تجريب يوسف إدريس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    تجريب يوسف إدريس

    تجريب يوسف إدريس

    الوجه الملازم لأصالة الكتابة عند يوسف إدريس هو التجريب الذي يمضي الكاتب في فضائه دون قيد أو شرط إلا قيد الحرص على أصالته, وشرط تجذير هويته الإبداعية التي هي منطلق تفرده.
    يبدو في حالة يوسف إدريس - كما لو كان التجريب هو القانون الذي يلتزم به الكاتب, ولا يتخلى عنه, في كل مراحله المتعاقبة أو متغيراته الأفقية, ساعيا به - في كل مرة - إلى الوصول بالكتابة إلى أنضر وجه محتمل من الصياغة, وأعمق تأثير ممكن في القارئ, واصلا بين حيوية فعل التجديد في كل حالة والمساءلة المتجددة للذات والواقع والكتابة. ولذلك, لم يسجن يوسف إدريس وعيه أو كتابته في نمط إبداعي أو فكري واحد, ولم يستعبده مذهب أدبي أو فكري إلى الدرجة التي تنقلب بالإبداع إلى اتّباع, بل ظل, دائما - شأنه في ذلك شأن المبدعين الاستثنائيين - متأبيا على القوالب الثابتة للفكر, متمردا على التقاليد الثابتة للإبداع, مؤمنا بأن الإبداع هو الحركة المتحررة في الحياة والكتابة, وهو الوصل المستمر بين الكتابة والحياة في معنى التحرر, لكن بالمعنى الذي صاغته كلماته التي تقول: (الأنا الحقيقية تتحرر في الكتابة فحسب, وفي لحظة من لحظات الكتابة التي أحس فيها أنني نفسي فعلا. لذلك, لا أستطيع أن أكتب إلا حين ألغي العالم كله, وأنصهر في الأنا الكل, وبالطبع ليس سهلا الوصول إلى هذه الحالة. هذه ليست عزلة, إنها الاتصال الحقيقي والصادق بالحياة).
    وإذا جاز لي تفسير كلمات يوسف إدريس في سياق كتابته, واصلا بين كل مجالات هذه الكتابة, فإن معنى الاتصال بالحياة هو الاتصال المستمر بجوهرها الخلاق الذي هو رغبة التحول الدائم من مبدأ الواقع إلى مبدأ الرغبة, وفرض مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع بما يثير طاقات التجدد ويحفزها على الإبداع المستمر في كل مجال, الإبداع الذي يناقض السكون, ويرفض الاستنامة إلى قاعدة, أو الاستكانة إلى مبدأ, أو الخضوع الدائم لزعيم أو عقيدة فكرية. ولذلك, كان نوع أبطال يوسف إدريس من المثقفين - في قصصه ومسرحه - نوع البطل الإشكالي الذي لا يكف عن الصدام مع العالم ومع نفسه على السواء, فهو بطل يخرج على القاعدة, ويتمرد على العرف, ولا يستكين إلى مذهب أو قائد, ولا يكف عن وضع كل شيء موضع المساءلة, وذلك إلى الدرجة التي جعل من أسئلته علامة على حضوره, وإشارة إلى أنه يتناول كل شيء - ابتداء من حضوره الذاتي - بوصفه وضعا في حالة صنع, وأفقا مفتوحا يظل في حاجة إلى الكشف.
    وما يتصف به البطل (المثقف وغير المثقف) في كتابة يوسف إدريس تتصف به الكتابة التي آثرها, فهي كتابة لا تهدأ في البحث عن تقنيات جديدة, ولا تستكين إلى أي قوالب جاهزة,وترفض المسكوكات النقدية التي تختزلها في هذا الاتجاه الأدبي أو ذاك التيار الفكري. إنها كتابة هاجسها التحول الذي تمضي معه تعاقبيا في التنقل ما بين تقنيات قد تنتسب في كل مرحلة إلى تيار بعينه, وتمضي أفقيا أو آنيا في التبدل الذي ينفي انتسابها الضيق إلى حدود (التيار) أو (المذهب) الواحد في أي مرحلة من المراحل. صحيح أن كتابة يوسف إدريس بدأت واقعية, وظلت حريصة على ملامسة الواقع والغوص في تضاريسه, ولكن بما أبعدها عن معنى الواقعية الجامد, وانتقل بها ما بين تجليات ما بعد واقعية, تجليات تباعدت عمدا عن واقعية المذهب لتغوص في تفاصيل الواقع المعيش بما يحرره أو يثير رغبة الثورة عليه.
    ضد الوعي الزائف
    ونتيجة ذلك صعوبة اختزال كتابة يوسف إدريس في مذهب أدبي أحادي البعد, تماما كما يصعب اختزال يوسف إدريس نفسه في انتماء فكري محدد, فكتابته كتابة يناسبها أن نصفها بأنها كتابة ضد الأيديولوجيا, أي ضد الوعي الزائف, والتصنيف السهل, والبعد الواحد, واليقين الذي لا يخامره الشك, وصلف الفكرة التي تقترن بتصلب الوعي. ولذلك, كانت خلافات يوسف إدريس (المثقف) مع أصدقائه الماركسيين بوجه خاص, أو اليساريين بوجه عام, كثيرة, صاغتها - في ذروة من ذرى المواقف الحياتية - رواية (البيضاء) التي كانت محاولة إبداعية لمساءلة معنى (الهوية) في الفن والفكر, وكذلك معنى الالتزام الإبداعي والسياسي. وكانت خلافات يوسف إدريس الكاتب مع النظام السياسي متجددة, حتى في لحظات التقارب الفكري, فهي خلافات مصدرها الصراع الحتمي بين مبدأ: ليس في الإمكان أبدع مما كان, والمبدأ النقيض الذي لا يرى لإمكانات التقدم أو التطور نهاية أو حدا, ويرفض الاستكانة إلى أي تبرير يفرض السكوت أو الثبات أو القيود على فكر الفرد أو حركة الطليعة الاجتماعية. وبالقدر نفسه, كان الصدام المستمر حتميا بين كتابة يوسف إدريس ورموز الأصولية الدينية التي أخذت تتزايد, ويتصاعد إيقاع خطابها القمعي وفعلها الإرهابي منذ السبعينيات الساداتية. وهو صدام صاغته المقالات كتابة مباشرة, كما صاغته الأعمال الإبداعية كتابة غير مباشرة, هي معادلات موضوعية وموازيات رمزية, ناوشت التكوينات الفكرية والآليات العملية للسلوك الإرهابي, حتى في المعتقلات, مؤكدة بأكثر من دلالة رفض التصلب الفكري والتعصب الاعتقادي, وإدانة خطاب القمع الذي ينتقل من الإرهاب المعنوي إلى الاستئصال المادي.
    وتردني هذه النتيجة إلى الأصل الذي تولّدت عنه فيما يتصل بغائية فعل التجريب في كتابة يوسف إدريس, فهو فعل لا يبحث عن التغيير لمجرد الاستطراف, ولا تتبدل أحواله حسب الموضات, ولا تتغير به التقنيات على نحو مجاني أو عشوائي, وإنما على نحو مقصود وغاية مرتبطة بطبيعة رؤية العالم الكامنة وراء تغير الأساليب والتقنيات, والمتسمة بالتغير الذي يباعد بينها والثبات, والذي يجعل من علاقتها بأشكالها علاقة جدلية, يسهم فيها كل طرف في متغيرات قرينه, على مدى الامتداد الزمني لكل أنواع الكتابة إلى النهاية.
    ولو شئنا, من هذا المنظور, أن نصف كتابة يوسف إدريس منذ أن نشر قصته الأولى التي لفتت الأنظار إليه في جريدة المصري, فإن العنصر الثابت الدائم في هذه الكتابة هو عنصر التجريب المستمر. لقد بدأ بداية واقعية كما قلت, نحا فيها منحى تشيكوفيًا, غير بعيد عن التأثر بالكاتب الروسي أنطون تشيكوف الذي كان طبيبا مثله, ولكن تأثره لم ينته به إلى التقليد, وإنما إلى الموازاة التي تؤكد الإبداع لا الاتِّباع. ولذلك, سرعان ما انتقل إلى محاولة المزج بين المنحى التشيكوفي وصياغة الجمل القصيرة المتدافعة, وذلك في أسلوب أقرب إلى أسلوب هيمنجواي الكتابي, أو ما يوصف بأنه أسلوب جبل الثلج العائم الذي لا يبدو منه على سطح الماء إلا أصغر أجزائه, كالجمل التي تتدافع عارية من الزخرفة اللفظية أو المجازية, حاملة دلالات تتولد عنها دلالات كثيرة, تتزايد كلما أمعنا في تأملها. وانتقل يوسف إدريس من أسلوب جبل الثلج العائم إلى الكتابة الرمزية التي تتعدد فيها الدلالات, ويشف الرمز عن المرموز إليه على نحو لا يخلو من الالتباس, ولكنه الالتباس الذي لا يصل إلى درجة التعمية, وإنما إلى درجة الإفادة من مراحل الدوال المصاحبة لحركة الرمز على امتداد سياق السرد. وكما قاد اتساع الرؤيا إلى ضيق العبارة, في الكتابة الرمزية التي لا تخلو من تأمل إيحاءات (المرتبة المقعرة) أو فحيح أصوات (بيت من لحم), فإن هذه الكتابة انقلبت إلى نوع من التمثيل الكنائي, أو الأليجوريا التي يمكن أن تومئ إلى المعنى المحتبس, أو الدلالة المقموعة, أو الموضوع الذي لا يمكن التصريح به, وذلك على نحو ما فعلته اللغة القصصية المحملة بالرفض السياسي في أعمال من مثل (حمّال الكراسي) أو (العملية الكبرى) أو (الجمل) أو (أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور) وغيرها.
    الغوص في طبقات الشعور
    وما بين المنحى التشيكوفي ومنحى التمثيل الكنائي, ظل الحرص على استبطان مشاعر الأبطال قائما, لا يختلف عن رغبة الكتابة العارمة في الغوص عميقا, داخل طبقات الشعور واللاشعور التي تنطوي عليها الحالات النفسية للشخصية. وبدل وصف الشخصيات من الخارج, والحكاية عنها بمفردات الراوي العارف بكل شيء, كان الميل الغالب هو إنطاق الشخصيات نفسها بما يبين عن أعماقها, أو الغوص في هذه الأعماق ووصفها على نحو دقيق لا يخلو من نزوع تحليلي لا يترك شاردة أو واردة إلا استوعبها كتابة. ولذلك ضاقت المساحة الزمانية المكانية للحدث, في القصة القصيرة, والرواية إلى حد كبير, واتسعت - مقابل ذلك - المساحة المخصصة للزمن الشعوري والتداعيات النفسية للمكان. واتجه السرد في القص اتجاها رأسيا أكثر منه أفقيا, اتجاها يغوص إلى أعماق الشخصية في لحظة الفعل الذي تمارسه في زمن ميقاتي محدود, كاشفا عن أزمانها الشعورية غير المحدودة, وعن دوافعها المركبة غير المنظورة, كما لو كانت أحوال الشخصية النفسية كيانات قابلة للتشريح الذي يبين عن كل شيء, ويسعى إلى تعرف أصل الفعل أو السلوك أو الموقف, في أناة وصبر, وبواسطة تحليل دقيق لتموجات المشاعر في كل تفاصيلها وتقلباتها وتعارضاتها وصراعاتها. والنتيجة هي السرد الذي يغوص رأسيا إلى أبعد نقطة في الشعور, متحركا ما بين نقطة بداية ونقطة نهاية محدودة وقصيرة في زمنها الميقاتي غير محدودة في زمنها الشعوري.
    ويمكن لقارئ إدريس أن يسترجع المسافة الزمنية القصيرة التي يتحدد بحدودها فعل عميد الكلية, في قصة (حال تلبس) من مجموعة (لغة الآي آي) ابتداء من اللحظة التي رأى فيها طالبة لا تتعدى السابعة عشرة بأي حال, تجلس مسترخية, وتدخن بكل بساطة سيجارة تمتصها بمزاج,وانتهاء باللحظة التي قرر فيها العميد استدعاء الطالبة وعقابها, والمسافة الخارجية بين اللحظتين لا تجاوز الدقائق المعدودة, وقد لا تستغرق دقيقتين, ولكن المسافة الداخلية لرحلة الغوص في الطبقات الشعورية لعميد الكلية طويلة, تجاوز الأيام الى الشهور والأعوام, وتصل ما بين الطفل الذي ولد وتربى في سوهاج, والرجل الذي تثيره طريقة التدخين التي ينطوي وصفها على إيحاءات جنسية, والعميد الممزق فكريا بين الشرق والغرب, ورغبة التحرر وواقع الاستسلام إلى الجمود داخل المثقف العربي بوجه عام, وتصارع ذلك كله بما ينتهي بالعميد إلى قرار العقاب الذي يبدو فوريا, لكنه ناتج عن عشرات التفاصيل الشعورية التي نكتشفها ونحن نمضي بعيدا, وطويلا, مع حركة الغوص السردي رأسيا في عمق اللحظة الزمنية القصيرة. بل بالغة القصر, على مستوى السطح الخارجي لتعاقب الزمن الميقاتي.
    تحولات أفقية ورأسية
    ولكن حتى هذه الخاصية المقترنة بالغوص الرأسي للسرد, مراوحة ما بين لغة الراوي العارف بكل شيء, أو لغة البطل المتكلم في نجوى الذات أو تداعيات الشعور, لا تظل ثابتة, أو باقية, وإنما تزاحمها في سياقات, وتزيحها في سياقات مقابلة, خاصيات سردية مغايرة, خاصيات لا تقترن بالغوص السردي رأسيا في طبقات الشعور, بل تغامر في نزوعها التجريبي بمايؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة, تقنيات تستبدل بالتعيين التجريد, وبالتخصيص التعميم, والوصف الخارجي بالاستبطان الداخلي, ومن ثم الاستعارة الرمزية الموجزة بالكناية الواقعية المسهبة, وباللغة النثرية التي لا تخلو من العامية, اللغة الشعرية المكثفة. هكذا, يختلف سرد قصة (أرخص ليالي) الخمسينيات عن سرد (لغة الآي آي) في الستينيات, عن سرد (المرتبة المقعرة) في السبعينيات, أو سرد (العتب على النظر) في الثمانينيات.
    ولا تقع المغايرة على مستوى التعاقب في هذا السياق, كما لو كان الأمر أمر مغايرة لتعاقب تحولات مقترنة بمراحل زمنية متتابعة, وإنما تقع في داخل كل عقد زماني, أو كل مرحلة على حدة, فهي مغايرة أفقية ورأسية في آن. ودليل ذلك أن الكاتب الذي كتب قصة (نظرة) في الخمسينيات هو نفسه الذي كتب قصة (طبلية من السماء و(شيخوخة بدون جنون) في الخمسينيات نفسها. وهو ذاته الذي كتب (فوق حدود العقل) و(أكبر الكبائر) و(مسحوق الهمس) و(النداهة) و(حمال الكراسي) و(حلقات النحاس الناعمة) أو (دستورك يا سيدة) في الستينيات نفسها.وقس على ذلك (المرتبة المقعرة) و(حلاوة الروح و(على ورق سلوفان) و(بيت من لحم) في السبعينيات, أو (يموت الزمار) و(السيجار) و(العتب على النظر) أو(أمه) في الثمانينيات. والدرجة العالية من المغايرة الواقعة بين التقنيات في هذه الأمثلة تشبه التقلب اللافت ما بين الأساليب, خصوصا من حيث الدلالة على الحضور المستمر لمبدأ الفعل التجريبي في كتابة يوسف إدريس القصصية.
    تجريب في القصة والمسرح
    ويصعب التمييز في مجال التجريب بين ما فعله إدريس في مجال القصة القصيرة أو مجال المسرح, ففعل التجريب يبسط نفسه على المجالين معا, لا يتمايز في هذا عن ذاك, الأمر الذي يؤكد نزوعا أساسيا عند القاص الذي رفض تقبل أشكال القصة على نحو ما وجدها عليه, والكاتب المسرحي الذي تأبّى على الشكل التقليدي في المسرح واستهل شكلا جديدا, أنتج (الفرافير) و(المهزلة الأرضية) وغيرها من المسرحيات التي لا تزال تجذب إليها الانتباه بحرصها على معنى الاحتفالية والفرجة.
    و(الفرافير) بنية حوارية, مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور والممثلين في إنتاج العمل المسرحي دون حواجز وهمية تفصل بين المشاهدين والمؤدين, وذلك إلى الحد الذي يسقط (الحائط الرابع) الذي يعزل الممثلين عن الجمهور, وينتقل بالجمهور من أحوال التلقي السلبي إلى أفعال التلقي الإيجابي الذي يقترن بالمشاركة الفعالة باعتبارهم وحدة واحدة. وإذا كان على الجمهور أن يسهم في العرض بالتعليق, داخل البنية الحوارية للعرض, على نحو ما يحدث في (السامر) الشعبي, فإن الممثل الذي يلعب دور (الفرفور) ينبغي ألا يندمج في الدور بحيث ينسى جمهوره, بل عليه أن يقسم وعيه بين الدور والموقف والانفعال من ناحية والجمهور من ناحية ثانية, ذلك لأن (الفرفور) لا يمثل وعيه الفردي حين يؤدي (المونولوج) الخاص به, أو ينطق الجمل المكتوبة له في النص. وإنما هو تمثيل لوعي غيره من النماذج المشابهة, وما يفعله أداءً هو اختبار هذا الوعي مع غيره الذين يشبهونه أو يختلفون عنه. وما يقال عن (الفرافير) بوجه خاص يقال عن المسرح كما يتصوره يوسف إدريس بوجه عام, وذلك من حيث صياغة أداء درامي لا يعتمد على مخاطبة الشعور الفردي للكائن وسط الجماعة, وإنما على مخاطبة الشعور الكلي للجماعة المنبعث من بين أفرادها. وذلك هو مصدر الفرق الذي يميز (الفرافير) حتى عن التقاليد الملحمية التي أسسها الكاتب الألماني برتولد بريخت في المسرح العالمي.
    ولا يعني ذلك أن يوسف إدريس لم يتأثر بتقنيات الكتابة المسرحية عند بريخت, فالثابت أنه تفاعل معها, وتأثر بالكتابات النظرية لبريخت عن الأورجان الجديد الذي تصوره للمسرح.
    خصائص الفرفور
    ويتطلب هذا الشكل المسرحي ضرورة وجود درجة عالية المرونة والحيوية والتلقائية عند الممثل, وذلك بما يعينه على الاستجابة الفورية لتقلب أحوال علاقته مع الجمهور, أو تقلب أحوال الجمهور في استجابتهم إليه, فيغدو مستعدا للتعديل الفوري للنص حسب الإشارات الواصلة إليه. هكذا, يتأنى الممثّل (الفرفوري) أو يسرع أو يتوقف, أو حتى يضيف كلمة أو أكثر إلى النص, مرتجلا من حركات الجسد ولغته ما يستجيب على الفور إلى متغيرات المشاهدين أو حتى تعليقاتهم وتدخلاتهم التي هي حقهم في الفعل الحواري للعرض. وإذ يؤكد يوسف إدريس أن لشعبنا طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء, واصلا بين ميراثه الشعبي وعملية تأصيله المسرح, فإنه يؤكد أن على الممثل أن يرى المواقف بعينه وعيون كل الجمهور المحتشد لمشاهدته على السواء, وذلك في أداء يهدف إلى أن يحدث تغييرا كبيرا من طريقة التمثيل نفسها, فلا يصبح الأداء خطابة رصينة مثل مونولوجات جورج أبيض أو يوسف وهبي المشهورة, أو همسًا متهافتا في هشاشته, وإنما جمل حوارية, يمكن أن تكون همسا له وقع الخطب الرنانة التي تتلقفها الأذن كأنها الهمس.
    وفرفور يوسف إدريس خفيف الدم. واحد من القلة القليلة الدالة في نموذجيتها ونمطيتها على أبطال يوسف إدريس من ناحية, وعلى الشخصية المصرية من ناحية ثانية, فهو شخصية لا يكف لسانها عن (سلخ) الأوضاع والآخرين والأصدقاء ونفسها وكل شيء, مزيج مركب من (أحمد المجلس البلدي) ومن (الشيخ علي) و(البرعي) و(محمد) و(أبو الهول) و(الجندي) في قصص يوسف إدريس القصيرة ورواياته. هذا المزيج الذي تتكون منه شخصية تنتزع الضحك من الآخرين أو البسمة, وتجبرهم على الإنصات إليها, يجتمع في إنسان عادي تماما, ولكنه يختلف عن أقرانه في أن له رأيا في كل شيء, وفي أنه يلح على أن يوصل رأيه, بواسطة السخرية أو التعقيب الماكر, أو النكتة التي تروض الجبابرة, أو الفهلوة التي تجد حلولا عجيبة للمواقف التي قد تبدو مستحيلة. ومهما ضحكنا أو ابتسمنا لسخرية هذا (الفرفور) الذي قابلنا بعض صفاته في قصص يوسف إدريس, قبل أن يقابلنا حضوره الكامل في المسرحية التي حملت اسمه, فإننا لا نستطيع أن ننسى الأثر الذي تحدثه كلماته في النفس, فهي كلمات تهدم وتبني النفوس, وتوخز الأرباب وتسقط عنها الأقنعة الكاذبة, وذلك في الوقت الذي تخلع عنا أردية المَلَق أو النفاق أو الخوف. وما أسرع أن يتحول هذا الفرفور إلى قناع مسرحي, ينطق من خلاله الكاتب الذي يسخر حتى من نفسه, وكأنه انعكاس للفرفور الذي يتبادل معه الصنع, ويحتج معه على الفساد الاجتماعي والسياسي, محاورا المشاهدين الذين هو منهم والذين هم إياه بأكثر من معنى, صارخا فيهم بعباراته الكاشفة, قبيل إغلاق الستار:
    (شوفو لنا حل, حل يا ناس, حل يا هوه.. لازم فيه حل.. لا بد فيه حل.. مش عشاني أنا.. عشانكم أنتم).
    وهي عبارات تكشف عن الصوت المختفي وراء قناع (الفرفور) والذي اختفى وراء قناع آخر في (المخططين) ليصرخ في كل من حوله من المشاهدين, مؤكدا وجه اختلاف حتى في دائرة مشابهته, قائلا: (أنا كافر بخطوطكم وأبيضكم وأسودكم, أنا العالم بتاعي, العالم اللي بيناديني وبحلم بيه عالم تاني خالص. أنا لا يمكن أن أخدع نفسي, وأضحك عليها. لا يمكن أخدع الناس اللي برا دول وأكدب عليهم).
    وتلك عبارات دالة على مغزاها السياسي والاجتماعي في الوقت نفسه. وتحدد نوعية قائلها أو كاتبها, خصوصا من حيث هوية كتابته التي لا يمكن أن تخدع الناس أو تكذب عليهم, بل تبشرهم بعالم آخر يُجاوز عالمهم المنحدر, وتدفعهم إليه دفعا يصل إلى درجة التحريض. وحين تؤكد هذه العبارات حضورها التصوري والتقني, في تجاوب الموقف والأداة, فإنها تؤكد أن تغيير حياة الناس وتثويرها لا يمكن أن يتم إلا بتغيير علاقات إنتاج الفن الذي يخاطبهم وتثويرها. ومن هذا المنظور, كان تأصيل الكتابة الجديدة في القصة والمسرح, والبحث الدائم عن هوية متميزة لها, سواء في علاقتها بواقعها الذي تنقض تخلفه أو علاقتها بالآخر الذي ترفض تقليده أو اتِّباعه.
    قالبنا المسرحي
    وكما كانت قصص يوسف إدريس بداية لعهد جديد من الكتابة, ترك علاماته في الأجيال التي جاءت بعده, وبرزت هذه العلامات ابتداء من الستينيات, متناثرة في كتابات أبناء الجيل الذي تمثَّل كتابة يوسف إدريس وأعاد إنتاج تقنياتها في أشكال عديدة تومئ إلى أصلها, مؤكدة دين كتاب الستينيات للآفاق التي رادها يوسف إدريس, والأساليب التي ابتدعها, والتقاليد الموجبة التي أسسها, فإن مسرحياته كان لها الأثر نفسه, كما كان للبيانات النظرية التي كتبها, والتي سبقت مسرحياته أو واكبتها أثر على الأجيال اللاحقة بل على الجيل السابق عليه. ولذلك, كان تأصيل يوسف إدريس لفن المسرح, إذا شئنا التخصيص, افتتاحا لبداية جديدة في تأصيل المسرح العربي كله. ودليل ذلك أنه بعد ظهور مقالاته في مجلة (الكاتب) بعنوان (نحو مسرح مصري) بأعوام قليلة, أصدر توفيق الحكيم كتابه (قالبنا المسرحي) عام 1967 ليصل بالأطروحة التي بدأها يوسف إدريس إلى مداها الطبيعي, ويطرح على نفسه السؤال: هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي أو نستحدث لنا قالبا وشكلا مسرحيا مستخرجا من داخل أرضنا وباطن تراثنا? ويؤكد الحكيم أن الأمر ممكن بالعودة إلى التراث, وتطوير الوظيفة التي كان السابقون يقدمون بها الحكواتي والمقلداتي. وإذا كان يوسف إدريس قد دعا إلى الإفادة من مسرح السامر الشعبي فإن الحكيم يدعو إلى تجاوز مسرح السامر إلى ما هو أوسع منه, ولكن الأكثر أهمية عند الحكيم أن يكون القالب المسرحي العربي قابلا لأن يكون وعاء يحتوي غيره. يقصد إلى أن الشرط الأساسي للقالب العربي هو أن يستطيع الأوربيون, بدورهم, هم وغيرهم من مؤلفي العالم, أن يصبوا في هذا القالب أفكارهم وموضوعاتهم, شريطة المحافظة على أساس فلسفة هذا القالب التي تختلف عن فلسفة القالب الأوربي, وهي أنه يقوم على فكرة (التقليد) وليس على فكرة (التمثيل) و(التقليد) هو الأداء (الفرفوري) الذي يقوم به (الحكواتي) من وجهة نظر توفيق الحكيم. أما (التمثيل) فهو الأداء الذي يقوم على المحاكاة في أصولها الأرسطية وقواعدها التي تجعل من العمل الدرامي موازاة مستقلة للواقع المنفصل عنها, والذي تسعى هي إلى التباعد عنه لمعرفته عبر حائط وهمي يفصلها عن جمهوره.
    وبعد الحكيم بعام واحد, مضى على الراعي بأطروحة يوسف إدريس إلى أفق مغاير في دراسته لدور (الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري). وكان ذلك في كتاب الهلال الذي صدر عام 1968, حيث يشير الراعي إلى المحاولات المواكبة, والموازية, التي حملت الدعوة نفسها في الوطن العربي كله. وكان صدور كتاب الراعي علامة على تحقق الهدف من التأصيل الذي صاغه يوسف إدريس, واختبره تجريبيا في مسرحه, فدفع الآخرين إلى الحوار مع تأصيله النظري وتأصيله التجريبي, والبدء منه إلى ما يمكن أن يفضي إليه من نتائج موازية


    جابر عصفور

    sigpic
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    رد: تجريب يوسف إدريس

    حديث عن الحرية...


    لقد تمتع "يوسف إدريس" بسمات شخصية كان على رأسها الإقدام والجسارة والجرأة، ولم تختلف صفحات قصصه ورواياته كثيرا عن تلك السمة المميزة لصفحة شخصيته، فاتسمت هي الأخرى بالجسارة، فهو من أصحاب الأقلام الحرة، على الرغم من أنه ظهر في مرحلة تجلّى القمع فيها في أسوأ صوره، من تكميم لأفواه المبدعين، وسحق لآدميتهم، وتشريد الداعين للحرية بطردهم من وظائفهم، أو سجنهم، أو التنكيل بهم.. إلا أنه بين كل هذه الألغام في طريق الكلمة الصادقة الحرة عمل دائما على أن يقول ما يريد وقتما يريد، وبعد أن فرح بالثورة وأخذ بجانب بدايته كطبيب في القصر العيني –حينها- يهتم بكتابة إبداعاته القصصية حتى وصل لأن يكون مسئول القسم الأدبي بمجلة روزاليوسف، سرعان ما بدأ انتقاده لرجال الثورة وسياسة "عبد الناصر"، الأمر الذي أدى به عام 1954 إلى السجن، مما جعله يعتبر نفسه في النهاية لم ينل حريته التي تمكنه من قول كل شيء.. بل بعضا من كل شيء؛ فنراه يتكلم عن هذه الحرية المفقودة ويقول:
    "إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً لممارسة فعل كتابته بالجسارة التي يحلم بها".

    وعن هذه النفس الإنسانية المتوقدة داخل يوسف إدريس يقول د. "جابر عصفور": "كان "يوسف إدريس" واعياً بالأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي تحول بين المبدعين وممارسة جسارتهم الإبداعية إلى المدى الذي يعصف بالمحرمات التي كادت تشمل كل شيء، والممنوعات التي يتسع مداها بالقدر الذي يتسع به مدى الاستبداد والتسلط مقروناً بالتعصب والتطرف على كل مستوى من المستويات. وأغلب الظن أن "يوسف إدريس" كان واعياً بمعنى من المعاني بالجذور القديمة والأصول الراسخة للقمع في تراثنا، تلك الجذور والأصول التي أودت بحياة الكثيرين من المبدعين على امتداد العصور".

    القصة بين الواقعية والعامية:

    تميزت القصة عند "يوسف إدريس" بالواقعية، حيث أخذ يصور الحياة اليومية ولاسيما للمهمشين من طبقات المجتمع، كما أنه جنح إلى استخدام العامية في قصصه، وإلى استخدام لغة سهلة بسيطة، وكان يرى أن الفصحى لا يمكن أن تعبر عن توجهات الشعب وطموحاته، كما أن الحوار يعد ركنا هاما من أركان القصة عنده، ويمثل جزءا من التطور الدرامي للشخصيات، والتي غالبا ما كانت من البسطاء الذين يصارعون من أجل الصمود أمام مشاق الحياة، ولعل في الظروف التي كان يعيشها الشعب المصري حينها، وضغط الفقر والحرمان من أبسط حقوقه الإنسانية ما يفسر اتجاه كاتبنا نحو هذا النوع من الأبطال في قصصه ومن الأسلوب الذي اتخذه للتعبير عنهم من خلال الحوار والذي جاء لتقريب ما يدور داخل شخصياته من تصعيد نفسي وتصعيد للأحداث.

    عمد "يوسف" إلى التكثيف والتركيز في قصصه القصيرة حتى كان يقول عن تعمده هذا المنحى: "إن الهدف الذي أسعى إليه هو أن أكثف في خمس وأربعين كلمة.. أي في جملة واحدة تقريبا- الكمية القصوى الممكنة من الإحساس، باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات". وعليه فقد كان "يوسف إدريس" يعتبر الإيجاز في القصة القصيرة من أهم الخصائص الأسلوبية التي على الكاتب أن يناضل من أجل تحقيقها، وفي ذلك يقول: "فالقصة القصيرة أكثر الأشكال الأدبية إيجازا فعبارة "أهلا حمادة" تشبه القنبلة الذرية في صغرها وفعاليتها ومع ذلك فهذه القنبلة يمكن تصنيعها-فقط-على أيدي أناس ذوي موهبة"

    "يوسف" و"نجيب".. وجائزة نوبل

    رغم أن "يوسف" إدريس حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 66، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 91، إلا أن كثيرا من اللغط والأحاديث دارت حول أنه تحسر لأنه لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب... وسوف نقترب من هذا الأمر بحذر شديد، فالحقيقة تؤكد أن هذا الرجل بصرف النظر عن حصوله عليها من عدمه وبصرف النظر عما تردد حول أنه عرض عليه جائزة نوبل مناصفة مع كاتب يهودي فرفض.. فسواء كانت هذه الواقعة حقيقية أم لا، فالمؤكد والثابت أنه قد استطاع أن يصل بأدبه للعالمية حيث ترجمت أعماله لكثير من اللغات، ونالت استحسانا عالميا..

    أما عن "نجيب محفوظ" فالثابت أيضا في أكثر من تصريح له أنه شهد ليوسف بالتفرد في الإبداع وأنه طالما تكلم عن "يوسف إدريس" وقال:"هو ملك القصة القصيرة".

    ومن الذي تم جمعه من الأقوال المتناثرة ليوسف حول هذه الجائزة نذكر لكم قوله:
    "تعال إلي جائزة نوبل مثلاً. فهي ترى في أية كتابة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية أو يهودية إسرائيلية أو روسية منشقة أعمالاً عظيمة تستحق التقدير العالمي.. أمَّا الكتابة العربية فلا".

    وقوله:
    "كذلك الإلحاح علي ضرورة أن ينال أديب عربي جائزة نوبل. فإنه يعني أننا نحتاج إلي اعتراف الغرب بنا. وهذه كارثة. إن الدول العربية تستطيع أن تنشئ جائزة أكبر من جائزة نوبل. وتهديها سنوياً لأكبر أديب في العالم سواء كان عربياً أو لم يكن".

    وقوله:
    "إنني أنا يوسف إدريس اعتقد أن الأدب العربي هو الحركة الأدبية الأولي في العالم قبل أدب أمريكا اللاتينية. هناك كتّاب عظام في أمريكا اللاتينية أما الحركة الأدبية فهي حركة الأدب العربي. إنها أعظم حركة في العالم الآن. أقولها بمنتهي الإحساس بالمسئولية من خلال قراءتي ورحلاتي واشتراكي في ندوات متخصصة عالمية. المشكلة لدي البعض أن الغرب لا يعترف لنا بذلك. حسنا. ولكن البعض الآخر يساعد الغرب علي ذلك".

    ربما حزن "يوسف إدريس" على أنه لم يحصل على هذه الجائزة، وربما لم يحزن لذلك كما تشهد أقواله وأعماله بأنه ليس في حاجة لأن يأخذ اعترافا غربيا قد يشوبه شيء من الخلط بين الفكر الأدبي والاتجاهات السياسية.. وعلى أية حال فإننا لا نعتقد أنه حزن لأن "نجيب محفوظ" هو الذي حصل عليها كما يدعي البعض، وإن كان حسم هذه الأمور التي تتعلق بالنوايا والمشاعر أمر صعب، والخوض فيه بمنطق الإثبات أو النفي يكاد يكون أمرا غير محسوم، إلا أننا نفضل أن نحسن الظن بالآخرين وخاصة إذا كان هذا الآخر رجل بقامة وإنسانية "يوسف إدريس".. في حين أن الذي حصل عليها هو أديب مبدع يستحقها مثل "نجيب محفوظ".. ولنقف تقديرا لكليهما ونقول "رحم الله الأديبين الكبيرين"..

    "يوسف".. والسينما:

    أخرجت السينما المصرية عن أعماله الإبداعية ( 11) فيلماً ومن هذه الأفلام:

    لا وقت للحب عام 1963، عن رواية "يوسف إدريس" (قصة حب) الصادرة عام 1957.

    الحرام عام 1965، عن روايته (الحرام) الصادرة عام 1959.

    العيب عام 1967، عن روايته (العيب) الصادرة عام 1962.

    حادثة شرف عام 1971 ، عن قصته (حادثة شرف) من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه.

    النداهة عام 1975، عن قصته (النداهة) من مجموعته التي تحمل العنوان نفسه.

    ورق سيلوفان عام 1975، عن قصته (ورق سيلوفان) من مجموعته (بيت من لحم) الصادرة في العام 1971.

    أهم أعمال "يوسف إدريس" الإبداعية:


    الأعمال المسرحية:
    ملك القطن
    جمهورية فرحات
    اللحظة الحرجة
    الجنس الثالث
    المخططين
    البهلوان

    القصة القصيرة:
    بيت من لحم
    لغة الآي أي
    العتب على النظر
    أقلتها
    قاع المدينة
    النداهة
    رجال وثيران
    حادثة شرف
    آخر الدنيا
    أرخص ليالي

    وفي الرواية:
    العسكري الأسود
    العيب
    الحرام
    البيضاء

    بقي أن نشير إلى أنه أتجه للصحافة في سنوات عمره الأخيرة ليكتب المقال بشكل منتظم في جريدة الأهرام والذي جاء مطبوعا بفكره وشخصيته وآرائه الحرة الجريئة في العديد من قضايانا الثقافية والاجتماعية والسياسية، حتى فارق الحياة في 1 أغسطس1991.

    فما الذي أعجبك من أعمال هذا
    الرجل؟ وهل يستحق لقب ملك القصة القصيرة؟

    منقول
    sigpic

    تعليق

    • ربيع عقب الباب
      مستشار أدبي
      طائر النورس
      • 29-07-2008
      • 25792

      #3
      رد: تجريب يوسف إدريس

      لعله من باب تحصيل الحاصل، الإقرار بالمكانة التي يتبوؤها يوسف ادريس، كأحد الأعمدة الأساسية في صرح الثقافة العربية، يشفع له في ذلك مساهماته المتعددة في أكثر من مجال ابتداء من القصة القصيرة، ومرورا بالكتابة المسرحية، وانتهاء بالرواية، علاوة على إسهاماته الصحفية بكم من المقالات السياسية على امتداد تاريخه النضالي والإبداعي فقد كان الرجل مثيرا للجدل، نتيجة للقضايا الشائكة التي خاض فيها، ولجرأتـه في تناولها، وقد جاء كتاب الإبداع القصصي عند يوسف ادريس “لتسليط الأضواء الكاشفة على هذه الشخصية الأدبية المتميزة، وذلك من خلال تتبع مسارها الفكري والإبداعي والنضالي. بل والوقوف عند أهم محطات تكوينها الشخصي،كإنسان أولا ثم كمبدع-ثانيا-له رصيد يتعذر عن الحصر.. ولقد كان الكتاب بحق جامعا ومانعا.
      ولعل ذلك ما حدا بمترجمه “رفعت سلام” أن يقيمه بما يلي “يمتد (الكتاب) لمحاولة فهم ما وراء الأعمال الأدبية، نشأة القصة في مصر، وتطورها إلى أن وصلت إلى يد يوسف إدريس، ووعيه الفكري وانتماءاته السياسية وتحولاته، وحتى تأثير الكتابة الصحافية وممارسته الطبية على كتابته القصة القصيرة” ص:6.
      ومما أضفى قيمة خاصة على الكتاب ذلك الجهد المضني الذي بذله المؤلف من أجل حصر جل، إن لم نقل كل إسهامات يوسف إدريس في بيبليوجرافيا غنية، في حيز من الصفحات يصل إلى ستين صفحة. وينطلق مؤلف الكتاب من محاولة التأصيل للقصة القصيرة في مصر حيث يرى أن بدايتها ارتبطت بالترجمة، مما يعني أنها اقتباس ثقافي من الغرب، وقد تمثلت هذه الترجمة على الخصوص في إبداعات “دي. موبسان” و”تشيكوف” واعتبر الكاتب قصة “ما تراه العيون” لمحمد تيمور والتي نشرتها “السفور” سنة 1917 نقطة الانطلاق الحقيقية للقصة المصرية، كما تعتبر رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل المنشورة سنة 1913 أول رواية مصرية.
      وبعد مناقشته لحيثيات البداية يتوقف طويل عندما يسمى ب “المدرسة الحديثة” التي تأثرت،إلى أبعد الحدود، في انتاجاتها القصصية، بالأدب الروسي وخاصة فيما يتعلق بميول الروح الانسانية التي كانت الميزة اللافتة لكتابات “تولستوي” و”ديستويفسكي” و”جوركي” وغيرهم وقد غلبت على أعضاء “المدرسة الحديثة” السمة الواقعية، بما تعنيه من فضح للفوارق الطبقية والجهل والظلم الاجتماعي..ولعل هذا ما حدا بهم الى تخليص النص القصصي من الصيغة الرومانسية، وبطبيعة الحال انعكس توجه المدرسة الواقعي على اللغة بحيث جعلتها قريبة جدا من الواقع، وخاصة فيما يتعلق بالحوار،الذي غلب فيه أعضاؤها اللهجة العامية، حتى يكون،حسب رأيهم- أكثر صدقا وتعبيرا.
      ويرى المؤلف أن يوسف ادريس كان بحق، الوريث الشرعي للمدرسة الحديثة، إذ حمل أهم قيمها، ودافع عنها من خلال ابداعاته وسجلاته الفكرية، وانتصر للعامية بل ولم يخف استخفافه باللغة الفصيحة وقد تأثر-مثل أعضاء المدرسة الحديثة- بكتابات الأدباء الروس وخاصة “تشيكوف” و”جوركي” و”ديستويفسكي” كما أنه تشيع للواقعية ليرى أن دور الأديب هو مراقبة الحياة وكشف حقائقها.
      وفي فصل شيق توقف المؤلف عند حياة يوسف ادريس الذي ولد في 19 مايو 1927، فأبرز أهم المحطات التي أثرت في حياته، فنعرف من خلالها يوسف الصغير الذي عانى من حياة مضطربة وغير مستقرة في الريف المصري، مما سيبصم مستقبلا جل ابداعاته وفي مرحلة الشباب تميز يوسف ادريس بالحيوية فقد انضم الى النضالات الطلابية في كلية الطب وسط أجواء اتسمت بالتوتر السياسي والاجتماعي في مصر..وبما أنه كان يساري التوجه، فقد اغتبط اغتباطا كبيرا بثورة الضباط الأحرار سنة 1952 تلك السنة التي كان فيها يوسف ادريس قد بدأ تدريبه الطبي في القصر العيني وفي نفس الوقت أخذ يكرس حياته، جديا، للكتابة الابداعية وكانت قصته الأولى “النظرة” مبشرة بموهبة كاتب واعد..توالت قصصه، فيما بعد، حتى أصبح مسؤولا عن القسم الأدبي بمجلة “روز يوسف” لكن ما يجدر بالملاحظة في هذه الفترة إن شهر عسله مع الثورة لم يدم طويلا إذ أن سرعان ما أخذ يوجه انتقاداته لسياسة عبد الناصر مما أدى الى أن يزج به في السجن سنة 1954، وقد اتسمت فيما بعد العلاقة بينه وبين النظام الناصري بحالة من الشد والجذب..نشر يوسف ادريس مجموعته القصصية الأولى “أرخص ليالي” عام 1954، وبعد ذلك عرفت النور روايته الأولى “قصة حب” ولم يمض وقت طويل حتى قدم نفسه ككاتب مسرحي بكتابته لمسرحيتين “ملك القطن” و”جمهورية فرحات” ولقد تقلد يوسف ادريس مجموعة من المهام في مساره العملي محاولا الموازاة بين مهنته كطبيب وابداعاته الأدبية ولعل أهم الانتكاسات التي أصيب بها الكاتب وأثرت بعمق في حياته تتمثل في أمرين مهمين: إصابته بمرض القلب، وهزيمة 1967 وإذا انتقلنا الى الجانب الذي يهمنا أكثر في الكتاب وأعني به مسار يوسف ادريس الابداعي، فيمكن الوقوف على مصادر التأثير في ثقافته، وتتجلى بالخصوص في اطلاعه على الأدب العالمي وخاصة الروسي وبعض الكتاب الفرنسيين والانجليز، دون اغفال قراءته للأدب الآسيوي ممثلا في “طاغور” وبعض الكتاب الصينيين والكوريين واليابانيين ويلاحظ المؤلف تأثير مهنة الطب على الكاتب بشكل واضح فأجواء الأطباء والممرضين والمرضى تبرز واضحة في جل ابداعاته.
      ومما يستحق التسجيل في هذا الصدد ضعف ثقافة ادريس التراثية العربية. إذ كان، ومنذ نعومة أظافره يلمس في نفسه نفورا من الثقافة الكلاسيكية العربية وخاصة الشكل المحبط الذي تقدم به.
      وقد يصلح لفظ “العصامي” الى حد كبير لاطلاقه على يوسف ادريس فقد تدرج في تمرين نفسه على الكتابة القصصية وتعلم بالخبرة كما يقول المؤلف، أن أول جملة هي ذات أهمية كبرى للنجاح النهائي للقصة كلها وأما الهدف الذي كان يسعى إليه دوما، وهو يمخر عباب التجربة الإبداعية، فيتجلى في اقتصاد التعبير يقول يوسف ادريس “إن الهدف الذي أسعى إليه هو أكثف في خمس وأربعين كلمة أي في جملة واحدة تقريبا الكمية القصوى الممكنة من الاحساس، باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات” ص70. وعليه فقد كان يوسف ادريس يعتبر الايجاز في القصة القصيرة من أهم الخصائص الأسلوبية التي على الكاتب أن يناضل من أجل تحقيقها، وفي ذلك يقول “فالقصة القصيرة أكثر الأشكال الأدبية إيجازا تشبه القنبلة الذرية في صغرها وفعاليتها ومع ذلك فهذه القنبلة يمكن تصنيعها-فقط-على أيدي أناس ذوي موهبة” ص75.
      ويتميز أسلوب يوسف ادريس بالواقعية ممثلا كما يرى المؤلف في الأصداء الاجتماعية، واختفاء الصبغة الرومانسية، وثراء التفاصيل الواقعية، والبنية المتوازية، واللغة السلسة المتدفقة التي تحذو حذو الأنماط العالمية في تركيب الجملة والمفردات و الاقتصاد في التعبير” ص113، هذا فضلا على استخدام أسلوب التوازي في بناء الجملة ونمط التعبيرات الساخرة ومما أثر على أسلوب يوسف ادريس سلبيا في كثير من القصص-كما يرى المؤلف-ارتباطه بموقف ايديولوجي محدد مما أدى إلى إضعاف من القيمة الفنية لبعض قصصه فادريس كان كاتبا ملتزما يؤمن بأن للكاتب رسالة لابد أن يؤديها منسجما مع قوله إن “القصة لاقيمة لها في ذاتها، فالإنسان، الحب، الحياة، هم المسائل الأساسية إن القصة توفر التعبير عن القيم ورسالة الحياة وطالما أن الكاتب لم يستكمل إخلاصه، فسوف يعبر عن نفسه دائما بطريقة جافة ومتلعثمة” ص73.
      وإذا كانت مهنته كطبيب أفادته كثيرا في أدبه، فعلى العكس من ذلك، أثرت ممارسته للصحافة سلبا على إبداعاته فأصبحت بتأثير منها بعض قصصه “تخطيطات صحفية من نمط اليوميات” ص148.
      وبالوقوف عند لغة يوسف ادريس يمكن أن نسجل أن قناعاته الايديولوجية أثرت على موقفه من اللغة بحيث أنه عمد إلى العامية في الحوار، دون أن يتحمس للفصحى التي-حسب رأيه-لا يمكن أن تعبر عن توجهات الشعب وطموحاته، وقد شكل الحوار-تبعا لذلك-جزءا من التطور الدرامي للشخصيات الذين هم في الغالب-في قصصه-معزولون، يحاربون من أجل الصمود أمام مصاعب الحياة والتي غالبا ما تقهرهم.
      وأخيرا لعل هذه الوقفة العجلى عند كتاب الابداع القصصي عند يوسف ادريس تظهر بجلاء أهمية هذا الكتاب الذي يخصص للإحاطة بشمولية وتدقيق بكاتب عربي وهذا ما كرس الباحث “ب.م كربرشويك” جهده للقيام به، وبالفعل لقد تحقق له ذلك من خلال هذا المؤلف الذي يستحق عناء القراءة المتفحصة والمتأنية، نظرا لكم المعلومات التي يحتويها والقدرة على التحليل والاستنتاج التي تواكب صفحات الكتاب من أوله إلى آخره.

      *ب.م كربرشويك-الابداع القصصي عند يوسف ادريس-ترجمة: رفعت سلام-دار سعاد الصباح-الطبعة الأولى-1993-
      sigpic

      تعليق

      • مجدي السماك
        أديب وقاص
        • 23-10-2007
        • 600

        #4
        رد: تجريب يوسف إدريس

        الرائع ربيع عقب الباب..تحياتي
        لا كلام بعد هذا الذي قلته. سأكتفي بالقول ما اروعك..ولو مؤقتا.
        مودتي
        عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

        تعليق

        • دريسي مولاي عبد الرحمان
          أديب وكاتب
          • 23-08-2008
          • 1049

          #5
          رد: تجريب يوسف إدريس

          المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
          تجريب يوسف إدريس


          الوجه الملازم لأصالة الكتابة عند يوسف إدريس هو التجريب الذي يمضي الكاتب في فضائه دون قيد أو شرط إلا قيد الحرص على أصالته, وشرط تجذير هويته الإبداعية التي هي منطلق تفرده.
          يبدو في حالة يوسف إدريس - كما لو كان التجريب هو القانون الذي يلتزم به الكاتب, ولا يتخلى عنه, في كل مراحله المتعاقبة أو متغيراته الأفقية, ساعيا به - في كل مرة - إلى الوصول بالكتابة إلى أنضر وجه محتمل من الصياغة, وأعمق تأثير ممكن في القارئ, واصلا بين حيوية فعل التجديد في كل حالة والمساءلة المتجددة للذات والواقع والكتابة. ولذلك, لم يسجن يوسف إدريس وعيه أو كتابته في نمط إبداعي أو فكري واحد, ولم يستعبده مذهب أدبي أو فكري إلى الدرجة التي تنقلب بالإبداع إلى اتّباع, بل ظل, دائما - شأنه في ذلك شأن المبدعين الاستثنائيين - متأبيا على القوالب الثابتة للفكر, متمردا على التقاليد الثابتة للإبداع, مؤمنا بأن الإبداع هو الحركة المتحررة في الحياة والكتابة, وهو الوصل المستمر بين الكتابة والحياة في معنى التحرر, لكن بالمعنى الذي صاغته كلماته التي تقول: (الأنا الحقيقية تتحرر في الكتابة فحسب, وفي لحظة من لحظات الكتابة التي أحس فيها أنني نفسي فعلا. لذلك, لا أستطيع أن أكتب إلا حين ألغي العالم كله, وأنصهر في الأنا الكل, وبالطبع ليس سهلا الوصول إلى هذه الحالة. هذه ليست عزلة, إنها الاتصال الحقيقي والصادق بالحياة).
          وإذا جاز لي تفسير كلمات يوسف إدريس في سياق كتابته, واصلا بين كل مجالات هذه الكتابة, فإن معنى الاتصال بالحياة هو الاتصال المستمر بجوهرها الخلاق الذي هو رغبة التحول الدائم من مبدأ الواقع إلى مبدأ الرغبة, وفرض مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع بما يثير طاقات التجدد ويحفزها على الإبداع المستمر في كل مجال, الإبداع الذي يناقض السكون, ويرفض الاستنامة إلى قاعدة, أو الاستكانة إلى مبدأ, أو الخضوع الدائم لزعيم أو عقيدة فكرية. ولذلك, كان نوع أبطال يوسف إدريس من المثقفين - في قصصه ومسرحه - نوع البطل الإشكالي الذي لا يكف عن الصدام مع العالم ومع نفسه على السواء, فهو بطل يخرج على القاعدة, ويتمرد على العرف, ولا يستكين إلى مذهب أو قائد, ولا يكف عن وضع كل شيء موضع المساءلة, وذلك إلى الدرجة التي جعل من أسئلته علامة على حضوره, وإشارة إلى أنه يتناول كل شيء - ابتداء من حضوره الذاتي - بوصفه وضعا في حالة صنع, وأفقا مفتوحا يظل في حاجة إلى الكشف.
          وما يتصف به البطل (المثقف وغير المثقف) في كتابة يوسف إدريس تتصف به الكتابة التي آثرها, فهي كتابة لا تهدأ في البحث عن تقنيات جديدة, ولا تستكين إلى أي قوالب جاهزة,وترفض المسكوكات النقدية التي تختزلها في هذا الاتجاه الأدبي أو ذاك التيار الفكري. إنها كتابة هاجسها التحول الذي تمضي معه تعاقبيا في التنقل ما بين تقنيات قد تنتسب في كل مرحلة إلى تيار بعينه, وتمضي أفقيا أو آنيا في التبدل الذي ينفي انتسابها الضيق إلى حدود (التيار) أو (المذهب) الواحد في أي مرحلة من المراحل. صحيح أن كتابة يوسف إدريس بدأت واقعية, وظلت حريصة على ملامسة الواقع والغوص في تضاريسه, ولكن بما أبعدها عن معنى الواقعية الجامد, وانتقل بها ما بين تجليات ما بعد واقعية, تجليات تباعدت عمدا عن واقعية المذهب لتغوص في تفاصيل الواقع المعيش بما يحرره أو يثير رغبة الثورة عليه.
          ضد الوعي الزائف
          ونتيجة ذلك صعوبة اختزال كتابة يوسف إدريس في مذهب أدبي أحادي البعد, تماما كما يصعب اختزال يوسف إدريس نفسه في انتماء فكري محدد, فكتابته كتابة يناسبها أن نصفها بأنها كتابة ضد الأيديولوجيا, أي ضد الوعي الزائف, والتصنيف السهل, والبعد الواحد, واليقين الذي لا يخامره الشك, وصلف الفكرة التي تقترن بتصلب الوعي. ولذلك, كانت خلافات يوسف إدريس (المثقف) مع أصدقائه الماركسيين بوجه خاص, أو اليساريين بوجه عام, كثيرة, صاغتها - في ذروة من ذرى المواقف الحياتية - رواية (البيضاء) التي كانت محاولة إبداعية لمساءلة معنى (الهوية) في الفن والفكر, وكذلك معنى الالتزام الإبداعي والسياسي. وكانت خلافات يوسف إدريس الكاتب مع النظام السياسي متجددة, حتى في لحظات التقارب الفكري, فهي خلافات مصدرها الصراع الحتمي بين مبدأ: ليس في الإمكان أبدع مما كان, والمبدأ النقيض الذي لا يرى لإمكانات التقدم أو التطور نهاية أو حدا, ويرفض الاستكانة إلى أي تبرير يفرض السكوت أو الثبات أو القيود على فكر الفرد أو حركة الطليعة الاجتماعية. وبالقدر نفسه, كان الصدام المستمر حتميا بين كتابة يوسف إدريس ورموز الأصولية الدينية التي أخذت تتزايد, ويتصاعد إيقاع خطابها القمعي وفعلها الإرهابي منذ السبعينيات الساداتية. وهو صدام صاغته المقالات كتابة مباشرة, كما صاغته الأعمال الإبداعية كتابة غير مباشرة, هي معادلات موضوعية وموازيات رمزية, ناوشت التكوينات الفكرية والآليات العملية للسلوك الإرهابي, حتى في المعتقلات, مؤكدة بأكثر من دلالة رفض التصلب الفكري والتعصب الاعتقادي, وإدانة خطاب القمع الذي ينتقل من الإرهاب المعنوي إلى الاستئصال المادي.
          وتردني هذه النتيجة إلى الأصل الذي تولّدت عنه فيما يتصل بغائية فعل التجريب في كتابة يوسف إدريس, فهو فعل لا يبحث عن التغيير لمجرد الاستطراف, ولا تتبدل أحواله حسب الموضات, ولا تتغير به التقنيات على نحو مجاني أو عشوائي, وإنما على نحو مقصود وغاية مرتبطة بطبيعة رؤية العالم الكامنة وراء تغير الأساليب والتقنيات, والمتسمة بالتغير الذي يباعد بينها والثبات, والذي يجعل من علاقتها بأشكالها علاقة جدلية, يسهم فيها كل طرف في متغيرات قرينه, على مدى الامتداد الزمني لكل أنواع الكتابة إلى النهاية.
          ولو شئنا, من هذا المنظور, أن نصف كتابة يوسف إدريس منذ أن نشر قصته الأولى التي لفتت الأنظار إليه في جريدة المصري, فإن العنصر الثابت الدائم في هذه الكتابة هو عنصر التجريب المستمر. لقد بدأ بداية واقعية كما قلت, نحا فيها منحى تشيكوفيًا, غير بعيد عن التأثر بالكاتب الروسي أنطون تشيكوف الذي كان طبيبا مثله, ولكن تأثره لم ينته به إلى التقليد, وإنما إلى الموازاة التي تؤكد الإبداع لا الاتِّباع. ولذلك, سرعان ما انتقل إلى محاولة المزج بين المنحى التشيكوفي وصياغة الجمل القصيرة المتدافعة, وذلك في أسلوب أقرب إلى أسلوب هيمنجواي الكتابي, أو ما يوصف بأنه أسلوب جبل الثلج العائم الذي لا يبدو منه على سطح الماء إلا أصغر أجزائه, كالجمل التي تتدافع عارية من الزخرفة اللفظية أو المجازية, حاملة دلالات تتولد عنها دلالات كثيرة, تتزايد كلما أمعنا في تأملها. وانتقل يوسف إدريس من أسلوب جبل الثلج العائم إلى الكتابة الرمزية التي تتعدد فيها الدلالات, ويشف الرمز عن المرموز إليه على نحو لا يخلو من الالتباس, ولكنه الالتباس الذي لا يصل إلى درجة التعمية, وإنما إلى درجة الإفادة من مراحل الدوال المصاحبة لحركة الرمز على امتداد سياق السرد. وكما قاد اتساع الرؤيا إلى ضيق العبارة, في الكتابة الرمزية التي لا تخلو من تأمل إيحاءات (المرتبة المقعرة) أو فحيح أصوات (بيت من لحم), فإن هذه الكتابة انقلبت إلى نوع من التمثيل الكنائي, أو الأليجوريا التي يمكن أن تومئ إلى المعنى المحتبس, أو الدلالة المقموعة, أو الموضوع الذي لا يمكن التصريح به, وذلك على نحو ما فعلته اللغة القصصية المحملة بالرفض السياسي في أعمال من مثل (حمّال الكراسي) أو (العملية الكبرى) أو (الجمل) أو (أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور) وغيرها.
          الغوص في طبقات الشعور
          وما بين المنحى التشيكوفي ومنحى التمثيل الكنائي, ظل الحرص على استبطان مشاعر الأبطال قائما, لا يختلف عن رغبة الكتابة العارمة في الغوص عميقا, داخل طبقات الشعور واللاشعور التي تنطوي عليها الحالات النفسية للشخصية. وبدل وصف الشخصيات من الخارج, والحكاية عنها بمفردات الراوي العارف بكل شيء, كان الميل الغالب هو إنطاق الشخصيات نفسها بما يبين عن أعماقها, أو الغوص في هذه الأعماق ووصفها على نحو دقيق لا يخلو من نزوع تحليلي لا يترك شاردة أو واردة إلا استوعبها كتابة. ولذلك ضاقت المساحة الزمانية المكانية للحدث, في القصة القصيرة, والرواية إلى حد كبير, واتسعت - مقابل ذلك - المساحة المخصصة للزمن الشعوري والتداعيات النفسية للمكان. واتجه السرد في القص اتجاها رأسيا أكثر منه أفقيا, اتجاها يغوص إلى أعماق الشخصية في لحظة الفعل الذي تمارسه في زمن ميقاتي محدود, كاشفا عن أزمانها الشعورية غير المحدودة, وعن دوافعها المركبة غير المنظورة, كما لو كانت أحوال الشخصية النفسية كيانات قابلة للتشريح الذي يبين عن كل شيء, ويسعى إلى تعرف أصل الفعل أو السلوك أو الموقف, في أناة وصبر, وبواسطة تحليل دقيق لتموجات المشاعر في كل تفاصيلها وتقلباتها وتعارضاتها وصراعاتها. والنتيجة هي السرد الذي يغوص رأسيا إلى أبعد نقطة في الشعور, متحركا ما بين نقطة بداية ونقطة نهاية محدودة وقصيرة في زمنها الميقاتي غير محدودة في زمنها الشعوري.
          ويمكن لقارئ إدريس أن يسترجع المسافة الزمنية القصيرة التي يتحدد بحدودها فعل عميد الكلية, في قصة (حال تلبس) من مجموعة (لغة الآي آي) ابتداء من اللحظة التي رأى فيها طالبة لا تتعدى السابعة عشرة بأي حال, تجلس مسترخية, وتدخن بكل بساطة سيجارة تمتصها بمزاج,وانتهاء باللحظة التي قرر فيها العميد استدعاء الطالبة وعقابها, والمسافة الخارجية بين اللحظتين لا تجاوز الدقائق المعدودة, وقد لا تستغرق دقيقتين, ولكن المسافة الداخلية لرحلة الغوص في الطبقات الشعورية لعميد الكلية طويلة, تجاوز الأيام الى الشهور والأعوام, وتصل ما بين الطفل الذي ولد وتربى في سوهاج, والرجل الذي تثيره طريقة التدخين التي ينطوي وصفها على إيحاءات جنسية, والعميد الممزق فكريا بين الشرق والغرب, ورغبة التحرر وواقع الاستسلام إلى الجمود داخل المثقف العربي بوجه عام, وتصارع ذلك كله بما ينتهي بالعميد إلى قرار العقاب الذي يبدو فوريا, لكنه ناتج عن عشرات التفاصيل الشعورية التي نكتشفها ونحن نمضي بعيدا, وطويلا, مع حركة الغوص السردي رأسيا في عمق اللحظة الزمنية القصيرة. بل بالغة القصر, على مستوى السطح الخارجي لتعاقب الزمن الميقاتي.
          تحولات أفقية ورأسية
          ولكن حتى هذه الخاصية المقترنة بالغوص الرأسي للسرد, مراوحة ما بين لغة الراوي العارف بكل شيء, أو لغة البطل المتكلم في نجوى الذات أو تداعيات الشعور, لا تظل ثابتة, أو باقية, وإنما تزاحمها في سياقات, وتزيحها في سياقات مقابلة, خاصيات سردية مغايرة, خاصيات لا تقترن بالغوص السردي رأسيا في طبقات الشعور, بل تغامر في نزوعها التجريبي بمايؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة, تقنيات تستبدل بالتعيين التجريد, وبالتخصيص التعميم, والوصف الخارجي بالاستبطان الداخلي, ومن ثم الاستعارة الرمزية الموجزة بالكناية الواقعية المسهبة, وباللغة النثرية التي لا تخلو من العامية, اللغة الشعرية المكثفة. هكذا, يختلف سرد قصة (أرخص ليالي) الخمسينيات عن سرد (لغة الآي آي) في الستينيات, عن سرد (المرتبة المقعرة) في السبعينيات, أو سرد (العتب على النظر) في الثمانينيات.
          ولا تقع المغايرة على مستوى التعاقب في هذا السياق, كما لو كان الأمر أمر مغايرة لتعاقب تحولات مقترنة بمراحل زمنية متتابعة, وإنما تقع في داخل كل عقد زماني, أو كل مرحلة على حدة, فهي مغايرة أفقية ورأسية في آن. ودليل ذلك أن الكاتب الذي كتب قصة (نظرة) في الخمسينيات هو نفسه الذي كتب قصة (طبلية من السماء و(شيخوخة بدون جنون) في الخمسينيات نفسها. وهو ذاته الذي كتب (فوق حدود العقل) و(أكبر الكبائر) و(مسحوق الهمس) و(النداهة) و(حمال الكراسي) و(حلقات النحاس الناعمة) أو (دستورك يا سيدة) في الستينيات نفسها.وقس على ذلك (المرتبة المقعرة) و(حلاوة الروح و(على ورق سلوفان) و(بيت من لحم) في السبعينيات, أو (يموت الزمار) و(السيجار) و(العتب على النظر) أو(أمه) في الثمانينيات. والدرجة العالية من المغايرة الواقعة بين التقنيات في هذه الأمثلة تشبه التقلب اللافت ما بين الأساليب, خصوصا من حيث الدلالة على الحضور المستمر لمبدأ الفعل التجريبي في كتابة يوسف إدريس القصصية.
          تجريب في القصة والمسرح
          ويصعب التمييز في مجال التجريب بين ما فعله إدريس في مجال القصة القصيرة أو مجال المسرح, ففعل التجريب يبسط نفسه على المجالين معا, لا يتمايز في هذا عن ذاك, الأمر الذي يؤكد نزوعا أساسيا عند القاص الذي رفض تقبل أشكال القصة على نحو ما وجدها عليه, والكاتب المسرحي الذي تأبّى على الشكل التقليدي في المسرح واستهل شكلا جديدا, أنتج (الفرافير) و(المهزلة الأرضية) وغيرها من المسرحيات التي لا تزال تجذب إليها الانتباه بحرصها على معنى الاحتفالية والفرجة.
          و(الفرافير) بنية حوارية, مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور والممثلين في إنتاج العمل المسرحي دون حواجز وهمية تفصل بين المشاهدين والمؤدين, وذلك إلى الحد الذي يسقط (الحائط الرابع) الذي يعزل الممثلين عن الجمهور, وينتقل بالجمهور من أحوال التلقي السلبي إلى أفعال التلقي الإيجابي الذي يقترن بالمشاركة الفعالة باعتبارهم وحدة واحدة. وإذا كان على الجمهور أن يسهم في العرض بالتعليق, داخل البنية الحوارية للعرض, على نحو ما يحدث في (السامر) الشعبي, فإن الممثل الذي يلعب دور (الفرفور) ينبغي ألا يندمج في الدور بحيث ينسى جمهوره, بل عليه أن يقسم وعيه بين الدور والموقف والانفعال من ناحية والجمهور من ناحية ثانية, ذلك لأن (الفرفور) لا يمثل وعيه الفردي حين يؤدي (المونولوج) الخاص به, أو ينطق الجمل المكتوبة له في النص. وإنما هو تمثيل لوعي غيره من النماذج المشابهة, وما يفعله أداءً هو اختبار هذا الوعي مع غيره الذين يشبهونه أو يختلفون عنه. وما يقال عن (الفرافير) بوجه خاص يقال عن المسرح كما يتصوره يوسف إدريس بوجه عام, وذلك من حيث صياغة أداء درامي لا يعتمد على مخاطبة الشعور الفردي للكائن وسط الجماعة, وإنما على مخاطبة الشعور الكلي للجماعة المنبعث من بين أفرادها. وذلك هو مصدر الفرق الذي يميز (الفرافير) حتى عن التقاليد الملحمية التي أسسها الكاتب الألماني برتولد بريخت في المسرح العالمي.
          ولا يعني ذلك أن يوسف إدريس لم يتأثر بتقنيات الكتابة المسرحية عند بريخت, فالثابت أنه تفاعل معها, وتأثر بالكتابات النظرية لبريخت عن الأورجان الجديد الذي تصوره للمسرح.
          خصائص الفرفور
          ويتطلب هذا الشكل المسرحي ضرورة وجود درجة عالية المرونة والحيوية والتلقائية عند الممثل, وذلك بما يعينه على الاستجابة الفورية لتقلب أحوال علاقته مع الجمهور, أو تقلب أحوال الجمهور في استجابتهم إليه, فيغدو مستعدا للتعديل الفوري للنص حسب الإشارات الواصلة إليه. هكذا, يتأنى الممثّل (الفرفوري) أو يسرع أو يتوقف, أو حتى يضيف كلمة أو أكثر إلى النص, مرتجلا من حركات الجسد ولغته ما يستجيب على الفور إلى متغيرات المشاهدين أو حتى تعليقاتهم وتدخلاتهم التي هي حقهم في الفعل الحواري للعرض. وإذ يؤكد يوسف إدريس أن لشعبنا طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء, واصلا بين ميراثه الشعبي وعملية تأصيله المسرح, فإنه يؤكد أن على الممثل أن يرى المواقف بعينه وعيون كل الجمهور المحتشد لمشاهدته على السواء, وذلك في أداء يهدف إلى أن يحدث تغييرا كبيرا من طريقة التمثيل نفسها, فلا يصبح الأداء خطابة رصينة مثل مونولوجات جورج أبيض أو يوسف وهبي المشهورة, أو همسًا متهافتا في هشاشته, وإنما جمل حوارية, يمكن أن تكون همسا له وقع الخطب الرنانة التي تتلقفها الأذن كأنها الهمس.
          وفرفور يوسف إدريس خفيف الدم. واحد من القلة القليلة الدالة في نموذجيتها ونمطيتها على أبطال يوسف إدريس من ناحية, وعلى الشخصية المصرية من ناحية ثانية, فهو شخصية لا يكف لسانها عن (سلخ) الأوضاع والآخرين والأصدقاء ونفسها وكل شيء, مزيج مركب من (أحمد المجلس البلدي) ومن (الشيخ علي) و(البرعي) و(محمد) و(أبو الهول) و(الجندي) في قصص يوسف إدريس القصيرة ورواياته. هذا المزيج الذي تتكون منه شخصية تنتزع الضحك من الآخرين أو البسمة, وتجبرهم على الإنصات إليها, يجتمع في إنسان عادي تماما, ولكنه يختلف عن أقرانه في أن له رأيا في كل شيء, وفي أنه يلح على أن يوصل رأيه, بواسطة السخرية أو التعقيب الماكر, أو النكتة التي تروض الجبابرة, أو الفهلوة التي تجد حلولا عجيبة للمواقف التي قد تبدو مستحيلة. ومهما ضحكنا أو ابتسمنا لسخرية هذا (الفرفور) الذي قابلنا بعض صفاته في قصص يوسف إدريس, قبل أن يقابلنا حضوره الكامل في المسرحية التي حملت اسمه, فإننا لا نستطيع أن ننسى الأثر الذي تحدثه كلماته في النفس, فهي كلمات تهدم وتبني النفوس, وتوخز الأرباب وتسقط عنها الأقنعة الكاذبة, وذلك في الوقت الذي تخلع عنا أردية المَلَق أو النفاق أو الخوف. وما أسرع أن يتحول هذا الفرفور إلى قناع مسرحي, ينطق من خلاله الكاتب الذي يسخر حتى من نفسه, وكأنه انعكاس للفرفور الذي يتبادل معه الصنع, ويحتج معه على الفساد الاجتماعي والسياسي, محاورا المشاهدين الذين هو منهم والذين هم إياه بأكثر من معنى, صارخا فيهم بعباراته الكاشفة, قبيل إغلاق الستار:
          (شوفو لنا حل, حل يا ناس, حل يا هوه.. لازم فيه حل.. لا بد فيه حل.. مش عشاني أنا.. عشانكم أنتم).
          وهي عبارات تكشف عن الصوت المختفي وراء قناع (الفرفور) والذي اختفى وراء قناع آخر في (المخططين) ليصرخ في كل من حوله من المشاهدين, مؤكدا وجه اختلاف حتى في دائرة مشابهته, قائلا: (أنا كافر بخطوطكم وأبيضكم وأسودكم, أنا العالم بتاعي, العالم اللي بيناديني وبحلم بيه عالم تاني خالص. أنا لا يمكن أن أخدع نفسي, وأضحك عليها. لا يمكن أخدع الناس اللي برا دول وأكدب عليهم).
          وتلك عبارات دالة على مغزاها السياسي والاجتماعي في الوقت نفسه. وتحدد نوعية قائلها أو كاتبها, خصوصا من حيث هوية كتابته التي لا يمكن أن تخدع الناس أو تكذب عليهم, بل تبشرهم بعالم آخر يُجاوز عالمهم المنحدر, وتدفعهم إليه دفعا يصل إلى درجة التحريض. وحين تؤكد هذه العبارات حضورها التصوري والتقني, في تجاوب الموقف والأداة, فإنها تؤكد أن تغيير حياة الناس وتثويرها لا يمكن أن يتم إلا بتغيير علاقات إنتاج الفن الذي يخاطبهم وتثويرها. ومن هذا المنظور, كان تأصيل الكتابة الجديدة في القصة والمسرح, والبحث الدائم عن هوية متميزة لها, سواء في علاقتها بواقعها الذي تنقض تخلفه أو علاقتها بالآخر الذي ترفض تقليده أو اتِّباعه.
          قالبنا المسرحي
          وكما كانت قصص يوسف إدريس بداية لعهد جديد من الكتابة, ترك علاماته في الأجيال التي جاءت بعده, وبرزت هذه العلامات ابتداء من الستينيات, متناثرة في كتابات أبناء الجيل الذي تمثَّل كتابة يوسف إدريس وأعاد إنتاج تقنياتها في أشكال عديدة تومئ إلى أصلها, مؤكدة دين كتاب الستينيات للآفاق التي رادها يوسف إدريس, والأساليب التي ابتدعها, والتقاليد الموجبة التي أسسها, فإن مسرحياته كان لها الأثر نفسه, كما كان للبيانات النظرية التي كتبها, والتي سبقت مسرحياته أو واكبتها أثر على الأجيال اللاحقة بل على الجيل السابق عليه. ولذلك, كان تأصيل يوسف إدريس لفن المسرح, إذا شئنا التخصيص, افتتاحا لبداية جديدة في تأصيل المسرح العربي كله. ودليل ذلك أنه بعد ظهور مقالاته في مجلة (الكاتب) بعنوان (نحو مسرح مصري) بأعوام قليلة, أصدر توفيق الحكيم كتابه (قالبنا المسرحي) عام 1967 ليصل بالأطروحة التي بدأها يوسف إدريس إلى مداها الطبيعي, ويطرح على نفسه السؤال: هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي أو نستحدث لنا قالبا وشكلا مسرحيا مستخرجا من داخل أرضنا وباطن تراثنا? ويؤكد الحكيم أن الأمر ممكن بالعودة إلى التراث, وتطوير الوظيفة التي كان السابقون يقدمون بها الحكواتي والمقلداتي. وإذا كان يوسف إدريس قد دعا إلى الإفادة من مسرح السامر الشعبي فإن الحكيم يدعو إلى تجاوز مسرح السامر إلى ما هو أوسع منه, ولكن الأكثر أهمية عند الحكيم أن يكون القالب المسرحي العربي قابلا لأن يكون وعاء يحتوي غيره. يقصد إلى أن الشرط الأساسي للقالب العربي هو أن يستطيع الأوربيون, بدورهم, هم وغيرهم من مؤلفي العالم, أن يصبوا في هذا القالب أفكارهم وموضوعاتهم, شريطة المحافظة على أساس فلسفة هذا القالب التي تختلف عن فلسفة القالب الأوربي, وهي أنه يقوم على فكرة (التقليد) وليس على فكرة (التمثيل) و(التقليد) هو الأداء (الفرفوري) الذي يقوم به (الحكواتي) من وجهة نظر توفيق الحكيم. أما (التمثيل) فهو الأداء الذي يقوم على المحاكاة في أصولها الأرسطية وقواعدها التي تجعل من العمل الدرامي موازاة مستقلة للواقع المنفصل عنها, والذي تسعى هي إلى التباعد عنه لمعرفته عبر حائط وهمي يفصلها عن جمهوره.
          وبعد الحكيم بعام واحد, مضى على الراعي بأطروحة يوسف إدريس إلى أفق مغاير في دراسته لدور (الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري). وكان ذلك في كتاب الهلال الذي صدر عام 1968, حيث يشير الراعي إلى المحاولات المواكبة, والموازية, التي حملت الدعوة نفسها في الوطن العربي كله. وكان صدور كتاب الراعي علامة على تحقق الهدف من التأصيل الذي صاغه يوسف إدريس, واختبره تجريبيا في مسرحه, فدفع الآخرين إلى الحوار مع تأصيله النظري وتأصيله التجريبي, والبدء منه إلى ما يمكن أن يفضي إليه من نتائج موازية



          جابر عصفور

          الأستاذ القدير ربيع عبد الرحمان
          أولا أشكرك جزيل الشكر على هذه المساهمة القيمة في تقريب صورة يوسف ادريس من القارئ...
          هل يمكن لي القول أن هذه المحاولة النقدية في سياق تجريب يوسف ادريس كانت بالمنهج البنيوي رغم تهرب الكاتب من أن يبدو كذلك؟
          لكنه تبقى قراءة جديرة بالتأمل في طرحها...
          وما ألمحه من هذه القراءة هو أن النتاج اليوسف ادريسي هو محاولة للابتعاد عن اليسار والوجودية وكأنها تدعو مؤلفيها في سياقها التاريخي للفرار من تلك النظريتين لقصورهما...لأنها ترى أن التفاعل مع المجتمع يتم عبر بنيات جمعية ولا واعية ممزوجة بمعطيات التحليل النفسي وتصارعا مبدأ اللذة ومبدلا الواقع....
          سأطلب منك أستاذي العزيز...إن كنت تتوفر على قراءة نقدية لأعمال يوسف ادريس بقلم المرحوم محمود أمين العالم...المرجو من حضرتكم إيرادها ضمن هذه المساهمة القيمة....
          تقبلوا تقديري الكبير
          ولي عودة إلى هنا

          تعليق

          يعمل...
          X