قادرا على التفريق بين أذنيه وذقنه ...فقلت له " هات ذقنك كي أقول لك شيئا "
فوضع النادل أذنه في فمي قائلا في ضجر " نعم ، ماذا ستشرب ؟".
تنتحنحت قائلا : " أريد شاي بنعناع من غير سكر " ..انتفض النادل كأنني شتمت أمه " هل تحسب نفسك جالس على مقهى شعبي ؟..أنت في حانة محترمة ".
هدأت من روعه : - آسف أنا آسف يا عمي الشيطان ، احضر لي كوكتيلا شاي بنعناع بقرنفل على حلبة حصى ..على الحب الأسود كأيامك السوداء !
وفجأة أطلق كائن كأنه أنثى قهقة هستيرية ..نظرت إليها فإذا بها امرأة عجوز.." دمك مثل العسل يا مضروب !"...تأسفت على حظي التعس ، رشدي أباضة يصادف في الحانة سامية جمال ، أما أنا في أول دخلة لي إلى هذا المكان أصادف العجوز التي حضرت طهور كريستوف كولمبس ....(نعم ماذا تريدين أيتها الحيزبون ؟).
- احكي لي آخر نكتة !
استغربت لهذا الكائن العائد من التاريخ والذي ارتسم عليه غضب الله ثم قلت لها " يقولون أن عجوزا طاعنة في السن ضحكت فماتت مختنقة ، لماذا ؟" ..
وضعت يدها على كتفي ثم قالت : - لماذا ؟ .
فأجبتها : - لأنها بلعت طقم أسنانها !.
أطلقت العجوز ضحكة هستيرية ، ثم سقطت ..يبدو أنها بلعت طقم أسنانها !!
وما هي إلا سويعة حتى وجدت كل السكارى يتحلقون حولي يستمعون إلى قصة حياتي .
" أنا مؤدب ، أنا مثقف ، أنا ابن عائلة ، لست مثلكم من زبالة القوم ، درست في أحسن الجامعات ، كان الأساتذة يقولون لي مستقبلك زاهر يا موس !، لا لم يكونوا يقولون لي يا موس ..كانوا يقولون يا موستافا .." ، أتوقف وأنظر حولي ، ثم أسألهم " أين توقفنا ؟"
فيقولون في نفس واحد " مستقبلك زاهر يا موستافا !".
أواصل " أنا محامي ..ومستواي لا يسمح لي بأن أجلس مع حثالة من أمثالكم ، عندما كنت في الجامعة كنت أخرج مع ملكات الجمال ، ثم جار علي الزمان لأجد نفسي أجلس مع هذه الولية التي حضرت ختان عباس العقاد ...لولا أن نقابة المحامين ..أستغفر الله العظيم ، لا مش أستغفر الله العظيم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " أتوقف وأنظر إليهم ثم أسألهم " أين توقفنا ؟ " ..فيقولون في نفس واحد " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ! "
أواصل مستهزئا " أنتم تعرفون الله يا لقاطة المجتمع يا حثالة البشر ، عندما تخرجت من الجامعة خطبت فتاة مثل القمر ، أحببتها أكثر من حب قيس بن الملوح لابنة عمه عبلة ، وأكثر من حب عنترة لابنة عمه ليلى .."
استفاقت العجوز من غيبوبتها وصححت الخطأ " أنت تقصد حب قيس لابنة عمه ليلى العامرية ، وعنترة لابنة عمه عبلة "
ابتسمت ساخرا : - ألم أقل لكم بأنها ولية قادمة من العصر الحجري ؟ .
أواصل " كنت أشتري لها آخر ألبومات تامر حسني ، وأجمل العطور ، كنت أذهب معها إلى مطعم البيتزا ، وأطعمها بيدي الشمال هذه ...لا..لا ..لا حتى لا أكذب عليكم كنت أطعمها بيدي اليمين هذه ، لكن والدها الشرير يريد أن يتراجع عن الخطوبة ويزوجها لابن عمها قيس ..تيس ..حمار معه مليار ..حمار مثلكم يا حثالة ، أنتم لا تساوون كلكم فردة حذائي اليمنى ..لا مش اليمنى ..اليسرى " ..أتوقف وأنظر إليهم ثم أسألهم " أين توقفنا ؟ "
فيجيبون في نفس واحد " حذاء رجلك اليسرى .. "
ثم أخرج من الحانة مترنحا ، على الرغم من أنني لم أشرب شيئا ...
أقف في وسط ميدان البلد .." أنا مؤدب ، أنا مثقف ..أيام زمان كان الناس كلهم مثلي مؤدبون ، مثقفون ، كان مالك بن نبي يقدم محاضراته في الجامعات وكان الطلبة يجتمعون حوله ، الآن الجامعات أصبحت كلها ساحات وكافيتريات والأستاذ الجامعي بدل أن يدرس طلابه ، يتحرش بهم جنسيا ، أيام زمان كان الناس مؤدبين ، كانت المساجد مفتوحة في الليل والنهار ، تدخلها فتجد علماء وأئمة يفرجون الكرب والهم عن الناس ، كانت وجوههم تشع نورا ، تشع حبا وأملا ..كان الشيخ محمد الغزالي يطبطب على الناس ويزوج الشباب من ماله الخاص ، أما الآن أصبحت المساجد مغلقة ، وإذا دخلتها فغالبا ما تجد إماما ، يشتغل مخبرا عند الدولة ..وأشجع إمام منهم يعترض على ثبوت رؤية هلال العيد ...
أنا مؤدب أنا مثقف ...أيام زمان كان الناس مؤدبين ومثقفين ، كان الأخ يحب أخاه ، يزوره ، ينصره بماله وبقوته ..الآن الأخ يذبح أخاه من أجل جهاز هاتف محمول ، أو فتاة ليل ،ويرمي أمه في دار المسنين ...كان الناس يحبون فلسطين ويدعمون المقاومة الآن الناس يبيعون القدس من أجل السلطة ، ليتها كانت سلطة كاملة ..نصف رجال لنصف سلطة ..
أنا مؤدب أنا مثقف ..أيام زمان كان رئيس الدولة يطمئن على الناس بنفسه ، يتجسس عليهم في بيوتهم فيطعم الفقير ويعطي المحتاج ويداوي المريض ، كان صديقا للفقراء ..الآن رئيس الدولة أصبح رئيس عصابة من اللصوص يسرق أموال الناس وفرحة الناس ويبيع الوطن قطعة قطعة ، وأفراد الشعب فردا فردا .. كان رجال الشرطة كالأطباء ملائكة للرحمة ..الآن صاروا بلطجية وزبانية عذاب .."
حتى توقفت أمامي سيارة شرطة ..أخذوني إلى المخفر ، وحرروا محضر ضبط مواطن مثقف في حالة سكر ، مع أنني والله لم أشرب سوى كوكتيل شاي بنعناع وقرنفل وحلبة حصى ...
مصطفى بونيف
تعليق