حصاد الوهم
مع كل يوم يمر، يتأكد لديه أن هذا الولد يشبهه في كل شيء..حركاته،ابتسامته،ردود أفعاله.. حتى أولئك الذين يحبون مجاملته والتودد إليه ،يقولون له إنه يشبهك كثيرا ،بل هو نسخة طبق الأصل منك ..
يحمله يقينه المتنامي بهذا الشبه إلى أحضان ولده..فلا يشعر بنفسه إلا وهو يضمه إليه ،ليودع في قلبه حبا ،يرجو أن يمنع من خلاله الزمن من تشكيل تلك الصورة القديمة التي بدأت معالمها تلوح في أيامه القادمة ..وكأنه يسعى لأن يمدها بأجزاء جديدة ،لا تحمل لمسات الماضي الذي بات يؤرقه.
ـ هل تحبني كما أحبك ..
يطيل احتضان ولده ..ويعود بذاكرته إلى سنوات خلت ،ليقف عند محطة بعينها لا يتعداها، فتلك الأحداث صارت بالنسبة إليه عذابا وألما يعتصر قلبه ،وكابوسا يرافقه في نومه ويقظته ..
يوم الثلاثاء ..الساعة الحادية عشرة صباحا ،وهو يجلس في مكتبه الفخم منكبا على ملفات لا يطلع عليها غيره ، يتلقى من زوجته هاتفا تطلبه أن يحضر فورا ..
كان يعرف ما تريد ..
أجاب وهو يحاول أن يهدأ من حدتها..
ـ بقيت ساعة على نهاية الدوام وسأعود ..
ـ بل يجب أن تعود الآن ..
ـ لا بأس ..لا بأس سأحضر فورا ..لا تقلقي .
وضع سماعة الهاتف وأطرق إطراقة غاب فيها عن وعيه ..المسافة بين مكان عملة والبيت لا تستغرق منه إلا ربع ساعة بسيارته الجديدة الفاخرة التي قدمت إليه كهدية ،مقابل "خدمات" كان قد قدمها إلى بعض المتعاملين، فهو منذ سنوات أصبح رجلا مهمًا ، وما كان ليستطيع أن يتقدم لخطبة زوجته لو لم يحسن وضعه الاجتماعي والمالي ..ورغم ذلك لا يزال يشعر بالنقص ،لأنها من عائلة توارثت المال والسلطة ، بينما هو حديث عهد بنعمة تذلل كثيرا لأجل بلوغها ،وهو يريدها أن تظهر وتستمر .
لقد استقرت لديه قناعة رسختها مواقف كثيرة تعرض لها مذ كان طالبا في الجامعة ،أن المركز الاجتماعي والثروة هما اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميـع ،وكان مستعدا لأن يخوض أي مسلك يراه يحقق له هذه الغاية ..
قضّى حياته الجامعية يجتهد في أن لا يكشف للآخرين عن بلدته ،ولا الشارع الذي يقع فيه ذلك البيت القديم حيث كان يسكن ..يقوده فكره في بعض الأحيان إلى أن والده هو سبب تلك الوضعية التي عاشها.. لم يكن يجرؤ على أن يصارحه بذلك، لكنه يرى أن والده عاش في هامش الحياة ،عامل نظافة لا يكاد يوفر الاحتياجات اليومية إلا بشق النفس ، تقلب سنين طويلة في الفاقة ،وانتهى به الأمر أن أصبح طريح الفراش جراء معاناة امتدت به طيلة أيام عمله ،وهو يسير خلف شاحنة النفايات ،
أما الآن ،وهو يمتلك هذه السيارة الفخمة ،ويدير شركة من أهم الشركات في البلد ،يغمره الانتصار على تلك الأيام السوداء ، بل والأكثر من هذا أنه قد تزوج من عائلة ذات وزن اجتماعي ومالي ..
لم ينتبه إلا وهو يفتح باب سيارته ويستقر داخلها..كان المطر قد اشتد والشوارع تكاد تكون خالية ، ما يشغل باله في هذه اللحظات ،صرفه عن التمتع برؤية المطر وذكرياتٍ جميلةٍ تستيقظ في وجدانه مع سقوط المطر ..
كان في كثير من الأحيان يفتح نافذة سيارته ويخرج يده منها ليلامس تلك القطرات ،ثم يمسح على وجهه ما تجمع بكفه.. عادة لازمته منذ أن تلقى منها مكالمة تعلمه أن والدها قد وافق على أن يتقدم لخطبتها .. لقد كانت أسعد لحظات حياته .وكم كان يستعجل موعد الزواج ..
الآن ،يتمنى لو أن المسافة بين بيته ومكان عمله تطول فلا يصل ، ورغم تخفيفه للسرعة ،كان يرى أن المسافة تطوى في عجل ..حتى إشارات المرور الحمراء التي كان يراها تتلذذ بتوقيفه في كل مرة فسحت له المجال هذه المرة ..
ركن سيارته ثم توجه إلى باب البيت وهو يشعر بثقل يسحبه إلى الخلف ..
حاول فتح الباب لكن المفتاح لم يدخل القفل ..انتبه إلى أنه كان يحاول فتح الباب بمفتاح السيارة.
.. لقد صار غير قادر على السيطرة على نفسه..
صحح الوضع ودخل ،ليجد زوجته بانتظاره وقد بدا عليها غضب شديد ، وقبل أن تنبس ببنت شفة سحبها من يدها واتجه بها إلى غرفتهما وأغلق الباب ..
حتى هذا البيت الواسع المتكون من طابقين ،هو هدية قدمت إليه كثمن لتسهيلات لبعض المستوردين ،لم يكن يهمه ما ينتج عن تلك التراخيص التي يوقعها، بل المهم ماذا سيستفيد .. لقد كلفه تجهيز غرفة النوم لوحدها ما يعجز عنه عشرة موظفين شرفاء .. كان يريد أن يحافظ على المستوى المعيشي الذي عرفته زوجته قبل زواجها .
لبثا في الغرفة بضع دقائق خرجت بعدها وتركت الباب مفتوحا ، كان يرمقها بنظرات مازجها اللوم والغضب .. جلس على السرير وأمسك رأسه بكلتا يديه كأن مصائب الدنيا كلها حلت عليه .. لبث على تلك الحال لحظات لا يدري كم استغرقت، لقد فقد القدرة على التركيز تماما ..وبينما هو كذلك ،تناهى إلى سمعه صوت والده ..
حمل نفسه الغارقة في همها واتجه إليه ،كان باب غرفته مفتوحا..
سلم عليه ...
وكعادته قبل يده واحتضنه ..
وكأنه يريد أن يواري اضطرابه البادي على وجهه في حضن والده ..
سأله عن حالته فأجاب بصوته المرتعش :
ـ لقد اشتد علي الألم وصرت لا أحتمل .
ـ ألم تأخذ الدواء ؟
ـ لقد فعلت ،بل لقد ضاعفت الجرعة ولم أشعر بتحسن ..
ـ لا بأس عليك ..
تقدم خطوات ..
أخرج هاتفه وأجرى مكالمة انتهت بكلمة:
ـ سأحضره على الفور.
التفت إلى والده وقال:
ـ سيكون كل شيء على ما يرام يا أبي ..
بدأ والده يجتهد في أن يظهر له أن الألم قد خف .. ويحاول إقناعه بعدم جدوى الطبيب والمستشفى ،فحالته لم تعد تنفع معها التحاليل ولا تتحمل المكوث في المستشفى لأيام ..
لكنه رغم عدم رغبته في الانتقال إلى المستشفى ،وجد نفسه أخيرا إلى جانب ابنه في السيارة..
وهو يقول ..
ـ إنني أتخيل الطبيب وهو يقدم لي نصائحه المعهودة ،وكلانا يعلم أن حالتي لا تحتاج إلا إلى الصبر ،لكن هو عليه أن يقول وأنا علي أن أسمع ..أنا لم تعد تهمني حالتي فلم يبق في العمر متسع ..
كلما تذكرت ذلك الطبيب الذي قال لي عد إلي بعد سنة أجدني أضحك ..لست أدري إن كان يقصد فعلا ما يقول .. ربما يقول في سره سيموت قبل أن تنقضي السنة ..
لقد علمتني الحياة أن الإنسان يحصد ما زرعت يداه ،وأنا قد زرعت وها أنا أحصد .. أنت حصادي ،وأنت البذرة التي كنت أتعهدها وأرجوها من الدنيا .. لا أدري ما سيكون حالي لو أنك لست إلى جانبي .
وجعل يسترسل في الحديث وابنه واجم قد ملأت الدموع عينيه ،حتى صار لا يكاد يميز الطريق ..يمد يده ليزيد من سرعة ماسح الزجاج رغم أن المطر قد توقف ،فلم يعد يدري أن يده كانت تريد كفكفة دموعه فأخطأت المكان .. أما السيارة فكانت تتحرك إلى وجهتها بثبات حيث كانوا في استقباله وادخلوه وهم
يظهرون له اهتماما غير عاد.
كان يبتسم ،وينظر إلى ولده بافتخار ،وكأنه يريد أن يقول لهم :إنه ابني وأنا والده الذي رباه ،وأوصله إلى هذه المرتبة التي أجبرت الجميع على احترامي والاهتمام بي ..
رافقه إلى غرفته وقال بلهجة المستعطف
ـ لقد أوصيتهم على العناية التامة بك وستكون مرتاحا ..
ثم جثا بين يديه وقبّل يده وانصرف ..
لما استقر في سريره ،أحضروا له وجبة الغداء التي لم يذق منها شيئا ..
جلس مع نفسه يحدثها وتحدثه إلى أن استسلم للنوم ..
لم تمر ساعة واحدة حتى سُمع صوته وهو يشكو ألامه ..تقدم إليه أحدهم يسأله، فعلم أنه يشكو ألما شديدا ..
قال يطمئنه:
ـ لا تقلق سنأخذك إلى المستشفى فورا ..
قال وقد انصرف عن ألمه :
ـ أولست في المستشفى ؟
ـ والدي العزيز أنت في دار العجزة .
تعليق