رحلتي في بلاد الفرنجة الأمريكية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. توفيق حلمي
    أديب وكاتب
    • 16-05-2007
    • 864

    رحلتي في بلاد الفرنجة الأمريكية

    رحلتي في بلاد الفرنجة الأمريكية
    منذ ردح من الزمن قررت السفر إلى بلاد الفرنجة الأمريكية ، في رحلة ترفيهية ، بعد أن حصلت على درجة الماجستير والتي بذلت من أجل الحصول عليها جهداً جهيداً ، وكانت أول شهادة عليا أحصل عليها بعد البكالوريوس. وكان السفر إلى تلك البلاد في ذلك الوقت سهلاً يسيراً ، فليس هناك تهمة إرهاب أو إرعاب أو حجاب أو انضمام للقاعدة أو الواقفة. هبطت الطائرة في مطار لوس أنجلوس بعد سفر شاق ، غير أن ضباط أمن المطار قد ارتابوا في أمري ، فقد كنت أحمل حقيبة يد (سامسونيت) فقط دون أي حقائب أخرى. كان السؤال الذي قرأته في أعين ضباط الأمن ، ما هذا الشاب الذي أتي من القاهرة عن طريق باريس ، ويدخل أمريكا لأول مرة ، في رحلة سياحية وغقامة لمدة ثلاثة أشهر ، بدون شركة سياحة ،وليس معه غير حقيبة يد صغيرة مكدسة بملابس نومه وماكينة حلاقة فقط ؟!! أفهمتهم أني كنت أعلم أن الرحلة المتصلة ستقتضي الهبوط في عدة مطارات قبل الوصول إلى لوس أنجلس ، ففضلت عدم الانشغال بنقل الحقائب من مطار لمطار ، علاوة على اني سأشتري كل ما أريد من هنا. لم يقتنعوا وكان أول ما فعلوه أن أخذوا الحقيبة وراحوا يفتشونها بدقة وتركيز شديد ، ويطرقون بأصابعهم عليها من كل جانب ، ويمررونها في أجهزة اشعة إكس ، وفوق البنفسجية ، والحمراء والخضراء وباقي الألوان.
    ولكن الأمر الذي أصابني بالدهشة هو أنهم لم يقدموا على تفتيشي ذاتياً وهو الأمر البديهي في مثل هذه الأحوال ، ولكنني قلت في نفسي ، إن المعنى في بطن الشاعر ، ولله في أمره شؤون !! فلو كان ذلك في أحد مطارات الدول العربية لعرفت لون عظامي !! وأخيراً سمحوا لي بالخروج من المطار بعد أن احتفظوا بمكان إقامتي وتفاصيل تحركاتي التي أعزم عليها في رحلتي السياحية منفرداً !!
    قضيت هناك شهراً كاملاً ، ولم أدع مزاراً سياحياً في كاليفورنيا لم أزره ، وفي مقدمة ذلك ستوديوهات يونيفرسال في هوليوود ، وديزني لاند وشارع النجوم ، وكوبري جولدن جيت في سان فرانسيسكو ، وغير ذلك ، فما شعرت بانبهار ولا غيره ، إنما هي أجهزة الإعلام التي تضخم الأمور ، وشارع الأزهر عندي له قيمة أكثر من كل ما رأيته هناك. غير أن أعجب ما رأيته هو البيت المقلوب ، وهو بيت قامت ببنائه في القرن التاسع عشر أرملة ثري أمريكية كانت تخاف خوفاً شديداً من العفاريت ، وعليه اختارت تصميماً عجيباً لبيتها. فالمنزل مائل بدرجات متفاوته من جانب إلى جانب ، وجميع الحجرات مقلوبة راساً على عقب ، فتجد أن السقف عليه رسم الأرضية ومعلق بها أثاث وغيره ، وهناك نفس الأثاث فوق الأرضية ، والحمامات كذلك أيضاً. والأرضية والأسقف كلها مائلة بحيث تقع إن لم تكن على حذر ، والمنزل كله دهاليز كالمتاهة ، وليس فيه طريق مستقيم بل كلها انحناءت ملتوية بدرجات متفاوتة. وكان الغرض من هذا التصميم هو (لخبطة) العفاريت ، وإصابتهم بالخوف والحيرة فيفرون من البيت ولا يدلفون إليه مرة أخرى !!!
    وتخيلت لو أن تلك الأرملة الأمريكية كانت تعيش في القاهرة ، لنهب ثروتها فطاحل ومعلمين وهوانم حلقات الزار والعمل والحجاب ، بل وأدمنت على قراءة الكف والفنجان !!! حتى تصبح وهي لا تجد ثمن البن !!
    وما تذكرت تلك الرحلة في غابر الزمان إلا عندما قرأت مقال (عولمة باللحمة المفرومة) لأخي الفاضل وعالمنا الجليل محمد الموجي ، والذي وقع في حيص بيص وهو يقرأ (مينو) المطعم ولم يستطع ترجمة كلمة واحدة. كان الأمر بالنسبة لي في بلاد الفرنجة الأمريكية كذلك ، فقد كنت خارج الفنادق هنا وهناك طيلة اليوم ولا أعود إليها إلا للنوم ، وكنت على جهل شديد بالأطعمة الأمريكية وما أكثر المطاعم هناك. استقر رأيي على أن أختار وجبة واحدة رئيسية أتعرف عليها وأكررها كل يوم ، ولا أخاطر باختيار غيرها !! وحالفني الحظ أن تعجبني أول وجبة أختارها ، وكانت في مطعم بمدينة ديزني لاند اسمه (ماكدونالد) ! وكان هذا الاسم غريباً في هذا الوقت فلم تكن تلك المطاعم قد انتشرت في البلاد العربية بعد. كانت الوجبة هي (ساندوتش بيج ماك) أي ماك الكبير ! ويتكون من ثلاثة أدوار من العيش المستدير كالبرج وبين كل دور ودور (كامخ) وأشياء أخرى لم أتبين أصلها أو فصلها ، وعرفت أن هذا الكامخ اسمه (برجر). كان طعم هذه الوجبة لا يقارن بأي طعام ذقته في مصر قبل ذلك ، حتى ولو كان أنجر كباب ساعة المغرب في رمضان ومعه أنجر أم علي. اعتبرت أن هذا( البيج ماك) أحد أطعمة أهل الجنة بلا شك ، لحلاوته وطلاوته ولذاذته ، حيث كان يذوب في الفم مثل غزل البنات أو الشيكولاته ، ويجعلك تحس بالشبع الشديد الذي لا جوع بعده ، وكنت أدعوا دائماً بعد
    تناول كل ساندوتش وأقول (اللهم اسقني من الكوثر) ، وكيف لا ولم يتبق لي من أركان السعادة إلا الشهادة ودخول الجنة وشرب ماء الكوثر !! وتخيلت لو أن المعلم متقال رأى هذا السندوتش لما اقتنع به وأضاف له عدة أقراص من الباذنجان وعدة بيضات وقرنين شطة وفحل بصل ، ليمهد به لوجبة فطوره.
    عدت إلى مصر ولا أفتقد شيئاً في بلاد الفرنجة غير (البيج ماك) وكأنني أدمنته ، وكنت اترحم عليه من حين لآخر. وبعد سنوات قليلة تم افتتاح فرع لمطعم ماكدونالد في القاهرة ، وكان هذا أسعد خبر سمعته في حياتي ، وكنت هناك يوم الافتتاح طبعاً ولم أتأخر عنه دقيقة واحدة. وطلبت البيج ماك ، فأعطوني شيئاً ليس كما (البيج ماك) الذي أعرفه ، فهو أصغر حجماً من جميع النواحي ، وطابقان فقط وليس ثلاثة طوابق. ووجدت مذاقه مختلفاً تماماً ، بحيث أنني لم أكمله ، كأنه سندوتش فول بايت من عربة على ناصية زقاق كل واشكر ،المتفرع من حارة الأمراء ، المتفرعة من شارع سد الحنك بمصر المحروسة. لم أتردد وذهبت لمدير المطعم أستفسر منه عن سبب اختلاف الطعم ، وهل هذا المطعم فرع من محلات ماكدونالد الأمريكية حقاً ؟ وجاءتني الإجابة مفزعة مذهلة كاسحة ماحقة مزلزلة ، إذ اخبرني مدير المطعم ببساطة شديدة أنهم بالفعل فرع من المطعم الأمريكي ماكدونالد ، ولكنهم هنا يغيرون في مكونات الساندوتش ليتلائم مع طبيعة الشعب المصري ، وبالتالي فليس في مكونات ماكدونالد المصري شحم الخنزير وهو من المكونات الرئيسية في الساندوتش الأمريكي مما يعطيه حجماً أكبر منفوشاً وطعماً دسماً !!!!!!!!
    أمسكت بكرسي قريب حتى لا أقع على الأرض، ولم اعلق إلا بجملة واحدة وهي (يالهوي ، يانهار اسود) ، مصيبة طبعاً ، وكم كلفتني هذه المصيبة حتى أكفر عنها. غير أنني قررت مقاطعة بلاد الفرنجة وخاصة الأمريكية مدى الحياة ، غضباً وتبرماً وحرصاً على عدم تكرار هذه الكارثة ، وليحيا الساندوتش المصري ولو كان فيه مخلوقات الله جميعاً طائرة أو زاحفة ، ومن زقاق المغص والحمى.
    ولكنني عدت مرات ومرات إلى بلاد الفرنجة رغماً عن أنفي لكي أحضر المؤتمرات والحلقات العلمية في طريق العلم الشاق والذي لا مسار له في زمننا إلا عندهم ، والأمر لله فقد مات ابن سينا وابن الهيثم وصحبهم . ولكني كنت دائماً أحمل طعامي معي وأعود إلى مصر بأسرع وقت ممكن ، سوى في رحلة واحدة لم أحمل فيها معي طعاماً ، عندما ذهبت إلى بلاد الفرنجة الأمريكية مرغماً أيضاً فقد كنت أعلم أن طعامي هناك لن يكون به لحم أو شحم خنزير هذه المرة بالتأكيد ، فليس في المحاليل الوريدية أثراً للخنزير أو غيره ، فقد كانت رحلتي للعلاج.
    وشاء الله أن يكون الشفاء في بلاد البيج ماك والخنازير بشحمها ولحمها !!
يعمل...
X