حين كنت أعدّ لأطروحة الدكتوراه، اقترح عليّ أحد المحامين دراسة ظاهرة إحدى الراقصات التي تستخدم الإغراء حين ترقص وحين تمثّل، وقد اتخذت لها اسماً يناسب ممارساتها الدائمة.
ولأن للبحث الأكاديمي حرمته وقواعده، بقيت الفكرة مجرد موضوع للدعابة، وبخاصة أن الراقصة موضوع البحث قد اندثرت بعد حين.
بعد أعوام ظهر كتاب طريف لأحد المحامين في مصر، يدرس فيه تلك الظاهرة تحت عنوان (زمن فيفي عبده) احتوى الكتاب على مجموعة إحصائيات ووقائع فعلية، لكنه لم ير امتداد الظاهرة في العمق وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية.
ماقبل ذيل السنة بقليل مرت على إحدى الفضائيات واحدة من الراقصات اللواتي يمثّلن هذا التيار الخطير.
وقفت برهة أتأمل (الضحك على الذقون) الذي تمارسه الراقصة بدلع لايخلو من سماجة، وأصغي إلى صراخها وممازحتها للجمهور بطريقة تشبه (تشقلب) السعدان وصراخ القردة.
وغدا اليوم كما الأمس، تتعزز فيه مقولة (عولمية) معاصرة في زمانين رديئين، تهزّ الواحدة منهن العالم بقدمها، وتثير عواطف جمهورها بالأخرى، بدلاً من (الأم) الجليلة التي تهزّ العالم باليد التي تهزّ السرير لتعدّ العلماء والقادة الفاتحين.
ويبدو أن السياسة الأمريكية المعاصرة قد استفادت من هذه الظاهرة وراحت تتمثّلها بحيث لم يعد بإمكاننا الحكم على سياستها بمنطق العقل وقوانين الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، وإنما نكتفي بمواجهة قراراتها بخفّة تشبه تلك التي نراقب فيها ألعاب السيرك.
وقد يبدو هذا اللعب المكشوف على الحبال، وهزّ الخصر، مجرد جنحة لاتستدعي الاهتمام إذا قورنت بالعهر السياسي الذي تمارسه الصهيونية العالمية والكيان القابع في قلب الوطن العربي مثل شوكة في العين.
والأمرّ من ذلك هو بعض (الزعماء) العرب، وأشباه المثقفين الذي يرون في (هزّ الخصر) نوعاً من الفن، ويسوّغه بعضهم بأنه فن مفيد لتفريغ شحناتنا الداخلية كي نتجاوز الأزمات.
فإلى أين يسير العالم .. أيها الخصر الوفير؟!
الحاوي والحاوية والأمّـة
شيء ما في داخلي يقول لي: ياولد .. كفاك عبثاً ولهاثاً .. مهما عانيت كي تقفز إلى الصفوف الأمامية، فإنّ ذلك لايجديك.. ولهذا أسمّيك عابثاً مثل قطّة تحلم بالطيران. الطريق أمامك مسدودة ولا مجال لتسلّق السلّم الاجتماعي. فأضحك عليه وعلى نفسي وأجيبه:
لاشك أنك مبعوث الشيطان، أو أنك مدفوع من قوىً معادية تهدف إلى تثبيط الهمم من خلال تحطيم أحلامنا كي نستسلم لعبثيّة لاترحم.
ولكنَّ هذا الذي في داخلي لايستسلم لاتّهاماتي، بل ينظر إليَّ بطرف عينه هازئاً: أيها المدعو جمال طحّان.. ياصديقي اللدود.. ألم تتعب بعد من تعرية المفاسد، ومن الدعوة إلى المساواة وتكافؤ الفرص؟ ألم تضجر من سذاجة المطالبة بأن يكون الثواب على قدْر العمل؟ ألم يَئِن الأوان كي تفهم اللعبة فتلعب على الحبال مثل الحواة الذين ترى أنّهم يتصدّرون المحافل لأنهم أتقنوا الازدواجية فمارسوا التملّق، وأمسوا يطالبون بالمشاركة وهم يمارسون السطوة، يُظهرون التهذيب ويمضون في الرذيلة، يمنحون القليل في العلن ليستولوا على الكثير في الخفاء…
شيء ما في داخلي يلكزني كي أكفّ عن التفاؤل بغدٍ مشرق قريب.. ويحثّني على الندم لأنني اخترت طريق المثقّفين الصعب، وطريق الكتابة الذي تحفّ به الأشواك من كل جانب.
شيء ما في داخلي يدفعني إلى الإقرار بأن العلم لايُطعم خبزاً، ولا يأمن صاحبه من جوع ولا خوف. شيء ما في داخلي يفجعني بي متسائلاً : ماجدوى ماتؤمن به وما تحمله من أفكار، وما جدوى ماتعلمه مادمت غير قادر على إيصاله إلى الآخرين كي يتحوّل إلى عمل. الأظافر التي تعتني بها دائماً كي تنشبها في مستنقعات التعفّن لم تعد تجدي لأنّها أدمنت التقليم بدعوى الصراحة القاسية، والمباشرة الفجّة، والعين الوقحة التي تريد أن تقاوم المخرز. شيء ما في داخلي يحاكمني أمامي ويدينني متحدّياً : هل تستطيع حقّاً أن تكتب من الفكر والقلب متجاهلاً موقف الناشر الذي يخاف ممّا يصدر عنهما؟ وإذا فعلت، هل يجرؤ فيوافق على كيّ جراح الأمة كي تلتئم، أم يراعي حرصه على الراتب من خلال انصياعه لرقيب داخلي شرس لاوجود له في الواقع، فيؤوّل كلّ ماتكتبه إلى شأن سياسي، ويحيل كلّ ماتكتبه من الفكر والقلب إلى علبة القمامة وهو ينظر حوله ليتأكّد من أن أحداً لم يضبطه وهو يقرأ كلاماً صريحاً لاينقذ الأمّة سواه ؟
شيء ما في داخلي يتمنّى أن يتغيّر عنوان زاوية (من الفكر والقلب) التي نطالعها في الصحيفة كلَّ صباح لتمسي (كلاماً في كلام)، وإلاّ فلنحكّم ضمائرنا ونقول مايجب أن يُقال قبل أن يفني الخوف الزائف بقايا الأمة التي نحرص على عودتها "خير أمّة أخرجت للناس" وفق قاعدة راسخة (لايصلح آخرها إلاّ بما صلُح به أوّلها) من (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من غير أن نخاف في الحق لومة لائم. فهل من مستجيب ؟
شيء ما في داخلي يقول لي: ياولد .. كفاك عبثاً ولهاثاً .. مهما عانيت كي تقفز إلى الصفوف الأمامية، فإنّ ذلك لايجديك.. ولهذا أسمّيك عابثاً مثل قطّة تحلم بالطيران. الطريق أمامك مسدودة ولا مجال لتسلّق السلّم الاجتماعي. فأضحك عليه وعلى نفسي وأجيبه:
لاشك أنك مبعوث الشيطان، أو أنك مدفوع من قوىً معادية تهدف إلى تثبيط الهمم من خلال تحطيم أحلامنا كي نستسلم لعبثيّة لاترحم.
ولكنَّ هذا الذي في داخلي لايستسلم لاتّهاماتي، بل ينظر إليَّ بطرف عينه هازئاً: أيها المدعو جمال طحّان.. ياصديقي اللدود.. ألم تتعب بعد من تعرية المفاسد، ومن الدعوة إلى المساواة وتكافؤ الفرص؟ ألم تضجر من سذاجة المطالبة بأن يكون الثواب على قدْر العمل؟ ألم يَئِن الأوان كي تفهم اللعبة فتلعب على الحبال مثل الحواة الذين ترى أنّهم يتصدّرون المحافل لأنهم أتقنوا الازدواجية فمارسوا التملّق، وأمسوا يطالبون بالمشاركة وهم يمارسون السطوة، يُظهرون التهذيب ويمضون في الرذيلة، يمنحون القليل في العلن ليستولوا على الكثير في الخفاء…
شيء ما في داخلي يلكزني كي أكفّ عن التفاؤل بغدٍ مشرق قريب.. ويحثّني على الندم لأنني اخترت طريق المثقّفين الصعب، وطريق الكتابة الذي تحفّ به الأشواك من كل جانب.
شيء ما في داخلي يدفعني إلى الإقرار بأن العلم لايُطعم خبزاً، ولا يأمن صاحبه من جوع ولا خوف. شيء ما في داخلي يفجعني بي متسائلاً : ماجدوى ماتؤمن به وما تحمله من أفكار، وما جدوى ماتعلمه مادمت غير قادر على إيصاله إلى الآخرين كي يتحوّل إلى عمل. الأظافر التي تعتني بها دائماً كي تنشبها في مستنقعات التعفّن لم تعد تجدي لأنّها أدمنت التقليم بدعوى الصراحة القاسية، والمباشرة الفجّة، والعين الوقحة التي تريد أن تقاوم المخرز. شيء ما في داخلي يحاكمني أمامي ويدينني متحدّياً : هل تستطيع حقّاً أن تكتب من الفكر والقلب متجاهلاً موقف الناشر الذي يخاف ممّا يصدر عنهما؟ وإذا فعلت، هل يجرؤ فيوافق على كيّ جراح الأمة كي تلتئم، أم يراعي حرصه على الراتب من خلال انصياعه لرقيب داخلي شرس لاوجود له في الواقع، فيؤوّل كلّ ماتكتبه إلى شأن سياسي، ويحيل كلّ ماتكتبه من الفكر والقلب إلى علبة القمامة وهو ينظر حوله ليتأكّد من أن أحداً لم يضبطه وهو يقرأ كلاماً صريحاً لاينقذ الأمّة سواه ؟
شيء ما في داخلي يتمنّى أن يتغيّر عنوان زاوية (من الفكر والقلب) التي نطالعها في الصحيفة كلَّ صباح لتمسي (كلاماً في كلام)، وإلاّ فلنحكّم ضمائرنا ونقول مايجب أن يُقال قبل أن يفني الخوف الزائف بقايا الأمة التي نحرص على عودتها "خير أمّة أخرجت للناس" وفق قاعدة راسخة (لايصلح آخرها إلاّ بما صلُح به أوّلها) من (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من غير أن نخاف في الحق لومة لائم. فهل من مستجيب ؟