عشق بغداد
_ قراءة في قصة " الدرويش " لمحمد سلطان -
بقلم دكتور . سعد العتابي
منذ األف سنة وعشاقك يابغداد يتكاثرون ويتناسلون على موسقى حبك منذ ألف عام وأنتِ تقدمين صحون التمر واللبن وزهور الحب التي تنتشر حولها فراشات جميلة متتعدة الألوان والاشكال حتى كأنها حروف حب وعشق .
منذ ألف عام وعطاؤك مستمر حب وحلوى وشاي العصر المعبق برائحة الهيل الممزوج بحب بغدادي أصيل وأيضا تزفين دماً شريفاً يروي أرضك وأرض عشاقك من بلاد العرب .
منذ ألف وبغداد تزف بشرى العلم والأدب والفلسفة والفن إلى محبيها وتدفع ثمنه من دمها الزكي الطاهر,, منذ ألف وهي أنثى بهية جميلة كأنها السماء صفاء وجمالاً وعلواً تمشي وعنقها يطاول السماء أنثى تتلقى السهام كصدر الحسين وتباهي بكثرة السهام الموجهة لها . في مقابل فيض الحب والعطاء الذي تقدمه.
منذ ألف وأنتي حبيتي طائر العنقاء تحترق وتتحول إلى رماد وتعود أجمل وأروع وأغنج وأبهى وأبغد وأيضا أقوي.
كثر عشاقك بغداد وازدادوا حتى تمنوا أن يكونوا دراويشاَ يهيمون بحبك وأنتي تحتضنيهم في مكان مليء بأولياء الله الصالحين والحب والجمال والحلوى وعصافير وطيور الحب وبساتينك الغناء
لعل هذه هي رسالة المبدع محمد سلطان في قصته الذهبية " الدرويش " التي لا أستطيع _صراحة_ أن أخفي انحيازي الوجداني لها.
حاول القاص أن يقدم قصة مميزة تنهض على الموازنة بين مكانين البصرة وبغداد وعلى نحو مليء بالتفصيلات حتى يجعل القارئ يعيش لحظة القراءة في المكانين عبر مكان العتبة وهي الباخرة التي تنقل الناس من البصرة إلى بغداد.
حاول القاص أن يقدم البصرة بأنها مكانا أشبه بالبادية المتخلفة التي تعيش على أعتاب الزمن _ وهذه مغالطة- وبغداد بوصفها مكاناً زاهياً بالحلوة والأضرحة والأولياء والحب بمزيد من التفصيلات الجميلة حتى كأنك تقرأ ثلاثية (أرض السواد لعبد الرحمن منيف).
والأهم _ولعل الرسالة تكمن هنا_ أن الشخصية شاهدت أرض بغداد في الطفولة فبقيت في ذهنه إلى أن شب وكبر فأصبح درويشاً عاشقاً لبغداد وكأنه أراد إن يقول أن من يرى أو يسمع أوحتى يقرأ عن بغداد لاينساها إطلاقاً ويهيم بحبها درويشاً هائماً في أرجائها.
ملاحظات ختامية:
1- القصة جميلة وموفقة وتنهض على لغة تعتمد التفصيلات الدقيقة حتى نتستطيع أن نقول أنها تنهض أساساً على شعرية الوصف التفصيلي وكأنك أمام رواية كبيرة.
2-لغة القصة جميلة فيها الشئ الكثير من الشعرية والجماليات البلاغية .
3-عنصر السرد في القصة مييز وناضج .
ملاحظات مرة أخرى .
1- قدم القص وكأنها بادية أو قرية متخلفة على حين أنها واحدة من أهم الأمصار العربية في العراق فهي المثابة الأولى لجيوش الفتح العربي الاسلامي نحو الشرق وهي واحدة من مدينتين عربيتين نشأ فيهما النحو العربي والبلاغة والفكر والفلسة – الثانية هي الكوفة_ وحتى العصر الحديث رغم كل الاحتلالات والمؤامرات فقد كانت مدينة حب وشعر وفن وأدب سيما وأن السياب رائد ومبدع الشعر الحر أحد اعلامها.
2-التمر في العراق بصري وليس بغدادي
3-شهر آبيب في العراق هو شهر آب
4-شهر آذار في العراق ربيعي جميل ومعتدل وليس بارداَ كما ذكر القاص
5-المسافة بين بغداد والبصرة في النهر أكثر من يوم ونصف وربما تعد بالأيام والأسابيع لاسيما مع باخرة عثمانية قديمة
أتمنى لمحمد سلطان عاشق بغداد الوفي المزيد من الإبداع المميز مع محبتي
****************************************
" الدرويش "
قصة بقلم محمد سلطان
قبل وصولها .. كانت تتغنى ضفتاه بشتائلِ الآجور الأحمر و الأبيض , و وجهه الرائق كلوحٍ زجاجي مصقولٍ ـ لا يشوبه أي عكارٍ ـ و اخضرارٍ قاتمٍ يملأ أوراق البلوط و العنب و التين .. تلك الأيك الملتفة تعانقت و تشابكت من أعلى , تبدو من بعيدٍ كسقفٍ أخضر معلقٍ في السماء , على سطحه تبايضت الطيور و توالدت الحيوانات الغريبة , تحت هذا السقف كنا نجد حلاوة في صيد الحمائم و شواء السمان , و قبلما تترمد أكوام النار التى أيقظناها بجذل الأشجار , كنا نغلي ماءه الممزوج بخليط الأعشاب النابتة على سفحه الممتد كحاجبٍ مذججٍ في وجه أنثى مثخنة القوام , ثم نحتسيه , فيمنحنا القدرة على التسلق .. نقطف الثمار و الأفراخ من أوكارها في غياب الأمهات .
لكن جاءت للمرة الأولى كالتمساح , تزحف بكرشها الأبجر و جناحين عريضين ـ بلا ريش ـ .. تشق النهر و تخرط الألواح المصقولة , فتنكسر و تتشظى .. تتعكر وجوهنا و نكتسى بطميٍ أشد سمرةً من ملامحنا .. تتهشم الجباه و تتشوه .. تأخذنا الموجات .. نذوب .. نذوب , ثم نختفى تماماً , فنهرع من هذا التنين عندما يصرخ في مرقده , و نتطاير كعصافير الجنة , فتتأبطنا الأمهات المشدوهات و نتعلق برقابهن كالتمائم السمراء .
لم نكن نعرف لها اسماً .. أبلغونا أنها تأكل الفحم و تطحنه بكرشها السمين .. تطرده عبر زلومة مخروطية تتصاعد منها أبخرةٌ و دخانٌ كثيفٌ يملأ السماء , يستقر في النهاية فوق الأسقف الخضراء ؛ فسميناها " مركب الدخان " .
آبيب كان يحرمنا متعة الترحال مع الآباء .. كانت الأمهات تخاف علينا من قيظ البادية و عناء السفر .. تحبسنا في الخيام حتى ينتهي الرجال من تسّريج البغال و الخيول .. يشدونها بالخرُجِ في الليل و تنطلق كالريح تعفر الصحراء المقمرة , ثم يطلقن سراحنا فنبكي .. نثور على الأوتاد نقلعها .. ندكها بأقدامنا , فيجبرن خاطرنا بصحون " الحلقوم " المطبوخ في البارحة , لكن كنا نتضجر من قولهن : " أتحتملون حر آبيب ؟! و الله البغال لا تحتمل " ... فننام و نتكور في حجورهن بأقدامنا المغبرة و خدودٍ لازالت مبللة بماءٍ مالح .. نحلم بعودة الرجال , و أثواب المدينة .. يحكون لنا عن هؤلاء الحضر .. كيف يلبسون و كيف يأكلون .. فأشتاق لرؤيتهم و و أراهم أجساداً تشع بومضٍ خاطفٍ و أطيافا غير ما نرى فى أرض القبائل .. خذنى معك يا أبي خذني معك .. تنفلت شهقة بين حلم و آخر .. نبتسم .. نفرح بتمرِ بغداد .. نأخذه و نرمح إلى الساحة , نقتسمه مع أبناء القبيلة .
أيقظتنا مركب الدخان ؛ معلنة عن أولى رحلاتها النهرية إلى بغداد .. فرحنا و طارت بنا الدنيا .. عم الخبر أرجاء القبيلة .. بل امتد للقبائل المجاورة , و صارت البصرة كلها تتحدث عن تلك الجنّية التى ستقلنا إلى بغداد و تجلب لنا أثوابا و سراويل الحضر ..
لم تكن فرحة العجائز و الشيوخ أقل منّا ؛ فمنذ أن شاخت العظام و تدغدغت فقرات الظهر من قسوة البغال ؛ انقطعت زيارتهم إلى أضرحة الأئمة و الصالحين .. تجمعنا كيوم عيد مبتهجين , نساءً و عجائز .. شيوخاً و أطفالاً .. الرجال أهملوا بغالهم .. عقلوها .. تركوها تقضم الحب و تلوك خضار الأرضِ .
كانت مركب الدخان تُستدعى بثقلٍ من ذاكرة الشيوخ و العجائز , فكانوا ينطقونها " الدخانية " , فصار الكل يردد (( الدخانية .. الدخانية )) .. إلى أن لاحظ الأمر أحد الأتراك العاملين على متنها فأخبرنا أن اسمها " الباخرة " .. لكن أصرت فضة العجوز على الدخانية , حاول التركي إقناعها فنهرته و أشاحت بعصا تتوكأ عليها و توعّدته إن لم يكف ستفتت هذا العكاز على رأسه و ترميه في النهر يأكله السمك , فانسحب الرجل بسرعة و نزل في بهو المركب و هو يردد مقطب الجبين : دخانية .. دخانية ! .
انسابت المركب كريشة على سطح الماء .. خلفت و راءها السقف الأخضر معلقاً في الهواء .. و كلما ابتعدت يضمر و يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى تساوى بسفح النهر و أصبحا حاجباً واحداً لنفس الأنثى .
كانت الأكواخ و العشائر الساكنة على ضفتيه تتحرك .. ببطءٍ !.. حتى النخل و التلال .. كل السواكن تحركت بين البصرة و بغداد .
انقضى النهار و الليل في النهر , و في صبيحة اليوم التالي جاءنا التركي يزف إلينا البشرى ؛ وصلنا بغداد .
نزلنا المدينة .. قلبي يخفق , ألفُ بناظري هنا و هناك بحثاً عنهم .. و كانت تلك هى المرة الأولى أرى سكان الحضر .. هم نفس الفصيلة .. الدم واحد .. الضحك واحد .. لهم أنوف و آذانٍ مثلنا .. يأكلون كما نأكل .. ويشربون من ذات النهر .. يمشون بنفس الخطوة .. خدودهم و جباههم قمحيةً عريضة .. تتخطط سواعدهم بأوردةٍ وعروقٍ خضراء مثلنا تماماً .. يغضبون كما يغضب أبي و يفرحون كما تفرح فضة .. صغارهم تبكي كما أبكي .. و ينزّ من أحداقهم ماءًٌ مالحٌ مثل دمعي .. يأكلون حلقوماً كالذي تصنعه أمي كل ليلةٍ .. لكن شيئاً واحداً كان مختلفاً عنّا ؛ شوارعهم تعجُ بالغرباء .. !!
تكتفني أبي و سار بنا إلى السوق , اشترى لنا حمصاً و حلوى بغدادية مخلوطة بالسمسم .. اندهشتُ !! .. نظرت إلى أبي .. قلت له و أنا أتقافز :
ـ أبي سمسم ! إنه السمسم الذى نزرعه !
فضحك و قال :
ـ كل البلاد تزرع السمسم ..
ثم جاء رجلٌ غريبٌ مغللا من كل الإتجاهات بالأواني و الأربطة .. يحمل قدراً نحاسياً على بطنه .. منح كل واحدٍ منّا كأساً بها مشروباً سكري المذاق لونه أحمر .. أبلغني أبي بعد ما أعطاه ليرة عثمانية أنه الشرباتلي .. انصرفنا و ذهبنا مع فضة لزيارة الصالحين .. سحبتني في ذيلها و أدخلتني معها غرفة شبه مظلمة .. تفوح أركانها بروائحٍ معتقةٍ نفّاذةٍ لازالت في أنفي .. هسّهسَت لي بسبابتها ؛ تحثني على الصمت .. أناس كثيرون لا يتحدثون .. يبكون فقط .. يتعلقون بضلفاتٍ مربعةٍ مكسيةٍ بالقماش الأخضر اللامع من كل اتجاه .. اقتربنا منهم .. ارتعشتُ .. تعلقت فضة مثلهم و راحت تتمسح بالضلفاتِ و الأعمدةِ .. بكت .. كانت تذكر الله و أسماءً أخرى في خشوع .. استحضرتني رغبةً في البكاء .. فعلتُ .. أجهشتُ .. ازداد نحيبي .. صرخت .. لا أحد يسمعني .. لا أحد يراني .. اكتظ المكان بالنسوة .. غرقت في سوادهن .. لمحني شيخٌ كان يجلس في المدخل , فأمر فضة أن تُخرجني و ترحل , ففعلت و جلسنا بالخارج ننتظر أبي حتي فرغ من صلاته .. اصطحبنا و رجعنا إلى الدخانية محملين بالأقمشة و التمور و الأطعمة الشهيّة .
كانت أجرة الراكب ليرة و نصف .. دفعها أبي و انتظرنا حتى تحركت المركب عائدةً إلى البصرة .
لم نشبع من الرحلة و في كل موسمٍ كنا نلتف حول فضة كالشياطين نوسوس لها حتى تثور الفكرة في رأسها بسهولة , فلا يستطيع أبي أن يعصي لها أمراً . مرت ثلاثة مواسم من عمر الدخانية و لازالت بصحة جيدة تأكل الفحم و تطرده دخاناً .. لكن ماتت فضة بعد الرحلة الأخيرة , فأخرجت أمي رداءً أبيضَ كانت العجوز قد اشترته في الرحلة الأولى و خبأته عند أمي و أوصتها ألا تخرجه حتى يتوفاها الله ..
ماتت فضة .. ضاقت الدنيا و اتسعت .. شب عودي .. لكن علمتني كيف أناجي الأولياء و أنتحب , و كيف أزور الصالحين , فبدأتُ بزيارتها .. وسرّجت أحد البغال ثم انطلقتُ إلى بغداد غير عابئ ببرد آذار .. نزلت السوق اشتريتُ قفطاناً و عمامةً و جبّةً خضراء ثم أطلقت لحيتي و رحتُ أجوب المقامات و أكنسُ الأضرحة و عند عودتي أكون حريصاً على موازاة النهر .. أدنو بدابتي من الدخانية و أرمي الصغار بالتمور و الورود البيضاء ..
لكن جاءت للمرة الأولى كالتمساح , تزحف بكرشها الأبجر و جناحين عريضين ـ بلا ريش ـ .. تشق النهر و تخرط الألواح المصقولة , فتنكسر و تتشظى .. تتعكر وجوهنا و نكتسى بطميٍ أشد سمرةً من ملامحنا .. تتهشم الجباه و تتشوه .. تأخذنا الموجات .. نذوب .. نذوب , ثم نختفى تماماً , فنهرع من هذا التنين عندما يصرخ في مرقده , و نتطاير كعصافير الجنة , فتتأبطنا الأمهات المشدوهات و نتعلق برقابهن كالتمائم السمراء .
لم نكن نعرف لها اسماً .. أبلغونا أنها تأكل الفحم و تطحنه بكرشها السمين .. تطرده عبر زلومة مخروطية تتصاعد منها أبخرةٌ و دخانٌ كثيفٌ يملأ السماء , يستقر في النهاية فوق الأسقف الخضراء ؛ فسميناها " مركب الدخان " .
آبيب كان يحرمنا متعة الترحال مع الآباء .. كانت الأمهات تخاف علينا من قيظ البادية و عناء السفر .. تحبسنا في الخيام حتى ينتهي الرجال من تسّريج البغال و الخيول .. يشدونها بالخرُجِ في الليل و تنطلق كالريح تعفر الصحراء المقمرة , ثم يطلقن سراحنا فنبكي .. نثور على الأوتاد نقلعها .. ندكها بأقدامنا , فيجبرن خاطرنا بصحون " الحلقوم " المطبوخ في البارحة , لكن كنا نتضجر من قولهن : " أتحتملون حر آبيب ؟! و الله البغال لا تحتمل " ... فننام و نتكور في حجورهن بأقدامنا المغبرة و خدودٍ لازالت مبللة بماءٍ مالح .. نحلم بعودة الرجال , و أثواب المدينة .. يحكون لنا عن هؤلاء الحضر .. كيف يلبسون و كيف يأكلون .. فأشتاق لرؤيتهم و و أراهم أجساداً تشع بومضٍ خاطفٍ و أطيافا غير ما نرى فى أرض القبائل .. خذنى معك يا أبي خذني معك .. تنفلت شهقة بين حلم و آخر .. نبتسم .. نفرح بتمرِ بغداد .. نأخذه و نرمح إلى الساحة , نقتسمه مع أبناء القبيلة .
أيقظتنا مركب الدخان ؛ معلنة عن أولى رحلاتها النهرية إلى بغداد .. فرحنا و طارت بنا الدنيا .. عم الخبر أرجاء القبيلة .. بل امتد للقبائل المجاورة , و صارت البصرة كلها تتحدث عن تلك الجنّية التى ستقلنا إلى بغداد و تجلب لنا أثوابا و سراويل الحضر ..
لم تكن فرحة العجائز و الشيوخ أقل منّا ؛ فمنذ أن شاخت العظام و تدغدغت فقرات الظهر من قسوة البغال ؛ انقطعت زيارتهم إلى أضرحة الأئمة و الصالحين .. تجمعنا كيوم عيد مبتهجين , نساءً و عجائز .. شيوخاً و أطفالاً .. الرجال أهملوا بغالهم .. عقلوها .. تركوها تقضم الحب و تلوك خضار الأرضِ .
كانت مركب الدخان تُستدعى بثقلٍ من ذاكرة الشيوخ و العجائز , فكانوا ينطقونها " الدخانية " , فصار الكل يردد (( الدخانية .. الدخانية )) .. إلى أن لاحظ الأمر أحد الأتراك العاملين على متنها فأخبرنا أن اسمها " الباخرة " .. لكن أصرت فضة العجوز على الدخانية , حاول التركي إقناعها فنهرته و أشاحت بعصا تتوكأ عليها و توعّدته إن لم يكف ستفتت هذا العكاز على رأسه و ترميه في النهر يأكله السمك , فانسحب الرجل بسرعة و نزل في بهو المركب و هو يردد مقطب الجبين : دخانية .. دخانية ! .
انسابت المركب كريشة على سطح الماء .. خلفت و راءها السقف الأخضر معلقاً في الهواء .. و كلما ابتعدت يضمر و يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى تساوى بسفح النهر و أصبحا حاجباً واحداً لنفس الأنثى .
كانت الأكواخ و العشائر الساكنة على ضفتيه تتحرك .. ببطءٍ !.. حتى النخل و التلال .. كل السواكن تحركت بين البصرة و بغداد .
انقضى النهار و الليل في النهر , و في صبيحة اليوم التالي جاءنا التركي يزف إلينا البشرى ؛ وصلنا بغداد .
نزلنا المدينة .. قلبي يخفق , ألفُ بناظري هنا و هناك بحثاً عنهم .. و كانت تلك هى المرة الأولى أرى سكان الحضر .. هم نفس الفصيلة .. الدم واحد .. الضحك واحد .. لهم أنوف و آذانٍ مثلنا .. يأكلون كما نأكل .. ويشربون من ذات النهر .. يمشون بنفس الخطوة .. خدودهم و جباههم قمحيةً عريضة .. تتخطط سواعدهم بأوردةٍ وعروقٍ خضراء مثلنا تماماً .. يغضبون كما يغضب أبي و يفرحون كما تفرح فضة .. صغارهم تبكي كما أبكي .. و ينزّ من أحداقهم ماءًٌ مالحٌ مثل دمعي .. يأكلون حلقوماً كالذي تصنعه أمي كل ليلةٍ .. لكن شيئاً واحداً كان مختلفاً عنّا ؛ شوارعهم تعجُ بالغرباء .. !!
تكتفني أبي و سار بنا إلى السوق , اشترى لنا حمصاً و حلوى بغدادية مخلوطة بالسمسم .. اندهشتُ !! .. نظرت إلى أبي .. قلت له و أنا أتقافز :
ـ أبي سمسم ! إنه السمسم الذى نزرعه !
فضحك و قال :
ـ كل البلاد تزرع السمسم ..
ثم جاء رجلٌ غريبٌ مغللا من كل الإتجاهات بالأواني و الأربطة .. يحمل قدراً نحاسياً على بطنه .. منح كل واحدٍ منّا كأساً بها مشروباً سكري المذاق لونه أحمر .. أبلغني أبي بعد ما أعطاه ليرة عثمانية أنه الشرباتلي .. انصرفنا و ذهبنا مع فضة لزيارة الصالحين .. سحبتني في ذيلها و أدخلتني معها غرفة شبه مظلمة .. تفوح أركانها بروائحٍ معتقةٍ نفّاذةٍ لازالت في أنفي .. هسّهسَت لي بسبابتها ؛ تحثني على الصمت .. أناس كثيرون لا يتحدثون .. يبكون فقط .. يتعلقون بضلفاتٍ مربعةٍ مكسيةٍ بالقماش الأخضر اللامع من كل اتجاه .. اقتربنا منهم .. ارتعشتُ .. تعلقت فضة مثلهم و راحت تتمسح بالضلفاتِ و الأعمدةِ .. بكت .. كانت تذكر الله و أسماءً أخرى في خشوع .. استحضرتني رغبةً في البكاء .. فعلتُ .. أجهشتُ .. ازداد نحيبي .. صرخت .. لا أحد يسمعني .. لا أحد يراني .. اكتظ المكان بالنسوة .. غرقت في سوادهن .. لمحني شيخٌ كان يجلس في المدخل , فأمر فضة أن تُخرجني و ترحل , ففعلت و جلسنا بالخارج ننتظر أبي حتي فرغ من صلاته .. اصطحبنا و رجعنا إلى الدخانية محملين بالأقمشة و التمور و الأطعمة الشهيّة .
كانت أجرة الراكب ليرة و نصف .. دفعها أبي و انتظرنا حتى تحركت المركب عائدةً إلى البصرة .
لم نشبع من الرحلة و في كل موسمٍ كنا نلتف حول فضة كالشياطين نوسوس لها حتى تثور الفكرة في رأسها بسهولة , فلا يستطيع أبي أن يعصي لها أمراً . مرت ثلاثة مواسم من عمر الدخانية و لازالت بصحة جيدة تأكل الفحم و تطرده دخاناً .. لكن ماتت فضة بعد الرحلة الأخيرة , فأخرجت أمي رداءً أبيضَ كانت العجوز قد اشترته في الرحلة الأولى و خبأته عند أمي و أوصتها ألا تخرجه حتى يتوفاها الله ..
ماتت فضة .. ضاقت الدنيا و اتسعت .. شب عودي .. لكن علمتني كيف أناجي الأولياء و أنتحب , و كيف أزور الصالحين , فبدأتُ بزيارتها .. وسرّجت أحد البغال ثم انطلقتُ إلى بغداد غير عابئ ببرد آذار .. نزلت السوق اشتريتُ قفطاناً و عمامةً و جبّةً خضراء ثم أطلقت لحيتي و رحتُ أجوب المقامات و أكنسُ الأضرحة و عند عودتي أكون حريصاً على موازاة النهر .. أدنو بدابتي من الدخانية و أرمي الصغار بالتمور و الورود البيضاء ..
تعليق