الوردة البيضاء
كيفَ أنتِ يا طفلتي الجميلة؟ هذا ما خاطبت به صاحبتنا وردة بيضاء وحيدة في الحديقة العامة. هي في منتصف العمر اعتادت أن تأتي إلى هذه الحديقة كل يوم بُعيدَ الظهر. تتناول بضعةٍ من طعامٍ تحملهُ معها. تتابع الصبية يلعبون و يتصايحون و كذا يدمرون بأرجلهم و كرة القدم ما تبقى من بساطٍ أخضر. الأشجار في الحديقة تتشبث بما بقي لها من أوراق خضراء و تنتظر أن يَمُن الله عليها بغيث السماء بعد أن ضنَ عليها البشر بالماء. الحديقة مخنوقة بالبنايات من كل جانب, الشارع العام قريب مكتظ بالسيارات تنفث الدخان و تتعالى فيها أصوات المنبهات. بحثت صاحبتنا عن الجمال حولها فوجدته في برعمٍ صغير لشجيرةٍ من الوردِ بأوراق مصفرة. فجعلت كل يوم تحمل قنينة من الماء تسقيها و تبعد عنها ما تجمع من أكياس البلاستك المتطايرة من المنازل و ما يرميه المارة. ترقب البرعم الصغير يكبر و تسأل كيف ستكون هذه الوردة و ما لونها؟ تحاكيها, تناجيها, تسمعها كلمات حلوة..... يا طفلتي, متى تبصرين النور؟؟؟ ابتسمت صاحبتنا عندما تمزق البرعم الأخضر عن وردة بيضاء صغيرة, و رددت بحب يا الله ما أحلاكِ و ما أجمل الحياة فيكِ.
كان اليوم جميلا, مع نسماتِ الخريف الباردة و الشمس التي هزمتها بضعة سُحب. الهدوء عم المكان حيث خَلتْ الحديقة من الصبية, لم يكن هناك غير رجل عجوز يجلس في مقعد أقصى الحديقة يُدخن سيجارة و يسعل بقوة. و أمامها و على مسافة جلسَ شاب و فتاة بدت عليهما علامات الحب. كانا يتسامران و يبتسمان, منظرهما جدُ جميل الفتاة بشعرها الأسود الطويل التي تحركه نسمات الهواء و الشاب بهدوء يبعد خصلات الشعر المتناثرة عن وجه فتاته. فوجئت صاحبتنا بالشاب يترك مكانه و يتجه نحوها, بادرته بابتسامة حياها بأدب بإيماءة من رأسه لكنه توجه نحو شجيرة الورد جانبها. هنا دقَ القلب و شلَ اللسان وهي ترى الشاب يطبق يده بعنق الوردة و يفصلها عن جسدها. تابعت صاحبتنا الشاب و هو يقدم الوردة قربان حب إلى فتاته و يلعق قطرات الدم التي علقت بكفه.
لم تغادر صاحبتنا الحديقة بالرغم من دخول الظلام, فالوردة ما زالت بيدِ الفتاة تشُمها و تُقبلها و تَداعب بها وجه الشاب. تسمرت عيناها فجأة فالفتاة أخذت بنزع الأوراق البيضاء للوردة واحدة واحدة و الشاب يردد معها و الفرحة لغتهما. كأنها لعبة رهان بينهما (يحبني, لا يحبني) صاحبتنا تُراقب, و جزء من القلب يُنزع مع كل ورقة. بقيت ورقة وحيدة, خطفها الشاب بسرعة و قبلها و من ثم أطلقها في الهواء و صرخ أحبها. أحمر وجه الفتاة تنهره أن اخفض صوتك. احتضنت يد الشاب كف فتاته و خرجا من الحديقة.
بقيت صاحبتنا وحدها, لا تدري كم من الوقت. أرادت النهوض لم تستطع و كأن البرودة كبلت ساقيها, استندت على مسند المقعد تمايلت ثم قامت بهدوء و توجهت إلى حيث جلس العاشقان. كانت الأوراق البيضاء تغطي الأرض حول مقعد الجلوس تتلاعب بها نسمات الهواء و قلب الوردة الأخضر بدا كأنه ينزف و يطلب من يستره. تركت صاحبتنا الحديقة مع دمعة وجدت لها طريقا على خدها البارد جففتها بسرعة. و قبيل خروجها من باب الحديقة رمت بقنينة الماء الفارغة في سلة المهملات.
العذر منكم جميعا, هي محاولة فقيرة مني للكتابة لن ترتقي أبدا لروعة ما تخطه أناملكم
سُلافة كريم - بغداد
3/10/2009
3/10/2009
تعليق