( ألق الجنون ) .. قصتي القصيرة التي احتلت المركز الثاني على عموم العراق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • علي حاتم
    • 13-09-2009
    • 8

    ( ألق الجنون ) .. قصتي القصيرة التي احتلت المركز الثاني على عموم العراق

    ألق الجنون

    (القصة التي حازت على المرتبة الثانية في عموم العراق في مهرجان القصة القصيرة بتاريخ 2/3/2008)

    من عالم مزدحم تطوف فيه أحلام شفافة لا تحدث صوتا ولا جلبة كان حمدون يتسلل خارجا تدفع به أحلام لمّاعة ولسعة ريح قارصة وعندما فتح عينيه وجد نفسه مغمورا بجو مزدحم بالناس مابين راجل وراكب وريح الصباح تصفع وجهه بقسوة.
    ندت عنه ضحكة قوية ارتجفت منها حنجرته وأخذ يسعل حتى احمرّ وجهه الأسمر المكسو بطبقة من الأوساخ الذي أنذره بقدوم مرض خطير.
    أخذ يتموج بين حنايا الأرض القذرة وأقدامه العارية لم تكن تسكت ساعة عن التأوّه من آثار الجروح المؤلمة التي هي الأخرى لم تكن تفارق وجهه ذا العينين الغائرتين ورأسه ذا الشعر الخفيف.
    تفحّص دشداشته التي باتت مأوى للحشرات وأخرج علبة سجائر من جيب دشداشته الممزق الذي عادة ما يضيع له تعب يومه من التسوّل .
    أخرج سيجارة واحدة وأرجع العلبة إلى مكانها وهو يهمّ بإشعال السيجارة بينما أحلام اليقظة كانت تترامى لمخيلته واحدة تلو الأخرى .
    أخذ يرمي نظراته الفاحصة إلى الرصيف وهو يهمس في نفسه ( حمدون .. يالك من تاجر غريب تبتاع سيارة فخمة ! ألا تخشى أعين الحاسدين؟!!) .
    قالها وهو يحلّق بنفسه البائسة التي تطاردها قبضات الأحلام القاهرة .
    نفث دخان سيجارته بينما زحفت عيناه نحو سيارة فخمة تنتظر إشارة المرور لتنطلق وبانت على سائقها سيماء الأغنياء فوثب حمدون من مكانه مسرعا نحو السائق علّه يحظى بورقة مالية يبتاع بها علبة أو علبتين من السجائر ينهي بهما يومه المعهود , لكنه سرعان ما لحظ تلك السيارة تقلع تاركة خلفها إيقاع السب والشتم من حمدون .
    عاد حمدون متنقلا ذهابا وإيابا بين العمودين اللذين ركنا بجانب الرصيف وهو يوقد سيجارته الثانية .
    ولمست عيناه لحن الملل فأخذ يرتاد الأزقة وهو يلملم أطراف دشداشته بينما يطأ مستنقعات المنازل وهو يدندن ( مالگيتك.. دوّرت عنّك ليالي وضيّعت درب المردة .. ومالگيتك ).
    وقبل أن ينهي أغنيته لفت نظره دار الحاج حمزة ذو الباب الكبير والبناء الضخم فأخذ يتمتم مع نفسه ( حمدون .. يجب عليك وضع حارسين لباب قصرك لتأمن شر السراق الذين يتربصون لمثل هذه القصور وخصوصا أنّ من يسكنها من التجار الكبار, يجب عليك ذلك .. يجب عليك ذ.. وقاطعه صوت الأطفال الذي هرولوا خلفه وهم يرددون :
    ( حمدون .. يا مجنون) فتناهت إلى سمعه أصوات الأطفال فأخذ يرقص ويردد :
    ( حمدون .. يا مجنون ) .
    وهوى الليل من ذروة الأفق على رصيف حمدون الذي أتخذه مأوى له منذ زمن بعيد وأخذ يمدّ عليه فراشه الذي التقطه في أحد المرات من إحدى نفايات الأزقة .
    رمى حمدون بجسمه النحيف العليل الذي لم يذق طعم الغسل من سنتين كان أخرها يوم ان تسلل إلى إحدى المغاسل واغتسل وهرب دون أن يعلم به صاحب المغاسل أمّا الآن فقد وضع حارس أمام باب المغاسل وهو يعرف حمدون المجنون حق المعرفة.
    وكلياليه الأخر بات حمدون مسهّدا ورياح الأحلام تهبّ على رماد تفكيره فتنثره وتجعل حمدون يتمتم بكلمات يحاور بها سراب نفسه الضائعة التي أودعت سنين الحنان بفراق والدته المريضة التي كانت كل ما يملك من سنين طفولته الزائفة التي قضاها متسوّلا وحمّالا إلى أن رمت به أعاصير الزمن على أعتاب الجنون .
    رمى بسيجارته على الأرض في ذلك الليل الهادئ الذي تخللته لسعات البرد ووضع رأسه بين رجليه ليتّقي بهما حقد الشتاء وهو يرفع رأسه بين الحين والأخر إلى الشارع المظلم (حمدون .. ستأتي عليك المرسيدس لتأخذ فيها قسطا من الراحة وستأخذ فيها ما شئت من الدوران في المدينة ) .
    كان اسم المرسيدس يؤجج له الغد ويبعث الدفء في أنحاء جسمه المرتجف , قال تلك الكلمات في تلك الليلة التي لم تكن كباقي الليالي التي كان يحلم فيها بالمرسيدس والقصر والزوجة والأطفال .. كانت تلك الكلمات كمن بعث في نفسه إحساس الراحة ودعاه ليغط بنوم عميق .
    ليأتي الصباح وينتشل رجال الإسعاف جثة حمدون التي كانت هامدة لكنها بقيت تنبض بالحلم الذي كان يراه متأرجحا بين عمودي الرصيف ..
    غادرت سيارة الإسعاف المكان وتركت فراشه الممزق الذي كان كل ماورثه من هذه الدنيا مع دشداشته الممزقة .
    وتركت أيضا بجانب الرصيف علبة السجائر التي اكتنفت سيجارة أخيرة كان حمدون قد أودعها لحين وصول المرسيدس .
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    المشاركة الأصلية بواسطة علي حاتم مشاهدة المشاركة
    ألق الجنون

    (القصة التي حازت على المرتبة الثانية في عموم العراق في مهرجان القصة القصيرة بتاريخ 2/3/2008)

    من عالم مزدحم تطوف فيه أحلام شفافة لا تحدث صوتا ولا جلبة كان حمدون يتسلل خارجا تدفع به أحلام لمّاعة ولسعة ريح قارصة وعندما فتح عينيه وجد نفسه مغمورا بجو مزدحم بالناس مابين راجل وراكب وريح الصباح تصفع وجهه بقسوة.
    ندت عنه ضحكة قوية ارتجفت منها حنجرته وأخذ يسعل حتى احمرّ وجهه الأسمر المكسو بطبقة من الأوساخ الذي أنذره بقدوم مرض خطير.
    أخذ يتموج بين حنايا الأرض القذرة وأقدامه العارية لم تكن تسكت ساعة عن التأوّه من آثار الجروح المؤلمة التي هي الأخرى لم تكن تفارق وجهه ذا العينين الغائرتين ورأسه ذا الشعر الخفيف.
    تفحّص دشداشته التي باتت مأوى للحشرات وأخرج علبة سجائر من جيب دشداشته الممزق الذي عادة ما يضيع له تعب يومه من التسوّل .
    أخرج سيجارة واحدة وأرجع العلبة إلى مكانها وهو يهمّ بإشعال السيجارة بينما أحلام اليقظة كانت تترامى لمخيلته واحدة تلو الأخرى .
    أخذ يرمي نظراته الفاحصة إلى الرصيف وهو يهمس في نفسه ( حمدون .. يالك من تاجر غريب تبتاع سيارة فخمة ! ألا تخشى أعين الحاسدين؟!!) .
    قالها وهو يحلّق بنفسه البائسة التي تطاردها قبضات الأحلام القاهرة .
    نفث دخان سيجارته بينما زحفت عيناه نحو سيارة فخمة تنتظر إشارة المرور لتنطلق وبانت على سائقها سيماء الأغنياء فوثب حمدون من مكانه مسرعا نحو السائق علّه يحظى بورقة مالية يبتاع بها علبة أو علبتين من السجائر ينهي بهما يومه المعهود , لكنه سرعان ما لحظ تلك السيارة تقلع تاركة خلفها إيقاع السب والشتم من حمدون .
    عاد حمدون متنقلا ذهابا وإيابا بين العمودين اللذين ركنا بجانب الرصيف وهو يوقد سيجارته الثانية .
    ولمست عيناه لحن الملل فأخذ يرتاد الأزقة وهو يلملم أطراف دشداشته بينما يطأ مستنقعات المنازل وهو يدندن ( مالگيتك.. دوّرت عنّك ليالي وضيّعت درب المردة .. ومالگيتك ).
    وقبل أن ينهي أغنيته لفت نظره دار الحاج حمزة ذو الباب الكبير والبناء الضخم فأخذ يتمتم مع نفسه ( حمدون .. يجب عليك وضع حارسين لباب قصرك لتأمن شر السراق الذين يتربصون لمثل هذه القصور وخصوصا أنّ من يسكنها من التجار الكبار, يجب عليك ذلك .. يجب عليك ذ.. وقاطعه صوت الأطفال الذي هرولوا خلفه وهم يرددون :
    ( حمدون .. يا مجنون) فتناهت إلى سمعه أصوات الأطفال فأخذ يرقص ويردد :
    ( حمدون .. يا مجنون ) .
    وهوى الليل من ذروة الأفق على رصيف حمدون الذي أتخذه مأوى له منذ زمن بعيد وأخذ يمدّ عليه فراشه الذي التقطه في أحد المرات من إحدى نفايات الأزقة .
    رمى حمدون بجسمه النحيف العليل الذي لم يذق طعم الغسل من سنتين كان أخرها يوم ان تسلل إلى إحدى المغاسل واغتسل وهرب دون أن يعلم به صاحب المغاسل أمّا الآن فقد وضع حارس أمام باب المغاسل وهو يعرف حمدون المجنون حق المعرفة.
    وكلياليه الأخر بات حمدون مسهّدا ورياح الأحلام تهبّ على رماد تفكيره فتنثره وتجعل حمدون يتمتم بكلمات يحاور بها سراب نفسه الضائعة التي أودعت سنين الحنان بفراق والدته المريضة التي كانت كل ما يملك من سنين طفولته الزائفة التي قضاها متسوّلا وحمّالا إلى أن رمت به أعاصير الزمن على أعتاب الجنون .
    رمى بسيجارته على الأرض في ذلك الليل الهادئ الذي تخللته لسعات البرد ووضع رأسه بين رجليه ليتّقي بهما حقد الشتاء وهو يرفع رأسه بين الحين والأخر إلى الشارع المظلم (حمدون .. ستأتي عليك المرسيدس لتأخذ فيها قسطا من الراحة وستأخذ فيها ما شئت من الدوران في المدينة ) .
    كان اسم المرسيدس يؤجج له الغد ويبعث الدفء في أنحاء جسمه المرتجف , قال تلك الكلمات في تلك الليلة التي لم تكن كباقي الليالي التي كان يحلم فيها بالمرسيدس والقصر والزوجة والأطفال .. كانت تلك الكلمات كمن بعث في نفسه إحساس الراحة ودعاه ليغط بنوم عميق .
    ليأتي الصباح وينتشل رجال الإسعاف جثة حمدون التي كانت هامدة لكنها بقيت تنبض بالحلم الذي كان يراه متأرجحا بين عمودي الرصيف ..
    غادرت سيارة الإسعاف المكان وتركت فراشه الممزق الذي كان كل ماورثه من هذه الدنيا مع دشداشته الممزقة .
    وتركت أيضا بجانب الرصيف علبة السجائر التي اكتنفت سيجارة أخيرة كان حمدون قد أودعها لحين وصول المرسيدس .

    أديبنا الاستاذ علي حاتم
    حمدون استوطن الفقر وتناوشته الأحلام
    تلك الاحلام هي الحياة بأسرها
    وحين اكتمل حلم الحياة(مرسيدس وقصر وزوجة واطفال)..نام نومة هنيئة ولكنها أبدية ..كمن تقول له يكفي جنونا
    قلمك استاذنا الكريم يستحق الفوز بجدارة لغة وسردا وبناء
    شكرا لهذا النص الرائع
    تحية اجلال واكبار
    مودتي
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • دريسي مولاي عبد الرحمان
      أديب وكاتب
      • 23-08-2008
      • 1049

      #3
      ألق الجنون...جسده حمدون عبر رحلة في الزمكان...وركب رفقة زملائه سفينة الحمقى تلك الأسطورة التي بنى عليها ميشيل فوكو عمله الضخم تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي...
      لغة مؤلمة...رسمت عبر حزنها سيرة المهمشين على أرصفة الطرقات ونهاياتهم التي يمرون بها على هوامش الشارع العربي...
      سررت أخي بالقراءة لك مرة أخرى
      تقبل مروري

      تعليق

      يعمل...
      X