كان معتكفا في أعالي الجبال ، صديقا للفجاج والحيوانات . اعتزل العالم السفلي بضجيجه . تأمل الإنسان وهو يكابد عناء الحياة ، ويتيه في دروب الضياع . آثر العزلة كانسلاخ عن غوغائية قاتلة . تسامى بصوفيته وتقوى بثورةجديدة . كان يقول أن الوقت لم يحن بعد ليزف بشراه لمن يهمهم الأمر ، إلى أن جاء اليوم الموقوت .
لقد علم بتنظيم حفلة فاخرة في ليلة ساهرة ، خيل له أنه مدعو لها. لا يهم . حفلة نظمها حفنة من قطاع طرق وسماسرة ،ويلا الخجل . هم يعتبرون أنفسهم عباقرة . قرر الذهاب لحضور المأدبة . أنواع الأطعمة تتراءى له في مخيلته فيسيل لعابه ، تبددت باستحضار الأيام التي قضاها في أغوار ذاته . بأسمال تلفع وبنبوءات تسلح . بحرقة مشى وخطواته تستحثه. لم يسعفه المسير في البدء . تردد وشعور رجراج يموجه مع حافة الوهم والزعم يعلقه . تثاءب وتثاقل وأخيرا استجمع قواه خوفا من ضياعها في سنوات عزلته . وحرصا على أن لا يقع فريسة لجوعه وظمأه ، تسلل تحت جنح الظلام مسربلا بعزيمته ، مستقويا بحكمته ، ومؤمنا بوجوب أداء رسالته. اقترب من قاعة الحفلات ، أضواؤها أغشته فرد قب جلبابه . سمع غناء ووصلات ، أنخاب كؤوس ، قهقهات . لمح قامات بسكر تنوس واستمالات رؤوس ، وتشمم كحكيم عبق عطور تأسرالنفوس . كأسد هم بالدخول ، مطأطأ الرأس ، مذهولا ، وإذا بالبواب يوقفه ، بكلمات يهينه ..
توقف هناك أيها المتسخ . المكان ليس لأمثالك . انصرف فورا لحالك .
حز في نفسه وقع تلك الكلمات ونصال حادة تخترقه من تلك النظرات ، لأنه لم يسمعها منذ فترات وربما منذ زمان . تراجع للخلف. قررأمرا خطيرا . لقد حانت الساعة . أخرج سيفه ولوح به صافعا صفحة الهواء العابقة بدخان السجائر ورائحة الويسكي ، هدده فتنحى عن طريقه وأطلق البواب ساقيه للريح كحصان خشبي . اقتحم القاعة بصخبها ، كشبح يوشحه السواد المهيب . الأنظار تحدجه بعيون مستغربة، والجفون ترف بذعر بين السكر والصحو، بين اللزوجة والخوف . هرع الحضور أجمعهم إلى الزاوية ، وتقدم هو بخطى واثقة . اتجه نحو منصة المغني ، دفعه جانبا بعد أن نزع منه الميكروفون ، فجأة توقفت الراقصة عن تمايلها وانتبذت ركنا مظلما تستر عورتها . همهمات وعويل ثم صراخ . أشهر سيفه وزمجر قائلا :
اسمعوا أيها اللئام هذه كلماتي سألقيها على مسامعكم ، على صخرة مزاعمكم ، في لجة أغساق آلهتكم ، بين أدخنة أفرانكم، ولكني أطلب منكم بعد سماعها ، أن تتركوا وقعها يعريكم تحت شمسها الحارقة ، و لتتوضؤوا بقطرات نداها . إنها حكمة آتية من القمم الشماء حيث كل ادعاءاتكم رشحتها الغيوم وفضحتها الأعالي لتصبح هراء .
سمع جلبة مشوشة من الزاوية ، وعلا نداء يقول: انزل من هناك أيها المجدف . ألا تعرف أنك تخاطب أسيادك ؟
تجاهل الصوت كأنه لم يسمعه . زأر مرة أخرى . صمت مريب يعم المكان ، ثم استرسل قائلا :
أصبحتم نيرانا تلتهم حتى براعم الأغصان ، وبرماد اشتعالكم ترومون التضاعف . تبحثون عن مريدين جدد ، تذرون هباتكم الدخانية في أوساط الفقراء ، وبين الجوعى والمضطهدين ووسط غوغاء العامة ، في صفوف الشعراء والفقهاء . لكني آسف أيها اللئام ، فلم تعد مائدتكم تغوينا وجداكم يستهوينا . خيراتكم تعتبرونها سخاء وفتات أطعمتكم عطاء ، ولتعلموا أنه بانتفاخ بطونكم ترغبون التخمة ، وللأسف في منتصف الطريق تتقيؤون في العتمة . تلتصق في أنوفكم رائحة الغثيان وتسمعون في منتصف الليل ومن حولكم أصوات الهذيان . كالبالونات تنتفخون هواء وهاأنذا جئت إليكم ، وبمجرد لمسة من قشة سأثقبكم لتصيروا هباء .
صرخ أحد من الأسياد المكومين فزعا : ومن أين أتيت بهذه النبوءات ؟
أجاب الشيخ بوقار حاد : هذه حكمتي المصانة . أبثها في أخلاقكم المهانة . واعلموا أنه حتى عتي الموج يهدأ لما يلامس الصخر ، وحتى دفق السيل ينساب لما يصب في النهر . فهذه ليست نبوءاتي بل هي وحي من كلماتي .
طأطأ الجمع الغفير من الأسياد رؤوسهم ، ندت عنهم أصوات أشبه برغبة في القيء . ادخلوا أصابعهم في أفواههم عسى أن يتخلصوا من زوبعة في بطونهم ، و بدأوا في الانصراف وهم يتزاحمون على الباب .
أما الشيخ فقد كلله الظلام مرة أخرى وتوارى عن الأنظار...
لقد علم بتنظيم حفلة فاخرة في ليلة ساهرة ، خيل له أنه مدعو لها. لا يهم . حفلة نظمها حفنة من قطاع طرق وسماسرة ،ويلا الخجل . هم يعتبرون أنفسهم عباقرة . قرر الذهاب لحضور المأدبة . أنواع الأطعمة تتراءى له في مخيلته فيسيل لعابه ، تبددت باستحضار الأيام التي قضاها في أغوار ذاته . بأسمال تلفع وبنبوءات تسلح . بحرقة مشى وخطواته تستحثه. لم يسعفه المسير في البدء . تردد وشعور رجراج يموجه مع حافة الوهم والزعم يعلقه . تثاءب وتثاقل وأخيرا استجمع قواه خوفا من ضياعها في سنوات عزلته . وحرصا على أن لا يقع فريسة لجوعه وظمأه ، تسلل تحت جنح الظلام مسربلا بعزيمته ، مستقويا بحكمته ، ومؤمنا بوجوب أداء رسالته. اقترب من قاعة الحفلات ، أضواؤها أغشته فرد قب جلبابه . سمع غناء ووصلات ، أنخاب كؤوس ، قهقهات . لمح قامات بسكر تنوس واستمالات رؤوس ، وتشمم كحكيم عبق عطور تأسرالنفوس . كأسد هم بالدخول ، مطأطأ الرأس ، مذهولا ، وإذا بالبواب يوقفه ، بكلمات يهينه ..
قال له
مخاطبا :توقف هناك أيها المتسخ . المكان ليس لأمثالك . انصرف فورا لحالك .
حز في نفسه وقع تلك الكلمات ونصال حادة تخترقه من تلك النظرات ، لأنه لم يسمعها منذ فترات وربما منذ زمان . تراجع للخلف. قررأمرا خطيرا . لقد حانت الساعة . أخرج سيفه ولوح به صافعا صفحة الهواء العابقة بدخان السجائر ورائحة الويسكي ، هدده فتنحى عن طريقه وأطلق البواب ساقيه للريح كحصان خشبي . اقتحم القاعة بصخبها ، كشبح يوشحه السواد المهيب . الأنظار تحدجه بعيون مستغربة، والجفون ترف بذعر بين السكر والصحو، بين اللزوجة والخوف . هرع الحضور أجمعهم إلى الزاوية ، وتقدم هو بخطى واثقة . اتجه نحو منصة المغني ، دفعه جانبا بعد أن نزع منه الميكروفون ، فجأة توقفت الراقصة عن تمايلها وانتبذت ركنا مظلما تستر عورتها . همهمات وعويل ثم صراخ . أشهر سيفه وزمجر قائلا :
اسمعوا أيها اللئام هذه كلماتي سألقيها على مسامعكم ، على صخرة مزاعمكم ، في لجة أغساق آلهتكم ، بين أدخنة أفرانكم، ولكني أطلب منكم بعد سماعها ، أن تتركوا وقعها يعريكم تحت شمسها الحارقة ، و لتتوضؤوا بقطرات نداها . إنها حكمة آتية من القمم الشماء حيث كل ادعاءاتكم رشحتها الغيوم وفضحتها الأعالي لتصبح هراء .
سمع جلبة مشوشة من الزاوية ، وعلا نداء يقول: انزل من هناك أيها المجدف . ألا تعرف أنك تخاطب أسيادك ؟
تجاهل الصوت كأنه لم يسمعه . زأر مرة أخرى . صمت مريب يعم المكان ، ثم استرسل قائلا :
أصبحتم نيرانا تلتهم حتى براعم الأغصان ، وبرماد اشتعالكم ترومون التضاعف . تبحثون عن مريدين جدد ، تذرون هباتكم الدخانية في أوساط الفقراء ، وبين الجوعى والمضطهدين ووسط غوغاء العامة ، في صفوف الشعراء والفقهاء . لكني آسف أيها اللئام ، فلم تعد مائدتكم تغوينا وجداكم يستهوينا . خيراتكم تعتبرونها سخاء وفتات أطعمتكم عطاء ، ولتعلموا أنه بانتفاخ بطونكم ترغبون التخمة ، وللأسف في منتصف الطريق تتقيؤون في العتمة . تلتصق في أنوفكم رائحة الغثيان وتسمعون في منتصف الليل ومن حولكم أصوات الهذيان . كالبالونات تنتفخون هواء وهاأنذا جئت إليكم ، وبمجرد لمسة من قشة سأثقبكم لتصيروا هباء .
صرخ أحد من الأسياد المكومين فزعا : ومن أين أتيت بهذه النبوءات ؟
أجاب الشيخ بوقار حاد : هذه حكمتي المصانة . أبثها في أخلاقكم المهانة . واعلموا أنه حتى عتي الموج يهدأ لما يلامس الصخر ، وحتى دفق السيل ينساب لما يصب في النهر . فهذه ليست نبوءاتي بل هي وحي من كلماتي .
طأطأ الجمع الغفير من الأسياد رؤوسهم ، ندت عنهم أصوات أشبه برغبة في القيء . ادخلوا أصابعهم في أفواههم عسى أن يتخلصوا من زوبعة في بطونهم ، و بدأوا في الانصراف وهم يتزاحمون على الباب .
أما الشيخ فقد كلله الظلام مرة أخرى وتوارى عن الأنظار...
دريسي مولاي عبد الرحمان
المغرب
نبوءة : نص ضمن مجموعتي القصصية التي هي قيد الطبع
تعليق