الغربة و الانفلونزا
الفصل الأول
سرحان المحايد يكره الايديولوجيا و النفي و يحبّ ركبة أمّه يتخذها وسادة و تنّور الطهو القديم ينام على هدير صوته يراه هدهدة و يأخذه إلى طفولته البعيدة الساذجة. كان يرتعش من كلمات كالشيوعية و الحزب، و الارهاب و السياسة، و السلاح حتى أصابته لوْثة الحروب. كان سفير قريته للنوايا الحسنة و كان سعيدا بسمائه التقليدية التي لم يتغير وجهها منذ الولادة، و أرضه التي لم يرها تنتج غير الحنطة.
كان يختزن جوعا قديما تمتصّه القناعة و غضبا قديما يدفنه الذلّ، كان لا يختلف عن كل دمى القرية، تلك الدمى تتشابه حتى العبث، حتى الفجيعة. و كان يحلو لكل محافظ قرية جديد يكلّف بمهمّة هناك أن ينزل بها ليتفرج على هذه القرية النموذجية التي يأخذ فيها التعب على الوجوه شكل سكّة القطار القديمة و الغضب على الوجوه ملامح المهرّج البائس..
كان هذا الشبه الاوتوماتيكي مثيرا للضحك يدغدغ غريزة الاقتناص لدى الساسة و يغريهم بالامتلاك البدائي، سلالة تنتصر للموت لا للحياة، تغسل كفنها كل يوم حتى يبدو في كامل نصاعته، سلالة تعشق الخسارة و تتمسك بها، فهي لا تملك غيرها. سلالة يطارد أفرادها الغيوم تتشكل في خيالهم فرسانا و عبيدا، يغرسون فيها خناجرهم و يريقون منها الدماء و يؤرخون مطارداتهم الخيالية في قصص يحكونها لأطفالهم قبل النوم.
كانت هذه السلالة خليطا غريبا من الملائكة و الأغبياء حتى إذا أخرج أحدهم مخلبه أو نقر بمنقاره لا يصيب إلا شبيهه في هذه القرية المطوقة بآلاف علامات الاستفهام أما العدو فيجهلونه أو يتجاهلونه أو يساومونه على أن يبقى شكلهم النموذجي نموذجيا فقد ضحوا طويلا ليكتسبوا هذه الصفة، هذه القرية الكتومة المتكتمة كانت حُبلى بأسرار رهيبة فتحت عليها أبواب البر و البحر و القيامة.
لم يكمل سرحان تعليمه في مدرسة القرية، كان ولوعا بالسير على طول سكة القطار كل يوم، يراقب المسافرين الذين يطلون من شبابيك القاطرات بثيابهم الأنيقة و ملامحهم المشدودة التي تدلّ على حياة تختلف كثيرا عن حياته. و كان حارس المحطة العجوز رجلا طيّبا يتقن الايطالية و يسكن وحيدا هناك دون زوجة أو ولد. كان سرحان يحلم طويلا بالأمكنة التي يصل إليها القطار و يحاول أن يتخيّل حياة أولئك الناس فلا تستعرض مخيلته إلا صور جيرانه و أفراد عائلته.
طلب سرحان إلى حارس المحطة أن يعلّمه الايطالية فأجاب الرجل: "عافاك الله من ذلك البرّ يا بني، لا تتعلم لغة أهله فتحنّ إليهم، اتعض من عمّك الهادي فقد التهمته الغربة و التهمت زوجه و صغاره ثم لفظته فردا معيدة إياه إلى نقطة البداية كأن لم يسافر و لم ينجب و لم يَغنَ. ألحّ سعيد على حارس المحطة طويلا حتى وافق لكنّه أصرّ على أن يحكي له قصّته في بلاد ما وراء البحرو خيبته التي دامت ثلاثين عاما.
قال الهادي: "كان لا بدّ من الاستمرار..رغم سوء الحظ و رغم اللاتطابق في كل شيء..كان العبث الأبيض يكتم الأنفاس في تلك المدينة الرمادية و مشنقة الوهم تشدنا بحبال لامرئية نحن الوافدين على هذه المدينة الفاجرة التي تنظر لأمثالنا بكل صلف و احتقار.
لن أنسى ذلك الزورق الدائري الذي يشبه ضلوع الحوت ذلك الذي حملني في ليلة دامسة إلى ضوء كنت أراه من قريتي العائمة فأحسبه حضارة و أحسبه حرية حتى كنت أحلم أني أعرج إليه كل ليلة في قضبان من الخوف العسكري فيلقمني حليب النجاة و الحرية. كان الليل دامسا و لم أكن أعبأ به، كنت لا أرى أمامي إلا رسوم ليوناردو دافنشي و مايكل أنجلو تتلألأ أمامي كشلالات من الضوء.
كنت قد قرأت كل ما وقعت عليه يداي من الكتب الفرنسية أو المترجمة إلى الفرنسية، قرأت "المنزلة الإنسانية" لمالرو، قرأت "الأمير" لمكيافيل، لم أترك شاعرا أو كاتبا إلا و اُطلعت على أعماله. كنت رساما موهوبا فقررت بِفَوْرة الشباب و عنفوان التجربة أن أهاجر إلى إيطاليا، كنت متأكدا بأنني لن أكون عبئا حضاريا أو هكذا خُيِلَ إليّ. كنت أرى نفسي في أوج عهدي و قد فتحت بوابة الشهرة على مصراعيها حتى اعترف بي القاصي و الداني و صار الكل يتسابق إلى دعوتي إلى أروقة الفنون و معارض الرسم العالمية و إقامة الحوارات الصحفية. كل ذلك و أنا في الزورق بين مَوْتين لا أنيس و لا رفيق.
لم أنم تلك الليلة فقد كان البحر حولي حوتا فاتحا فمه لكل من تزلّ به قدم، لم يكن لديّ المال الكافي لأسافر و لا حتى لأستخرج جواز سفر، بل كنت أرى أنني بذلك أتحلل من الانتماء إلى هذه القرية الجافة العقيم و أطير أطير كريشة في الفضاء تنتمي إلى الكون كله دون أن تخنقها حدود أو تحدد مسارها جاذبية. بدا البحر جليلا لولا أصوات متألمة هنا و هناك لأشخاص يصارعون الجوع و ساعات الليل القليلة خوفا من أن يكشفهم النهار. حاولت أن أساعد و لكن شيئا غريزيا في داخلي كان يدفعني إلى النجاة بجلدي و ادخار كل قوتي لهذا الخصم العنيف الذي يزيد الليل من هيبته خاصة و أنني كنت أسمع من بعض الوافدين على قريتنا من المهاجرين أخبار "الحارقين"* الذين يموتون بسبب عدم قدرة الزورق على تحمل عددهم الكبير أو بسبب خفر السواحل الذين يعاملونهم كمجرمين و يَعتبرون مجرما كل من يقدم لهم يد المساعدة حتى و لو كانوا في النزع الأخير.
كنت و أنا في أوج الخوف و الطمع في النجاة أسمع صوت "حورية" خافتا بعيدا حميما، كان صداه يتكسر تكسرا جميلا مع الأمواج على الصخور البحرية المترامية هنا و هناك، كنت "أوليس" الشقي و كانت تشدّني بحبال من حرير.
كنت أرى كأنّ لحاف السماء ينشقّ قليلا في كل مرّة ليهديني ومضة من ومضات وجودها الأثيري الذي لم يكن له نظير –اللعنة، كيف فكّر عقلي المريض بالسفر و ترْك جنّة حورية. حورية العاشقة التي كان الصورة المعكوسة لقريتي، كيف لم أرض بعيشة أبناء جنسي و أترابي و الحال أنني كنت أملك قلب "حورية" فتاة القرية و معشوقة كل رجالها. القرية و "حورية" و "ايطاليا" كلها مؤنثات ملعونة لوهم لا يعيش إلا في رأسي- كان ظِلها الحميم يقترب حارا شفافا في ذلك الليل البارد القاسي، كانت تتباطأ فيرفع الخيال تنّورتها البرتقالية يمينا و شمالا، كانت تلوّح بوشاح أخضر تريد أن تستبقيه معي تعويذة للسفر الطويل و انتقاما إذا لم أعُد و أفِ بالعهد، عهد التدجين الذي كُتِب على هذه القرية من قِبَل شيطان رجيم طاعن في السنّ.. أنا أحبّ "حورية" و لكنها تذكرني بكل ما أكرهه في قريتي و أريد الفرار منه، إنها الكبت و الخوف و زمن مهدور بلا فائدة، إنها قرون من التخلف تطبق على أنفاسي، أنها أمي المظلومة و أبي الخائف الذي يرعد و يزبد و يزمجر دائما علّ صراخَه يكتم صوت خوفه الهادر كمرجل دموي منذ أن قطعوا رجله اليمنى في أحد السجون لأجل تهمة طائفية لم تكن له فيها يد و لا ساق، نعم إنها تلك الرجل التى تنزف و تؤلمني، و هي لا تفهم ذلك لأنها بسيطة لا تعرف إلا الحب و صنع الخبز و جلي الصحون و هدهدة الأطفال ليناموا. إنها تشدّني إلى الأرض و أنا أريد أن أطير، كنت أرى يوما فيوما زغبا يطلع في كل مكان من جسمي و تمنيت لو كان أطول فنحن طيور قصيرة الريش لو كان ريشها أطول لاستطاعت الطيران، هكذا بكل بساطة كان يخيّل إليّ.
أقبلت "حورية" تذكّرني بوعدي أما الآن و أنا في خضمّ هذا البحر الأهوج فأنا مقتنع كل الاقتناع أنه إذا كتبت لي النجاة فلن أعود. لماذا كنت جبانا في بتر العرق و سفح الدم، ما كان عليّ أن أتركها تفني شبابها في انتظاري. طردت تنورتها البرتقالية بيد مرتعشة ف"ما خلق الله للرجل من قلبين في جوفه" اخترت "ايطاليا"
حتى لو التهمني هذا البحر، اخترت حريتي حتى و لو كانت وهما على أعتاب الآخر.
كنت أجدّف و آلاف الأفكار تلهب رأسي، قررت أن لا أسير إلا للأمام و أعجبت بهذا القرار الذي أتخذه لأول مرّة في حياتي و فجأة بهر عيني ضوء مصباح كهربائي و صوت أجش يصرخ فيّ : "تعال معنا". ارتعت، كان ضابطا أخذني مقيدا في مركب سريع و حين وصلنا أخذ يستجوبني و يسألني عن انتماءاتي و من ينتظرني في "ايطاليا"
و إلى أية جماعة أنتمي، أخبرته أنني لست سوى رسام موهوب فقير يحلم بالشهرة في "ايطاليا" فضحك و لم يصدّقني كان يضربني بعصاه على رأسي و كتفي و يديّ و لكن ساقي اليمنى هي التي كانت تؤلمني، ساق أبي (المبتورة) هي التي كانت تصرخ من الظلم و القهر، من التعذيب ثانية و دون سبب..كنت أتألم و الضابط يضحك حتى أغمي عليّ..بتّ في الحجز تلك الليلة و حين أفقت وجدتني مع عدد كبير من الموقوفين لنفس التهمة، كان الكل ينظر إلي كما لو أنني أقبلت عليهم من الغاب، صرخت :" مالكم تنظرون إليّ؟ ألست بشرا مثلكم؟" أجاب أحدهم" لقد جفّ الدم على رأسك، لم تكن واعيا حين قذفوك إلى هنا، الحمد لله أنّك بخير" لقد كان الجميع يتكلمون لغتي، بل اللهجة نفسها..شعرت بالألفة و بكيت، ماذا لو كان العالم مساحة حرة يتنقل فيها الأفراد دون أوراق ثبوتية و دون جوازات و دون توقيف.
وقعت عيني فجأة على قطعة فحم، فاستجابت يدي بفكرة لمعت في لمح البرق، أخذت أرسم الضابط على جدار السجن بشواربه الضخمة و عينيه البارزتين و يده القاسية. أنهيت الرسم فصاح الرفاق :"ما هذا؟" قلت:"الضابط" قالوا:" هذا حيوان منوي ضخم بأنياب حادة".أعدت النظر إلى الرسم، كان كلامهم صحيحا و لكني كنت أرسم بأصابعي هذه شواربه الضخمة و عينيه البارزتين و يده القاسية. ربما كان ذلك من أثر الضرب.
سمعنا صوتا مخلخِلا قادما من السرداب قال الحارس :" الهادي ولد الحطّاب" قلت له :" أنا" قال: "تعال يا ابن ال.." اعترضت قائلا "أبي أشرف ألف مرّة من سروالك" فهوى عليّ بضربة في رأسي حتّى عَويْتُ. أدخلني إلى الضابط الذي كان محتقن الوجه يمجّ سيجارة ايطالية فاخرة فوقف و سألني:" هل أنت ابن الحطاب ثعلب الجبل" قلت:" نعم و لكنّه سُجِن ظلما و عُذّب حتى تعفّنت ساقه فتركها في الزنزانة فارّا بما تبقّى، هل هنالك تهمة أخرى توجّهونها إليه بعد أن ثبتت براءته؟" قال الضابط " و ما يدريني أن ابن ثعلب الجبل لن يكون كأبيه؟" أجبته:" في قريتنا أناس لهم من الحكمة ما يجهلهم لا يحتاجون إلى أن يجرّبوا حريق النار بعد أن رأوا غيرهم يكتوي بها" سلّمني الضابط إلى رجلين ضخمي الجثّة بغية انتزاع اعترافاتي، فقاما بالواجب أحسن قيام و لكن دون جدوى فلم يكن لديّ ما أعترف به"
أعادوني إلى الزنزانة ثانية فقد كنت أشبه بخرقة قماش مبللة بالدم لا حول لها و لا قوة، كنت عطشانا فتذكّرت عرق أمّي و هي تصنع الخبز و رائحة البخور الذي كانت دائما تملأ ثوبها، كانت تلك القطرات كافية لإشعاري بالارتواء حتى نِمْتُ.
كانت خيوط الشمس الرقيقة التي تعبر الزنزانة الانفرادية تقرص جفوني..كنت أرغب بالنوم ألف عام بلا انقطاع، تلفّتّ على جنبي الأيسر و لكني سمعت صوت الحارس كأنما يأتي من بئر عميقة، كنت غير مستيقظ تماما حين دار المفتاح في القفل و ركلني الحارس على مؤخرتي فانتفضت، كانت الزنزانة أشبه بجحر للفئران و كنت أحاول أن أعتدل في جلستي على الأرض و لكني لم أستطع، كنت أرى فيه أول مواجهة لي في حياتي مع النظام،كنت في نهاية المرحلة الابتدائية حين عرفت الوجه البشع للسلطة فقد كان رجال الشرطة يطاردون شعبا أعزل من أجل رفضه دفع ثمن الخبز المجحف و يقتلون أفراده و تكرر ذلك المشهد في المرحلة الثانوية في ظروف أخرى فكان رجال الشرطة يطاردون و يضربون شبابا مراهقين لا يتجاوز عمرهم عشرين عاما يقتحمون عليهم مؤسستهم التي يدرسون بها ليلقنوهم دروسا عصماء في الطاعة أستاذها عصا مدرّبة لا تسمع و لا تعقل. و كان حارس الزنزانة الذي أمامي لا يختلف عنهم في شيء..نفس الهمجية و الظلم، مجرد آلة في يد جبار يوجّهها حيث شاء.
أخذني الحارس إلى الضابط :"يجب أن تخلع أوهام الثورة التي في رأسك، هل تثور على أبناء وطنك، الذين هم من لحمك و دمك؟ لقد كان الاستعمار ليلا طويلا ذقنا فيه ويلات الذل و الاهانة، كنا شعبا بلا كرامة.. من أنقذك من الاستعمار و حفظ كرامتك؟ أليست الدولة التي تعاديها الآن هي التي جعلت لك كيانا مستقلا و خدمات أينما توجهت في ترابك الغالي نعمت بها؟ ألم تحمك الدولة التي تعاديها الآن من اللصوص الذين يسرقون بيتك و الغرباء الذين يقاسمونك طعامك؟ ألم ترفع الجهل عنك و عن أمثالك فبنت لكم المدارس و الثانويات و الجامعات؟ ألم تحمك من الأمراض و الأوبئة فبنت لك المستشفيات؟ ألم تكفل لك إطارا قانونيا تتزوج من خلاله و تنجب أطفالا يكون لهم كل الحقوق بحكم انتسابهم إليك؟ ألم..ألم..ألم..
انتابتني صعوبة لغوية في الردّ على كلامه فلم يكن لنا نفس منطق الكلام و التفكير و لم أكن و أنا في تلك الحالة من التعذيب و تشتت الأفكار قادرا على دحض أو إثبات كلامه فقد كان يتكلم كثلاجة ناطقة أو ككلب مسعور يرتدي بدلة. بلعت ريقي، كنت أشعر بثقل في جسمي و في لساني و قلت بحركة غريزية :" أريد أن أنام" جُنّ جنون الضابط و أخذني من ثيابي الممزقة و دفعني على الحائط "ماذا تحسبني؟ لا تتظاهر أمامي بالعَتَهِ و المسكنة فلديّ كلّ الوسائل لإنطاقك" جمعت كل قوّتي و قلت له:" يا سيدي الضابط، أنا لست ثائرا على أحد، و لا أهتمّ لأحد، أنا رسام يُقال إنّه موهوب، أردت أن أجرّب حظي في بلاد الآخر عَلّي أظفر بفرصتي، أمّي لم تكن تريدني أن أغادر و كذلك "حورية" و لكنّي أصررت. أنا لا أرفض عطايا دولتنا السَّنِية و لكنني أريد أن أطير و أرى العالم، أبي كان بريئا و مع هذا ظلت التهمة تلاحقه بل صارت تلاحقني أنا أيضا، لقد و جدت نفسي في ورطة ليس لي فيها يد، لقد حاولت أن أدخل التراب الايطالي بطريقة غير شرعية بسبب فقري و ليس لسبب آخر فأنا لا أملك المال للسياحة و لا حتى لاستخراج جواز و لو كان لديّ المال ما وقفت أمامك هذا الموقف، أنا مواطن شريف لا أمدّ يدي للكسب الحرام، ربّما كان عليّ أن أنتظر وقتا أطول لأحصل على المال و لكن لا علاقة لي بالثورة و لا بمعاداة السلطة"
مرّت الأيام على تلك الحال دون نتيجة تُذكر فالتعذيب لم يتغيّر و الأقوال لم تتغيّر و الضابط لم يسأم حتى كانت ليلة قدم فيها أحد أصدقاء الضابط المقربون و أحضر زجاجة نبيذ فاخرة، جلسا يتسامران و يضحكان حتى ساعة متأخرة. كان الحارس يسترق السمع و يتلمظ بشراهة و هو يتمنى في داخله لو يشاركهما تلك المجالسة و ذلك المشروب. لم أستطع النوم في تلك الليلة و طال السهر حتى تبسّط الضابط في جلسته و رقّ قلبه على حارسه فناداه لشرب كأس قائلا :" تعال اشرب معنا أيها الحارس البائس، فحين تغيب النساء تصير كل اللذائذ سواء" انطلق الحارس كالسهم، كاد يجري على قوائمه الأربع بعد أن تحلّب ريقه طويلا في فمه و لم يدر أنّه نسيَ سترته على شباك زنزانتي و لم يدر أنني كنت مستيقظا حتى ذلك الوقت. كانت تلك صدفة إلاهية ما كانت لتحدث مهما خططتُ لها. و هكذا كسرت قيودي بيديّ و فررت متلبّسا بجناح الليل الأزرق الفاخر.
هكذا وجدت نفسي في التراب الذي تمنت قدماي أن تطآه و اختفيت مدّة طويلة لدى فتاة تعيش بمفردها لتعول عائلتها. طلبت لديها اللجوء لِلَيلة فكانت أكرم مِمّا توقّعت،، قصصت عليها كل ما حدث معي منذ البداية فرقّت لي خاصّة حين أعلمتها بموهبتي في الرسم فاُختبرتني فلم تقف لي على كذبة واحدة و هكذا كنت أرسم في بيتها و تعرض هي لوحاتي للبيع في الشوارع التي تعجّ بالسياح.
خرجت إلى النور بعد مدّة ليست بالقصيرة، خرجت مع "لاورا" أجوب شوارع ايطاليا و استنشق هواءها الممزوج بروائح البحر و العصور القديمة..
كان ذلك المارد الذي ينتصب كل يوم و رجلاه مثبتتان على الشاطئ مادّا يده يأخذ القرابين من كل الحارقين و كأنّه قد أغفل البحرَ ليلا كي يمرّوا دون أن يتفطن إليهم البحر فينقلب عليهم. ذلك المارد الذي كان يتفضل على كل الحارقين لعقود و لا يترك ناجيا يهرب من نظرته الثاقبة إلا و أخذ منه المقابل لم يفعل ذلك معي فقد حلمت في ليلة من الليالي أنني أقطع يد المارد الممدودة للأخذ. لست أدري كيف و لكنني شعرت بقوّة لا تعادلها قوّة: شعرت أنني نِدّ لذلك المارد، لا يمسّني خوف و لا طمع. كنت أنظر في عينيه للمرّة الأولى فوجدته مجرّد تمثال مما يكبر في الوهم و ترتجف له جوارح الضعيف أما القوي فلا و قد قررت أن أكون قويا بلا رجعة.
كانت "لاورا" تتعلق بي يوما بعد يوم و لكني كلّما ضاجعتها أصرخ باسم "حورية"..لم أستطع أن أتخلص من الماضي بصفة قطعية، كان يداهمني حين أرسم و حين آكل و حين أعشق..أنا أحبّ "لاورا" فهي طيّبة و تقدّر الرسم و لكن لهفتي ناقصة وساحات روما لا تثير فيّ أيّ شجن قديم، كان اكتشافي لروما في البداية كضربة الشمس، شيء ما اِختلّ في داخلي، لم يكن ذلك الأثر الذي أردته، أردت أثرا يعيدني إلى ذاتي فإذا بحالة من التنافر المتبادل تستبدّ بهذا الاكتشاف و تُحوّله إلى غربة عميقة و شعور بدائي بالذنب.
دخل صوت أمّي إلى الشرفة من البحر، ربّما حملته سفينة راسية قادمة من بلادي بمرسوم حكومي، اشتممت رائحة الخبز و زيت الزيتون و القهوة المدقوقة..صرخ صوت في داخلي:" أنت الآن قويّ، لا تنظر إلا إلى الأمام..أنتَ في عصر الهرب، الكل هارب من الكل، الناس في معركة الوجود و العدم سواء و من أجل الوجود يحرقون الأخضر و اليابس."
(أخذ يحدّق في البحر و هو يسحب نفَسا طويلا تخنقه ذكريات الزنزانة، دخلت "لاورا" كشلّال و احتضنته من الخلف، قال بصوت شارد :"أنت هنا "لاورا"؟" قالت بدلال :" و أين كان حبيبي؟" شخصت عيناهُ بعيدا فعرفت أنه كان شاردا في الماضي، في قريته التي لم تبرحه يوما من الأيام. قالت متداركة :" لقد جلبت الآن طبقا إيطاليّا أصيلا لذيذا جدا، إنّه احتفال بشيء سيسعدك" قال :" و ما هذا الشيء؟" قالت:" لقد طرح عليّ أحد الزبائن المهمين شراء كل لوحاتك القادمة أي لن تبيع لوحاتك إلّا لهذا الزبون مقابل سعر مناسب و سيأتي إليك هنا في كلّ مرّة لتتفقا على كلّ شيء و سيوفّر لها رواقا قارا تُعرض فيه لوحاتُك شهريا قبل أن تُباع"
قال :" هذا خبر سعيد حقا، أنا مدين لك "لاورا" " قالت :" لستَ مدينا لي بشيء، لقد كانت حياتي قبلك لا لون لها و لا طعم")
قبل هذا الوقت لم أكن أشعر بالانتماء و لو وهما أما الآن و قد أخذت أكثر مِمّا كنت أنتظر فقد بدأت أشعر بالانتماء إلى "لاورا" أو هكذا خُيّل إليّ..صارحتني برغبتها الشديدة في طفل فَثُرْتُ و تحججت بأنني ما أزال أشعر بالغربة هنا و بأنني غير مستعدّ و لكن مع الأيام صرت أكثر ليونة و تقبّلا و تلاشت صورة "حورية" و أخذت مكانها صور ابني "طارق"و ابنتي "جوليا"..
كان يختزن جوعا قديما تمتصّه القناعة و غضبا قديما يدفنه الذلّ، كان لا يختلف عن كل دمى القرية، تلك الدمى تتشابه حتى العبث، حتى الفجيعة. و كان يحلو لكل محافظ قرية جديد يكلّف بمهمّة هناك أن ينزل بها ليتفرج على هذه القرية النموذجية التي يأخذ فيها التعب على الوجوه شكل سكّة القطار القديمة و الغضب على الوجوه ملامح المهرّج البائس..
كان هذا الشبه الاوتوماتيكي مثيرا للضحك يدغدغ غريزة الاقتناص لدى الساسة و يغريهم بالامتلاك البدائي، سلالة تنتصر للموت لا للحياة، تغسل كفنها كل يوم حتى يبدو في كامل نصاعته، سلالة تعشق الخسارة و تتمسك بها، فهي لا تملك غيرها. سلالة يطارد أفرادها الغيوم تتشكل في خيالهم فرسانا و عبيدا، يغرسون فيها خناجرهم و يريقون منها الدماء و يؤرخون مطارداتهم الخيالية في قصص يحكونها لأطفالهم قبل النوم.
كانت هذه السلالة خليطا غريبا من الملائكة و الأغبياء حتى إذا أخرج أحدهم مخلبه أو نقر بمنقاره لا يصيب إلا شبيهه في هذه القرية المطوقة بآلاف علامات الاستفهام أما العدو فيجهلونه أو يتجاهلونه أو يساومونه على أن يبقى شكلهم النموذجي نموذجيا فقد ضحوا طويلا ليكتسبوا هذه الصفة، هذه القرية الكتومة المتكتمة كانت حُبلى بأسرار رهيبة فتحت عليها أبواب البر و البحر و القيامة.
لم يكمل سرحان تعليمه في مدرسة القرية، كان ولوعا بالسير على طول سكة القطار كل يوم، يراقب المسافرين الذين يطلون من شبابيك القاطرات بثيابهم الأنيقة و ملامحهم المشدودة التي تدلّ على حياة تختلف كثيرا عن حياته. و كان حارس المحطة العجوز رجلا طيّبا يتقن الايطالية و يسكن وحيدا هناك دون زوجة أو ولد. كان سرحان يحلم طويلا بالأمكنة التي يصل إليها القطار و يحاول أن يتخيّل حياة أولئك الناس فلا تستعرض مخيلته إلا صور جيرانه و أفراد عائلته.
طلب سرحان إلى حارس المحطة أن يعلّمه الايطالية فأجاب الرجل: "عافاك الله من ذلك البرّ يا بني، لا تتعلم لغة أهله فتحنّ إليهم، اتعض من عمّك الهادي فقد التهمته الغربة و التهمت زوجه و صغاره ثم لفظته فردا معيدة إياه إلى نقطة البداية كأن لم يسافر و لم ينجب و لم يَغنَ. ألحّ سعيد على حارس المحطة طويلا حتى وافق لكنّه أصرّ على أن يحكي له قصّته في بلاد ما وراء البحرو خيبته التي دامت ثلاثين عاما.
قال الهادي: "كان لا بدّ من الاستمرار..رغم سوء الحظ و رغم اللاتطابق في كل شيء..كان العبث الأبيض يكتم الأنفاس في تلك المدينة الرمادية و مشنقة الوهم تشدنا بحبال لامرئية نحن الوافدين على هذه المدينة الفاجرة التي تنظر لأمثالنا بكل صلف و احتقار.
لن أنسى ذلك الزورق الدائري الذي يشبه ضلوع الحوت ذلك الذي حملني في ليلة دامسة إلى ضوء كنت أراه من قريتي العائمة فأحسبه حضارة و أحسبه حرية حتى كنت أحلم أني أعرج إليه كل ليلة في قضبان من الخوف العسكري فيلقمني حليب النجاة و الحرية. كان الليل دامسا و لم أكن أعبأ به، كنت لا أرى أمامي إلا رسوم ليوناردو دافنشي و مايكل أنجلو تتلألأ أمامي كشلالات من الضوء.
كنت قد قرأت كل ما وقعت عليه يداي من الكتب الفرنسية أو المترجمة إلى الفرنسية، قرأت "المنزلة الإنسانية" لمالرو، قرأت "الأمير" لمكيافيل، لم أترك شاعرا أو كاتبا إلا و اُطلعت على أعماله. كنت رساما موهوبا فقررت بِفَوْرة الشباب و عنفوان التجربة أن أهاجر إلى إيطاليا، كنت متأكدا بأنني لن أكون عبئا حضاريا أو هكذا خُيِلَ إليّ. كنت أرى نفسي في أوج عهدي و قد فتحت بوابة الشهرة على مصراعيها حتى اعترف بي القاصي و الداني و صار الكل يتسابق إلى دعوتي إلى أروقة الفنون و معارض الرسم العالمية و إقامة الحوارات الصحفية. كل ذلك و أنا في الزورق بين مَوْتين لا أنيس و لا رفيق.
لم أنم تلك الليلة فقد كان البحر حولي حوتا فاتحا فمه لكل من تزلّ به قدم، لم يكن لديّ المال الكافي لأسافر و لا حتى لأستخرج جواز سفر، بل كنت أرى أنني بذلك أتحلل من الانتماء إلى هذه القرية الجافة العقيم و أطير أطير كريشة في الفضاء تنتمي إلى الكون كله دون أن تخنقها حدود أو تحدد مسارها جاذبية. بدا البحر جليلا لولا أصوات متألمة هنا و هناك لأشخاص يصارعون الجوع و ساعات الليل القليلة خوفا من أن يكشفهم النهار. حاولت أن أساعد و لكن شيئا غريزيا في داخلي كان يدفعني إلى النجاة بجلدي و ادخار كل قوتي لهذا الخصم العنيف الذي يزيد الليل من هيبته خاصة و أنني كنت أسمع من بعض الوافدين على قريتنا من المهاجرين أخبار "الحارقين"* الذين يموتون بسبب عدم قدرة الزورق على تحمل عددهم الكبير أو بسبب خفر السواحل الذين يعاملونهم كمجرمين و يَعتبرون مجرما كل من يقدم لهم يد المساعدة حتى و لو كانوا في النزع الأخير.
كنت و أنا في أوج الخوف و الطمع في النجاة أسمع صوت "حورية" خافتا بعيدا حميما، كان صداه يتكسر تكسرا جميلا مع الأمواج على الصخور البحرية المترامية هنا و هناك، كنت "أوليس" الشقي و كانت تشدّني بحبال من حرير.
كنت أرى كأنّ لحاف السماء ينشقّ قليلا في كل مرّة ليهديني ومضة من ومضات وجودها الأثيري الذي لم يكن له نظير –اللعنة، كيف فكّر عقلي المريض بالسفر و ترْك جنّة حورية. حورية العاشقة التي كان الصورة المعكوسة لقريتي، كيف لم أرض بعيشة أبناء جنسي و أترابي و الحال أنني كنت أملك قلب "حورية" فتاة القرية و معشوقة كل رجالها. القرية و "حورية" و "ايطاليا" كلها مؤنثات ملعونة لوهم لا يعيش إلا في رأسي- كان ظِلها الحميم يقترب حارا شفافا في ذلك الليل البارد القاسي، كانت تتباطأ فيرفع الخيال تنّورتها البرتقالية يمينا و شمالا، كانت تلوّح بوشاح أخضر تريد أن تستبقيه معي تعويذة للسفر الطويل و انتقاما إذا لم أعُد و أفِ بالعهد، عهد التدجين الذي كُتِب على هذه القرية من قِبَل شيطان رجيم طاعن في السنّ.. أنا أحبّ "حورية" و لكنها تذكرني بكل ما أكرهه في قريتي و أريد الفرار منه، إنها الكبت و الخوف و زمن مهدور بلا فائدة، إنها قرون من التخلف تطبق على أنفاسي، أنها أمي المظلومة و أبي الخائف الذي يرعد و يزبد و يزمجر دائما علّ صراخَه يكتم صوت خوفه الهادر كمرجل دموي منذ أن قطعوا رجله اليمنى في أحد السجون لأجل تهمة طائفية لم تكن له فيها يد و لا ساق، نعم إنها تلك الرجل التى تنزف و تؤلمني، و هي لا تفهم ذلك لأنها بسيطة لا تعرف إلا الحب و صنع الخبز و جلي الصحون و هدهدة الأطفال ليناموا. إنها تشدّني إلى الأرض و أنا أريد أن أطير، كنت أرى يوما فيوما زغبا يطلع في كل مكان من جسمي و تمنيت لو كان أطول فنحن طيور قصيرة الريش لو كان ريشها أطول لاستطاعت الطيران، هكذا بكل بساطة كان يخيّل إليّ.
أقبلت "حورية" تذكّرني بوعدي أما الآن و أنا في خضمّ هذا البحر الأهوج فأنا مقتنع كل الاقتناع أنه إذا كتبت لي النجاة فلن أعود. لماذا كنت جبانا في بتر العرق و سفح الدم، ما كان عليّ أن أتركها تفني شبابها في انتظاري. طردت تنورتها البرتقالية بيد مرتعشة ف"ما خلق الله للرجل من قلبين في جوفه" اخترت "ايطاليا"
حتى لو التهمني هذا البحر، اخترت حريتي حتى و لو كانت وهما على أعتاب الآخر.
كنت أجدّف و آلاف الأفكار تلهب رأسي، قررت أن لا أسير إلا للأمام و أعجبت بهذا القرار الذي أتخذه لأول مرّة في حياتي و فجأة بهر عيني ضوء مصباح كهربائي و صوت أجش يصرخ فيّ : "تعال معنا". ارتعت، كان ضابطا أخذني مقيدا في مركب سريع و حين وصلنا أخذ يستجوبني و يسألني عن انتماءاتي و من ينتظرني في "ايطاليا"
و إلى أية جماعة أنتمي، أخبرته أنني لست سوى رسام موهوب فقير يحلم بالشهرة في "ايطاليا" فضحك و لم يصدّقني كان يضربني بعصاه على رأسي و كتفي و يديّ و لكن ساقي اليمنى هي التي كانت تؤلمني، ساق أبي (المبتورة) هي التي كانت تصرخ من الظلم و القهر، من التعذيب ثانية و دون سبب..كنت أتألم و الضابط يضحك حتى أغمي عليّ..بتّ في الحجز تلك الليلة و حين أفقت وجدتني مع عدد كبير من الموقوفين لنفس التهمة، كان الكل ينظر إلي كما لو أنني أقبلت عليهم من الغاب، صرخت :" مالكم تنظرون إليّ؟ ألست بشرا مثلكم؟" أجاب أحدهم" لقد جفّ الدم على رأسك، لم تكن واعيا حين قذفوك إلى هنا، الحمد لله أنّك بخير" لقد كان الجميع يتكلمون لغتي، بل اللهجة نفسها..شعرت بالألفة و بكيت، ماذا لو كان العالم مساحة حرة يتنقل فيها الأفراد دون أوراق ثبوتية و دون جوازات و دون توقيف.
وقعت عيني فجأة على قطعة فحم، فاستجابت يدي بفكرة لمعت في لمح البرق، أخذت أرسم الضابط على جدار السجن بشواربه الضخمة و عينيه البارزتين و يده القاسية. أنهيت الرسم فصاح الرفاق :"ما هذا؟" قلت:"الضابط" قالوا:" هذا حيوان منوي ضخم بأنياب حادة".أعدت النظر إلى الرسم، كان كلامهم صحيحا و لكني كنت أرسم بأصابعي هذه شواربه الضخمة و عينيه البارزتين و يده القاسية. ربما كان ذلك من أثر الضرب.
سمعنا صوتا مخلخِلا قادما من السرداب قال الحارس :" الهادي ولد الحطّاب" قلت له :" أنا" قال: "تعال يا ابن ال.." اعترضت قائلا "أبي أشرف ألف مرّة من سروالك" فهوى عليّ بضربة في رأسي حتّى عَويْتُ. أدخلني إلى الضابط الذي كان محتقن الوجه يمجّ سيجارة ايطالية فاخرة فوقف و سألني:" هل أنت ابن الحطاب ثعلب الجبل" قلت:" نعم و لكنّه سُجِن ظلما و عُذّب حتى تعفّنت ساقه فتركها في الزنزانة فارّا بما تبقّى، هل هنالك تهمة أخرى توجّهونها إليه بعد أن ثبتت براءته؟" قال الضابط " و ما يدريني أن ابن ثعلب الجبل لن يكون كأبيه؟" أجبته:" في قريتنا أناس لهم من الحكمة ما يجهلهم لا يحتاجون إلى أن يجرّبوا حريق النار بعد أن رأوا غيرهم يكتوي بها" سلّمني الضابط إلى رجلين ضخمي الجثّة بغية انتزاع اعترافاتي، فقاما بالواجب أحسن قيام و لكن دون جدوى فلم يكن لديّ ما أعترف به"
أعادوني إلى الزنزانة ثانية فقد كنت أشبه بخرقة قماش مبللة بالدم لا حول لها و لا قوة، كنت عطشانا فتذكّرت عرق أمّي و هي تصنع الخبز و رائحة البخور الذي كانت دائما تملأ ثوبها، كانت تلك القطرات كافية لإشعاري بالارتواء حتى نِمْتُ.
كانت خيوط الشمس الرقيقة التي تعبر الزنزانة الانفرادية تقرص جفوني..كنت أرغب بالنوم ألف عام بلا انقطاع، تلفّتّ على جنبي الأيسر و لكني سمعت صوت الحارس كأنما يأتي من بئر عميقة، كنت غير مستيقظ تماما حين دار المفتاح في القفل و ركلني الحارس على مؤخرتي فانتفضت، كانت الزنزانة أشبه بجحر للفئران و كنت أحاول أن أعتدل في جلستي على الأرض و لكني لم أستطع، كنت أرى فيه أول مواجهة لي في حياتي مع النظام،كنت في نهاية المرحلة الابتدائية حين عرفت الوجه البشع للسلطة فقد كان رجال الشرطة يطاردون شعبا أعزل من أجل رفضه دفع ثمن الخبز المجحف و يقتلون أفراده و تكرر ذلك المشهد في المرحلة الثانوية في ظروف أخرى فكان رجال الشرطة يطاردون و يضربون شبابا مراهقين لا يتجاوز عمرهم عشرين عاما يقتحمون عليهم مؤسستهم التي يدرسون بها ليلقنوهم دروسا عصماء في الطاعة أستاذها عصا مدرّبة لا تسمع و لا تعقل. و كان حارس الزنزانة الذي أمامي لا يختلف عنهم في شيء..نفس الهمجية و الظلم، مجرد آلة في يد جبار يوجّهها حيث شاء.
أخذني الحارس إلى الضابط :"يجب أن تخلع أوهام الثورة التي في رأسك، هل تثور على أبناء وطنك، الذين هم من لحمك و دمك؟ لقد كان الاستعمار ليلا طويلا ذقنا فيه ويلات الذل و الاهانة، كنا شعبا بلا كرامة.. من أنقذك من الاستعمار و حفظ كرامتك؟ أليست الدولة التي تعاديها الآن هي التي جعلت لك كيانا مستقلا و خدمات أينما توجهت في ترابك الغالي نعمت بها؟ ألم تحمك الدولة التي تعاديها الآن من اللصوص الذين يسرقون بيتك و الغرباء الذين يقاسمونك طعامك؟ ألم ترفع الجهل عنك و عن أمثالك فبنت لكم المدارس و الثانويات و الجامعات؟ ألم تحمك من الأمراض و الأوبئة فبنت لك المستشفيات؟ ألم تكفل لك إطارا قانونيا تتزوج من خلاله و تنجب أطفالا يكون لهم كل الحقوق بحكم انتسابهم إليك؟ ألم..ألم..ألم..
انتابتني صعوبة لغوية في الردّ على كلامه فلم يكن لنا نفس منطق الكلام و التفكير و لم أكن و أنا في تلك الحالة من التعذيب و تشتت الأفكار قادرا على دحض أو إثبات كلامه فقد كان يتكلم كثلاجة ناطقة أو ككلب مسعور يرتدي بدلة. بلعت ريقي، كنت أشعر بثقل في جسمي و في لساني و قلت بحركة غريزية :" أريد أن أنام" جُنّ جنون الضابط و أخذني من ثيابي الممزقة و دفعني على الحائط "ماذا تحسبني؟ لا تتظاهر أمامي بالعَتَهِ و المسكنة فلديّ كلّ الوسائل لإنطاقك" جمعت كل قوّتي و قلت له:" يا سيدي الضابط، أنا لست ثائرا على أحد، و لا أهتمّ لأحد، أنا رسام يُقال إنّه موهوب، أردت أن أجرّب حظي في بلاد الآخر عَلّي أظفر بفرصتي، أمّي لم تكن تريدني أن أغادر و كذلك "حورية" و لكنّي أصررت. أنا لا أرفض عطايا دولتنا السَّنِية و لكنني أريد أن أطير و أرى العالم، أبي كان بريئا و مع هذا ظلت التهمة تلاحقه بل صارت تلاحقني أنا أيضا، لقد و جدت نفسي في ورطة ليس لي فيها يد، لقد حاولت أن أدخل التراب الايطالي بطريقة غير شرعية بسبب فقري و ليس لسبب آخر فأنا لا أملك المال للسياحة و لا حتى لاستخراج جواز و لو كان لديّ المال ما وقفت أمامك هذا الموقف، أنا مواطن شريف لا أمدّ يدي للكسب الحرام، ربّما كان عليّ أن أنتظر وقتا أطول لأحصل على المال و لكن لا علاقة لي بالثورة و لا بمعاداة السلطة"
مرّت الأيام على تلك الحال دون نتيجة تُذكر فالتعذيب لم يتغيّر و الأقوال لم تتغيّر و الضابط لم يسأم حتى كانت ليلة قدم فيها أحد أصدقاء الضابط المقربون و أحضر زجاجة نبيذ فاخرة، جلسا يتسامران و يضحكان حتى ساعة متأخرة. كان الحارس يسترق السمع و يتلمظ بشراهة و هو يتمنى في داخله لو يشاركهما تلك المجالسة و ذلك المشروب. لم أستطع النوم في تلك الليلة و طال السهر حتى تبسّط الضابط في جلسته و رقّ قلبه على حارسه فناداه لشرب كأس قائلا :" تعال اشرب معنا أيها الحارس البائس، فحين تغيب النساء تصير كل اللذائذ سواء" انطلق الحارس كالسهم، كاد يجري على قوائمه الأربع بعد أن تحلّب ريقه طويلا في فمه و لم يدر أنّه نسيَ سترته على شباك زنزانتي و لم يدر أنني كنت مستيقظا حتى ذلك الوقت. كانت تلك صدفة إلاهية ما كانت لتحدث مهما خططتُ لها. و هكذا كسرت قيودي بيديّ و فررت متلبّسا بجناح الليل الأزرق الفاخر.
هكذا وجدت نفسي في التراب الذي تمنت قدماي أن تطآه و اختفيت مدّة طويلة لدى فتاة تعيش بمفردها لتعول عائلتها. طلبت لديها اللجوء لِلَيلة فكانت أكرم مِمّا توقّعت،، قصصت عليها كل ما حدث معي منذ البداية فرقّت لي خاصّة حين أعلمتها بموهبتي في الرسم فاُختبرتني فلم تقف لي على كذبة واحدة و هكذا كنت أرسم في بيتها و تعرض هي لوحاتي للبيع في الشوارع التي تعجّ بالسياح.
خرجت إلى النور بعد مدّة ليست بالقصيرة، خرجت مع "لاورا" أجوب شوارع ايطاليا و استنشق هواءها الممزوج بروائح البحر و العصور القديمة..
كان ذلك المارد الذي ينتصب كل يوم و رجلاه مثبتتان على الشاطئ مادّا يده يأخذ القرابين من كل الحارقين و كأنّه قد أغفل البحرَ ليلا كي يمرّوا دون أن يتفطن إليهم البحر فينقلب عليهم. ذلك المارد الذي كان يتفضل على كل الحارقين لعقود و لا يترك ناجيا يهرب من نظرته الثاقبة إلا و أخذ منه المقابل لم يفعل ذلك معي فقد حلمت في ليلة من الليالي أنني أقطع يد المارد الممدودة للأخذ. لست أدري كيف و لكنني شعرت بقوّة لا تعادلها قوّة: شعرت أنني نِدّ لذلك المارد، لا يمسّني خوف و لا طمع. كنت أنظر في عينيه للمرّة الأولى فوجدته مجرّد تمثال مما يكبر في الوهم و ترتجف له جوارح الضعيف أما القوي فلا و قد قررت أن أكون قويا بلا رجعة.
كانت "لاورا" تتعلق بي يوما بعد يوم و لكني كلّما ضاجعتها أصرخ باسم "حورية"..لم أستطع أن أتخلص من الماضي بصفة قطعية، كان يداهمني حين أرسم و حين آكل و حين أعشق..أنا أحبّ "لاورا" فهي طيّبة و تقدّر الرسم و لكن لهفتي ناقصة وساحات روما لا تثير فيّ أيّ شجن قديم، كان اكتشافي لروما في البداية كضربة الشمس، شيء ما اِختلّ في داخلي، لم يكن ذلك الأثر الذي أردته، أردت أثرا يعيدني إلى ذاتي فإذا بحالة من التنافر المتبادل تستبدّ بهذا الاكتشاف و تُحوّله إلى غربة عميقة و شعور بدائي بالذنب.
دخل صوت أمّي إلى الشرفة من البحر، ربّما حملته سفينة راسية قادمة من بلادي بمرسوم حكومي، اشتممت رائحة الخبز و زيت الزيتون و القهوة المدقوقة..صرخ صوت في داخلي:" أنت الآن قويّ، لا تنظر إلا إلى الأمام..أنتَ في عصر الهرب، الكل هارب من الكل، الناس في معركة الوجود و العدم سواء و من أجل الوجود يحرقون الأخضر و اليابس."
(أخذ يحدّق في البحر و هو يسحب نفَسا طويلا تخنقه ذكريات الزنزانة، دخلت "لاورا" كشلّال و احتضنته من الخلف، قال بصوت شارد :"أنت هنا "لاورا"؟" قالت بدلال :" و أين كان حبيبي؟" شخصت عيناهُ بعيدا فعرفت أنه كان شاردا في الماضي، في قريته التي لم تبرحه يوما من الأيام. قالت متداركة :" لقد جلبت الآن طبقا إيطاليّا أصيلا لذيذا جدا، إنّه احتفال بشيء سيسعدك" قال :" و ما هذا الشيء؟" قالت:" لقد طرح عليّ أحد الزبائن المهمين شراء كل لوحاتك القادمة أي لن تبيع لوحاتك إلّا لهذا الزبون مقابل سعر مناسب و سيأتي إليك هنا في كلّ مرّة لتتفقا على كلّ شيء و سيوفّر لها رواقا قارا تُعرض فيه لوحاتُك شهريا قبل أن تُباع"
قال :" هذا خبر سعيد حقا، أنا مدين لك "لاورا" " قالت :" لستَ مدينا لي بشيء، لقد كانت حياتي قبلك لا لون لها و لا طعم")
قبل هذا الوقت لم أكن أشعر بالانتماء و لو وهما أما الآن و قد أخذت أكثر مِمّا كنت أنتظر فقد بدأت أشعر بالانتماء إلى "لاورا" أو هكذا خُيّل إليّ..صارحتني برغبتها الشديدة في طفل فَثُرْتُ و تحججت بأنني ما أزال أشعر بالغربة هنا و بأنني غير مستعدّ و لكن مع الأيام صرت أكثر ليونة و تقبّلا و تلاشت صورة "حورية" و أخذت مكانها صور ابني "طارق"و ابنتي "جوليا"..
كنت طيلة أربعين عاما أعمل كالوحش مدفوعا بعبارات الثناء و الاعتبار الكبير لشخصي و لِفَنّي الذي كان غريبا عن أمثالي، كان الايطاليون يشترون رسومي فقد كانت تعكس روح الشرق و المغرب كما أنها تمثل يدا عاملة رخيصة تمكنهم من تزيين بيوتهم و بناءاتهم بأثمان أزهد و كانوا يرون فيّ الوافِدَ مُحدَثَ النعمة رغم أني قضيت بينهم زمنا أطول من الذي قضيته في قريتي مسقط رأسي، حتّى "لاورا" بدأت تضيق بطباعي و تتّهمني بالكِبَرِ و الخَرَف و بأنني لا أختلف عن أي شيخ من شيوخ قريتي. كانت "لاورا" المسؤولة عن كل ما يتعلق بالمسائل المالية أما أنا فلم أكن أهتم إلا بالابداع و في يوم من الأيام، كنت أقوم بنزهة بحرية و حين عدت إلى البيت وجدت كارثة في المنزل فقد رفعت عليّ زوجتي دعوى في الطلاق و دعوى في الحجر عليّ لأنني صرت عجوزا و لم أعد أملك الأهلية الكافية لإدارة أموالي و أعمالي و ما قصم ظهري أن اُبْنَيّ كان لهما نفس الموقف فما كان مني بعد خسارتي الفادحة في عائلتي إلا أن أعددت حقيبتي و يمّمت طريق العودة علّي أنقذ ما تبقّى و لكن هيهات فقد مات أكثر أفراد عائلتي و ماتت "حورية" التي قضت عمرها في انتظاري، عدت لأجد قريتي كما تركتها أما أنا فقد كنت مَسْخًا مُشوّها لا أقدر حتى على رؤية شكلي في العيون المطفأة لأهل قريتي، العمل الوحيد الذي وجدته هو حراسة محطة القطار لإتقاني لغة الأجانب و ها أنت تراني الآن بعد حياة بطولها و عرضها أحتاج للعمل لآكل، عملا حقيرا يليق بشَيْخ "وحيد خَرِف من شيوخ هذه القرية".
أخذ الهادي يزفر زفيرا حارّا و ينشج نشيجا مُرّا أمّا سرحان فلم يكن قادرا على تهدئته و هو ينوء تحت ثقل عقود طويلة من الزمن و خيبة في الولد لا يُحسد عليها، إذ كيف يواسيه و لم يعُد له أحد في القرية، خسر ماضيه من أجل مستقبل لن يكون ملكا له و خسر أرضه من أجل أن يعمّر أرض الآخر.
الحارق: في اللهجة المحلية هو المهاجر غير الشرعي. و الحَرْقة هي الهجرة غير الشرعية.
الفصل الثاني
سرحان يذكر "حورية"، تلك المرأة التي كانت تجوب شوارع القرية حاملة فستانا أبيض على كتفها. كانت تسير حافية القدمين دون أن تعبأ بحجر في الطريق أو مسمار أو قطعة زجاج. كانت تمشي فقط و عيناها شاخصتان إلى الأمام و شعرها الذي أخذ يبيضّ شعرة شعرة كان يشهد طوله على سنِيّ انتظارها. كانت تحلم و تغضب و تبكي و تضحك و تتحدث و هي تسير.
"حورية" العاشقة المعشوقة أذلّها الرجال بعد رحيل "الهادي". كانوا طيورا لاحمة تحوم حول شبابها و كان جمالها أشرس أعدائها فلم تستطع ترويضه بكل الطرق. سجنت نفسها في المنزل و تفرّغت للطهو و العبادة و أبدا لم تنسَ. كان الوقت يتسلّى بها، يقطع أوصالها ببطء و يبلي جسمها الغض.
طلب إليها أحد عشّاقها أن يعلّمها القراءة و الكتابة فكانت تجيبه :" سيعود الهادي و يعلّمني العربية و الإيطالية".كانت ظلال وجهها تعكس غروبا شاحبا يجفّ ضوؤه يوما فيوما كأن لم تكن بحرا و لم تكن شجرا و حدائق مختالة في سذاجة الشباب و عنفوانه.
لم يعد "الهادي" أبدا، كان خيبتها التي كانت تسترها عن العيون كعَورة بشعة و كانت تَشرَق بطعامها كلما مرّ هو بخيالها فَكَوَى عمرها.. لقد كانت مزيجا غريبا بين الغواية و الوفاء، كان قلبها مُلتاثا بنزق الفراق فلم تستطع الاستمرار مع أي رجل من الذين أحبّوها، ربما أحبت "الهادي" لأنه لن يعود.
كانت في القرية امرأة مطلقة ثرية تسكن وحدها و تدير مقهى يجد فيه العابرون و أهل القرية كل أسباب الرفاه من أكل و شرب و موسيقى و إذا أراد بعضهم الاستلقاء للراحة يجد غرفا جاهزة للقيلولة.
طلبت السيدة من "حورية" العمل لديها فهي تعرف بخبرتها الطويلة أن "حورية" قادرة على جلب أكبر عدد من الزبائن و استرضائهم إذا غضبوا. كانت تعمل طول النهار و قسطا من الليل بأجر زهيد، كانت تريد أن تهرب من عيون "الهادي" و ضمّة ذراعيه و طعم قبلاته و كانت تخلد للنوم كبالون مثقوب بعد أن يأخذ منها العشاق كل ما أرادوا، حتى مُحافظ القرية الذي دعاها ليقدّم لها عملا يصون شرفها و يحفظ غيبة حبيبها كان يستدرجها إلى فراش مكتبه ليأخذ منها في السّر ما يأخذه غيره في العلن.. تساءلت في سرّها:" لماذا يتصرّفون معي بهذه الخِسّة؟" فلا يجيبها سوى صدى وحدتها الكتومة و حرارة دموعها التي لا تجف إلا عند النوم.
كانت تهرب تارة إلى الأماكن المقدّسة و تارة إلى النبع الجاري الواقع جنوب القرية لتغتسل من أدرانها و ذكرياتها و طورا تملأ فمها بحبوب منوّمة و تدلق فيه كأسا من الماء و تنام.. كانت حياتها خيطا متوتّرا بين ما يريده مجتمع القرية و ما يرفضه، بل كانت مقياسا حسّاسا لانفصامية القرية و رقصها البهلواني بين العبث و التكفير.
زمن ولّى متقطّعا بين الهرب و الاختباء، بين الشهوة المقدّسة و الروحانية الشبقة، لم تكن "حورية" قد تعلّمت حرفا و لكنها كانت ك"فينوس"، جمالا ناطقا لا يحتاج إلى لغو الأبجدية، هل خانت هي "الهادي"؟، لقد انتظرته وسط صراخ جوارحها الجائعة و شبابها الثمل و أجنّتها المحتملين. كانت كل موعد طمث تضرب فخذيها و تقول :"أولادي و أولاد "الهادي"، أولادي و أولاد "الهادي"، متى تروْن النور و تدخلون المدارس و أراكم رجالا و نساء أفقأ بكم عيون نساء القرية و رجالها" و لكنها لم تكن أمّا يوما، ربّما اُمتص جمال وجهها كل خصوبتها و أغلق شعور الإثم رحِمَها بقفل من حديد.
هكذا مرّت حياتها بين عقل و جنون حتى ماتت لكن أغلب أهل القرية يُجمِعون في جلساتهم السرّية على أنها أحبّت رجلا رومانيا عرّفها أسرار النبيذ و الجسد، ذلك الرجل الذي كان يعمل وسيطا روحيا يعتاش من أهل القرية، يقرّب لهم عالم الجن و يدّعي قدرته على العلم و تغيير المصائر، كان يتخذها معاونة له و لكن ذلك لم يمنع الاثنين من الضرب بقيم القرية عرض الحائط و التعايش كالأزواج.
"حورية" العاشقة المعشوقة أذلّها الرجال بعد رحيل "الهادي". كانوا طيورا لاحمة تحوم حول شبابها و كان جمالها أشرس أعدائها فلم تستطع ترويضه بكل الطرق. سجنت نفسها في المنزل و تفرّغت للطهو و العبادة و أبدا لم تنسَ. كان الوقت يتسلّى بها، يقطع أوصالها ببطء و يبلي جسمها الغض.
طلب إليها أحد عشّاقها أن يعلّمها القراءة و الكتابة فكانت تجيبه :" سيعود الهادي و يعلّمني العربية و الإيطالية".كانت ظلال وجهها تعكس غروبا شاحبا يجفّ ضوؤه يوما فيوما كأن لم تكن بحرا و لم تكن شجرا و حدائق مختالة في سذاجة الشباب و عنفوانه.
لم يعد "الهادي" أبدا، كان خيبتها التي كانت تسترها عن العيون كعَورة بشعة و كانت تَشرَق بطعامها كلما مرّ هو بخيالها فَكَوَى عمرها.. لقد كانت مزيجا غريبا بين الغواية و الوفاء، كان قلبها مُلتاثا بنزق الفراق فلم تستطع الاستمرار مع أي رجل من الذين أحبّوها، ربما أحبت "الهادي" لأنه لن يعود.
كانت في القرية امرأة مطلقة ثرية تسكن وحدها و تدير مقهى يجد فيه العابرون و أهل القرية كل أسباب الرفاه من أكل و شرب و موسيقى و إذا أراد بعضهم الاستلقاء للراحة يجد غرفا جاهزة للقيلولة.
طلبت السيدة من "حورية" العمل لديها فهي تعرف بخبرتها الطويلة أن "حورية" قادرة على جلب أكبر عدد من الزبائن و استرضائهم إذا غضبوا. كانت تعمل طول النهار و قسطا من الليل بأجر زهيد، كانت تريد أن تهرب من عيون "الهادي" و ضمّة ذراعيه و طعم قبلاته و كانت تخلد للنوم كبالون مثقوب بعد أن يأخذ منها العشاق كل ما أرادوا، حتى مُحافظ القرية الذي دعاها ليقدّم لها عملا يصون شرفها و يحفظ غيبة حبيبها كان يستدرجها إلى فراش مكتبه ليأخذ منها في السّر ما يأخذه غيره في العلن.. تساءلت في سرّها:" لماذا يتصرّفون معي بهذه الخِسّة؟" فلا يجيبها سوى صدى وحدتها الكتومة و حرارة دموعها التي لا تجف إلا عند النوم.
كانت تهرب تارة إلى الأماكن المقدّسة و تارة إلى النبع الجاري الواقع جنوب القرية لتغتسل من أدرانها و ذكرياتها و طورا تملأ فمها بحبوب منوّمة و تدلق فيه كأسا من الماء و تنام.. كانت حياتها خيطا متوتّرا بين ما يريده مجتمع القرية و ما يرفضه، بل كانت مقياسا حسّاسا لانفصامية القرية و رقصها البهلواني بين العبث و التكفير.
زمن ولّى متقطّعا بين الهرب و الاختباء، بين الشهوة المقدّسة و الروحانية الشبقة، لم تكن "حورية" قد تعلّمت حرفا و لكنها كانت ك"فينوس"، جمالا ناطقا لا يحتاج إلى لغو الأبجدية، هل خانت هي "الهادي"؟، لقد انتظرته وسط صراخ جوارحها الجائعة و شبابها الثمل و أجنّتها المحتملين. كانت كل موعد طمث تضرب فخذيها و تقول :"أولادي و أولاد "الهادي"، أولادي و أولاد "الهادي"، متى تروْن النور و تدخلون المدارس و أراكم رجالا و نساء أفقأ بكم عيون نساء القرية و رجالها" و لكنها لم تكن أمّا يوما، ربّما اُمتص جمال وجهها كل خصوبتها و أغلق شعور الإثم رحِمَها بقفل من حديد.
هكذا مرّت حياتها بين عقل و جنون حتى ماتت لكن أغلب أهل القرية يُجمِعون في جلساتهم السرّية على أنها أحبّت رجلا رومانيا عرّفها أسرار النبيذ و الجسد، ذلك الرجل الذي كان يعمل وسيطا روحيا يعتاش من أهل القرية، يقرّب لهم عالم الجن و يدّعي قدرته على العلم و تغيير المصائر، كان يتخذها معاونة له و لكن ذلك لم يمنع الاثنين من الضرب بقيم القرية عرض الحائط و التعايش كالأزواج.
قيلت الأشياء بينهما بشكل لاسلكي فريد الالتقاط ذات مرّة كانت تغتسل فيها عند النبع و قد تعرّت كسمكة و اُنبرت تتخبّط في الماء في طقس عجائبي أدهش ذلك السائح الذي مرّ عفوا من ذلك المكان، لم تكن تعي ما حولها و هي تمارس فروض التطهير ملتحمة بقطرات النبع الحارة الهاوية من الجبل، كان يراقب بوجه طفولي تلك الجنية التي ما كان ليصدق بوجودها لولا أن تراءت أمام عينيه الاثنتين و انتثر ماء على وجهه من حركاتها المنتفضة الصاعدة نحو السماء بخيوط من ضياء.. أخذ يتابع بعينيه خريطة ذلك الجسد المنحوت من الماس و هو يحيا و يموت في قبضة الزمن المارد يُخرج من العدم الوجودَ و من النقصان الكمال ، هي الأنثى فاكهة الكون الغامضة تأخذك في عربة الموت إلى الحياة، في حدس من العوالم القصية المباغِتة لتكمل رسم وجهك.. لعن الاستعمارَ و كل الحدود التي تفصل بين الانسان و شبيهه، هو المستعمر القادم من بلاده ليتمتع بثروات بلد لم يعرف أهله كيف يحسنون استغلاله. ارتعشت حورية لمشهده و هو يلعق قطرات من البرندي الأحمر خال أنها بلّت شفتيه و مدّت يدا مضطربةإلى غصن الشجرة الملاصقة للنبع تجلب غطاء لكنّه احتضنها بسرعة البرق قبل أن تتغطى بكاملها و اُفتكّ منها قبلة شرسة قبل أن يعيدها إلى النبع و يتّحد بها و قد غطت ظلال الغروب الشفقية امتزاجهما بورقة عنب كبيرة سقطت لتوّها من السماء.
عدّلت القرية ساعاتها على ذلك الحدث الاستثنائي الذي جمع القطبين و رجّ سباتها و مسلّماتها الأولى في علاقة الشرق بالمغرب و الشرق بالغرب و اُنقسم أهل القرية شِيَعًا و قبائل منهم الرافض مع اختلاف سبب الرفض و منهم الموافق المستتر لاستفادة أو خشية الجهر بما لا يعجب الناس.
كانت "حورية" تعمل لدى "الأجنبي" ضمن توقيت جديد لم يتعوّده أهل القرية، فمحافظ القرية قد بارك هذا العمل علنا في اجتماع عقده يثمّن فيه الدور الجليل الذي يقوم به "الأجنبي" من أجل الحفاظ على توازن أهل القرية النفسي فهو يجعل لكل صنف من المحرّمات مقدارا يجعله مباحا عند الضرورة كما أنّ الخدمات التي يقدّمها لأهل القرية لرفع الشر و السحر و اخصاب النساء و الرجال و تعجيل زواج العوانس من الرجال و النساء لا يمكن إنكارها فهذه الحالات كثيرة في القرية و التهاون في علاجها يفتح أبواب الثورة و العصيان و هذا مما لا يعجب الحاكم بالإظافة إلى أنّهُ يداوي زبائنه بالكلام المقدس الذي يدين به كل أفراد القرية و هذا مَنٌّ ما بَعْدَهُ مَنٌّ.
اِنجلت الفُرقة بينهما منذ حادثة النبع و صارت "حورية" تلازمه ليلا نهارا تساعده في مزج الأخلاط التي تراها أنسب لحالة الزبون فهي تعرف القرية حصاة حصاة، عشبة عشبة و بيتا بيتا أما هو فلم يبخل عليها بمعارف بلاده الحسية فقد انكشفت لها معه عوالم لم تعرفها مع أيّ من عشاقها الذين كانوا يتخبّطون بين تعب و هرب. كان يعطي اللذة وقتها كاملا و يتطهر لها تطهر العابد المخلص يدخل حرم الشهوة في جلال و انبهار و قد أعدّ لها كلّ ما يسعد النفس من طيب الريح و فخم الفُرُش و لذيذ الراح و قُرصا موسيقيا يأخذ بالألباب مما اُجتلبه من بلاده الباذخة التي تتفتح كزهرة عبّاد شمس لاحمة لتلتهم مسافات من تراب البلد مُدّعيَة تمدينه و سقايته بماء الحضارة و هي تأخذه إلى المذبحة.
مزّقت "حورية" قماش الشرف و هي لا تعلم، كانت تنتقم في داخلها من "الهادي" وقد سلب الانتقام عقلها. ذهب رجلُها و تركها لغواية عصر مجنون دخلته عزلاء و اُنفتحت على طيباته و شروره و هي عاجزة عن إقامة الميزان. كان الجنين يتخبّط في أحشائها شهورا ثم ينزل دما و سحايا، كانت تكتم الحمل و تكتم الوضع و هي تتخبط في آلام لا يعلم شدّتها إلّاها..
"حورية" أغنية الفقر و التخلف و الضياع، تبدّلت العلاقة بينها و بين "الأجنبي" و اُنكسرت مرّات لكنّها لم تنقطع، كان هو يكبر و يَغنى و يتعملق و كانت هي تشيخ شيئا فشيئا، كانت مرارتها تزداد يوما فيوما و هي تنتظر المُخلِّص فلا يأتي، حَجَبَها "الأجنبي" عن النبع و عن كل ما يتعلق بالقرية و أهلِها حتى صارت دمية فاخرة لا تختلف عن أية قطعة من قطع البيت الكبير الذي اُتخذه "الأجنبي" مسكنا و مكانا للعمل، كان يجني أموالا طائلة من الأهالي يضع منها نسبة معلومة في جيب المحافظ و يحتفظ بالآخر لنفسه حتى استطاع شراء نصف أراضي القرية و بسط نفوذه على مستضعفيها يأمر و ينهى و يشغّل و يعزل.. هذا الروماني الذي قدم إلى القرية عارضا خدماته على أهلها، كان لديه كل ما ينقصهم:العلم و التخطيط الطويل..أما هم فكانوا يرون أن كل ما لديهم هو من تحصيل الحاصل و كل ما ليس لديهم هو من تحصيل الحاصل أيضا و كان كل ذلك مسوّغا لأن ينطبق عنف الطبيعة على عالم البشر فيستبدّ كل من استطاع.
بمرأى من المروج اللامعة كان "الأجنبي" يجذب نفسا طويلا يملؤه انتشاء لامحدود بالمحاصيل التي استوت و الحيوانات التي توالدت و الحليب الذي فاض في جراره، كان يضع رأس حورية بين يديه و يصرخ:" كل هذا لي، كل هذا لي يا حورية" و لكن حورية لا تجيب، رأسها المثقل بالكحول الذي أدمنته مع السنوات لم يعد يمكّنها من استيعاب ما حولها، لقد جفّف شبابها الحرمان و الاهانة و غياب الراعي..
الخمر و الدموع و العربدة و ذئاب الليل، ظنّت أنّها نسيت كل ذلك و لكن "الأجنبي" ملّ الطعم الحار و حنّ لِلَحْمِ بِلادِه فنبذها و صار يقدّمها لكل زبون يتعامل معه من خارج القرية أما هو فينزل كل أسبوع إلى المدينة ليطمئن على زوجته الأجنبية و ولديه "فيليب" و "كلود".
لقد وهبت "حورية" نفسها لِ"الآخر" كما فعل "الهادي" و خانت كما خان و اُستمتعت كما استمتع و عادت خائبة كما عاد فما كان جدوى طول الطريق و الحال أنها بين الشبيهين أقرب و أخصب و هي مع "الآخر" عقيم، عقيم.
كانت "حورية" تعمل لدى "الأجنبي" ضمن توقيت جديد لم يتعوّده أهل القرية، فمحافظ القرية قد بارك هذا العمل علنا في اجتماع عقده يثمّن فيه الدور الجليل الذي يقوم به "الأجنبي" من أجل الحفاظ على توازن أهل القرية النفسي فهو يجعل لكل صنف من المحرّمات مقدارا يجعله مباحا عند الضرورة كما أنّ الخدمات التي يقدّمها لأهل القرية لرفع الشر و السحر و اخصاب النساء و الرجال و تعجيل زواج العوانس من الرجال و النساء لا يمكن إنكارها فهذه الحالات كثيرة في القرية و التهاون في علاجها يفتح أبواب الثورة و العصيان و هذا مما لا يعجب الحاكم بالإظافة إلى أنّهُ يداوي زبائنه بالكلام المقدس الذي يدين به كل أفراد القرية و هذا مَنٌّ ما بَعْدَهُ مَنٌّ.
اِنجلت الفُرقة بينهما منذ حادثة النبع و صارت "حورية" تلازمه ليلا نهارا تساعده في مزج الأخلاط التي تراها أنسب لحالة الزبون فهي تعرف القرية حصاة حصاة، عشبة عشبة و بيتا بيتا أما هو فلم يبخل عليها بمعارف بلاده الحسية فقد انكشفت لها معه عوالم لم تعرفها مع أيّ من عشاقها الذين كانوا يتخبّطون بين تعب و هرب. كان يعطي اللذة وقتها كاملا و يتطهر لها تطهر العابد المخلص يدخل حرم الشهوة في جلال و انبهار و قد أعدّ لها كلّ ما يسعد النفس من طيب الريح و فخم الفُرُش و لذيذ الراح و قُرصا موسيقيا يأخذ بالألباب مما اُجتلبه من بلاده الباذخة التي تتفتح كزهرة عبّاد شمس لاحمة لتلتهم مسافات من تراب البلد مُدّعيَة تمدينه و سقايته بماء الحضارة و هي تأخذه إلى المذبحة.
مزّقت "حورية" قماش الشرف و هي لا تعلم، كانت تنتقم في داخلها من "الهادي" وقد سلب الانتقام عقلها. ذهب رجلُها و تركها لغواية عصر مجنون دخلته عزلاء و اُنفتحت على طيباته و شروره و هي عاجزة عن إقامة الميزان. كان الجنين يتخبّط في أحشائها شهورا ثم ينزل دما و سحايا، كانت تكتم الحمل و تكتم الوضع و هي تتخبط في آلام لا يعلم شدّتها إلّاها..
"حورية" أغنية الفقر و التخلف و الضياع، تبدّلت العلاقة بينها و بين "الأجنبي" و اُنكسرت مرّات لكنّها لم تنقطع، كان هو يكبر و يَغنى و يتعملق و كانت هي تشيخ شيئا فشيئا، كانت مرارتها تزداد يوما فيوما و هي تنتظر المُخلِّص فلا يأتي، حَجَبَها "الأجنبي" عن النبع و عن كل ما يتعلق بالقرية و أهلِها حتى صارت دمية فاخرة لا تختلف عن أية قطعة من قطع البيت الكبير الذي اُتخذه "الأجنبي" مسكنا و مكانا للعمل، كان يجني أموالا طائلة من الأهالي يضع منها نسبة معلومة في جيب المحافظ و يحتفظ بالآخر لنفسه حتى استطاع شراء نصف أراضي القرية و بسط نفوذه على مستضعفيها يأمر و ينهى و يشغّل و يعزل.. هذا الروماني الذي قدم إلى القرية عارضا خدماته على أهلها، كان لديه كل ما ينقصهم:العلم و التخطيط الطويل..أما هم فكانوا يرون أن كل ما لديهم هو من تحصيل الحاصل و كل ما ليس لديهم هو من تحصيل الحاصل أيضا و كان كل ذلك مسوّغا لأن ينطبق عنف الطبيعة على عالم البشر فيستبدّ كل من استطاع.
بمرأى من المروج اللامعة كان "الأجنبي" يجذب نفسا طويلا يملؤه انتشاء لامحدود بالمحاصيل التي استوت و الحيوانات التي توالدت و الحليب الذي فاض في جراره، كان يضع رأس حورية بين يديه و يصرخ:" كل هذا لي، كل هذا لي يا حورية" و لكن حورية لا تجيب، رأسها المثقل بالكحول الذي أدمنته مع السنوات لم يعد يمكّنها من استيعاب ما حولها، لقد جفّف شبابها الحرمان و الاهانة و غياب الراعي..
الخمر و الدموع و العربدة و ذئاب الليل، ظنّت أنّها نسيت كل ذلك و لكن "الأجنبي" ملّ الطعم الحار و حنّ لِلَحْمِ بِلادِه فنبذها و صار يقدّمها لكل زبون يتعامل معه من خارج القرية أما هو فينزل كل أسبوع إلى المدينة ليطمئن على زوجته الأجنبية و ولديه "فيليب" و "كلود".
لقد وهبت "حورية" نفسها لِ"الآخر" كما فعل "الهادي" و خانت كما خان و اُستمتعت كما استمتع و عادت خائبة كما عاد فما كان جدوى طول الطريق و الحال أنها بين الشبيهين أقرب و أخصب و هي مع "الآخر" عقيم، عقيم.
الفصل الثالث
الفيلا القديمة المسيّجة بخوف سريالي شائك، تلك الفيلا بعيون فولاذية يزيد من شررها ليل القرية المعتم، ارتفعت منذ حوالي ربع قرن لتـأوي كل محافظ قرية يفد ليقوم بالمهام الموكلة إليه..طاف بها وباء العزلة منذ أول يوم فلا أحد من أهل القرية يجرؤ على الدخول إليها. كانت تحرسها كلاب ضخمة يحرص سيدها على ادّخار زادها من اللحوم البشرية المتمرّدة بين الفينة و الأخرى لتكون الحَكَمَ و الشاهد الذي لا يسمع و لا يرى و لا يتكلم، المنازل المحيطة بها يحني ظهورها ذلّ مقيم يتقاطر عليها من فوق كرذاذ يسقي و لا يحمل، كبلازما ملوّّثة يجتمع فوقها الذباب و كل ذوات الأرجل فتبني بينها و بين السّماء سدّا..
يشهد كل شيوخ القرية على عوّاد المسكين، زين شبابها الذي أتمّ دراسته الجامعية في المدينة و حين رجع لم يتحمّل ظلم المحافظ لأبيه المُسِنّ الذي كان يعمل في مكتبه: يجيب عن المطالب المتأخرة، و يحمل الهدايا التي ينفح بها أهالي القرية المترفون و المعدمون محافظ قريتهم، و يجلب الرسائل من مركز البريد البعيد، و يقوم بكل حاجيات سيده كل ذلك على قدميه و لا يعود إلى بيته إلا في ساعة متأخرة. و قد تمادى المحافظ في أوامره فصار يفرض على أمّ عوّاد القدوم إلى المكتب كلّ يوم لتنظيفه فيما يرسل الزوج للقيام بخدماته التي لا تنتهي و قد بلغت به الدناءة حدّ مراودتها و هي المرأة العفيفة المُسِنّة التي زوّجت كل بناتها و بقيت تنتظر عودة ابنها الشاب بفارغ الصبر لتحتفل بزواجه و ترى أولاده. عادت المرأة المسكينة إلى بيتها تجرّ ثوب العار بعد أن دافعت عن نفسها بكل ما أوتيت من قوّة و لكن المحافظ كان أقوى منها و أشد ضراوة. دخل عوّاد عليها البيت فوجدها تلطم وجهها و فخذيها و تضرب صدرها. لم تكن تدري ما تفعل، كانت تشعر بالعار و الانكسار و الغيظ، كانت عاجزة عن أن تدفع عن نفسها ذلك المارد الذي وقف فيه الشيطان فسلب منه العقل و الدين. كانت تصرخ:" يا بُني حرام عليك ما تفعله، حرام يا بُنيّ" و لكنّه لم يكن يسمع أو يعقل، كان يلبّي حاجة و كفى.. لم يرَ عوّاد أمّه يوما على ذلك الحال، سألها و ألحّ في السؤال لكنّها لم تكن تجيب، كانت تطلب منه أن يتركها و كفى، جُنّ جُنونه و سألها أين كانت؟ فكتمت أمر عملها في مكتب المحافظ و أخبرته بأنّها كانت لدى الجارة. لم يصدّق عوّاد كلام أمّه و لكنّه حين قابل أوّل جار له لامه الجار على ترك والده العجوز يعمل لدى المحافظ الذي يضطهده و يضطهد زوجته العجوز فيما هو يتمتّع بالراحة في الجامعة و لا يتحمّل حتّى مصاريف دراسته بمفرده ليجنّب أبويه كلّ هذا الذلّ..
لم يتحمّل عوّاد سماع ذلك الكلام فعاد إلى أمّه صارخا :"كيف تكتمين عنّي أمر عملك لدى المحافظ؟" تلعثمت الأم و قالت :" حياة مُرّة يا ولدي، الله يبعد عنك أولاد الحرام" سأل عوّاد :" وهل ذهبت إلى العمل هذا الصّباح؟" اِرتاعت الأم و نفت ذلك و لكنّه أحسّ في داخله بما كانت تكتمه أمّه و لم يستطع أن يذِلّها أكثر مما فعل المحافظ. اِنطلق عوّاد كالسّهم نحو مكتب المحافظ و دخل عليه و عيناه تلتهبان شررا و قهرا :" أيّها النتن، ماذا فعلت بأمّي؟" ارتجف المحافظ و حاول أن يتمالك نفسه :" من أمّك أيها الصغير؟ هل أضعتها؟ أغرب عن وجهي" صاح عوّاد:" أمي هي صالحة زوجة خادمك الأمين عيسى" اِصطكّت أسنانه و أنكر معرفته بها لكن عوّاد أمسكه من رقبته و ضغط عليها حتى كاد يقتله فاُنفلت بحركة غريزية و مدّ يده إلى درج المكتب و أخذ مسدّسه المحشوّ دائما و الجاهز أبدا و أطلق عليه النار. تعوّد المحافظ في مثل هذه الحالات أن يقوم بكل شيء بمفرده و هكذا كان الجسد الغض و الشهادة الجامعية من نصيب كِلاب الفيلا المعزولة التي كانت تدور كَرَحى لتسحق في كل مرّة واحدا ممن لا يُعجبون صاحبَ السيادة. لم يجرؤ أحد في القرية على سرد الحكاية لكن أبا عوّاد فقد عقله أمّا أمّ عوّاد فماتت حسرة على شرفها وولدها و زوجها.
كان يحيى مدرّسا كفؤا، أمّ سلمان تذكر كيف اقتاد الدركُ زوجها بعد أن اُتُهِم بتلقين الأفكار الثورية لأبناء مدرسته و تشجيعهم على التمرّد و العصيان و فتح عيونهم على الصراعات الطبقية و صرف هؤلاء عن المقرر المدرسي لأنّه يكرّس الاستبداد و اختيارات الدولة. يَحيى أنقذ أطفال القرية من أوحال الأزقة و المستنقعات، وقف في وجوه من يشغّلونهم و يستغلونهم في شكل عصابات للتسوّل، وقف في وجوه آبائهم ليعطيهم فرصة أن يكونوا مساوين للأطفال في كلّ مكان، سنوات طويلة من المحن و الكفاح و العناد قضاها ليرفع الجهل و الإهانة عن جيل بكامله. لم يعبأ بالأمراض التي توالت على جسمه عاما فعاما، لم يفكّر يوما أن يأخذ مالا منهم لقاء الساعات الطوال التي كان يقضيها بعد الدوام و هو يراهم بعيونهم الصغيرة المتعطشة لكل كلمة يقولها يتابعون كلّ حركاته و سكناته، و يرون فيه المثل الأعلى الذي إن نجحوا فذلك من أجله و إن تجاوزوا قدراتهم الصغيرة و قدّموا أكثر مما يقدرون عليه فذلك من أجله أيضا. كان يبلع مشاكله في صمت و يقابل صراخ زوجته و أبنائه بالتسويف الذي تحوّل إلى كذب عَارٍٍ. لقد أخذ على عاتقه مسؤولية انتشال القرية من القاع لأنه يعلم أن الوصول إلى الغايات يقتضي الأخذ بالأسباب و هو يعلم أن أطفال القرية منجم ذهب ينبغي حُسن استغلاله و بذلك يرفع عن وطنه كابوس التبعية و المحسوبية.
يَحيى يُحبّ وطنَه، هذا ما تعلّمه من أبيه و أمّه و جدّه و جدّته و كلّ من علّمه و عَاشرَه، الوطن فكرة مقدّسة و التراب أغلى من اللحم و هذا ما يريد أن يعلّمه لأطفال القرية، و لكن الوطن صار دولة و الدولة صارت حزبا و الحزب صار رجُلا واحدا و هكذا صار الوطن زجاجة خمر صغيرة تختنق فيها الأفكار و المصالح و الهموم و يفكّر الناس في مغادرتها لِ"وطن" آخر. الوطن صار أنيقا بما يكفي: أعلام ملونة، سيارات فخمة، ترسانة حربية تُوجّه نحو الداخل قبل الخارج، هيبة فساتين و بدلات و سترات مضادة للرصاص و مسدّسات فخمة تقبع في مكان قريب جاهزة للدفاع "الشرعي"..
صار الوضع الجديد مزعجا، من غير المريح أن تعيش في مكان لا تنطبق عليه مواصفات الوطن، و من غير المنطقي أن لا يبقى الحسن حسنا و القبيح قبيحا، و من المؤلم أن لا يفهمه الآخرون كما لو كان قادما من كوكب آخر. من المُحزن أن تضيع سنين نضاله و أحلام عمره في إخصاب هذه الصحراء التي يوم حان حصادُها كشرت عن أنيابها كأن لم يسقها من دمائه و أعصابه و لم يغذّها من رذاذ أحلامه، من المحزن أن يترك عائلته تعاني الفقر و الحاجة و هو قادر على الاستثراء من الأهالي كما فعل غيره من أبناء القرية حتى صاروا من أعيانها و كبرائها.
كيف يدرّس جيلا لا يعلم شيئا عن حب الله و الوطن و الوالدين و لا يهمّه أن يعلم، كيف يدرّس جيلا تبرّر الغاية لديه الوسيلة و تتساوى عنده كل القيم يلبس لكل حال لَبوسها فهو مع الحق و الباطل معا و هو مع دعم هذا و ذاك معا لا يرى إلا شبحَه في المرآة متعاليا متعملقا يسير حيث تسير مصلحته. أي وطن بلا حنين و أيّ وطن بلا ذاكرة؟
صار الأطفال الذين يدرّسهم جواسيس و مخبرين بوعي أو بغير وعي، يتآمرون على نزاهته و شقائه و مبادئه التي عاش عمره يدافع عنها و يكرّسها، مبادئ في الحقيقة لا تضرّ أحدا و لكنّها لم تضرّ غير صاحبها.
كان يشرح للمحافظ مأساته و خيبته في الجيل الجديد :" أنت أب و تعلم، هؤلاء الأطفال في قبضة شيطان مريد يحرّكهم حيث شاء و لا أحد يعلم مبلغ قوّته و تأثيره. على كلّ واحد منّا من موقعه الخاص أن يقوم بدوره علّنا نستطيع حبس هذا الطوفان المتقدّم بلا رحمة، إن أبناءنا يضيعون، مستقبلنا كلّه يضيع و لا أحد يفعل شيئا"
كان المحافظ يجابهه بقرائن عقدت لسانه، كان يسرد عليه كل ما كان يحدث في الفصل و بعد الفصل كما لو كان واحدا من تلاميذه. كان المحافظ يعيد عليه الأحداث في قالب اتهامي
فقال يَحيى :" ما تحاسبني عليه هو مبادئنا و حضارتنا التي من واجبنا نقل مجلوباتها لأحفادنا، نحن لسنا مطالبين بنقل آليات معرفية فقط يمكن أن يتعلّمها الطالب في أيّ مكان، نحن مطالبون بتغذية روحه و إشعاره بالفخر ّحتى يقدّم لأبنائه كما قدّم له آباؤه"
أجاب المحافظ غاضبا :" نحن مطالبون، نحن مطالبون، من الذي طالبكم؟ الدولة هي التي تطالبكم بمقرر محدد عليكم تطبيقه و عدم الحياد عنه قيد أنملة"
قال يَحيى :" مقرر غريب عنّا و عن حضارتنا، مقرر لا روح فيه"
قال المحافظ :" هل تتقاضى أجرا لتقوم بخطبة عصماء في حضارتنا و مزاياها؟ هذا العصر عصر العلم، العلم ثم العلم"
صرخ يَحيى :"هذه لائكية ممجوجة تهدف إلى إفراغ الشعب من كل مقوماته و ركائزه الحضارية"
كانت كلمة اللائكية وترا حسّاسا ضربه يَحيى فاُضطرب المحافظ و جأر كالملسوع :" لائكية، لائكية؟ أنتَ ضدّ النظام إذن كما استنتجتُ من البداية"
قال يحيى :"أنا مع الوطن"
قال المحافظ :" و ضدّ النظام"
كان مصير يحيى كمصير عوّاد، تحجّج المحافظ بطول اجراءات المقاضاة و طول مدّة السّجن و لكن كلاب الفيلا كانت الشاهدَ الوحيد على نهاية يحيى وسط شكوك الأهالي و حدسهم الذي لم يخُنهم يوما: يحيى كان وجبة الكلاب في ليلة باردة من ليالي شهر ديسمبر، ليلتها كان عواء الكلاب موحشا و كذلك عوى أهل القرية فيما كان المحافظ يشرب نخب اللائكية الجديدة"
الطاهر، مفكّر القرية و صاحب المخطوطات الكثيرة التي شهد أغلب عقول القرية من الصامتين أنّها تحمل فكرا مميّزا و قلما سخيّا. الطاهر، نفاه المحافظ إلى عالم الجنون دون أن يكون مجنونا حقّا و أحاط به أطفالَ القرية و مجانينَها يستفزّونه و يضحكون على كلامه الغريب عن مسلّماتهم وأفكاره التي تطلع مع الشمس خلف الجبل فَتَشِي بظلام القرية و سكونها الأبدي. يعيش في زريبة مغطاة بالزنك يملكها أحد الفلاحين ينظفها كل يوم قبل أن يخلد إلى نوم متقطع يرى فيه صور المحافظ و قد اُختلفت هيِئته و اُتّحد بشخصية الأب الذي لا يُحبّه و الدركي الذي أخافَه صغيرا و ذكور كل الحيوانات المتغطرسة التي يكرهها كالطاووس و ديك الحبش ، كان الطاهر عاشقا للبلاد فصار عاشقا للخمر يحتسيها من أي مكان فهي حرام و كل السبل إليها تتلبّس بالحرام فكيف يفكّر الطاهر بطرق نظيفة لاقتنائها و هو المُعدم الذي إن وجد طعاما لا يجد قلما و أوراقا. أحاطه المحافظ بالجنون و الشبهة فلم يعد أحد يستطيع أن يقترب منه أو يقضي له حاجة إلّا وجد اُسمه لدى المحافظ و وابلا من الاستفسارات ينتظره.
كان كل ما يريده أن يبقى ملتصقا بالقرية، يمشي على ترابها و إسفلتها و يشمّ روائحها الطيبة و العطنة و يغتسل في واديها و يرى وجوه أهلها حتى و إن ضربوه، تلك القرية منبع إلهامه و ملجأ أفكاره يهرب بها من تصنّع أهل الحاضرة و عيونهم المتلصصة على كل شيء. القرية هي منفاهُ و المنفى الآخر، رهان أخذه على نفسه أن يرفع الجهل عن المومس و البوليس و و كل من فسد دمُه بسبب الركود و الاستسلام للموت البطيء. آلى على نفسه تهذيب كل أهل القرية و صقل أرواحهم للجمال و الفضيلة. أراد أن يطهرهم و يرسل طبائعهم على حبّ الأشواق و الفن و المعرفة و يجعلَهم يمشون على السراط الذي مشى عليه فيرق قلب الواحد منهم لصوت العصفور و رفّة الفراشة و دمعة المحتاج علّهم يرتفعون عن كل ما يجذبهم إلى أدران الطمع فيثير بينهم العنف و لكن من يُسكت ذلك الهرج الذي يملأ القرية حتى تبتدئ صلواتِها، وحده كان يسمع صوته و الآخرون يطوّقهم زمن عنكبوت بخيوطه اللدنة، يغصّون في مرارتهم و ذاكرتهم التي تملؤها رائحة البارود، خيبات متتالية لشخوص كان ذنبهم الوحيد الانتماء لهذه القرية.
القرية مستنقع لعين و التراجع مستحيل، الخارج منها مفقود و الباقي فيها مفقود أيضا. تخلّى الحزب عن القرية بعد أن وعدها بالمشاريع و طرْد البطالة و حين فازت قائمته أدار لها ظهره. هذا المحافظ الذي بَرَكَ على رقاب أهل القرية منذ عقود، مازال يبلع و لا يشبع و كلابه تزيد و لا تنقص و كلّما زادت كان لا بد من قربان زائِد لتبيت الكلاب ليلَها راضية.
الطاهر أراد أن يوقظ القرية من سباتها، بدأ بأصحابه المقربين فلم يستطيعوا الاكتواء بنار الحقيقة وحدهم،خانوه و وَشَوْا به لدى من يهمّه الأمر و لكنّه لم ييأس فهذا الصلصال لن يحيى إلا حياة واحدة. على إيقاعات الرعب كان الطاهر يكتب و يبكي و ينثر نصوصه من فوق جبل القرية أو يضع أوراقه تحت حجر علّ أحدا يهتمّ بها فتفعل فيه الفعل الذي يرجوه. هذه الحياة رحلة قطار، تتلاشى الأسئلة و تتلاشى الذكريات و تبقى كلمة، تغيّر إنسانا، تغيّر شعبا، متى اقتنع بها.
هناك، في أعلى الجبل، لاقاه المحافظ، كان يكتب و العرق و الدموع تملأ وجهه و تسيل على نحره، هناك ضغط المحافظ على الزناد و قدّم الجثة التي مازالت تضطرب فيها الحياة وجبة ملكية للكلب الذي دلّه على مكانه لكنّ الكلب رفض الهدية و أخذ يلعق جراح الطاهر ليضمّدها و بدلا من ذلك عضّ فخذ المحافظ و كاد يُسقطه من الجبل.
دُفِن الطاهر مع ما بقي من أوراقه و اُزدادت سماء القرية حزنا بعد الحادثة. صار كل شيء في القرية متوقعا مسبقا، كان المحافظ شفرة حادّة تندسّ في خصر القرية لتنزع يوما فيوما عضوا من أعضائها و لا تبقي غير ستار الجلد يستر الفقدان الفاضح الذي يلفّها. الفيلا مقلاع يُشهَرُ كل يوم و كل ليلة في وجه من تحدّثه نفسه أن يكون ذاتَه، إما أن تكون كالآخرين و إمّا أن لا تكون..جرثومة الأجداد يرثها الأحفاد، ميراث نتن و الحرية لا تتجزّأ.
يشهد كل شيوخ القرية على عوّاد المسكين، زين شبابها الذي أتمّ دراسته الجامعية في المدينة و حين رجع لم يتحمّل ظلم المحافظ لأبيه المُسِنّ الذي كان يعمل في مكتبه: يجيب عن المطالب المتأخرة، و يحمل الهدايا التي ينفح بها أهالي القرية المترفون و المعدمون محافظ قريتهم، و يجلب الرسائل من مركز البريد البعيد، و يقوم بكل حاجيات سيده كل ذلك على قدميه و لا يعود إلى بيته إلا في ساعة متأخرة. و قد تمادى المحافظ في أوامره فصار يفرض على أمّ عوّاد القدوم إلى المكتب كلّ يوم لتنظيفه فيما يرسل الزوج للقيام بخدماته التي لا تنتهي و قد بلغت به الدناءة حدّ مراودتها و هي المرأة العفيفة المُسِنّة التي زوّجت كل بناتها و بقيت تنتظر عودة ابنها الشاب بفارغ الصبر لتحتفل بزواجه و ترى أولاده. عادت المرأة المسكينة إلى بيتها تجرّ ثوب العار بعد أن دافعت عن نفسها بكل ما أوتيت من قوّة و لكن المحافظ كان أقوى منها و أشد ضراوة. دخل عوّاد عليها البيت فوجدها تلطم وجهها و فخذيها و تضرب صدرها. لم تكن تدري ما تفعل، كانت تشعر بالعار و الانكسار و الغيظ، كانت عاجزة عن أن تدفع عن نفسها ذلك المارد الذي وقف فيه الشيطان فسلب منه العقل و الدين. كانت تصرخ:" يا بُني حرام عليك ما تفعله، حرام يا بُنيّ" و لكنّه لم يكن يسمع أو يعقل، كان يلبّي حاجة و كفى.. لم يرَ عوّاد أمّه يوما على ذلك الحال، سألها و ألحّ في السؤال لكنّها لم تكن تجيب، كانت تطلب منه أن يتركها و كفى، جُنّ جُنونه و سألها أين كانت؟ فكتمت أمر عملها في مكتب المحافظ و أخبرته بأنّها كانت لدى الجارة. لم يصدّق عوّاد كلام أمّه و لكنّه حين قابل أوّل جار له لامه الجار على ترك والده العجوز يعمل لدى المحافظ الذي يضطهده و يضطهد زوجته العجوز فيما هو يتمتّع بالراحة في الجامعة و لا يتحمّل حتّى مصاريف دراسته بمفرده ليجنّب أبويه كلّ هذا الذلّ..
لم يتحمّل عوّاد سماع ذلك الكلام فعاد إلى أمّه صارخا :"كيف تكتمين عنّي أمر عملك لدى المحافظ؟" تلعثمت الأم و قالت :" حياة مُرّة يا ولدي، الله يبعد عنك أولاد الحرام" سأل عوّاد :" وهل ذهبت إلى العمل هذا الصّباح؟" اِرتاعت الأم و نفت ذلك و لكنّه أحسّ في داخله بما كانت تكتمه أمّه و لم يستطع أن يذِلّها أكثر مما فعل المحافظ. اِنطلق عوّاد كالسّهم نحو مكتب المحافظ و دخل عليه و عيناه تلتهبان شررا و قهرا :" أيّها النتن، ماذا فعلت بأمّي؟" ارتجف المحافظ و حاول أن يتمالك نفسه :" من أمّك أيها الصغير؟ هل أضعتها؟ أغرب عن وجهي" صاح عوّاد:" أمي هي صالحة زوجة خادمك الأمين عيسى" اِصطكّت أسنانه و أنكر معرفته بها لكن عوّاد أمسكه من رقبته و ضغط عليها حتى كاد يقتله فاُنفلت بحركة غريزية و مدّ يده إلى درج المكتب و أخذ مسدّسه المحشوّ دائما و الجاهز أبدا و أطلق عليه النار. تعوّد المحافظ في مثل هذه الحالات أن يقوم بكل شيء بمفرده و هكذا كان الجسد الغض و الشهادة الجامعية من نصيب كِلاب الفيلا المعزولة التي كانت تدور كَرَحى لتسحق في كل مرّة واحدا ممن لا يُعجبون صاحبَ السيادة. لم يجرؤ أحد في القرية على سرد الحكاية لكن أبا عوّاد فقد عقله أمّا أمّ عوّاد فماتت حسرة على شرفها وولدها و زوجها.
كان يحيى مدرّسا كفؤا، أمّ سلمان تذكر كيف اقتاد الدركُ زوجها بعد أن اُتُهِم بتلقين الأفكار الثورية لأبناء مدرسته و تشجيعهم على التمرّد و العصيان و فتح عيونهم على الصراعات الطبقية و صرف هؤلاء عن المقرر المدرسي لأنّه يكرّس الاستبداد و اختيارات الدولة. يَحيى أنقذ أطفال القرية من أوحال الأزقة و المستنقعات، وقف في وجوه من يشغّلونهم و يستغلونهم في شكل عصابات للتسوّل، وقف في وجوه آبائهم ليعطيهم فرصة أن يكونوا مساوين للأطفال في كلّ مكان، سنوات طويلة من المحن و الكفاح و العناد قضاها ليرفع الجهل و الإهانة عن جيل بكامله. لم يعبأ بالأمراض التي توالت على جسمه عاما فعاما، لم يفكّر يوما أن يأخذ مالا منهم لقاء الساعات الطوال التي كان يقضيها بعد الدوام و هو يراهم بعيونهم الصغيرة المتعطشة لكل كلمة يقولها يتابعون كلّ حركاته و سكناته، و يرون فيه المثل الأعلى الذي إن نجحوا فذلك من أجله و إن تجاوزوا قدراتهم الصغيرة و قدّموا أكثر مما يقدرون عليه فذلك من أجله أيضا. كان يبلع مشاكله في صمت و يقابل صراخ زوجته و أبنائه بالتسويف الذي تحوّل إلى كذب عَارٍٍ. لقد أخذ على عاتقه مسؤولية انتشال القرية من القاع لأنه يعلم أن الوصول إلى الغايات يقتضي الأخذ بالأسباب و هو يعلم أن أطفال القرية منجم ذهب ينبغي حُسن استغلاله و بذلك يرفع عن وطنه كابوس التبعية و المحسوبية.
يَحيى يُحبّ وطنَه، هذا ما تعلّمه من أبيه و أمّه و جدّه و جدّته و كلّ من علّمه و عَاشرَه، الوطن فكرة مقدّسة و التراب أغلى من اللحم و هذا ما يريد أن يعلّمه لأطفال القرية، و لكن الوطن صار دولة و الدولة صارت حزبا و الحزب صار رجُلا واحدا و هكذا صار الوطن زجاجة خمر صغيرة تختنق فيها الأفكار و المصالح و الهموم و يفكّر الناس في مغادرتها لِ"وطن" آخر. الوطن صار أنيقا بما يكفي: أعلام ملونة، سيارات فخمة، ترسانة حربية تُوجّه نحو الداخل قبل الخارج، هيبة فساتين و بدلات و سترات مضادة للرصاص و مسدّسات فخمة تقبع في مكان قريب جاهزة للدفاع "الشرعي"..
صار الوضع الجديد مزعجا، من غير المريح أن تعيش في مكان لا تنطبق عليه مواصفات الوطن، و من غير المنطقي أن لا يبقى الحسن حسنا و القبيح قبيحا، و من المؤلم أن لا يفهمه الآخرون كما لو كان قادما من كوكب آخر. من المُحزن أن تضيع سنين نضاله و أحلام عمره في إخصاب هذه الصحراء التي يوم حان حصادُها كشرت عن أنيابها كأن لم يسقها من دمائه و أعصابه و لم يغذّها من رذاذ أحلامه، من المحزن أن يترك عائلته تعاني الفقر و الحاجة و هو قادر على الاستثراء من الأهالي كما فعل غيره من أبناء القرية حتى صاروا من أعيانها و كبرائها.
كيف يدرّس جيلا لا يعلم شيئا عن حب الله و الوطن و الوالدين و لا يهمّه أن يعلم، كيف يدرّس جيلا تبرّر الغاية لديه الوسيلة و تتساوى عنده كل القيم يلبس لكل حال لَبوسها فهو مع الحق و الباطل معا و هو مع دعم هذا و ذاك معا لا يرى إلا شبحَه في المرآة متعاليا متعملقا يسير حيث تسير مصلحته. أي وطن بلا حنين و أيّ وطن بلا ذاكرة؟
صار الأطفال الذين يدرّسهم جواسيس و مخبرين بوعي أو بغير وعي، يتآمرون على نزاهته و شقائه و مبادئه التي عاش عمره يدافع عنها و يكرّسها، مبادئ في الحقيقة لا تضرّ أحدا و لكنّها لم تضرّ غير صاحبها.
كان يشرح للمحافظ مأساته و خيبته في الجيل الجديد :" أنت أب و تعلم، هؤلاء الأطفال في قبضة شيطان مريد يحرّكهم حيث شاء و لا أحد يعلم مبلغ قوّته و تأثيره. على كلّ واحد منّا من موقعه الخاص أن يقوم بدوره علّنا نستطيع حبس هذا الطوفان المتقدّم بلا رحمة، إن أبناءنا يضيعون، مستقبلنا كلّه يضيع و لا أحد يفعل شيئا"
كان المحافظ يجابهه بقرائن عقدت لسانه، كان يسرد عليه كل ما كان يحدث في الفصل و بعد الفصل كما لو كان واحدا من تلاميذه. كان المحافظ يعيد عليه الأحداث في قالب اتهامي
فقال يَحيى :" ما تحاسبني عليه هو مبادئنا و حضارتنا التي من واجبنا نقل مجلوباتها لأحفادنا، نحن لسنا مطالبين بنقل آليات معرفية فقط يمكن أن يتعلّمها الطالب في أيّ مكان، نحن مطالبون بتغذية روحه و إشعاره بالفخر ّحتى يقدّم لأبنائه كما قدّم له آباؤه"
أجاب المحافظ غاضبا :" نحن مطالبون، نحن مطالبون، من الذي طالبكم؟ الدولة هي التي تطالبكم بمقرر محدد عليكم تطبيقه و عدم الحياد عنه قيد أنملة"
قال يَحيى :" مقرر غريب عنّا و عن حضارتنا، مقرر لا روح فيه"
قال المحافظ :" هل تتقاضى أجرا لتقوم بخطبة عصماء في حضارتنا و مزاياها؟ هذا العصر عصر العلم، العلم ثم العلم"
صرخ يَحيى :"هذه لائكية ممجوجة تهدف إلى إفراغ الشعب من كل مقوماته و ركائزه الحضارية"
كانت كلمة اللائكية وترا حسّاسا ضربه يَحيى فاُضطرب المحافظ و جأر كالملسوع :" لائكية، لائكية؟ أنتَ ضدّ النظام إذن كما استنتجتُ من البداية"
قال يحيى :"أنا مع الوطن"
قال المحافظ :" و ضدّ النظام"
كان مصير يحيى كمصير عوّاد، تحجّج المحافظ بطول اجراءات المقاضاة و طول مدّة السّجن و لكن كلاب الفيلا كانت الشاهدَ الوحيد على نهاية يحيى وسط شكوك الأهالي و حدسهم الذي لم يخُنهم يوما: يحيى كان وجبة الكلاب في ليلة باردة من ليالي شهر ديسمبر، ليلتها كان عواء الكلاب موحشا و كذلك عوى أهل القرية فيما كان المحافظ يشرب نخب اللائكية الجديدة"
الطاهر، مفكّر القرية و صاحب المخطوطات الكثيرة التي شهد أغلب عقول القرية من الصامتين أنّها تحمل فكرا مميّزا و قلما سخيّا. الطاهر، نفاه المحافظ إلى عالم الجنون دون أن يكون مجنونا حقّا و أحاط به أطفالَ القرية و مجانينَها يستفزّونه و يضحكون على كلامه الغريب عن مسلّماتهم وأفكاره التي تطلع مع الشمس خلف الجبل فَتَشِي بظلام القرية و سكونها الأبدي. يعيش في زريبة مغطاة بالزنك يملكها أحد الفلاحين ينظفها كل يوم قبل أن يخلد إلى نوم متقطع يرى فيه صور المحافظ و قد اُختلفت هيِئته و اُتّحد بشخصية الأب الذي لا يُحبّه و الدركي الذي أخافَه صغيرا و ذكور كل الحيوانات المتغطرسة التي يكرهها كالطاووس و ديك الحبش ، كان الطاهر عاشقا للبلاد فصار عاشقا للخمر يحتسيها من أي مكان فهي حرام و كل السبل إليها تتلبّس بالحرام فكيف يفكّر الطاهر بطرق نظيفة لاقتنائها و هو المُعدم الذي إن وجد طعاما لا يجد قلما و أوراقا. أحاطه المحافظ بالجنون و الشبهة فلم يعد أحد يستطيع أن يقترب منه أو يقضي له حاجة إلّا وجد اُسمه لدى المحافظ و وابلا من الاستفسارات ينتظره.
كان كل ما يريده أن يبقى ملتصقا بالقرية، يمشي على ترابها و إسفلتها و يشمّ روائحها الطيبة و العطنة و يغتسل في واديها و يرى وجوه أهلها حتى و إن ضربوه، تلك القرية منبع إلهامه و ملجأ أفكاره يهرب بها من تصنّع أهل الحاضرة و عيونهم المتلصصة على كل شيء. القرية هي منفاهُ و المنفى الآخر، رهان أخذه على نفسه أن يرفع الجهل عن المومس و البوليس و و كل من فسد دمُه بسبب الركود و الاستسلام للموت البطيء. آلى على نفسه تهذيب كل أهل القرية و صقل أرواحهم للجمال و الفضيلة. أراد أن يطهرهم و يرسل طبائعهم على حبّ الأشواق و الفن و المعرفة و يجعلَهم يمشون على السراط الذي مشى عليه فيرق قلب الواحد منهم لصوت العصفور و رفّة الفراشة و دمعة المحتاج علّهم يرتفعون عن كل ما يجذبهم إلى أدران الطمع فيثير بينهم العنف و لكن من يُسكت ذلك الهرج الذي يملأ القرية حتى تبتدئ صلواتِها، وحده كان يسمع صوته و الآخرون يطوّقهم زمن عنكبوت بخيوطه اللدنة، يغصّون في مرارتهم و ذاكرتهم التي تملؤها رائحة البارود، خيبات متتالية لشخوص كان ذنبهم الوحيد الانتماء لهذه القرية.
القرية مستنقع لعين و التراجع مستحيل، الخارج منها مفقود و الباقي فيها مفقود أيضا. تخلّى الحزب عن القرية بعد أن وعدها بالمشاريع و طرْد البطالة و حين فازت قائمته أدار لها ظهره. هذا المحافظ الذي بَرَكَ على رقاب أهل القرية منذ عقود، مازال يبلع و لا يشبع و كلابه تزيد و لا تنقص و كلّما زادت كان لا بد من قربان زائِد لتبيت الكلاب ليلَها راضية.
الطاهر أراد أن يوقظ القرية من سباتها، بدأ بأصحابه المقربين فلم يستطيعوا الاكتواء بنار الحقيقة وحدهم،خانوه و وَشَوْا به لدى من يهمّه الأمر و لكنّه لم ييأس فهذا الصلصال لن يحيى إلا حياة واحدة. على إيقاعات الرعب كان الطاهر يكتب و يبكي و ينثر نصوصه من فوق جبل القرية أو يضع أوراقه تحت حجر علّ أحدا يهتمّ بها فتفعل فيه الفعل الذي يرجوه. هذه الحياة رحلة قطار، تتلاشى الأسئلة و تتلاشى الذكريات و تبقى كلمة، تغيّر إنسانا، تغيّر شعبا، متى اقتنع بها.
هناك، في أعلى الجبل، لاقاه المحافظ، كان يكتب و العرق و الدموع تملأ وجهه و تسيل على نحره، هناك ضغط المحافظ على الزناد و قدّم الجثة التي مازالت تضطرب فيها الحياة وجبة ملكية للكلب الذي دلّه على مكانه لكنّ الكلب رفض الهدية و أخذ يلعق جراح الطاهر ليضمّدها و بدلا من ذلك عضّ فخذ المحافظ و كاد يُسقطه من الجبل.
دُفِن الطاهر مع ما بقي من أوراقه و اُزدادت سماء القرية حزنا بعد الحادثة. صار كل شيء في القرية متوقعا مسبقا، كان المحافظ شفرة حادّة تندسّ في خصر القرية لتنزع يوما فيوما عضوا من أعضائها و لا تبقي غير ستار الجلد يستر الفقدان الفاضح الذي يلفّها. الفيلا مقلاع يُشهَرُ كل يوم و كل ليلة في وجه من تحدّثه نفسه أن يكون ذاتَه، إما أن تكون كالآخرين و إمّا أن لا تكون..جرثومة الأجداد يرثها الأحفاد، ميراث نتن و الحرية لا تتجزّأ.
القسم الرابع
سرحان لا يصدّق كل ما يحدث في القرية، فهذا الستار الرهيب من الكتمان و التظاهر الذي تتواطأ عليه كل الأطراف لا ينطبق في عقله مع ما يحدث فعلا. كثيرا ما مرّ سرحان قرب "حانة الشيخ رزّاق" و كثيرا ما وسوست له قدمه بالدخول و مشاركة الرجال عالمهم و لكنه كان يرى نفسه غير قادر على اختراق ذلك العالم فهو لم يكتسب بعد النضج المناسب رغم مواصفاته الجسدية. هذه الطقوس الرمادية التي تتلوّن بها رقصات القرية كأفعى ذات أجراس تهجس في داخله بآلاف الأسئلة، كان كل يوم يكتشف شيئا يجعله يتقوقع أكثر فأكثر فأكثر فهو لا يملك مالا ينازل به الآخرين و لا حتى جسدا كاملا قادرا على سقاية الحرث كما يفعلون.كان سرحان يمشي بين الرجال بصدر مثقوب بالرصاص، كل الخطوط التي انتمى إليها تركها أو تركته، كان يرفع بصعوبة رجله العرجاء المغمّسة في أوحال الهزيمة و الخيانة. القرية كلّها فوضى لا يستتب فيها قانون و لا يهدأ فيها صراع. هو يذكر كل نساء القرية و إن نسيَهن لا ينسى "كنزة" صوّانية الجسد تقدح شررها على بُعد ليلة، عيناها تتوهجان رغبة و تدعوان للافتضاض زجاجةً مختومة بورجوازية الأنفاس و اللعاب. عجينتها مخلوطة بتاريخ البربر و العرب و المسيحيين و الأفارقة، قالت له ذات يوم و هي ترسل يدها برفق بين فخذيه :" لماذا لا تريح رأسك المنهوكة و تقوم بوظيفتك الاستثنائية و ما أنت مخلوق لأجله" أردف :" هذه الرأس المنهوكة هي ما يمنعني من القيام بوظيفتي" تضحك في شبق و هي تملأ كأسا :" ما رأيك بشفتين مغمّستين في النبيذ؟" يقول :" أتركيني أرجوك، أنا شجرة مجتشة من جذورها، لقد تواطأ الكل على قلعي" تشعل سيجارة و تقدّمها إليه، كان يرتعش و هو يذكر النافذة البرية المطلة على كهوف المقاومين حين يخلدون ساعة من الليل للراحة فَتَتِيهُ بهم الحِسان و يأخذنهم مأخذ المنتصر فينفضن عنهم غبار السفر و الفقر و الموت.
سرحان يبكي باحتراق كلما ابتدأت اسطوانة هذيانه في الدوران، سرحان الطفل غير الشرعي الذي يعرف كل أهل القرية قصّته و من أجلها يهزؤون به. سرحان اُبن المحافظ، عاش وحيدا معزولا مع أمّه، بسبب نسبه الذي لن يُرضي أهل القرية حتى لو اعترف به أبوه. هذا الميراث الرحمي الملتاث و ذاك الأب المتغطرس الذي ينكر فلذة لحمه صَنَعا عَطبًا داخليا لا يمكن رأبُهُ.
"أنا رجُل بلا ظَهر، هل تقبلين رجُلا بلا ظَهر؟ أنت حِِسِّية و شهية و لكن ماذا أفعل بجُحور الشقاء التي تعشش في جمجمتي؟ يتلبّس الجسد لديّ بالإثم كالعظم و اللحم، أنا رجل عاجز لماذا لا ترحمين اختلافي عن باقي الرجال و تتركينني لِغَيْبَتي و شُهودي أصارع النكران وحدي فأغلِبَهُ أو يغلبني ؟ أنا واحد من أفراد هذه القرية المعجونة بالفنتازيا و العبث وعليّ أن أعالج جُذامي بيديّ هاتين و أقطع قضبان سجني، ماذا لو لم يعترف بي المحافظ، كل ما يؤلمني أنين خلخال أمي و هي تمشي منكّسة في طرقات القرية لتجلب لي حاجياتي و أنا صغير. ما همّني أن يقولوا عنّي "ابن حرام"؟ و هي تَشرَق ليلا نهارا بما يقال عنها و عني معا.
قبّلها بعنف طارت منه الشهوة :"عودي من حيث جئتِ، هذه القرية مصبّ للفضلات، طوبى لمن يستطيع إحراقه"
قفزت من بين يديه بعد أن رأت شرَر الانتقام يتطاير حوله ككهرباء ساحقة،
ضاع صهيل الجسد العنّابي أمام إرادة القوة المبتورة و لم تستطع "كنزة" أن تغيّر شيئا مما نبت في رأسه تلك الليلة و تَعملقَ زادًا لأيامه الباقية.
سرحان يبكي باحتراق كلما ابتدأت اسطوانة هذيانه في الدوران، سرحان الطفل غير الشرعي الذي يعرف كل أهل القرية قصّته و من أجلها يهزؤون به. سرحان اُبن المحافظ، عاش وحيدا معزولا مع أمّه، بسبب نسبه الذي لن يُرضي أهل القرية حتى لو اعترف به أبوه. هذا الميراث الرحمي الملتاث و ذاك الأب المتغطرس الذي ينكر فلذة لحمه صَنَعا عَطبًا داخليا لا يمكن رأبُهُ.
"أنا رجُل بلا ظَهر، هل تقبلين رجُلا بلا ظَهر؟ أنت حِِسِّية و شهية و لكن ماذا أفعل بجُحور الشقاء التي تعشش في جمجمتي؟ يتلبّس الجسد لديّ بالإثم كالعظم و اللحم، أنا رجل عاجز لماذا لا ترحمين اختلافي عن باقي الرجال و تتركينني لِغَيْبَتي و شُهودي أصارع النكران وحدي فأغلِبَهُ أو يغلبني ؟ أنا واحد من أفراد هذه القرية المعجونة بالفنتازيا و العبث وعليّ أن أعالج جُذامي بيديّ هاتين و أقطع قضبان سجني، ماذا لو لم يعترف بي المحافظ، كل ما يؤلمني أنين خلخال أمي و هي تمشي منكّسة في طرقات القرية لتجلب لي حاجياتي و أنا صغير. ما همّني أن يقولوا عنّي "ابن حرام"؟ و هي تَشرَق ليلا نهارا بما يقال عنها و عني معا.
قبّلها بعنف طارت منه الشهوة :"عودي من حيث جئتِ، هذه القرية مصبّ للفضلات، طوبى لمن يستطيع إحراقه"
قفزت من بين يديه بعد أن رأت شرَر الانتقام يتطاير حوله ككهرباء ساحقة،
ضاع صهيل الجسد العنّابي أمام إرادة القوة المبتورة و لم تستطع "كنزة" أن تغيّر شيئا مما نبت في رأسه تلك الليلة و تَعملقَ زادًا لأيامه الباقية.
دخلت أمه بصينية الشاي و بعض الطعام فوجدته غارقا في بحر بلا قرار، ذكرى الأب قاسية سَموم و الرب نيزك بعيد، انفجرت أمّه كبركان أبيض بسيلان لا يتوقف من المواساة الخفية، فأخذ سرحان يبكي: أيّ انتقام يغسل روحه المشرّبة بالعجز و أيّ صدر يحتوي أنّاته و حياةً تتفتت سُدى. تضرّج وجهها بظِلال سوداء و هي تأخذه بين أحضانها:" اذهب لأبيك و واجهه إن كان هذا يريحك، هاجِر إذا أردتَ و أنا معك، اِرْوِ الأرض من غضبكَ و اترك الشوارع المظلمة و الأنفاق الملتوية التي يسير فيها أغلب سكان القرية و اُصنع فجرا جديدا يضيء طريقك و يمشي فيه الآخرون بعدك، افعل ما تريد و أنا معك" قال سرحان:" لقد تداخل الوهم و الحقيقة و لم أعُد أدري ما أفعل، كل ما أرى أمامي مراجل حمراء يغلي فيها الدم و يفيض، و أنا طائر الوحشة أنعق للفناء" صاحت الأم:" لا تقل هذا يا ولدي فأمامك الحياة و مستقبل أبيض" لكن سرحان لا يهدأ لقد نَمَا مكان الزغب شوك قاس يؤلم صاحبه قبل الآخرين.
اتجه سرحان في تلك الليلة نحو البحر حيث المراكب النائمة المنتثرة هنا و هناك لصيادي القرية و حيث يسهر هؤلاء حتى الصباح يتسامرون حول طبق سمك مشوي متبّل بالعرق و الغضب . كان من عادته انتحاء خلوة صخرية في ذلك المكان و الاستماع لصهيل الامواج و أنين الفارّين في عتمة الليل يسطون على رُعْبِهم ليطاردوا من يطاردهم و يصنعوا قدرا جديدا يلوّن كوابيسهم الرهيبة التي يجرّها النهار. أقبل البحر كحقل مُعشب يغري بورود ملوّنة و فاكهة لذيذة و لكن سرحان كان كالخيول التي تتحسس الزلازل قبل وقوعها. آثر سرحان الجلوس رفقة الصيادين: أبوه دُمّلة تعيش في رأسه و تقتات من دمه، هاقد صارت بحجم ورم كبير آن استئصاله. اِرتعد سرحان لهذه الفكرة فهو لا يحب المساومات و لا يهمّه الحفاظ على بذرة النوع كما يُهمّ غيرَه فما يحدث له يظل خارج نطاق اللغة و خارج منظومة القيم و ما سيفعله هو لا يخرج عن تلك الدائرة فهل ظَلَم؟.
لماذا تظَل حياتُهُ خطّا أعرجَ، محاكمةً بلا نهاية لشيء لم يقترفه. صفعهُ البرد فأخذ يدخّن بعصبية. ناداه أحد الصيادين قائلا:" تعال يا سرحان، البحر يجنّن و بَردُه لا يَرحم تعال اشرب قهوة بالنبيذ " تقدّم سرحان بعد أن سحق سيجارته و دخل حيث كان الصيادون جالسين يتبادلون أخبار القرية. أخذ يشرب قهوته في صمت و هو يستمع إلى كلامهم الذي ترتفع نوتاته و تنزل، بدأ النبيذ يُحْدِث فيه أثرا واضحا فأخذ يميل برأسه و جسمه و يلتوي حسب أغنية تتغندر في ذاكرته كان يسمعها من أمّه في ساعات صفائها القليلة. ضحك الرجال:" طوبى لك يا سرحان، من رشفة قهوة تسكر، طوبى لك يا خليّ البال" فانتفض سرحان و كأنهم جرحوا لذّته بذلك التأنيب الخفيّ فخرج وسط اعتذاراتهم التي لم تكن لتثنيه عن أمر اعتزمه.
طرق سرحان تلك الليلة باب الفيلا المسيّجة بالاسمنت و الحديد و الكلاب و العسكر، لم يكن يهمّه كل ذلك ففي الفيلا أبوه حتى لو لم يعترف به، حتى و إن كان شخصا سيئا لا يحبذه أحد. طرق الباب بقوة مرّة ثانية فجاء صوت الكلاب المدلّلة التي تحرس أخبار القلعة، وجّه له العسكر بنادقهم سائلين:" ماذا تريد أيها الأبله في هذه الساعة من الليل؟" صرخ:" لا تنعتني بالأبله أيها الكلب أريد أن أكلّم أبي" صرخ العسكري:" أنت الكلب أيها العفِن و من أبوك الذي تبحث عنه و ليس هنا غير المحافظ" قال سرحان:" هو بعينه" ضحك العسكري ضحكة فاضحة:" كلام جميل، السيد المحافظ أبو الجميع" صرخ سرحان:" إنه أبي أنا و ليس أبا الجميع" كشر العسكري عن أنيابه قائلا:" انطلق من أمامي و إلا هشمت جمجمتك برأس البندقية" صاح سرحان:" لن أبرح مكاني ما لم أقابل المحافظ، أبي" نادى العسكري اثنين من معاونيه و طلب منهما زجّه في السجن حتى يُنظر في أمره.
بات سرحان ليلته في السجن و أمّه تسأل في كل مكان من القرية. و أخيرا طلع الصباح و عرفت الخبر.
ارتعد المحافظ لمرأى سرحان و هو يعكف متقوقعا مسندا ظهره لجدار السجن و عيناه بارزتان تغطيان جسمه كما لو كان آليا متطورا لا يمت بصلة لبني الإنس: صرخ المحافظ من خوفه:" أنت حشرة، كيف تدّعي أنني أبوك؟" انتصب سرحان بسرعة البرق و وقف وجها لوجه مع المحافظ و قال:" أنا لست حشرة، أنا ابنك و ابن "سيّدة"، إذا كنت أنا حشرة فأنت الحشرة الأضخم و الأبشع" قال ذلك بهدوء رهيب جعل المحافظ يخرج بسرعة و يصرخ في حرسه:" اتركوه أسبوعا هنا ليتعلّم التهذيب" يصرخ سرحان:" طبيعي أن أكون غير مهذّب، ألست ابن المحافظ، رئيس العصابة التي تحكم القرية و تشرب دم ضعفائها و تقتات من لحمهم و عظمهم؟"
كانت تلك المواجهة الأولى مع الأب و رغم فشلها فقد زلزلت المحافظ و جعلته يخرج عن هيبته و يسقط أقنعته فهذه نطفته تتحرك أمامه مثالا للعجز و التشرد، لن يستطيع أن يفتخر بابنه و لو في سِرّهِ فهذه البيضة المشؤومة ستبقى جاثمة على صدره تصفع كل مرّة كبرياءه فرغم عدم اعترافه بسرحان إلا أن الكل يعرف حقيقة أبوّته له. لقد أحبّ "سيّدة" و لكنه أحبّ السُلطة أكثر منها و منذ أطعم لحم أول ثائر للكلاب صار ما ينبض في صدره حجر معلّق بنوّاس لا يعرف الحب و لا حتى الرحمة.
ليال طويلة تمرّ عليه و هو يهذي و يستفيق متلمّسا قلبه خائفا أن يبرز الحجر في شكل نتوء في صدره فيفضح ما آل إليه حاله.
خرج سرحان من السجن بعد أن عرف أشياء كثيرة حرص على تعلّمها من النزلاء، عاد إلى أمه فانتحبت حين رأته:" لماذا لم تقل لي إنك ذاهب إليه، أنت لا تعرف أشياء كثيرة، لماذا تصرّ على أن تمرّغ هذه الذاكرة التعيسة في الألم و الذل مرات و مرات، اِنسَ الماضي و اُبدأ من الصفر" أجاب سرحان بحُرقة وقد وضع يده على ذَكَرِهِ:" و هذا الثور النائم الذي جعلني سخرية الرجال ماذا أفعل به و "كنزة" التي تحبّني و لا أستطيع أن أسعدها و الفشل الذي يلاحقني في كل ما أفعله و الماضي العفِن الذي يشدّني إلى أسفل، كيف أتخطاه؟"
هوت الأم على ركبتيها:" ارحمني يا ولدي" لكن سرحان و قد استبدّت به ثورة الحزن الذي صار مع الأيام مرارة و غضبا:" ألم تجدي غير المحافظ لتقعي له، ماذا لو كان أبي رجلا فقيرا و شريفا، ماذا لو كان أبي من الغرباء أما كان هذا أفضل لي و لكِ؟"
بكت الأم:" أنا لم أختر الحب، لقد أوهمني أبوك بكل ما تحلم به الفتاة ثم تركني خرقة مدنّسة، أعلم أنني أخطأت و لكن ألا ترى أنني دفعت الثمن ما يكفي، إن اتهامك لي أفضع من كل ما تحمّلته في السابق و أحدّ من كل السكاكين التي وُجِّهت إليّ طول حياتي، أنا أحبّك كما أنت، نجحت أو فشلت، طيبا كنت أو شريرا، قويا كنت أو عاجزا، أنت لحمي و صنيعة يدي، أنت ولدي لن تعرف يا سرحان قيمة الولد إلا إذا أنجبتَ و لن تعرف أبدا قلب الأم لأنك لن تكون أمّا. العجز الذي تشعر به ليس إلا مؤقتا، أخرج هذا الوهم من رأسك، أبوك قنبلة موقوتة ستنفجر في رأسك إذا لم تنزعها".
قطع سرحان حبل السّرّة و رحل و لم يعد إلى البيت منذ ذلك اليوم. لقد جرح المحافظ جسد "سيّدة" و أتمّ ابنها جَرح الروح. صار نزيفها أنهارا و هي تعاني غيبة الرجل و الولد. "سيّدة" التي قاءت الأرض خطيئتَها مرّتين، مرّة لأنّها وهبت جسدها و مرّة لأنها أنجبت وصارت خطيئتُها كائنا حيّا يسير على قدمين.
ليتها تعود تلك السنوات إلى الوراء و لو زحفا علّها تغسل عارها و تُخلي نفسها من مسؤولية لم تكن يوما في طاقتها.
طاردت "سيّدة" خيال سرحان في كل مكان لكنّه اختفى كذرّة ملح في الطعام. كان هائما في شوارع المدينة لا يرتاح و لا يتوقف عن المشي. غادر القرية علّه يتحلل من إثم المنشإ تاركا وراءَهُ حسرات أمّه سكرات تعانيها في نومها كلّ ليلة و هي تجهش باُسمه منادية في يأس فلا يجيب.
مرّت سنوات و سرحان ينتقل من مجموعة إلى أخرى، سَطَا على البيوت و تاجر في المخدّرات و السّلاح و تعاون مع المجموعات المناهظة للدولة و أراد أن يجعل لحياته معنى، راهن على انقلابات فاشلة و خاطر بحياته مِرارا و هو يتمنّى في سِرّه لو تكون تلك المرّة الأخيرة التي تُحقق الخلاص و لكنّه ظلّ حَيّا يقارع كأس الذل و النكران. تصدّعت الدولة بالانقسامات و تناهشتها النزاعات و كان هو في كل مرّة اليَدَ الخفية التي تحرّك و تخطط و تراهن. نَسِيَ نصفه الأسفل تماما و لم يعد يذكره حتى حين يبدّل ثيابه بحركة آلية كما لو أنّ ليس له عُضْوًا على الإطلاق، ف"كِنزة" لن ترضى بمثله و التفكير في وجود العضو أو غيابه يأخذ من وقته و تركيزه على المهام التي صار يقوم بها بِتفانٍ و يهَب لها نفسه ليل نهار، لقد صارت تلك لعبته المحبّذة و قد فهم لماذا ترك أبوه أمَّه: "إنّ شهوة المنصب لا تعدِلها شهوة و لذّة رَكوبِهِ أشهى من رَكوب أشرس الفاتنات و هذا ما لا تفهمه النساء"
تجرّد سرحان من طفولته و خَرَقِهِ و سذاجته و من عقدة قضيبِهِ فهذا العضو لا يختلف عن باقي الأعضاء فيمكن فقدانه كالعَيْن التي يُصيبُها العمى و الأذن التي يصيبها الصمم و اللسان الذي يصيبُه الخرس فلماذا يجعل منه العُضو الذي يختصر كلّ الكيان و يُوقف حياتَهُ على ذلك الفقدان.. صار سرحان شَرِسًا، بلا قلب خاصة بعد سماع نبإ موت أمّه بتفتّت في الكبد و بعد تجربته في المدينة صار يميّز الأشياء تمييزا واضحا، كان سرحان دَوْما يقول:" الوطن أمّ و الدولة زوجة أب و شتّان بين الاثنتين"
اتجه سرحان في تلك الليلة نحو البحر حيث المراكب النائمة المنتثرة هنا و هناك لصيادي القرية و حيث يسهر هؤلاء حتى الصباح يتسامرون حول طبق سمك مشوي متبّل بالعرق و الغضب . كان من عادته انتحاء خلوة صخرية في ذلك المكان و الاستماع لصهيل الامواج و أنين الفارّين في عتمة الليل يسطون على رُعْبِهم ليطاردوا من يطاردهم و يصنعوا قدرا جديدا يلوّن كوابيسهم الرهيبة التي يجرّها النهار. أقبل البحر كحقل مُعشب يغري بورود ملوّنة و فاكهة لذيذة و لكن سرحان كان كالخيول التي تتحسس الزلازل قبل وقوعها. آثر سرحان الجلوس رفقة الصيادين: أبوه دُمّلة تعيش في رأسه و تقتات من دمه، هاقد صارت بحجم ورم كبير آن استئصاله. اِرتعد سرحان لهذه الفكرة فهو لا يحب المساومات و لا يهمّه الحفاظ على بذرة النوع كما يُهمّ غيرَه فما يحدث له يظل خارج نطاق اللغة و خارج منظومة القيم و ما سيفعله هو لا يخرج عن تلك الدائرة فهل ظَلَم؟.
لماذا تظَل حياتُهُ خطّا أعرجَ، محاكمةً بلا نهاية لشيء لم يقترفه. صفعهُ البرد فأخذ يدخّن بعصبية. ناداه أحد الصيادين قائلا:" تعال يا سرحان، البحر يجنّن و بَردُه لا يَرحم تعال اشرب قهوة بالنبيذ " تقدّم سرحان بعد أن سحق سيجارته و دخل حيث كان الصيادون جالسين يتبادلون أخبار القرية. أخذ يشرب قهوته في صمت و هو يستمع إلى كلامهم الذي ترتفع نوتاته و تنزل، بدأ النبيذ يُحْدِث فيه أثرا واضحا فأخذ يميل برأسه و جسمه و يلتوي حسب أغنية تتغندر في ذاكرته كان يسمعها من أمّه في ساعات صفائها القليلة. ضحك الرجال:" طوبى لك يا سرحان، من رشفة قهوة تسكر، طوبى لك يا خليّ البال" فانتفض سرحان و كأنهم جرحوا لذّته بذلك التأنيب الخفيّ فخرج وسط اعتذاراتهم التي لم تكن لتثنيه عن أمر اعتزمه.
طرق سرحان تلك الليلة باب الفيلا المسيّجة بالاسمنت و الحديد و الكلاب و العسكر، لم يكن يهمّه كل ذلك ففي الفيلا أبوه حتى لو لم يعترف به، حتى و إن كان شخصا سيئا لا يحبذه أحد. طرق الباب بقوة مرّة ثانية فجاء صوت الكلاب المدلّلة التي تحرس أخبار القلعة، وجّه له العسكر بنادقهم سائلين:" ماذا تريد أيها الأبله في هذه الساعة من الليل؟" صرخ:" لا تنعتني بالأبله أيها الكلب أريد أن أكلّم أبي" صرخ العسكري:" أنت الكلب أيها العفِن و من أبوك الذي تبحث عنه و ليس هنا غير المحافظ" قال سرحان:" هو بعينه" ضحك العسكري ضحكة فاضحة:" كلام جميل، السيد المحافظ أبو الجميع" صرخ سرحان:" إنه أبي أنا و ليس أبا الجميع" كشر العسكري عن أنيابه قائلا:" انطلق من أمامي و إلا هشمت جمجمتك برأس البندقية" صاح سرحان:" لن أبرح مكاني ما لم أقابل المحافظ، أبي" نادى العسكري اثنين من معاونيه و طلب منهما زجّه في السجن حتى يُنظر في أمره.
بات سرحان ليلته في السجن و أمّه تسأل في كل مكان من القرية. و أخيرا طلع الصباح و عرفت الخبر.
ارتعد المحافظ لمرأى سرحان و هو يعكف متقوقعا مسندا ظهره لجدار السجن و عيناه بارزتان تغطيان جسمه كما لو كان آليا متطورا لا يمت بصلة لبني الإنس: صرخ المحافظ من خوفه:" أنت حشرة، كيف تدّعي أنني أبوك؟" انتصب سرحان بسرعة البرق و وقف وجها لوجه مع المحافظ و قال:" أنا لست حشرة، أنا ابنك و ابن "سيّدة"، إذا كنت أنا حشرة فأنت الحشرة الأضخم و الأبشع" قال ذلك بهدوء رهيب جعل المحافظ يخرج بسرعة و يصرخ في حرسه:" اتركوه أسبوعا هنا ليتعلّم التهذيب" يصرخ سرحان:" طبيعي أن أكون غير مهذّب، ألست ابن المحافظ، رئيس العصابة التي تحكم القرية و تشرب دم ضعفائها و تقتات من لحمهم و عظمهم؟"
كانت تلك المواجهة الأولى مع الأب و رغم فشلها فقد زلزلت المحافظ و جعلته يخرج عن هيبته و يسقط أقنعته فهذه نطفته تتحرك أمامه مثالا للعجز و التشرد، لن يستطيع أن يفتخر بابنه و لو في سِرّهِ فهذه البيضة المشؤومة ستبقى جاثمة على صدره تصفع كل مرّة كبرياءه فرغم عدم اعترافه بسرحان إلا أن الكل يعرف حقيقة أبوّته له. لقد أحبّ "سيّدة" و لكنه أحبّ السُلطة أكثر منها و منذ أطعم لحم أول ثائر للكلاب صار ما ينبض في صدره حجر معلّق بنوّاس لا يعرف الحب و لا حتى الرحمة.
ليال طويلة تمرّ عليه و هو يهذي و يستفيق متلمّسا قلبه خائفا أن يبرز الحجر في شكل نتوء في صدره فيفضح ما آل إليه حاله.
خرج سرحان من السجن بعد أن عرف أشياء كثيرة حرص على تعلّمها من النزلاء، عاد إلى أمه فانتحبت حين رأته:" لماذا لم تقل لي إنك ذاهب إليه، أنت لا تعرف أشياء كثيرة، لماذا تصرّ على أن تمرّغ هذه الذاكرة التعيسة في الألم و الذل مرات و مرات، اِنسَ الماضي و اُبدأ من الصفر" أجاب سرحان بحُرقة وقد وضع يده على ذَكَرِهِ:" و هذا الثور النائم الذي جعلني سخرية الرجال ماذا أفعل به و "كنزة" التي تحبّني و لا أستطيع أن أسعدها و الفشل الذي يلاحقني في كل ما أفعله و الماضي العفِن الذي يشدّني إلى أسفل، كيف أتخطاه؟"
هوت الأم على ركبتيها:" ارحمني يا ولدي" لكن سرحان و قد استبدّت به ثورة الحزن الذي صار مع الأيام مرارة و غضبا:" ألم تجدي غير المحافظ لتقعي له، ماذا لو كان أبي رجلا فقيرا و شريفا، ماذا لو كان أبي من الغرباء أما كان هذا أفضل لي و لكِ؟"
بكت الأم:" أنا لم أختر الحب، لقد أوهمني أبوك بكل ما تحلم به الفتاة ثم تركني خرقة مدنّسة، أعلم أنني أخطأت و لكن ألا ترى أنني دفعت الثمن ما يكفي، إن اتهامك لي أفضع من كل ما تحمّلته في السابق و أحدّ من كل السكاكين التي وُجِّهت إليّ طول حياتي، أنا أحبّك كما أنت، نجحت أو فشلت، طيبا كنت أو شريرا، قويا كنت أو عاجزا، أنت لحمي و صنيعة يدي، أنت ولدي لن تعرف يا سرحان قيمة الولد إلا إذا أنجبتَ و لن تعرف أبدا قلب الأم لأنك لن تكون أمّا. العجز الذي تشعر به ليس إلا مؤقتا، أخرج هذا الوهم من رأسك، أبوك قنبلة موقوتة ستنفجر في رأسك إذا لم تنزعها".
قطع سرحان حبل السّرّة و رحل و لم يعد إلى البيت منذ ذلك اليوم. لقد جرح المحافظ جسد "سيّدة" و أتمّ ابنها جَرح الروح. صار نزيفها أنهارا و هي تعاني غيبة الرجل و الولد. "سيّدة" التي قاءت الأرض خطيئتَها مرّتين، مرّة لأنّها وهبت جسدها و مرّة لأنها أنجبت وصارت خطيئتُها كائنا حيّا يسير على قدمين.
ليتها تعود تلك السنوات إلى الوراء و لو زحفا علّها تغسل عارها و تُخلي نفسها من مسؤولية لم تكن يوما في طاقتها.
طاردت "سيّدة" خيال سرحان في كل مكان لكنّه اختفى كذرّة ملح في الطعام. كان هائما في شوارع المدينة لا يرتاح و لا يتوقف عن المشي. غادر القرية علّه يتحلل من إثم المنشإ تاركا وراءَهُ حسرات أمّه سكرات تعانيها في نومها كلّ ليلة و هي تجهش باُسمه منادية في يأس فلا يجيب.
مرّت سنوات و سرحان ينتقل من مجموعة إلى أخرى، سَطَا على البيوت و تاجر في المخدّرات و السّلاح و تعاون مع المجموعات المناهظة للدولة و أراد أن يجعل لحياته معنى، راهن على انقلابات فاشلة و خاطر بحياته مِرارا و هو يتمنّى في سِرّه لو تكون تلك المرّة الأخيرة التي تُحقق الخلاص و لكنّه ظلّ حَيّا يقارع كأس الذل و النكران. تصدّعت الدولة بالانقسامات و تناهشتها النزاعات و كان هو في كل مرّة اليَدَ الخفية التي تحرّك و تخطط و تراهن. نَسِيَ نصفه الأسفل تماما و لم يعد يذكره حتى حين يبدّل ثيابه بحركة آلية كما لو أنّ ليس له عُضْوًا على الإطلاق، ف"كِنزة" لن ترضى بمثله و التفكير في وجود العضو أو غيابه يأخذ من وقته و تركيزه على المهام التي صار يقوم بها بِتفانٍ و يهَب لها نفسه ليل نهار، لقد صارت تلك لعبته المحبّذة و قد فهم لماذا ترك أبوه أمَّه: "إنّ شهوة المنصب لا تعدِلها شهوة و لذّة رَكوبِهِ أشهى من رَكوب أشرس الفاتنات و هذا ما لا تفهمه النساء"
تجرّد سرحان من طفولته و خَرَقِهِ و سذاجته و من عقدة قضيبِهِ فهذا العضو لا يختلف عن باقي الأعضاء فيمكن فقدانه كالعَيْن التي يُصيبُها العمى و الأذن التي يصيبها الصمم و اللسان الذي يصيبُه الخرس فلماذا يجعل منه العُضو الذي يختصر كلّ الكيان و يُوقف حياتَهُ على ذلك الفقدان.. صار سرحان شَرِسًا، بلا قلب خاصة بعد سماع نبإ موت أمّه بتفتّت في الكبد و بعد تجربته في المدينة صار يميّز الأشياء تمييزا واضحا، كان سرحان دَوْما يقول:" الوطن أمّ و الدولة زوجة أب و شتّان بين الاثنتين"
القسم الخامس
من كان يحسب أن هذه القرية التي تُشبهُ حياتُها قيلولة طويلة بلا نهاية تستيقظ مزمجرة في أحد الأيام ليقودَ أفرادُها ثورة لا يهدأ أوَارُها إلا إذا أهدت لهم النصر. كان "صِدّيق" سجينا سابقا في معتقلات الدولة فرغم عدم توفّر الأدِلّة إلا أنه قضى أكثر من نصف عمره هناك يخرج منها ليعود بسرعة. تراكُم تاريخي جعل الأحداث تسير في ذلك الاتجاه و تحيد عن الحياة الطبيعية التي يستوي فيها كل أفراد الخليقة.
كان "صِدّيق" يؤمن بانتمائه للخَلِيّةِ رغم أن الأغلبية تركوها فارين وراء وُعود المُحافظ و أمانيه الكاذبة. سنوات من الصبر تشهد عليها جبال القرية و هضابها و صدور رجالها.
"هل من قيادة جديدة؟" يسأل أحدُهم.
"في عصر التطرف، كل الأطراف تقود: شيوعية اسلامية، اشتراكية ليبرالية، رأسمالية محافظة، يمين، يسار، يصير الكل سيّدا حين يغيب السيد. فوضى هوجاء تتبرج في كامل القبح " يجيب آخر.
أشباح العناكب تتسلق دائرة النار، عجائز في سن الرغبة و الثورة يتأففن من الكسل الضارع للمجهول طقسا ذكوريا يوميا يمارسه الرجال على مرأى و ومسمع في مقاهي هذه القرية المؤتفكة و جنود لامرئيون يحرسون أقفال الشفتين من كلمة أو قبلة حب. طريق هالكة و لها أنين. كم طارَدَتهُم الاهانة كنخلة عاقر سوداء الأثواب تتعملق في أحلامهم و تضغط على صدورهم فتحبس تدفق الجسد.
نسَوْا العالم الخارجي أو تناسَوْهُ، هم لا يريدون أن يعلموا أنه في مكان ما من الكرة الأرضية و ربما بعيدا عنهم ببعض الأميال أناس أحرار يمارسون بشريتَهم و لا يحتاجون إلى أن يتخفّوْا أو يعتذروا على ما يفكرون فيه أو يرغبون في فِعله.
في عواء الليل، كان "صِِدّيق" يرسم خرائط القرية و حركات العناصر. شيفرة مدنّسة لأيديولوجيا تتكور في رحم الأرض-المنفى. وحشا خرافيا قابعا في البيوت و تحت الحيطان و فوق السطوح الواطئة. "صِدّيق" الذي أصيب أبوه بالجنون بعد أن أحرق عقلَهُ وهجُ حلم كان يطارده كلما هجع الآخرون، مستنقع تنْمو على صفحته أزهار اللوتس و تبلغكَ رائحتُه جِيَفة و طيورا مذعورة. روايته عن الماضي نسخة مُهلهلة حرص على حبك تفاصيلها التي أخذت تخونه مع الزمن. الآن زمن جديد يسخر من تعب الآخرين و أحلامهم دون أن يكون أهله قادرين على الحلم، لقد تعوّدوا على شرب محلول الشعارات السياسية كل ليلة قبل النوم و بدونها يستولي عليهم الأرق و ينهشهم كابوس "الضمير".
العم "صابر" والد "صدّيق" هو الذي رمى حجرا في البحيرة الراكدة و كفر بمعتقدات الحزب و خطط و نفّذ دون أن يستشير أحدا، قرر أن يفرّ بِجلده من الأخطاء التي تعملقت جذورُها مع الزمن حتى لم يعد أحد يجزم بمعرفة الفاعل أو أصل الخطأ. إنّه مقتول لا محالة فلماذا يعيش كحشرة و يتخفّى داخل قفصه الصدري حتى لا يُرى منه إلا جذع مقطوع. لن يرتاح حتى يُلامسَ سقف السماء و يشربَ من نهر الحرية. لن يموت حتى يسقي نخيل بلاده المحروق و يرى الثمار تبزغ فيه من جديد، لن يستريح حتى يَرى الأجنبيَ يحمل أكواخ الصفيح و الأوبئة و الذُل و يرحل. لقد كان في حالة شبيهة بالالهام حين وضع خطة تفجير الجسر فَلَم يكن لديه وقتها لا عتاد و لا رجال، كانت الخطة جاهزة في رأسه كتلة نار، لم يكن يُهمّه ساعتها أبناؤه الجياع أو أمّه الثكلى على أبناءٍ ابتلعتهم الزنازين و البنادق. كان يرى في تلك العملية واجبا عليه القيام به و بعدها ليقم الطوفان. في تلك اللحظة من الليل كانت شاحنات الجيش تسير متتابعة على الجسر كإمداد للفيالق التي سبقتها منذ أشهُر إلى التراب الأخضر الذي شهد مولدَه و صِباه و بزوغ شواربه، كان يراقب ببطء استواء الشاحنات الأربع الغاصّة بالجنود الأجانب فوق الجسر و في تلك اللحظة الشبيهة بالتقاط المصوّر للصورة الفوتوغرافية التي يكون فيها شيء من القَدَر، ضغط صابر على الزرّ فانثالت الشاحنات وسط الأعمدة المنهارة و قَضى رُكّابُها.
العم "صابر" عاش في الظلام بعد تلك العملية ،لم يعترف أحد بما فعله الرجل حتى همسًا
بل لقد تناقلت الإذاعة أن الجيش الوطني قد قام ببسالة بتفجير أربع شاحنات تابعة للعدوّ على طريق الجسر المحاذي للقرية و هي تعِدُ أهالي القرية بإعادة بنائه في أقرب الآجال ليتسنّى لأهلها قضاء حاجياتهم من الحاضرة. و لكنه كان يفتخر في داخله بما فعله و يعرف أنّه استطاع أن يقوم بواجبه و لا أهمية لما يقوله أو يفعله الآخرون. اِبنهُ "صِدّيق" عاش يعاني من ذلك العطب الذي خلّفته الجماعة في ذاكرة أبيه الذي فعل ما عجز الحزب عن فعلِهِ و مع هذا وُسِمت العملية بأسماء أخرى لمجرد أنها تملك السلطة و المال.
كانت موسيقى الثورة تصمّ آذان "صِدّيق" صغيرا و تدفعه من الخلف كعصًا مُدبّبة يافِعًا. كانت سبب وجوده و جذوة كيانهِ و حُلمه اللذيذ الذي يتبلور يوما فيوما.
الفضيحة التي دوّت في بيت "صابر" فاشتعل الليل و انفتح الجرح النائم و غَصّ الحلقُ برماد السجائر و الصدأ جعلت "صِدّيقًا" يصرّ أكثر من اي وقت على أن يُكمل طريق أبيه. في تلك اليلة، صاح "صابر" صيحة الوحش و اُختلّ لديْهِ العالم، كيف اُستطاع الكلاب أن ينفذوا إلى بيته و يسحبوا البساط من تحت قدميه، كيف اُستطاع ذلك الجندي النتن أن يُغري اُبنَتَهُ "حسناء" و يسرق شرفها بعد أن أوهمها ببلاد ما وراء البحر، كيف أمكن له أن يُفكّر في اُبنة من فجّر الجسر و قتل مائة جندي أجنبي، لا شك أنه مدسوس، استخدمه الأجانب أو الدولة لمعرفة ما يدور في بيت "صابر" . بل كيف اُستطاعت "حسناء" اُبنة "صابر" الركوع لمن اُنتصر عليهم أبوها في معركة غير متساوية.
"حسناء" الفتاة الجامعية فخر القرية، نجحت في ما فشلت فيه مثيلاتُها، أهدت لوالدها شهادتها الجامعية و بقيت تنتظر زوجا جيّدا و فرصة في العمل و لكن القرية لم يكن فيها الكثير من الشبان الذين أتمّوا دراستهم الجامعية و حتى مَن فَعَل منهم وَجد زوجة جاهزة اختارتها له أمّه. زوجة تجيد الطهو و التنظيف و رعاية الأطفال و ترضى بالموجود. لا تملك طموحات أكبر من جيب الزوج أو عقله.
اِنتظرت "حسناء" الزوج فَلَم يأتِ و انتظرت فرصة في العمل فلم تظفر بها فالقرية تتمثل في مجموعة دكاكين و منازل و مواطن العمل فيها يشغلها موظفون لا يزحزحهم إلا التقاعد أو الموت. كانت تموت يوما بعد يوم، ذبُل جمالها و اُنطفأ حماسُها، لا أقرباء لها في الحاضرة تقيمُ لديهم حتى تحصل على عمل و لا أبوها يرضى أن تعمل خارج القرية، كانت رغبتها أن تتم دراستَها ديْنا في عنقه أما الآن فعليها أن تنتظر قدَرها و الحال أن لا رجُل في القرية يرضى أن يتزوّج فتاة تعرف أكثر مما يعرف.
دار العالـمُ في عقلها فكل ما خططت له ظَلّ محضَ سراب، الحبّ يطارد أوهامَها و أشباحُ زميلاتها الحائزات على الشهادة تطاردها فأمثالهن من سكّان الحاضرة يسهل عليهن اقتناص الفرص في العمل و الزواج أما هي فستقضم العنوسة شبابها و لن تستطيع العمل و القريةُ تتشابه فيها الأيام و الليالي و الحياة و الموت. كانت تحمل أفكارا متسامحة عن الحضارات و الفكر الانساني فقد درس معها طلاب من جنسيات مختلفة و قد استمتعت بصداقتهم رغم الاختلاف فللشباب مشاكل في كل العالم، كلهم يعانون من نقص الحوار و نقص فرص العمل و تفكك العائلة، كلهم يحملون طموحات مشروعة لتغيير العالم و في هذا الاطار تعرّفت على هنري، كانت في البداية تقابله كل مرة عند شراء حاجيات العائلة ثم صارا يتواعدان عند الجسر الذي حطّمه أبوها أملا منه في قطع دابر كل أجنبي يدنّس أرضه و أرض آبائه و الذي لم تكن تعلم عنه شيئا.
كان الفراغ يتلبّس بكيانها و لم يكن لديها أية فكرة عن إمكانية تطور العلاقة مع هذا الجندي الذي أخبرها أنه ليس إلا موظفا إداريا لا علاقة له بالسلاح و أنه حَالَمَا يُتِمّ مُهمّتَه سيعود إلى بلاده فهو من عائلة ثرية و لكن الخدمة العسكرية تنسحب على كل الطبقات الاجتماعية. بدأت ترتبط به عواطفُها من لقاء لآخر و كان الانتظار الطويل يصوّر لها هنري مع الأيام في هيئة المنقذ خاصة بعد أن طرح عليها امكانية السفر معه إلى بلاده و العمل هناك مع اتمام دراستها لتحصل على الدكتوراه في مجالها فالقرية عقيم لا تنبت زوجا و أولادا و لا تمطر سماؤها وظائفَ.
بدأت "حسناء" تشعر بثورة داخلية نابعة من عجزها عن التمتع بحياة طبيعية في ظِلّ مجتمع ذكوري، لن تعيش كأمّها في انتظار ما لا يأتي، لن تعيش ككل بنات القرية اللواتي يتخذن النميمة أفيونا يُنسيهن منزلتهن المنحطة و عجز رجالهن عن صنع حاضر مشرق لهن و لأولادهنّ، ستنتهز أية فرصة تقفز أمامها حتى لو كانت هذه الفرصة رجلا أجنبيا يختلف عنها في الدين و الأعراف، طالما أنها الفرصة الوحيدة. تمادى "هنري" في مطالبه منها و لم تكن تمانع بل صارت تتحجج بالأوراق الجامعية الثبوتية لتنزل إلى الحاضرة و تلتقي به، حتى حدث ما كان يريده، جندي وحيد في أرض مُستعمرة يجد أنيسا لم يكن يحلم بمثله، فتاة جميلة، متعلمة و يائسة.
تنكر "هنري" لوُعوده و تحجج بأن سفارة دولته لا توافق على اصطحابه لها و تمتيعها بحق الاقامة حتى لو كانت تتم دراستها فالقوانين صارمة و إقامة "حسناء" في بلده ستعطيها الحق مع السنوات في أن تصير مواطنة.انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد أن فقدت كل شيء، الشرف و المستقبل و اُنسدّ عليها باب القرية نهائيا فلن يتزوجها أحد. جُنَّ "صابر" بعد أن أراق دماءَها و دفنها في حديقة المنزل ليغسل عارَه أمام نفسه قبل الآخرين و لكن طيفها ظل يطارده، لقد كانت "حسناء" زهرة القرية و نجمتها البعيدة لولا اليـأس و المستعمر الذي دنّس كل شيء.
"صِدّيق" الذي شارك أباه في قتل أخته و دفنها، صار جزءا من حُطام القرية و العائلة و البلد و تعملقت شجرة حِقدهِ و طاولت عنان السماء، فساد أصيل يجعل حياة القرية تسير على هذه الشاكلة. لماذا نقتل أنفسنا؟، تموت ثمار الشجرة و تعاود البذور السقوط لبدء حياة جديدة، ألا يكفي أن يقتلنا الأجنبي؟ كان الصراع ينمو في داخله كهيكل صخري مسدود المنافذ. "صدّيق" ابن العم "صابر" شهد كل المجازر و مات آلاف المرات مع من مات و في كل مرّة يستيقظ فيها، كان يقُدّ من ضعفه قوة تكفيه لكبوة لاحقة. البلاد تملؤها اللصوص و القتلة و أكثرهم يختفون وراء ظاهر كاذب لا يَشي بِدواخلهم و بما هم قادرون على فِعْلِه. و لينتصرَ عليهم يجب أن يعرفهم.
"صِدّيق" نبتة شقية من إلهام الزمن الغريب، قلب أفلت من عقال الزمن و اُحتفظ بقوانينه حتى آخر لحظة و لكن المسميات التي تبتدعها السياسة من حين لآخر لتزرع بذور الشقاق في كل خلية مهما كان نوعها و فيما بعد تحكم على هذا بالخيانة و على ذاك بالانتهازية و على الآخر بالحيادية أو العصيان. حرب لا هوادة فيها يبتدعها السياسيون ليجعلوا الكل في تناحر دائم علّهم ينشغلون عن المطالبة بما يهمّهم حقّا.
اختار "صدّيق" أن يدافع عن القرية دون مغادرة قواعده، لم يكن حبّه متلبّسا بشيء من حب الظهور أو الرغبة المريضة في القيادة، كان يركّز انتباهه كلّه على العمل المطلوب دون تفكير بالتنسيق مع أحد لأن ذلك يضاعف امكانية كشف المخطط و فشل العملية. كان يقوم بكل شيء بمفرده فقد كان يرى في والده المثل الأعلى و قد عرف من تجربة والده نكران الآخرين لمجهود الواحد منهم و وجوب أن تكون هنالك مظلة سياسية لكل شيء.
عمل "صِدّيق" على الاقتراب أكثر من الطبقة الراقية و معرفة كواليسها و قد وجد في نسائها جسرا سهلا لبلوغ ما كان يخطط إليه فهنّ راقيات أنيقات في المأكل و الكلام و المعاملة و يحببن الشاب الذكي الأنيق الحساس الذي يثني على جمالهن و يمدحهن بما ليس فيهن من العبارات التي لا يسمعنها من أزواجهن المشغولين دائما بأعمالهم و بعشيقاتهم اللواتي ينفقن عليهن الأموال من أجل سهرة خاصة تنسيهن أعباء العمل و الزواج. و كان لدى "صِدّيق" المظهر المطلوب مع جمال خفيّ مثير للفضول و ثقافة عالية.
اِندسّ "صِدّيق" في المجتمع المخملي مدفوعا بحقده على الطبقة الراقية التي تعقد الصفقات الخفية مع الأجانب و بالألم الباتر الذي سببته نهاية حسناء عارًا و قتلا. كان يتوغّل شيئا فشيئا في أعشاش الدبابير جوازُه الوحيد اجماع نساء الطبقة الراقية و اثناؤهن على جماله و ذكائه و رقّة ذوقه. تقاطعَ "صِدّيق" مع "سرحان" في مناسبات عديدة و لكن طريقهما ليست واحدة و لا غايتهما .
"سرحان" صاحب الدافع الفردي في الخلاص كان يسخر من "صِدّيق" و لا يرى جدوى من طريقته بل كان يرى فيها تخفّيا وراء غايات وطنية أما "صِدّيق" فكان يفهم "سرحان" و كانا في كل الأحوال وجهين لعملة واحدة هي الظلم.
كان "صِدّيق" يؤمن بانتمائه للخَلِيّةِ رغم أن الأغلبية تركوها فارين وراء وُعود المُحافظ و أمانيه الكاذبة. سنوات من الصبر تشهد عليها جبال القرية و هضابها و صدور رجالها.
"هل من قيادة جديدة؟" يسأل أحدُهم.
"في عصر التطرف، كل الأطراف تقود: شيوعية اسلامية، اشتراكية ليبرالية، رأسمالية محافظة، يمين، يسار، يصير الكل سيّدا حين يغيب السيد. فوضى هوجاء تتبرج في كامل القبح " يجيب آخر.
أشباح العناكب تتسلق دائرة النار، عجائز في سن الرغبة و الثورة يتأففن من الكسل الضارع للمجهول طقسا ذكوريا يوميا يمارسه الرجال على مرأى و ومسمع في مقاهي هذه القرية المؤتفكة و جنود لامرئيون يحرسون أقفال الشفتين من كلمة أو قبلة حب. طريق هالكة و لها أنين. كم طارَدَتهُم الاهانة كنخلة عاقر سوداء الأثواب تتعملق في أحلامهم و تضغط على صدورهم فتحبس تدفق الجسد.
نسَوْا العالم الخارجي أو تناسَوْهُ، هم لا يريدون أن يعلموا أنه في مكان ما من الكرة الأرضية و ربما بعيدا عنهم ببعض الأميال أناس أحرار يمارسون بشريتَهم و لا يحتاجون إلى أن يتخفّوْا أو يعتذروا على ما يفكرون فيه أو يرغبون في فِعله.
في عواء الليل، كان "صِِدّيق" يرسم خرائط القرية و حركات العناصر. شيفرة مدنّسة لأيديولوجيا تتكور في رحم الأرض-المنفى. وحشا خرافيا قابعا في البيوت و تحت الحيطان و فوق السطوح الواطئة. "صِدّيق" الذي أصيب أبوه بالجنون بعد أن أحرق عقلَهُ وهجُ حلم كان يطارده كلما هجع الآخرون، مستنقع تنْمو على صفحته أزهار اللوتس و تبلغكَ رائحتُه جِيَفة و طيورا مذعورة. روايته عن الماضي نسخة مُهلهلة حرص على حبك تفاصيلها التي أخذت تخونه مع الزمن. الآن زمن جديد يسخر من تعب الآخرين و أحلامهم دون أن يكون أهله قادرين على الحلم، لقد تعوّدوا على شرب محلول الشعارات السياسية كل ليلة قبل النوم و بدونها يستولي عليهم الأرق و ينهشهم كابوس "الضمير".
العم "صابر" والد "صدّيق" هو الذي رمى حجرا في البحيرة الراكدة و كفر بمعتقدات الحزب و خطط و نفّذ دون أن يستشير أحدا، قرر أن يفرّ بِجلده من الأخطاء التي تعملقت جذورُها مع الزمن حتى لم يعد أحد يجزم بمعرفة الفاعل أو أصل الخطأ. إنّه مقتول لا محالة فلماذا يعيش كحشرة و يتخفّى داخل قفصه الصدري حتى لا يُرى منه إلا جذع مقطوع. لن يرتاح حتى يُلامسَ سقف السماء و يشربَ من نهر الحرية. لن يموت حتى يسقي نخيل بلاده المحروق و يرى الثمار تبزغ فيه من جديد، لن يستريح حتى يَرى الأجنبيَ يحمل أكواخ الصفيح و الأوبئة و الذُل و يرحل. لقد كان في حالة شبيهة بالالهام حين وضع خطة تفجير الجسر فَلَم يكن لديه وقتها لا عتاد و لا رجال، كانت الخطة جاهزة في رأسه كتلة نار، لم يكن يُهمّه ساعتها أبناؤه الجياع أو أمّه الثكلى على أبناءٍ ابتلعتهم الزنازين و البنادق. كان يرى في تلك العملية واجبا عليه القيام به و بعدها ليقم الطوفان. في تلك اللحظة من الليل كانت شاحنات الجيش تسير متتابعة على الجسر كإمداد للفيالق التي سبقتها منذ أشهُر إلى التراب الأخضر الذي شهد مولدَه و صِباه و بزوغ شواربه، كان يراقب ببطء استواء الشاحنات الأربع الغاصّة بالجنود الأجانب فوق الجسر و في تلك اللحظة الشبيهة بالتقاط المصوّر للصورة الفوتوغرافية التي يكون فيها شيء من القَدَر، ضغط صابر على الزرّ فانثالت الشاحنات وسط الأعمدة المنهارة و قَضى رُكّابُها.
العم "صابر" عاش في الظلام بعد تلك العملية ،لم يعترف أحد بما فعله الرجل حتى همسًا
بل لقد تناقلت الإذاعة أن الجيش الوطني قد قام ببسالة بتفجير أربع شاحنات تابعة للعدوّ على طريق الجسر المحاذي للقرية و هي تعِدُ أهالي القرية بإعادة بنائه في أقرب الآجال ليتسنّى لأهلها قضاء حاجياتهم من الحاضرة. و لكنه كان يفتخر في داخله بما فعله و يعرف أنّه استطاع أن يقوم بواجبه و لا أهمية لما يقوله أو يفعله الآخرون. اِبنهُ "صِدّيق" عاش يعاني من ذلك العطب الذي خلّفته الجماعة في ذاكرة أبيه الذي فعل ما عجز الحزب عن فعلِهِ و مع هذا وُسِمت العملية بأسماء أخرى لمجرد أنها تملك السلطة و المال.
كانت موسيقى الثورة تصمّ آذان "صِدّيق" صغيرا و تدفعه من الخلف كعصًا مُدبّبة يافِعًا. كانت سبب وجوده و جذوة كيانهِ و حُلمه اللذيذ الذي يتبلور يوما فيوما.
الفضيحة التي دوّت في بيت "صابر" فاشتعل الليل و انفتح الجرح النائم و غَصّ الحلقُ برماد السجائر و الصدأ جعلت "صِدّيقًا" يصرّ أكثر من اي وقت على أن يُكمل طريق أبيه. في تلك اليلة، صاح "صابر" صيحة الوحش و اُختلّ لديْهِ العالم، كيف اُستطاع الكلاب أن ينفذوا إلى بيته و يسحبوا البساط من تحت قدميه، كيف اُستطاع ذلك الجندي النتن أن يُغري اُبنَتَهُ "حسناء" و يسرق شرفها بعد أن أوهمها ببلاد ما وراء البحر، كيف أمكن له أن يُفكّر في اُبنة من فجّر الجسر و قتل مائة جندي أجنبي، لا شك أنه مدسوس، استخدمه الأجانب أو الدولة لمعرفة ما يدور في بيت "صابر" . بل كيف اُستطاعت "حسناء" اُبنة "صابر" الركوع لمن اُنتصر عليهم أبوها في معركة غير متساوية.
"حسناء" الفتاة الجامعية فخر القرية، نجحت في ما فشلت فيه مثيلاتُها، أهدت لوالدها شهادتها الجامعية و بقيت تنتظر زوجا جيّدا و فرصة في العمل و لكن القرية لم يكن فيها الكثير من الشبان الذين أتمّوا دراستهم الجامعية و حتى مَن فَعَل منهم وَجد زوجة جاهزة اختارتها له أمّه. زوجة تجيد الطهو و التنظيف و رعاية الأطفال و ترضى بالموجود. لا تملك طموحات أكبر من جيب الزوج أو عقله.
اِنتظرت "حسناء" الزوج فَلَم يأتِ و انتظرت فرصة في العمل فلم تظفر بها فالقرية تتمثل في مجموعة دكاكين و منازل و مواطن العمل فيها يشغلها موظفون لا يزحزحهم إلا التقاعد أو الموت. كانت تموت يوما بعد يوم، ذبُل جمالها و اُنطفأ حماسُها، لا أقرباء لها في الحاضرة تقيمُ لديهم حتى تحصل على عمل و لا أبوها يرضى أن تعمل خارج القرية، كانت رغبتها أن تتم دراستَها ديْنا في عنقه أما الآن فعليها أن تنتظر قدَرها و الحال أن لا رجُل في القرية يرضى أن يتزوّج فتاة تعرف أكثر مما يعرف.
دار العالـمُ في عقلها فكل ما خططت له ظَلّ محضَ سراب، الحبّ يطارد أوهامَها و أشباحُ زميلاتها الحائزات على الشهادة تطاردها فأمثالهن من سكّان الحاضرة يسهل عليهن اقتناص الفرص في العمل و الزواج أما هي فستقضم العنوسة شبابها و لن تستطيع العمل و القريةُ تتشابه فيها الأيام و الليالي و الحياة و الموت. كانت تحمل أفكارا متسامحة عن الحضارات و الفكر الانساني فقد درس معها طلاب من جنسيات مختلفة و قد استمتعت بصداقتهم رغم الاختلاف فللشباب مشاكل في كل العالم، كلهم يعانون من نقص الحوار و نقص فرص العمل و تفكك العائلة، كلهم يحملون طموحات مشروعة لتغيير العالم و في هذا الاطار تعرّفت على هنري، كانت في البداية تقابله كل مرة عند شراء حاجيات العائلة ثم صارا يتواعدان عند الجسر الذي حطّمه أبوها أملا منه في قطع دابر كل أجنبي يدنّس أرضه و أرض آبائه و الذي لم تكن تعلم عنه شيئا.
كان الفراغ يتلبّس بكيانها و لم يكن لديها أية فكرة عن إمكانية تطور العلاقة مع هذا الجندي الذي أخبرها أنه ليس إلا موظفا إداريا لا علاقة له بالسلاح و أنه حَالَمَا يُتِمّ مُهمّتَه سيعود إلى بلاده فهو من عائلة ثرية و لكن الخدمة العسكرية تنسحب على كل الطبقات الاجتماعية. بدأت ترتبط به عواطفُها من لقاء لآخر و كان الانتظار الطويل يصوّر لها هنري مع الأيام في هيئة المنقذ خاصة بعد أن طرح عليها امكانية السفر معه إلى بلاده و العمل هناك مع اتمام دراستها لتحصل على الدكتوراه في مجالها فالقرية عقيم لا تنبت زوجا و أولادا و لا تمطر سماؤها وظائفَ.
بدأت "حسناء" تشعر بثورة داخلية نابعة من عجزها عن التمتع بحياة طبيعية في ظِلّ مجتمع ذكوري، لن تعيش كأمّها في انتظار ما لا يأتي، لن تعيش ككل بنات القرية اللواتي يتخذن النميمة أفيونا يُنسيهن منزلتهن المنحطة و عجز رجالهن عن صنع حاضر مشرق لهن و لأولادهنّ، ستنتهز أية فرصة تقفز أمامها حتى لو كانت هذه الفرصة رجلا أجنبيا يختلف عنها في الدين و الأعراف، طالما أنها الفرصة الوحيدة. تمادى "هنري" في مطالبه منها و لم تكن تمانع بل صارت تتحجج بالأوراق الجامعية الثبوتية لتنزل إلى الحاضرة و تلتقي به، حتى حدث ما كان يريده، جندي وحيد في أرض مُستعمرة يجد أنيسا لم يكن يحلم بمثله، فتاة جميلة، متعلمة و يائسة.
تنكر "هنري" لوُعوده و تحجج بأن سفارة دولته لا توافق على اصطحابه لها و تمتيعها بحق الاقامة حتى لو كانت تتم دراستها فالقوانين صارمة و إقامة "حسناء" في بلده ستعطيها الحق مع السنوات في أن تصير مواطنة.انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد أن فقدت كل شيء، الشرف و المستقبل و اُنسدّ عليها باب القرية نهائيا فلن يتزوجها أحد. جُنَّ "صابر" بعد أن أراق دماءَها و دفنها في حديقة المنزل ليغسل عارَه أمام نفسه قبل الآخرين و لكن طيفها ظل يطارده، لقد كانت "حسناء" زهرة القرية و نجمتها البعيدة لولا اليـأس و المستعمر الذي دنّس كل شيء.
"صِدّيق" الذي شارك أباه في قتل أخته و دفنها، صار جزءا من حُطام القرية و العائلة و البلد و تعملقت شجرة حِقدهِ و طاولت عنان السماء، فساد أصيل يجعل حياة القرية تسير على هذه الشاكلة. لماذا نقتل أنفسنا؟، تموت ثمار الشجرة و تعاود البذور السقوط لبدء حياة جديدة، ألا يكفي أن يقتلنا الأجنبي؟ كان الصراع ينمو في داخله كهيكل صخري مسدود المنافذ. "صدّيق" ابن العم "صابر" شهد كل المجازر و مات آلاف المرات مع من مات و في كل مرّة يستيقظ فيها، كان يقُدّ من ضعفه قوة تكفيه لكبوة لاحقة. البلاد تملؤها اللصوص و القتلة و أكثرهم يختفون وراء ظاهر كاذب لا يَشي بِدواخلهم و بما هم قادرون على فِعْلِه. و لينتصرَ عليهم يجب أن يعرفهم.
"صِدّيق" نبتة شقية من إلهام الزمن الغريب، قلب أفلت من عقال الزمن و اُحتفظ بقوانينه حتى آخر لحظة و لكن المسميات التي تبتدعها السياسة من حين لآخر لتزرع بذور الشقاق في كل خلية مهما كان نوعها و فيما بعد تحكم على هذا بالخيانة و على ذاك بالانتهازية و على الآخر بالحيادية أو العصيان. حرب لا هوادة فيها يبتدعها السياسيون ليجعلوا الكل في تناحر دائم علّهم ينشغلون عن المطالبة بما يهمّهم حقّا.
اختار "صدّيق" أن يدافع عن القرية دون مغادرة قواعده، لم يكن حبّه متلبّسا بشيء من حب الظهور أو الرغبة المريضة في القيادة، كان يركّز انتباهه كلّه على العمل المطلوب دون تفكير بالتنسيق مع أحد لأن ذلك يضاعف امكانية كشف المخطط و فشل العملية. كان يقوم بكل شيء بمفرده فقد كان يرى في والده المثل الأعلى و قد عرف من تجربة والده نكران الآخرين لمجهود الواحد منهم و وجوب أن تكون هنالك مظلة سياسية لكل شيء.
عمل "صِدّيق" على الاقتراب أكثر من الطبقة الراقية و معرفة كواليسها و قد وجد في نسائها جسرا سهلا لبلوغ ما كان يخطط إليه فهنّ راقيات أنيقات في المأكل و الكلام و المعاملة و يحببن الشاب الذكي الأنيق الحساس الذي يثني على جمالهن و يمدحهن بما ليس فيهن من العبارات التي لا يسمعنها من أزواجهن المشغولين دائما بأعمالهم و بعشيقاتهم اللواتي ينفقن عليهن الأموال من أجل سهرة خاصة تنسيهن أعباء العمل و الزواج. و كان لدى "صِدّيق" المظهر المطلوب مع جمال خفيّ مثير للفضول و ثقافة عالية.
اِندسّ "صِدّيق" في المجتمع المخملي مدفوعا بحقده على الطبقة الراقية التي تعقد الصفقات الخفية مع الأجانب و بالألم الباتر الذي سببته نهاية حسناء عارًا و قتلا. كان يتوغّل شيئا فشيئا في أعشاش الدبابير جوازُه الوحيد اجماع نساء الطبقة الراقية و اثناؤهن على جماله و ذكائه و رقّة ذوقه. تقاطعَ "صِدّيق" مع "سرحان" في مناسبات عديدة و لكن طريقهما ليست واحدة و لا غايتهما .
"سرحان" صاحب الدافع الفردي في الخلاص كان يسخر من "صِدّيق" و لا يرى جدوى من طريقته بل كان يرى فيها تخفّيا وراء غايات وطنية أما "صِدّيق" فكان يفهم "سرحان" و كانا في كل الأحوال وجهين لعملة واحدة هي الظلم.
*الحارق: المهاجر غير الشرعي في اللهجة المحلية.
تعليق