كأس وبرج

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فتحي العابد
    محظور
    • 07-05-2009
    • 52

    كأس وبرج

    بسم الله الرحمان الرحيم

    كأس وبرج

    كانت ليلة مطيرة، غير أن العم كمال أحضر ليمونه المعصور والمخلوط بالسكر، وحلوياته المعطرة بماء الورد والمذرور عليها من فوق السمسم، مبرجة في شكل هلال، حيث كان يسمى كأس الليمون مصحوبا بقطعة البسكويت (كأس وبرج)، ليقدمهما لحرفائه في الشوارع والمحطات العمومية من الصباح حتى الظهيرة..

    لقد ساعدته زوجته في عصر الليمون طيلة المساء، وطهي خبزة الحلويات وقصها في شكلها النهائي.

    غدا يوم جديد من أيام الله التي يقضيها عادة يدفع عربته المزيّنة على الجنبات بالورود البلاستيكية المختلفة الألوان، والمحملة بالعصير البارد بفاعل الثلج الذي يضعه كل صباح تحت سطلي الليمون المتمركزين داخل حوض العربة، بعدما يشتريه من سوق السمك القريب منه.

    تهيأ للخروج طلبا لرزق عياله إثر تحميل عربته بأشيائه قبيل صلاة الصبح. طوى أزقة المدينة الهامشية تخللتها في الأثناء بعض الوقفات في الطريق قبل أن يستقر عند زاويته المعتادة ، لم ينس أيام الحر التي لا تكفيها مظلته الوارفة والمصنوعة من سعف النخيل، كان جرسه لا يكف عن النداء، الكل يعرف رنات جرسه المميزة.. الأطفال كانوا يهرولون إليه، يتحلقون حوله، يطلبون من كأس ليمونه أن يروي عطشهم.. ومن برج بسكويته أن يشبع جوعهم.. يتحدثون إليه، يسألونه عن كؤوسه وأبراجه وكيف صنعت؟ ولماذا هي مميزة عن باقي الكؤوس والأبراج؟ وعن أولاده، وهل يتمدرسون مثلهم؟

    يتذكر الصغار مرة أنه رفض لنفر من السياح، أن يلتقطوا له صورة فولكلورية، ويتذكر هو كيف استغرب الأطفال الصغار تصرفه هذا، حيث عادة مايدفعون لمن يقبل أن يلتقط له صورة كتلك دراهم تكفيه أحيانا لمدة شهر.. وأنه رضي بالنزر اليسير مما اعتاد أن يطلبه من الأطفال عقب كل كأس وبرج..

    ارتكن زاويته المألوفة، لم ينطق الجرس كالمعتاد، لم يعلن عن وصول الكأس والبرج.. إلا أنه كان يُسمع للجرس رنينا في همس، وكأنه استحيى ممن يمر به، عندما كانت قطرات المطر تلامس رأس الجرس الصقيل، أو لربما حتى لا يُنعت رفيقه بما لا يبغيه.

    فجأة استفاق على أصوات.. استدار، خشي أن يكون هناك من يحذره من أمر ما.. فرك عينيه، وإذا بالصغار يتحلقون حوله كما اعتادوا في الأيام السابقة، وأيام الهجير.. وابتسامات اشتياق مثل الفراش تطير حول وجوههم الصغيرة والبريئة، والكل يصيح: إعطني كأس وبرج.. فقد شاح حلقي وهدني الظمأ..

    كان العم كمال يعاقر شراب الكلمات التي تخرج من أفواه أولائك الصبية، كما يعاقر أولائك الصبية كؤوس ليمونه التي لا يرتوون منها، مثلما لا يرتوون من بوح حكاياته الطريفة والجميلة...

    كانت تلك الأيام بالنسبة لي، حلم.. ولّدت في أفكارا جديدة في عيون الغد، وحكاية كفاح تتجدد عند بداية كل صرخة تأتي من أفواه أولائك الصبية الذين هم في عمر الزهور.. وشكل الورود..

    العم كمال ذاك العملاق المرهق رغم قامته القصيرة.. كان يناضل لاجلنا، ويعلمنا دروسا في الحياة تنقش على حجر..

    كم بي شوق الآن يصل حد الجنون لأشرب كأس ليمونه وآكل برج بسكويته..! ولأرسم له قبلة على الجبين والعين.. يقتلني الحنين إليه ويرميني في دوامة الهيام والذكرى، فأصبح رغما عني أسير كأسه وبرجه..!

    اليوم تعذر اللقاء وازدادت المسافات اتساعا.. وتداخلت فرضيات الأشياء.. مع واقع الزمن المعاش.. ورغم هذا سيظل وده عبر المدى.. وفوق احتمال الخيال..
  • ريمه الخاني
    مستشار أدبي
    • 16-05-2007
    • 4807

    #2
    رد: كأس وبرج

    اليوم تعذر اللقاء وازدادت المسافات اتساعا.. وتداخلت فرضيات الأشياء.. مع واقع الزمن المعاش.. ورغم هذا سيظل وده عبر المدى.. وفوق احتمال الخيال..
    لو بقينا على هذا الحال لما تفككت عرى حياتنا الاجتماعية ابدا
    وتثبيت

    تعليق

    • فتحي العابد
      محظور
      • 07-05-2009
      • 52

      #3
      رد: كأس وبرج

      أخت ريمة الخاني أهلا وسهلا
      يجب أن نبقى على قدر من الشوق والحنين والود، وإلا أكلنا يوم أكل الثور الأبيض.
      شكرا لك على التثبيت
      التعديل الأخير تم بواسطة فتحي العابد; الساعة 04-10-2009, 09:28.

      تعليق

      • لطفي حجلاوي
        عضو الملتقى
        • 30-09-2009
        • 101

        #4
        رد: كأس وبرج

        أخي فتحي قرأت ما كتبت بكل عناية، و لقد نقلتني حروفك الى تفاصيل واقع بائع الليمون و المدرسة التونسية الريفية و الشبه ريفيّة... أقدر فيك قدرتك المميزة على الوصف... أدبك أليق بالكبار...دمت مبدعا..


        [gdwl]
        قال له : أسكت فإن هذا حديث يأكل الأحاديث كلّها...
        [/gdwl]
        [FONT=Andalus][COLOR=indigo][FONT=Andalus][COLOR=indigo][FONT=Andalus][COLOR=indigo]
        [FONT=Andalus][COLOR=indigo][FONT=Andalus][COLOR=indigo][FONT=Andalus][COLOR=indigo][type=168247]
        [FONT=Andalus][COLOR=indigo][FONT=Andalus][COLOR=indigo][FONT=Andalus][COLOR=indigo]أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي [/COLOR][/FONT]
        [FONT=Andalus][COLOR=indigo]و أسمعت كلماتي من به صمـم[/COLOR][/FONT]
        [/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT][/type][/COLOR][/FONT]
        [/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]
        [FONT=Arial][COLOR=#000000][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]

        تعليق

        • فتحي العابد
          محظور
          • 07-05-2009
          • 52

          #5
          رد: كأس وبرج

          أخ لطفي حجلاوي شكرا لك على كلماتك، وماأنا إلا تلميذ أمام أمثالكم من عمالقة القص.
          تلك أيام خلت لكنها لم تخلي بالي مرتاحا..

          تعليق

          يعمل...
          X