لم يستطعم الفرن ما تلويه الأم الكبيرة من قش و حطب فى فتحته ، كانت مشاعره مع الأم الصغيرة و طفلها الذى يناوشه الموت منذ ايام . الأسى و الصمت يتوزعان على البشر و غرف البيت و مرافقه . الفرن منذ اشرفت السيدة الكبرى على بنائه من الطين و التبن وجد قلبه يمتلئ بحب هذه الاسرة !
حجرته التى يجثو فيها كالجمل اسمها الخزانة ، لما تضمه من نفائس الدار كبلاليص الجبن القديم , و أجولة الحبوب , و الدقيق و البصل , وجرار السمن و الزبد و العسل .
راى كل شئ و سمع كل شئ , كتم اسرار البنات و اسرار سعد الذى نام فوقه و حلم بصوت عال .
انشرح قلبه يوم زفاف الولد الوحيد و قال لنفسه و هو يرى الرفاق يحممونه و يلبسونه الجلباب الصوفى و يعطرونه بكولونيا الشبراويشى : - و الله كبرت يا سعد .
كانت الطبول تدق فى الخارج و الزغاريد ترجه رجا فيتمنى ان يتحرر ليرى العروس ، لكنه يبتسم متفلسفا : بكره تيجى لحد عندك .
و جاءت كالبغاشة , جلست بهدوم المنزل ووضعت فى عرصته البرام المعمر , ألقمته القش و الحطب فاخذ يفح بالحرارة و الصهد . تلون وجهها حتى صار بنفسجيا , و برقت عيناها البنيتان كعينى يمامة .
زفرت و خلعت الجلباب فظهر قميصها الاحمر الذى يكشف ذراعيها و ساقيها و حدود رمانتيها الصغيرتين .
اراد ان يتفحص الصدر و الذراعين و ربلتى الساقين لكن ...لا اغضض بصرك أيها الفرن الزائغ العينين ، انها ابنتك الجديدة نبوية !
صوت اللهب فى بيت النار يحطم الأعصاب , الوقت سيف يقطع القلوب .نبوية تختلس النظر الى الطفل الراقد يربطه بالحياة صدر يعلو و يهبط كصدر عصفور وقع من العش .
بين لحظة و اخرى تمسح وجهه , و تنظر الى الثقبين المتبقيين من عينيه .كلما غفلت دقائق ترى وحشا كاسرا يتقدم و يتاخر من ابنها , فاتحا فمه كالمغارة !
يود الفرن ان تكون الجالسة امامه نبوية و ليست الحماة , طالما اتصل بينهما حديث صامت وود حميم , و بقيت الخزانة ملاذها حين تغضب من سعد . تجلس امامه كأنه ابوها تبكى . تسمعه يلقى فى قلبها حديثا هادئا فيه حنان و عقل فتقوم راضية و تدخل لزوجها .
يريد ان ينزع الرعب من نفسها لكنها هذه المرة مغلقة القلب , لا تستجيب لرسائله , تقبض على الجسم العليل بكلتى يديها كانه سيهرب الى جوف الوحش .
اين ايام الحمل التى انصرمت كالحلم ؟ كانت تاتى لتحدثه عن املها فى ولد يدرج تحت كتفه , كانت تثق فيه كولى للبيت ، و لا تزعجها أقوال الجارات عن أهوال الولادة .تغرس اصابعها كأنها اصابع موز فى جرار السمن و الزبد و العسل ، تلحس المزيج كالأطفال . تضحك فتصطدم الضحكة الريانة بالحيطان ، تتشظى الى ضحكات كثيرة يسمعها الجيران .
الآن يقفون على طرف الباب ينظرون الى قطعة اللحم الضامرة و الوجه المتغضن الاصفر كليمونة , و
الثقبين المعتمين ، يرون ملك الموت يرفرف , و مع ذلك يواسون : خير ان شاء الله
ثم يصفون لها ان تدهنه بالخل او الزعتر او ماء الورد .
ينسحبون بشفاه مرتعشة و دموع حائرة فى المآقى ثم يتبخر كل شئ وسط ركام المطالب .
ينحسر الحزن فى قلب الفرن و قلب اليمامة و يتنقل مع الحماة بين الغرف اثناء هروبها من نظرات كنتها .
يذهب مع الجد الى الغيط , يجلس معه تحت النخلة يضيق الرجل بالحقول و البهائم و نعيب غربان بعيدة فيزجره :- حرام عليك جاى ورايا الغيط ؟
سعد , الأب الصغير ابن العشرين ليس لديه خبرة بالبؤس , يظن كل ما يجرى احد الكوابيس التى عاشها فوق الفرن !
لا يعود الى البيت الا فى آخر الليل فيجده قطعة من الشجن ، تنكمش الارواح المكدسة فيه مثخنة بالجراح . تكون نبوية مفتحة العينين , قابضة على عليلها الذى يئن طول الوقت .يلمس الوجه الصغير البارد و يتحسس الصدر الذى يعلو و يهبط ثم يستلقى مسهدا , تهوى عليه مطارق ضخمة .
يوم الولادة كان سهلا , لا طلق و لا نزع , فى ثانية نزل الولد و هى تفرد العجين و اسرعت جدته تقطع السرة ثم همست : - ولد
استغرب الفرن من صغر حجمه كأحد الأرانب المولودة فى الجحور . كان ضئيلا ازرق لا يبكى لكنه يئن .
وقفت نبوية مذهولة بينما امسكته الجدة مقلوبا و أخذت تضرب قاعى قدميه بقبضتها .
سمع كل يوم شكوى من عدم الرضاعة و عدم النوم و اصدار الأنين بلا توقف . راىأكثرمن طبيب . و كانت اليمامة مهيضة غائرة العينين .
ظل ساهرا . مر نحو شهر و ليس ثمة تقدم . يسمع خشخشات العصافير و الفئران فى السقيفة فتهتاج اعصابه و كانت من قبل تؤنسه , الوحدة و القلق ابرد من ليالى طوبة الطويلة . نبوية لم تظهر اليوم .
ولت أيام السهر و السرور التى كانت احلى من العسل المخزون فى الجرار .
أرهف اذنيه . الجدة و الجد و البنات فى الغرف يسمع همسهم , سعد لم يعد حتى الآن . برودة الخوف اقوى من كل الأغطية .
لو تأتى نبوية الآن ؟ قلبه منقبض .
يستطيع أن يسمع زفراتها من مكانه . لا يمكن لعقلها المتحفز أن يستسلم للنوم .
لا ينفك يجلدها و يعرض صورة وحش كاسر , يتقدم و يتأخر و يفتح فما يشبه المغارة !
هل يعاود سماع ضحكتها التى تتناثر ضحكات صغيرة ؟
احس بالدوار و بدات الارض تهتز تحته , فوجئ بها تدفع الباب .كانت تحمل ارنبها المحتضر و كانت انفاسه ضعيفة و توقف صدره عن الصعود و الهبوط , وضعته على ركبتيها و جلست قائلة له :-
شايف , جابر بيموت.
حاول ان يبكى فلم يفلح , كما تعثرت فى حلقه الكلمات وخيم عليه الصمت و الوحشة كالقبر . احس بوخزات مؤلمة فى قلبه , و انه بحاجة مثلها الى من يطفئ ناره . فى لحظات مال الراس الصغير و ألقت نبوية على الميت نظرة ولهى ثم اغمضت عينيه . ارادت ان تصيح لتفرج عن همها المعتق و تخبر زوجها الرابض فى مكان ما ، و اهل القرية جميعا ان الوصفات فشلت , و انها صارت بلا ولد ، لكنها بوغتت بامراة متشحة بالسواد تخرج من فتحة الفرن السفلية , و تسبقها صارخة بعزم صوتها :-
يا ضنايا يا ابنىىىىىىىىىى
ثم ذابت فى الهواء .
حجرته التى يجثو فيها كالجمل اسمها الخزانة ، لما تضمه من نفائس الدار كبلاليص الجبن القديم , و أجولة الحبوب , و الدقيق و البصل , وجرار السمن و الزبد و العسل .
راى كل شئ و سمع كل شئ , كتم اسرار البنات و اسرار سعد الذى نام فوقه و حلم بصوت عال .
انشرح قلبه يوم زفاف الولد الوحيد و قال لنفسه و هو يرى الرفاق يحممونه و يلبسونه الجلباب الصوفى و يعطرونه بكولونيا الشبراويشى : - و الله كبرت يا سعد .
كانت الطبول تدق فى الخارج و الزغاريد ترجه رجا فيتمنى ان يتحرر ليرى العروس ، لكنه يبتسم متفلسفا : بكره تيجى لحد عندك .
و جاءت كالبغاشة , جلست بهدوم المنزل ووضعت فى عرصته البرام المعمر , ألقمته القش و الحطب فاخذ يفح بالحرارة و الصهد . تلون وجهها حتى صار بنفسجيا , و برقت عيناها البنيتان كعينى يمامة .
زفرت و خلعت الجلباب فظهر قميصها الاحمر الذى يكشف ذراعيها و ساقيها و حدود رمانتيها الصغيرتين .
اراد ان يتفحص الصدر و الذراعين و ربلتى الساقين لكن ...لا اغضض بصرك أيها الفرن الزائغ العينين ، انها ابنتك الجديدة نبوية !
صوت اللهب فى بيت النار يحطم الأعصاب , الوقت سيف يقطع القلوب .نبوية تختلس النظر الى الطفل الراقد يربطه بالحياة صدر يعلو و يهبط كصدر عصفور وقع من العش .
بين لحظة و اخرى تمسح وجهه , و تنظر الى الثقبين المتبقيين من عينيه .كلما غفلت دقائق ترى وحشا كاسرا يتقدم و يتاخر من ابنها , فاتحا فمه كالمغارة !
يود الفرن ان تكون الجالسة امامه نبوية و ليست الحماة , طالما اتصل بينهما حديث صامت وود حميم , و بقيت الخزانة ملاذها حين تغضب من سعد . تجلس امامه كأنه ابوها تبكى . تسمعه يلقى فى قلبها حديثا هادئا فيه حنان و عقل فتقوم راضية و تدخل لزوجها .
يريد ان ينزع الرعب من نفسها لكنها هذه المرة مغلقة القلب , لا تستجيب لرسائله , تقبض على الجسم العليل بكلتى يديها كانه سيهرب الى جوف الوحش .
اين ايام الحمل التى انصرمت كالحلم ؟ كانت تاتى لتحدثه عن املها فى ولد يدرج تحت كتفه , كانت تثق فيه كولى للبيت ، و لا تزعجها أقوال الجارات عن أهوال الولادة .تغرس اصابعها كأنها اصابع موز فى جرار السمن و الزبد و العسل ، تلحس المزيج كالأطفال . تضحك فتصطدم الضحكة الريانة بالحيطان ، تتشظى الى ضحكات كثيرة يسمعها الجيران .
الآن يقفون على طرف الباب ينظرون الى قطعة اللحم الضامرة و الوجه المتغضن الاصفر كليمونة , و
الثقبين المعتمين ، يرون ملك الموت يرفرف , و مع ذلك يواسون : خير ان شاء الله
ثم يصفون لها ان تدهنه بالخل او الزعتر او ماء الورد .
ينسحبون بشفاه مرتعشة و دموع حائرة فى المآقى ثم يتبخر كل شئ وسط ركام المطالب .
ينحسر الحزن فى قلب الفرن و قلب اليمامة و يتنقل مع الحماة بين الغرف اثناء هروبها من نظرات كنتها .
يذهب مع الجد الى الغيط , يجلس معه تحت النخلة يضيق الرجل بالحقول و البهائم و نعيب غربان بعيدة فيزجره :- حرام عليك جاى ورايا الغيط ؟
سعد , الأب الصغير ابن العشرين ليس لديه خبرة بالبؤس , يظن كل ما يجرى احد الكوابيس التى عاشها فوق الفرن !
لا يعود الى البيت الا فى آخر الليل فيجده قطعة من الشجن ، تنكمش الارواح المكدسة فيه مثخنة بالجراح . تكون نبوية مفتحة العينين , قابضة على عليلها الذى يئن طول الوقت .يلمس الوجه الصغير البارد و يتحسس الصدر الذى يعلو و يهبط ثم يستلقى مسهدا , تهوى عليه مطارق ضخمة .
يوم الولادة كان سهلا , لا طلق و لا نزع , فى ثانية نزل الولد و هى تفرد العجين و اسرعت جدته تقطع السرة ثم همست : - ولد
استغرب الفرن من صغر حجمه كأحد الأرانب المولودة فى الجحور . كان ضئيلا ازرق لا يبكى لكنه يئن .
وقفت نبوية مذهولة بينما امسكته الجدة مقلوبا و أخذت تضرب قاعى قدميه بقبضتها .
سمع كل يوم شكوى من عدم الرضاعة و عدم النوم و اصدار الأنين بلا توقف . راىأكثرمن طبيب . و كانت اليمامة مهيضة غائرة العينين .
ظل ساهرا . مر نحو شهر و ليس ثمة تقدم . يسمع خشخشات العصافير و الفئران فى السقيفة فتهتاج اعصابه و كانت من قبل تؤنسه , الوحدة و القلق ابرد من ليالى طوبة الطويلة . نبوية لم تظهر اليوم .
ولت أيام السهر و السرور التى كانت احلى من العسل المخزون فى الجرار .
أرهف اذنيه . الجدة و الجد و البنات فى الغرف يسمع همسهم , سعد لم يعد حتى الآن . برودة الخوف اقوى من كل الأغطية .
لو تأتى نبوية الآن ؟ قلبه منقبض .
يستطيع أن يسمع زفراتها من مكانه . لا يمكن لعقلها المتحفز أن يستسلم للنوم .
لا ينفك يجلدها و يعرض صورة وحش كاسر , يتقدم و يتأخر و يفتح فما يشبه المغارة !
هل يعاود سماع ضحكتها التى تتناثر ضحكات صغيرة ؟
احس بالدوار و بدات الارض تهتز تحته , فوجئ بها تدفع الباب .كانت تحمل ارنبها المحتضر و كانت انفاسه ضعيفة و توقف صدره عن الصعود و الهبوط , وضعته على ركبتيها و جلست قائلة له :-
شايف , جابر بيموت.
حاول ان يبكى فلم يفلح , كما تعثرت فى حلقه الكلمات وخيم عليه الصمت و الوحشة كالقبر . احس بوخزات مؤلمة فى قلبه , و انه بحاجة مثلها الى من يطفئ ناره . فى لحظات مال الراس الصغير و ألقت نبوية على الميت نظرة ولهى ثم اغمضت عينيه . ارادت ان تصيح لتفرج عن همها المعتق و تخبر زوجها الرابض فى مكان ما ، و اهل القرية جميعا ان الوصفات فشلت , و انها صارت بلا ولد ، لكنها بوغتت بامراة متشحة بالسواد تخرج من فتحة الفرن السفلية , و تسبقها صارخة بعزم صوتها :-
يا ضنايا يا ابنىىىىىىىىىى
ثم ذابت فى الهواء .
تعليق