قراءة في القصة القصيرة * جماد* للقاص والروائي سمير المنزلاوي:
يقول جبران خليل جبران: " قلت مرة للحياة : أود لو أسمع الموت متكلما.. فرفعت الحياة صوتها قليلا وقالت لي: انك تسمعه الآن"
و يقول أيضا هنريك ابسون: " المجتمع كالسفينة، يجب أن يكون الجميع مستعد لتولي القيادة. "
و يقول أيضا هنريك ابسون: " المجتمع كالسفينة، يجب أن يكون الجميع مستعد لتولي القيادة. "
القصة القصيرة * جماد* لكاتبها القاص المصري المبدع سمير المنزلاوي، جسدت تقريبا المعنيين معا، حيث جعلت الموت يتكلم من جهة، و من جهة أخرى حاولت من خلال كاتبها.. أن تتولى أيضا القيادة، وهذا عبر صرخة القلم النازف المتشوق للحرية، و أيضا المتعطش للخروج بحل من دائرة الألم الذي يحسها ويجسدها في قصته.. بسبب وجع الواقع * القرية *.
ونذكر كمثال لقولي.. من خلال النص * جماد* الآتي:
* كانت مشاعره مع الأم الصغيرة و طفلها الذي يناوشه الموت منذ أيام .*
* الفرن منذ أشرفت السيدة الكبرى على بنائه من الطين و التبن وجد قلبه يمتلئ بحب هذهالأسرة ! *
* كانت الطبول تدق فى الخارج و الزغاريد ترجه رجا فيتمنى أن يتحرر ليرىالعروس *
* نبوية تختلس النظر إلى الطفل الراقد يربطه بالحياة صدر يعلو و يهبط كصدر عصفور وقعمن العش*
هنا.. في ما اخترته من النموذج القصصي الذي بين أيدينا * جماد*، وجدت صرخة إنسانية صادقة، نابعة من قلب نابض بالحب لوطنه.. محب لتغيير واقعه الأليم، وهذا لمسته انطلاقا من العنوان *جماد* الذي يبين عدم تغير واقع الريف وجمود أفكاره..
ويؤكد القاص واقعة الجمود هذه، داخل النص.. عبر تركيزه على *الفرن* ( الجماد) الذي في داخله يغلي كنار الألم.. ولكن لا يستطيع حراكا كونه جماد بالطبع..
وهنا.. يتبين أنه يود تغيير الكثير في القرية ولكنه لا يستطيع ذلك بمفرده رغم محاولته القيادة..
مما لا شك فيه، أن الذي جعلنا نخترق نبضات القاص، للعيش معه داخل مجتمعه الصغير * القرية* في قصته *جماد* هو صدق رسالته الأدبية.. الذي استطاع من خلالها .. إيصال مشاعره لنا.. عبر الكلمة الهادفة والنبض القصصي المتميز..
كما أنه استطاع أن يجعل نصه صدى لهذه الصرخة.. وهذا استنتجته بكل تواضع بعد تأملي مليا لنبض * جماد* القصصي الصادق..
في هذه الأخيرة، مجموعة من العناصر الفنية المميزة للقصة القصيرة... أقصد عناصر السرد، وأذكر أهمها:
اللغة.. فكرة النص الهادفة.. الحبكة.. الزمان و المكان... العقل.. الخيال.. الحوار.. وهذا الأخير، وجدته نادرا، لكنه عميق الدلالة.. وقد عوضه القاص بالحوار الانفعالي الداخلي، الذي أبرز ما علق بذاكرته من هموم الريف.. وما في ذهنه المبدع من أسئلة يريد لها الجواب الشافي.. كما وجدت قدره لديه في الوصف المتأني.. والمخاطبة الروحية الانفعالية والنفسية.. مع ثراء دلالته النصية، وأفكاره الناضجة، و أيضا تميزه في إلقاء الضوء، على بعض المشاكل التي تتخبط بها القرية، مثل الزواج في سن صغيرة، والعادات القديمة التي مازالت مستمرة حتى الآن، مثل الولادة في المنزل، الخ.. والتي كانت في رأيي سببا في وفاة الرضيع العليل..
مثال من النص:
* ينظرون الى قطعة اللحم الضامرة و الوجه المتغضن الأصفر كليمونة , والثقبين المعتمين ، يرون ملك الموت يرفرف , و مع ذلك يواسون :
خير ان شاء الله *
*الأب الصغير ابن العشرين ليس لديه خبرة بالبؤس ,*خير ان شاء الله *
*يوم الولادة كان سهلا , لا طلق و لا نزع , فى ثانية نزل الولد و هى تفرد العجين و أسرعت جدته تقطع السرة..*
كما لمست جمالية في اشتغاله على اللغة، مع استخدامه رموز محكية تحاكي الواقع.. مثال:
*حجرته التى يجثو فيها كالجمل اسمها الخزانة ، لما تضمه من نفائس الدار كبلاليص الجبن القديم , و أجولة الحبوب , و الدقيق و البصل , وجرار السمن و الزبد والعسل .*
كما أن إبراز القاص للحدث بهذه الطريقة القريبة من الواقع المعاش.. يدل على معايشته له أو اهتمامه به.. كونه ذكر مجموعة من المفردات المستخدمة في الريف مثال:
* نفائس الدار كبلاليص الجبن القديم , و أجولة الحبوب*
* يلبسونه الجلباب الصوفى و يعطرونه بكولونيا الشبراويشى*
* ووضعت فى عرصته البرام المعمر*
* - حرام عليك جاى ورايا الغيط ؟ *
وهذا الذي اقتبسناه أعلاه، إنما هو دليل على اضطلاعه القريب.. لهذا العالم الخام.. وقولي هذا يؤكده القاص والناقد المبدع المصري محمد إبراهيم سلطان حينما قال عن القاص سمير المنزلاوي أنه:
" يرفض الهجرة إلى القاهرة مكتفياً بدفء العلاقات واللقاءات مع الأهل والأصدقاء بقرية منية المرشــــد التى ينســـج من رحمهـــا
كافة أعماله الإبداعية " .
إلى جانب ذلك لاحظت اشتغاله على جماليات اللغة كذلك.. وعمق رؤيته الفلسفية للأشياء.. مثال:
*الأسى و الصمت يتوزعان على البشر و غرف البيت و مرافقه .*
* الوقت سيف يقطع القلوب .*
* تقبض على الجسم العليل بكلتا يديها كانه سيهرب الى جوف الوحش .*
* تضحك فتصطدم الضحكة الريانة بالحيطان*
* ينسحبون بشفاه مرتعشة و دموع حائرة فى المآقى ثم يتبخر كل شئ وسط ركام المطالب .*
وهنا.. نرى أن قدرة القاص على تحليل المشاعر النفسية للشخوص كل واحد على حدة، جعلتنا كشهود عيان للواقع المعاش في الريف، والذي نقله لنا بطريقة تصويرية مبدعة... حملت معها كما هائلا من الذكريات، التي تتسابق للخروج دفعة واحدة.. مع كم هائل من الحسرة.. على الأرض والولد والجهد الضائع..
في النهاية تحيتي الكبيرة لهذا القاص والروائي المبدع سمير المنزلاوي، وتقدير كبير لصدق كتاباته ولعمق إبداعاته..
كل الـــــود
سعاد ميلي
تعليق