فاطنة والرقاء / قصة / أحمد القاطي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد القاطي
    أديب وكاتب
    • 24-06-2009
    • 753

    فاطنة والرقاء / قصة / أحمد القاطي

    فـــاطـنــة والــرقــــّاء



    عبد السلام الملقـب بالبوعلايي رجـل صنديد عـرف بيـن أهله وسكان قـبيلته بكرمه ودُمُوثـَته وشجاعـته في مقاومة الاحتلال الإسباني إلى جانب جيش التحرير في الريف . لما نال المغرب استقلاله ، وكأغـلب المقاومين انخـرط في صفـوف المخزن ، وأصبح " مخازنيا " . تزوج امرأة أولى وأنجب منها بنتيـن ، وهـو الشيء الذي لم يعجبه لأنه كان يـريد الذكر، وهـذه أمنية كـل سكان القرى الذيـن يؤثرون الذكور على الإناث لأسباب عـديدة تتحكم فيها العادات والتقاليد و ...


    بدأ عمله كـ " مخازني " في قيادة باب المروج ،وكـثيرا ما كان يفـرض عـليه عمله التنقـل إلى " بوقلال " للقيام بمهمة هناك . ونظرا لندرة وسائل النقـل ، كان الحصان هـو وسيلة التنقـل المتاحة آنذاك . في مرة أرسله القائد صحبة " مخازني " آخر إلى بوقلال لإحضار سجيـن من هناك قصد إيداعه في سجن باب المروج . قـبـل الوصول توقـف مع زميله في عيـن تدعى عيـن بوقلال ـ وهي غـيـر بعيدة عـن المكان المقصود ـ بهدف إراحة الفرسين وسقيهما من مائها . في العيـن كانت هناك امرأة أيم تدعى فاطنة تسقي الماء . خاطبها عبد السلام قائلا لها :



    ــ أعـطني الدلو يا بنتي ، كي نشرب ونسقي الفرسيـن الظمآنين والمنهكيـن لطول المسافة التي قطعاها .



    لم تكلم فاطنة عبد السلام ولم تعطه الدلو ، بـل في الحال قامت وغادرت المكان . سلوك هذه الأخيرة دفعه إلى تقفي أثرها من أجـل معرفة من تكون وأيـن تسكن ؟؟


    لما عـرف قرر الزواج بها . فأرسل رجلا شـريفا يدعى محمدا بن مُكحلة قصد خطبتها من أهلها . لكن هذا الأخيـر


    المعروف في وسطه بشخصيته الموقرة وبنجاحه في كـل المهمات التي توكـل إليه ، فـشل هذه المرة في مهمته وعاد يجـر ذيول الخيبة .


    مــا كاد محمد بن مُكحلة يصل إلى عبد السلام حتى وقعت كارثة كبرى في منزل أهـل فاطنة . لقد كانت خمسة عجول لعائلتها فوق الدار ترعى وهي مربوطة بحبال ، فالتوت الحبال على أعناق ثلاثة منها لقـرب بعضها من بعض فنفـقـت في الحال . عائلة فاطنة ربطت بين ما وقـع للعجول الثلاثة ورفضها طلب الرجل الشريف . فأرسلت في الحال أحد أفرادها من أجل استرضائه وتلبية ما جاء من أجله .


    عـبد الله ، واعْمر أخوان لفاطنة ، يعتبران من أعـيان القبيلة . كانت لهما أراضي شاسعة وسمعة طيبة في محيطهما الاجتماعي . في المقابل كان هناك قائد مستبد معروف بجبروته وطغيانه واستبداده الذي لا يعرف الحدود ، شأنه في ذلك كشأن جـل القواد في عهد الاستعمار . القائد المسمى" هـ " أعجبته الأرض المسماة بـ " أزلاف " والتي هي في ملك عبد الله واستحوذ عليها . لكن صاحبها كان له رأي آخر حيث رفـض التنازل عـن أرضه أو التـفـريط في أي شبر منها . إصرار عبد الله على عدم التنازل عـن أرضه دفع القائد إلى تلفـيق تهمة ضده وإيداعه سجـن باب المروج . لما علم عبد السلام بهوية السجيـن اهـتـبل الفرصة وتقـرب منه وأحسن معاملته وطمأنه أنه سوف يقوم بكـل ما في وسعه ليعيد إليه حريته المسلوبة . وهكـذا قصد نقـيب المخازنية وترجاه أن يطلق سراحه بعدما حكى له قصته مع القائد . وبحكم علاقة العمـل التي تجمع بيـن الطرفـيـن لبى النقـيب طلبه وأطلق سراحه . لما عاد عبد الله إلى أهله تعجبوا كيف أفـلت من السجن بسرعة ، وحمدوا الله على سلامته ، وأقاموا وليمة استدعوا إليها خلقا كثيرا نكاية في القائد .


    إحسان عبد السلام إلى عبد الله ، بالإضافة إلى نفـق العجول الثلاثة دفعا إلى تزويجه فاطنة تجنبا لكل مكروه جديد ، ولكي يكون إلى جانب أسرتها عند الوقوع في محنة أخرى . بعد زواج فاطنة ثانية عاشت في منـزل واحد مع ضرتها التي كانت تتصف بالغيرة الشديدة ، والتي كانت رافضة لها ، لأنها كانت ترى فيها تهديدا لحياتها الزوجية مع بعْـلها . لقـد كانت تتشاجر معها باستمرار حيث أذاقتها كـل أصناف المرارة من : تكليفها بالقيام بأشغال البيت كلها إلى المعاملة السيئة المتمثـلة في الحـط من قيمتها وسبها وازدرائها ونعتها بأبشع الأوصاف . الزوج الغائب في عمله باستمرار لم يكـن يعلم ما تتعرض له فاطنة من أذى من طرف زوجته الأولى . هذه الأخيرة عندما فشلت في النيـل منها ، لجأت إلى خطة أخرى ، حيث كلما عاد زوجها ، كانت تـقـوم وتشرع في العمل كي توهمه بأنها هي التي تـقـوم بكـل شيء بينما الأخرى هي عالة على البيت فـقـط . والأدهى من هذا كله أنها كلما تحلق الجميع حـول المائدة للأكل كانت تتظاهـر بالإغماء عـليها ، وتحـول الدار إلى مأتم . تضايق عبد السلام كـثيرا من تصرفات زوجته الأولى ، وفي قرارة نفسه أنه سوف يأتي اليوم الذي تمل وتعود إلى رشدها وصوابها وتكـف عـن تمثيلياتها المتكررة . فهـو كان يعلم أن أبغض الحلال إلى الله هــو الطلاق ولذلك لم يرد أن يلجأ إلى هذا الخيار الذي طالما فكر فيه مليا لتوفـيـر جـو الراحة داخـل البيت الذي افـتـقـد منه . لكن لما بلغ السيل الزبى ، وطفح الكـيـل ، واستحال العيش في ظل وجودها إلى جحيم لا يطاق ، وبعدما تظاهـرت من جديد بالإغماء عـليها وملأت المكان صراخا بلغ صداه إلى أسماع الداني والقاصي ، وأصبح حديث العام والخاص ، اتخذ القرار الصعـب الذي لم يجد بديلا له واستراح .


    ما قام به عبد السلام نحو عبد الله ، ووقوفه إلى جانبه كي يسترد أرضه لم يـرُق القائد " هـ " حيث اعتبـر ذلك طعنة وجهت إليه من الخلف . لـقـد أضمر الشـر له ، وبمجرد ما سنحـت له الفـرصة لفـق له تهمة محبوكة الخيـوط كانت كافية للانتـقام منه ونقـله للعمل في مدينة صفـرو . هناك اكترى عبد السلام بيتا متواضعا ونقـل فاطنة للعيش معه .


    كعادة الكثير من أفراد المجتمع المغربي قام هذا الأخير بشراء ديك وذبحه بعد الظهر فـوق العـتبة كي لا يقـع له مع زوجته أي مكروه في السكن الجديد . ترك الديك لفاطنة كي تتكـفـل بإعداده للعشاء وخرج . هذه الأخيرة ملأت


    " الغلاي " بالماء ووضعتـه فوق النار إلى أن بدأ يغلي ، فأخذته وصبت ماءه على الديك وبدأت في نتـف ريشه . لما انتهـت جمعت الريش ورمته في الكـناسة ، وصبت الماء الساخن في المرحاض .


    مباشـرة بعد صب الماء الساخـن في المرحاض أصيبت فاطنة بوعكة صحية وبدأت صحتها تتدهور عاما بعد عام .


    وبدأت علاقتها مع زوجها تسوء . هذا الأخيـر كان كـلما تحدث لها عـن أرضها التي ورثتها عـن أبيها ولا تتصرف فيها ، ولا تـنـتـفع من خيراتها لأنها وهـبتها لأخويها كصدقة مقابـل السماح لها بالزواج به ، كانت تسقـط على الأرض ويغمى عليها وتبدأ في الكلام حيث يتغيـر صوتها من صوت امرأة إلى صوت رجـل أو طفـل أو بنت ... . وكانت تلازم الفراش مدة طويلة قـبل أن تعود إلى حالتها الطبيعية . لما علم الزوج واقع فاطنة كان يتجـنب الحديث معها في شأن الأرض خوفا على صحتها وإشفاقا منه عليها نظرا لما كانت تعانيه وتقاسيه أثناء الإغماء عليها .


    فاطنة أنجبت من عبد السلام ثلاث إناث وذكرين . الابن الأكبر اسمه محمد وهو المشهور باسم " التازي " وكان يعمل في مدينة الدار البيضاء كجندي في القـوات المسلحة الملكية المغربية . والأصغر منه اسمه الحسن وكان فـقـيها حافظا للقرآن الكريم . لكنه أمام ما أصاب أمه لم يستطع فعل أي شيء .


    لما أحيل عبد السلام عـلى التـقاعد عاد إلى العيش في مسقط رأسه بـ " كاف الغار" وبدأ يشتغل بفلاحة الأرض بمساعدة ابنه الحسن الذي سرعان ما سيتركه هو الآخـر ويهاجر في السبعينات من القرن الماضي إلى فرنسا للعمل هناك . إقامة هذا الأخير لم تدم طويلا بفـرنسا نظرا للتهديد بالقتـل الذي تلقاه من الوالد العنصري للفتاة الفرنسية التي أغرمت به وكانت تنوي الزواج به . لقـد عاد للعيش في "كاف الغار" إلى جوار أمه التي ازدادت حالتها سوءا حيث كانت تسقط ويغمى عليها بمجرد نقاش بسيط بين أحد أفراد العائلة .


    فـي بداية الثمانينات من القـرن الماضي مات عبد السلام الرجل الخير الذي خدم وطنه مرتين : كمقاوم ضد الاستعمار ، وكـ " مخازني " ينتمي إلى صفوف القوات المساعدة . أثناء تقاعده كان يأتي إلى مدينة تازة من أجـل تقاضي راتبه الشهري الذي لا يتجاوز 250 درهما وهو راتب لا يسمن ولا يغني من جوع . حيث كان يـنـفـق ثـلثه على وسائل النقـل فـقـط ، وما تبقى كان لا يكـفيه حتى في اقتـناء السجائر التي كان مدمنا على تدخـينها . لقد كان يتألم كثيرا شأنه في ذلك كشأن كـل المتقاعدين الذين خدموا وطنهم وفي الختام وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام الجحود والنسيان والتهميش والحرمان . كـل الأجور تعرف الزيادة إلا رواتبهم فهي قارة على الدوام ، ولا أحد يفكر فيهم أو يلتـفـت إليهم من أجل إعادة الاعـتبار إليهم وإنصافهم كي يعيشوا كراما في وطنهم الذي قدموا الغالي والنفـيس مـن أجله . والذي أطال الله عمره ما زال للأسف حتى الآن يتقاضى نفس المبلغ أو أقـل منه سبحان الله ا . بعد وفاته انتـقـل معاشه إلى فاطنة التي كانت تتقاضى 86 درهما في الشهر. يا للمهزلة ا ، ويا لله للمساكين الضعفاء .


    ما أصاب فاطنة في مدينة صفرو ظلت تعاني منه طويلا حتى بعد وفاة عبد السلام . فـفي آخر مرة تدهورت صحتها ، ظلت ملازمة للفراش مدة اثنيـن وستين يوما بالتمام والكمال لم تأكـل فيها شيئا ، حتى ظن أهلها أنها هذه المرة سوف تفارق الحياة . فبعثوا إلى ابنها التازي كي يحضر من مدينة الدار البيضاء لرؤيتها قـبل أن ترحل . لما وصل إلى "أحد بني بـوعلة " ، أخبـرها من سكـنوها أنهم سوف يتركونها لبعض الوقت حتى تتمكن من رؤية ابنها الذي سوف يصل إلى الدار بعد ساعـتيـن وذلك مشيا على الأقدام لانعدام الطريق المعبدة إلى الدار ، وذلك ما كان بالفعـل رغم أنه لم يخبر أهله بوقـت مجيئه . لما وصل أكلت أمه وشربت الماء وتحدثت مع ابنها كأن شيئا لم يحصل لها .


    قـضى التازي مع أمه الليلة ، وسمع من إخوته أشياء عجيبة . لقد قالوا له : بأنهم كثيرا ما كانوا يسمعون هَدهَدا ، ويرون أشخاصا غرباء عـن الدار لهم قوائم البقر . وأنهم كانوا يعيشون معهم في الدار ويأكـلون مما يأكلون . بـل في بعض الأحيان كانوا يقترضون منهم الحليب وأشياء أخر ، وهذا كان لا يحدث سوى مع أمه . أمام الذي سمع ووقع لأمه حمـلها التازي في يوم الغـد وقصد بها مدينة تازة لتدبر أمرها وعدم تركها تحتضر بالتدريج .


    في تازة بعد حديثه مع العارفيـن والمجربيـن ، تم نصحه بالذهاب عند رقــّاء في تازة العليا للاستعانة به قصد تخليصها ممن " سكـنوها ". بعد محاولات عديدة تعرف مكان سكناه ، والتقى به ، وكلمه في موضوع أمه ، حيث قرر في الحال مصاحبته للبدء في عمله لوجه الله . داخل منـزل التازي الكائن بـ " بيت غولام " طلب الرقــّاء منه أن يحضر أمه ويغلق الباب ويـزيـل من البيت وجدرانه كـل الصور ما عدا صور الطبيعة التي يمكن تركها . بعد القيام بهذه الإجراءات الأولية أخـرج الرقــّاء من جيبه كرباجا وأمسك بيد فاطنة وبدأ بتلاوة بعـض الآيات من الذكر الحكيم التي تدخـل في مجال الرقية . وكلما كان يتلو القرآن كانت فاطنة المغمى عليها تتكلم بصوت لا يشبه صوتها إطلاقا وتحكي عـن الذي وقع لها في مدينة صفرو وكيف اعتدت على غيرها بحرقهم بالماء بعدما كانوا مجتمعين في المرحاض مكان إقامتهم ، وأنهم الآن يرفضون مغادرتها لأنهم توالدوا فيها وأصبحوا خمسة كـل واحد يسكن طرفا من جسدها . لما استعصى على الـرقــّاء إخراجهم بتلاوة القرآن فـقـط انتقـل إلى المرحلة الثانية وهي إضافة الكرباج حيث بدأ يضرب فاطنة ، ومن يسكـنها يتألمون ويطلبون الكـف والتوقـف ليغادروها . وهكـذا كـل واحد كان يـريد الخروج والمغادرة كان يطلب فتح الباب المغلق ثم يغادر بعد أن يقـطع وعدا على نفسه بعدم الرجوع مرة أخرى .


    خرج كـل مـن سكن فاطنة سوى حيـزبون تدعى ميمونة رفـضت بدعـوى أنها عجوز ، ولا معيـل لها ، وإن هي خرجت سوف تعرض نفسها للضياع والهلاك . أمام تعـنتها أقسم لها الرقــّاء أن يحرقها بتلاوة القرآن وبدأ يقرأ بعضا من آي سورة ( يس) وسور أخرى وفي نفس الوقـت كان يضرب بالكرباج فاطنة والحيزبون تصرخ وتستعطف إلى أن رضخت في الأخيـر وقررت الخروج وعدم العودة مرة أخرى .


    لما خرجت ميمونة ، استعادت فاطنة وعـيها وعافـيتها


    وعاشت حياة طبيعية بعد الرقية التي خضعـت لها في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي ، وامتد بها العمر إلى حدود سنة 1994م حيث رحلت إلى دار البقاء والنقاء .





    تـــازة في : 10 / 06 / 2007م .
  • فادي المواج الخضير
    عضو الملتقى
    • 13-09-2009
    • 280

    #2
    رد: فاطنة والرقاء / قصة / أحمد القاطي

    سعدنا بعناق حرفك

    تعليق

    • أحمد القاطي
      أديب وكاتب
      • 24-06-2009
      • 753

      #3
      رد: فاطنة والرقاء / قصة / أحمد القاطي

      المشاركة الأصلية بواسطة فادي المواج الخضير مشاهدة المشاركة
      سعدنا بعناق حرفك
      ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

      العزيز فادي المواج الخضير .

      كاد النص أن يبقى يتيما لولا مرورك الكريم .

      أحمد القاطي يحييك .

      تعليق

      • فادي المواج الخضير
        عضو الملتقى
        • 13-09-2009
        • 280

        #4
        رد: فاطنة والرقاء / قصة / أحمد القاطي

        كثيراً ما يتجاوز سخص ماسةون ان تشده
        لكن هذا لا يعني انها ليست ماسة
        تحيااتي

        تعليق

        • أحمد القاطي
          أديب وكاتب
          • 24-06-2009
          • 753

          #5
          رد: فاطنة والرقاء / قصة / أحمد القاطي

          المشاركة الأصلية بواسطة فادي المواج الخضير مشاهدة المشاركة
          كثيراً ما يتجاوز شخص ماسةون ان تشده
          لكن هذا لا يعني انها ليست ماسة
          تحياتي
          ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ

          الفاضل فادي المواج الخضير .

          صدقت أخي العزيز .

          ألف شكر على مرورك الجميل ، وثنائك الأجمل .

          أحمد القاطي يحييك ز

          تعليق

          يعمل...
          X