عَائِلةُُ عَصْرِية جِداً
( الـزُّوج ) يَعْمَلُ فِي وظِيفةٍ مَرْموقةٍ ، يَسْتِيقظُ صَباح كُلّ يومٍ ، مثل كَثِيرٍ من النَّاسِ ، في حَوالي السَّاعةِ الثَّانيةِ عَشْرِ ظُهْرَاً ، بالكَادِ يَفتَحُ عَينَيهِ … ضَوء الشَّمسِ يُضَايقُهُ ، لا يَرَىَ جَيِّدَاً ، يَنهَضُ بِصعوبةٍ ، جَسَده يُؤلِمُهُ ، يُتَمتِمُ :
- اللعنة على القنواتِ الفضَائية !
يَشْرَعُ في إعْدادِ فِنجان القَهوةِ اليَومِي ، يُشْعِل الغليون ، يَجلِسُ بجوار الهاتِف ، يُنحِّي الجَريدةَ جانِباً ، يُجِري عِدَّة مُكالماتٍ هَاتفِيةٍ ، وهو يَرشُفُ قَهوتهُ … رَشْفَةً … رَشْفةْ… حتَّى يُنْهِي عليها … يَنْظُرُ في سَاعةِ يدهِ … يَهمِسُ :
- لقد تأخرتُ كَثِيراً …
يُعَجِّل بالنِّهوضِ ، يَهرع إلى الحَمَّامِ ، يَغْتَسِلُ … يَخْرُجُ من الحَمَّامِ… يَرتَدي مَلابِسَهُ ، يَتَعَطَّرُ … يَذْهَب إلى العَمِلِ…
يُرِيدُ أن يَلحقُ قَبل انصِرافِ المُوظفين ، يَقُودُسَيَّارتهُ بِسُرْعَةٍ … الشَّوارع شَدِيدةُ الازدِحام ، يُحَاولُ السَّيرَ في طَرِيقٍ جانِبيٍ ، الطَرِيقُ ضَيِّقُُ ، يَجِدُ سَيَّارةً أجرة مُقِبلةً في مُواجَهتِهِ، يَضَعُ يَدَه على البُوقِ باسْتِمرارِ … يَغْضَبُ سَائق السيَّارة الأجرة ، يَنزِلُ من السَيّـَارةِ ، يُحْكِمُ غَلقها ، يَجلِسُ على مَقْهى قَرِيبٍ ، يُدخِّن النارجِيلة … ويَنفُثُ دُخانه في الهَواء بِلا مٌبالاة…
الزُّوج في قِمَّةِ غَضَبهِ ، يُعُودُ بِسيَّارتهِ للخلفِ ، يَخرجُ من الطَرِيقِ الضَيقِ ، يَتَخِذُ سَبيلهُ في الطَرِيقِ المُعتادِ ، يَقفُ بين صُفوفِ السَيَّاراتِ المُتراصَّة … يَسِيرُ سَيراً بَطِيئاً بَطِيئـاً…
في تَمامِ السَّاعةِ الثَّانيةِ بَعد الظُّهرِ … يَصِلُ إلى مَقَرِّ العَمَلِ ، يَترُكُ سَيَّارته لِفَردِ الأمنِ … يَدْخُل إلى الهَيئةِ الحُكُومية … يَسْتَقبِلُهُ السَّاعِي ، يَحملُ عنه حقِيبتهُ ، ويَسيِرُ أمَامَه ، يَفتَحُ له بَابَ مَكتَبه ، ويَضَع حقِيبتهُ جانِباً ، ثم يَنْصَرِفُ لإعْداد القَهوةِ …
يَجلسُ الزُّوج على مَقعَدِهِ الوثِير ، يَضْغَطُ ذرَّاً أمَامه … يُفتحُ بَابُ المكتَبِ الداخِلي ، تَدخُل السِّكرتيرة ، حَامِلةً بَعَض الأوراقِ في يَدِهَا ، تَتوجُّه ناحِيتهِ بِدلالٍ مُفْتَعل ، تَفُوحُ مِنها رائِحة العِطرِ ، تَقْتَرِب منِه … تُحَاصِره … تَضَعُ الأوراقَ على مَكتَبَهِ ، تهمِسُ :
- البُوسطة !
يَنْظُرُ إليها بِولهٍ ، يُوقِّع الأوراق دونَما أن يَراهَا ، يُردد :
- عطرك جميل! من أين جِئتِ به؟
…تضحك هِي …
يَرنُّ المنَبِّه في تمامِ السَّاعةِ الخَامِسةُ فَجْرَاً ، تَسِتِيقظُ في نَشَاطٍ ، تَضَعُ إبريقَ الشَّاي على المَوقِدِ ، تَدْخُلُ الحَمَّامِ ، تَمْكُثُ فيِه نِصف سَاعةٍ ، تَخرُجُ في كَامِلِ زِينتِها ، تَرْتَدِي مَلابِسها ، تَنْظُر في المِرآةِ … شَعرها الأشقرِ يُضْفِي عليِهَا رَوْعَةً وجَمَالاً … تَضَعُ نَفحتي عِطْرٍ … تُوقِظُ ابنَتهَا …
في السَّادِسةِ يُفْتَحُ بَاب المنزِلِ ، يَدْخُل الابنُ ، يَنْظُر إلى أمِّهِ ، يهمس لَها :
- صَباح الخير يا أجمل أم في الدنيا !
تَبتَسِمُ في وجههِ ، تُخْرِجُ بَعض الأوراقِ النقديةِ ، تُعطِيها له بِمشَاعرٍ راضِيةٍ :
- خُذْ هذه لك … لا تُخْبِرُ أبَاك !
يهزُّ رأسه بالإيجاب … تُقَبِّلهُ … وتَخْرجُ إلى عَمَلِها…
في الشَّارع المُزدَحِمِ ، تَسيِر على قَدَميِها سَيراً مُتَئدَاً ، عِطْرُها الفَوَّاحِ يَسْبِقها في كُل مَكَانٍ … يَلمَحَها شَابان فِي طَرِيقهما إلى مَدرسَتيِهما ، يَقْتَرِبان مِنها ، يَهمس لَهَا أحَدُهما :
- صَباح الخير يا جميل !
تَنظرُ إليهما بِغَضبٍ ، تَتَوعَّدهُمَا …
في المَدرَسَةِ ، يَصِيح الحَارِس :
- المُدِيرة وصَلتِ …
يَتخِذُ المُدَرسون أمَاكِنهم في سَّاحةِ المَدْرَسَةِ … يَصطفُ التَلاميذُ في صِفوفٍ … تَـدْخُل الزّوجة إلى المَنَصَّةِ الخَاصَّة بِها، تَقَفُ كتمثالٍ، تَبدو أمام التَلاميَذ كَنِجوم السِّينما … النَّائبةُ تَقفُ بِجوارهِا ، تُشْبِهُ أثَراً من الآثارِ الفرعونية … يَتَهَامس المُدَرِّسُون فيما بَيْنِهم… يَضَحكُ بَعضُ التلامِيذِ … يُتَمتم بَعْضهم… يَسُودُ الهدوء السَّاحة …
تَبدأ الإذَاعة الصَّباحية …
( الابـن )
طَالِبُُ جَامِعي ، يَرْجِعُإلى البَيتِ في السَّادِسةِ صَبَاحَاً ، بالكادِ يَرَىَ أمَامه، يَخْلَعُ نَعليِهِ ، يَدخُلُ غرْفته ، يلقِي بجَسدهِ المنهك على فِراشِ صَمتهِ ، يَغطُّ في نومٍ يُشبه الغيبوبةَ …
يَستَيقظُ في المَسَاء ، عَينَاهُ مُنْتَفِختانِ ، يَسِيرُ في البَيتِ سَيْرَاً مُتَرنِّحاً ، يَرَىَ أبَاه أمام التِّلفاز ، مُنْهمِكُُ في المُشَاهدة ِ، يُقرِّبُ وجهه منه، يَرفعُ يَدَه بالتَّحيةِ … الأبُ مَشْغولُُ جِدَّاً ، لا يَلتَفِتُ إليهِ ، يَنظُرُ في وجههِ بِصعُوبةٍ ، يهمسُ :
- لا تَسْهَر كَثيِراً …
يَضحَكُ الابنُ ، ضِحكتَه ذاتَ مَغْزى …
يَدخُلُ إلى الحَمَّامِ ، يُدِيرُ ذِراعَ الصِّنبور ، تهطل المياه من (الدُّش) يَندفِعُ تَحتها ، يُغنِّي بِصوتهِ الخَشِن :
- الميَّة تروي العَطشان …
يَتَهَادَى صَوتُ الأبُ :
- اخرس ! …
يَشْعُر الابنُ بالضِّيقِ ، يؤثِر الصمتَ … يَسُودُ السِّكونُ في البيتِ ، لا يَخرِقه غير صوتِ التِّلفازِ ، ممَزوجاً بِصوتِ الميِاهِ
المهْدَرةِ …
يَخْرُجُ من الحَمَّامِ ، مُتَّشِحاً بالمَناشِفِ ، يَدْخُلُ غُرفتهِ ، يجلسُ أمام الكمبيوتر ، يُدير مفتاح التَّشغيلِ ، يَلِجُ إلى "الإنترنت " ، يَبدأ الاتِصالِ بأصْدِقائهِ … يَمرُقُ زَمنُه من بين يَدِيهِ … تَدُقُ السَّاعةُ العَاشِرة … يَعْزفُ " الموبايل " أنغامه … يُجِيبُهُ بِسرعةٍ … يَتَهَادَى إليه صَوتُُ نَاعِمُُ كَحَدِّ السَّيفِ … يَعيِشُ لَحظاتً غائباً عن الوعيِ ، يُنهِي مُكَالمتهُ ، يُهرولُ إلى خَزانة مَلابِسِهِ ، يْنتقِي أفْضَلُ ما لَدِيهِ من المَلابِسِ "الكاجوال"… يَرتَديها بِسُرعةٍ ، يَضَعُ عِطْره الفَوَّاحِ ، يخْرُجُ إلى الشَّارعِ ، يَركبُ سَيارته ، يَنطَلِقُ بِسِرعةِ الضَوءِ…
تلمِيذةُُ في الصَّفِ الثانوي ، تَنْهَضُفي الخَامسةِ والنِّصفِ فَجراً ، تَدْخُلُ الحَمَّام ، تَخْرُجُ من الحَمَّامِ ، تَجْلِسُ أمام المِرآةِ ، تُصَفِّفُ شَعرها الأشْقَر … الأملـسِ ، تُضَفِّره عِدَّة ضَفائِر مُتَناسِقة ، تَضَمِّخُ بَشرتِها ببَعضِ المَسَاحِيقِ …
تَترُكها مِرآتهافي السَّادِسةِ والنِّصفُ ، تَرتِدِي زِيّها المَدْرسِي ، لا يُعِجبها كَثِيراً ، تَضِيف عَليه بَعض اللمَساتِ الحَدِيثةِ ، تُضْفِي عليه مَسحةً من الأنَاقةِ العَصريةِ … تُعِيدُ النَّظرَ في المِرآةِ … ما أجملها هَذَا الصَّباحِ ! …
هِي الآن جَاهِزة تَماماً …
تَسْمَعُ بُوقَ الحافلة المَدْرَسِيةِ ، تَتَعمَّدُ التَلكؤ ، تَحمِلُ حَقيِبتها المُزركشة على ظَهِرِها … يُطْلقُ البوقُ ثانيةً … تَتَصنَّعُ العَجَلَةَ ، تُهَرولُ إلى الشَّارعِ … لا تِجِدُ السَّيارة … تَنظُر حَولها بِعنايةٍ ، تَرجِع إلى حارسِ المَنزِلِ ، تُعِطيه حَقيبتها … وبَعض النُّقودِ ، تَخرجُ إلى شَارعٍ خلفي… تَنتَظِرها سيَّارةُُ فَارِهَةُُ … يَجلِسُ دَاخِلهَا شَابُُ وَسِيمُُ … تَتَوقَّفُ قَلِيلاً ، تَنظُرُ يَمِيناً ويَسَاراً ، لا تَجِدُ أحَدَاً … يَطمئنُ صَدرها … تُهرول إلى السَّيارةِ … يُفتَحُ لَها البَاب … تَجلِسٌ ، وتُغلِق البابَ ، تُسِيطُر على أنفَاسِها المُتَلاحِقةِ … تُسَابِقُ السَيَّارةُ الزّمنَ …
تَدُقُّ السَّاعةُ الخَامِسةَ …
يُفْتَحُ بَابُ المَنزِلَ ، تَدْخُلُ الزَّوجةُ مُنْهَكةً، حَامِلةً بَعض الأكياسِ، تَضَعُ أحمالهِا جَانِباً، تَخْلَعُ نَعليها، لا تُغيِّرُ مَلابِسها ، تَدْخُل غُرْفة ابنتِها، تَجِدُهاَ نَائِمةً، تُغِلِق عليها البابَ … تَنْظُر الابنةُ من تَحتِ غَطائِها، تتأكَّدُ من مُغَادرة الأمّ، تَنهضُ، تُجْرِي مُكالمةً هاتفيةً …
تَشْرعُ الزوجة في إفراغِ الأكيَاسِ داخل الأطباقِ ، تَضَعها على منضدة الطعامِ ، تَشرعُ في تَغيير مَلابِسِها…
في تمامِ السَّاعةِ الخامِسةِ والنِّصفِ … يَعودُ الزّوجُ من عَملهِ … عَينَاهُ تَشِيانِ عن سَرِيرتهِ … يَخلَعُ نَعليهِ … يُهَرول إلى الحَمَّامِ ، يَغتَسِلُ من عَناءِ يَومِهِ القَصير ! … يَرتَدِي ملابِسه المَنزليةِ ، يَجلِسُ إلى مِنضدةِ الطعامِ … تَجلِسُ الابنةُ عن يَسار أبيها ، تُدَاعِبهُ … يُداعِبها … تَأتِي الزّوجة حَاملة طَبقاً من المُشهيَّاتِ ، تَجلِسُ عن يَمين الزّوجِ … تَضَعُ الطَبقَ أمامها … يَشْرعون في التهام الطَّعامِ …
دقَائقُ تَمضِي … الصَّمتُ يُعلن عن نَّفسهِ … تَسْتَغرِبُ الابنةُ ! … تَنْظُر إلي أبيها ، تَنظُر إلى أمّها … تَزدادُ دهشتها … تَلوكُ طَعامها … تَمضِي دقائقُُ أخرى … تَنظُر الزّوجةُ في عيني الزّوجِ ، تَحمرُّ عيناها ، تَسأله :
- أين كُنتَ اليوم ؟
يُبدي الزَّوجُ اسْتِياءه ، يَضعُ ملعقة الطَعام جانِباً ، يَمسَحُ يَديه وفَمهُ … تُظْهِر الابنةُ ابتِسامة ذَاتَ مَغزى … يَنْهضُ الزّوجُ ، يَسيرُ إلى غًرفة الجلوسِ ، يلتَقِطُ " الريموت كنـترول" ، يُشَغِّل التلفاز ، يَنهَمِكُ في المُشاهدةِ … تَنهضُ الزّوجةُ وراءه ، تُحَدِّثه بِلهجةٍ عاليةٍ ، لا تَكُفُّ عن الثَّرثَرةِ … الزّوجٌ لا يباليِ … تَستَمر الابنةُ في تَناول الطعامِ …
( الـزُّوج )
- اللعنة على القنواتِ الفضَائية !
يَشْرَعُ في إعْدادِ فِنجان القَهوةِ اليَومِي ، يُشْعِل الغليون ، يَجلِسُ بجوار الهاتِف ، يُنحِّي الجَريدةَ جانِباً ، يُجِري عِدَّة مُكالماتٍ هَاتفِيةٍ ، وهو يَرشُفُ قَهوتهُ … رَشْفَةً … رَشْفةْ… حتَّى يُنْهِي عليها … يَنْظُرُ في سَاعةِ يدهِ … يَهمِسُ :
- لقد تأخرتُ كَثِيراً …
يُعَجِّل بالنِّهوضِ ، يَهرع إلى الحَمَّامِ ، يَغْتَسِلُ … يَخْرُجُ من الحَمَّامِ… يَرتَدي مَلابِسَهُ ، يَتَعَطَّرُ … يَذْهَب إلى العَمِلِ…
يُرِيدُ أن يَلحقُ قَبل انصِرافِ المُوظفين ، يَقُودُسَيَّارتهُ بِسُرْعَةٍ … الشَّوارع شَدِيدةُ الازدِحام ، يُحَاولُ السَّيرَ في طَرِيقٍ جانِبيٍ ، الطَرِيقُ ضَيِّقُُ ، يَجِدُ سَيَّارةً أجرة مُقِبلةً في مُواجَهتِهِ، يَضَعُ يَدَه على البُوقِ باسْتِمرارِ … يَغْضَبُ سَائق السيَّارة الأجرة ، يَنزِلُ من السَيّـَارةِ ، يُحْكِمُ غَلقها ، يَجلِسُ على مَقْهى قَرِيبٍ ، يُدخِّن النارجِيلة … ويَنفُثُ دُخانه في الهَواء بِلا مٌبالاة…
الزُّوج في قِمَّةِ غَضَبهِ ، يُعُودُ بِسيَّارتهِ للخلفِ ، يَخرجُ من الطَرِيقِ الضَيقِ ، يَتَخِذُ سَبيلهُ في الطَرِيقِ المُعتادِ ، يَقفُ بين صُفوفِ السَيَّاراتِ المُتراصَّة … يَسِيرُ سَيراً بَطِيئاً بَطِيئـاً…
في تَمامِ السَّاعةِ الثَّانيةِ بَعد الظُّهرِ … يَصِلُ إلى مَقَرِّ العَمَلِ ، يَترُكُ سَيَّارته لِفَردِ الأمنِ … يَدْخُل إلى الهَيئةِ الحُكُومية … يَسْتَقبِلُهُ السَّاعِي ، يَحملُ عنه حقِيبتهُ ، ويَسيِرُ أمَامَه ، يَفتَحُ له بَابَ مَكتَبه ، ويَضَع حقِيبتهُ جانِباً ، ثم يَنْصَرِفُ لإعْداد القَهوةِ …
يَجلسُ الزُّوج على مَقعَدِهِ الوثِير ، يَضْغَطُ ذرَّاً أمَامه … يُفتحُ بَابُ المكتَبِ الداخِلي ، تَدخُل السِّكرتيرة ، حَامِلةً بَعَض الأوراقِ في يَدِهَا ، تَتوجُّه ناحِيتهِ بِدلالٍ مُفْتَعل ، تَفُوحُ مِنها رائِحة العِطرِ ، تَقْتَرِب منِه … تُحَاصِره … تَضَعُ الأوراقَ على مَكتَبَهِ ، تهمِسُ :
- البُوسطة !
يَنْظُرُ إليها بِولهٍ ، يُوقِّع الأوراق دونَما أن يَراهَا ، يُردد :
- عطرك جميل! من أين جِئتِ به؟
…تضحك هِي …
( الـزّوجة )
يَرنُّ المنَبِّه في تمامِ السَّاعةِ الخَامِسةُ فَجْرَاً ، تَسِتِيقظُ في نَشَاطٍ ، تَضَعُ إبريقَ الشَّاي على المَوقِدِ ، تَدْخُلُ الحَمَّامِ ، تَمْكُثُ فيِه نِصف سَاعةٍ ، تَخرُجُ في كَامِلِ زِينتِها ، تَرْتَدِي مَلابِسها ، تَنْظُر في المِرآةِ … شَعرها الأشقرِ يُضْفِي عليِهَا رَوْعَةً وجَمَالاً … تَضَعُ نَفحتي عِطْرٍ … تُوقِظُ ابنَتهَا …
في السَّادِسةِ يُفْتَحُ بَاب المنزِلِ ، يَدْخُل الابنُ ، يَنْظُر إلى أمِّهِ ، يهمس لَها :
- صَباح الخير يا أجمل أم في الدنيا !
تَبتَسِمُ في وجههِ ، تُخْرِجُ بَعض الأوراقِ النقديةِ ، تُعطِيها له بِمشَاعرٍ راضِيةٍ :
- خُذْ هذه لك … لا تُخْبِرُ أبَاك !
يهزُّ رأسه بالإيجاب … تُقَبِّلهُ … وتَخْرجُ إلى عَمَلِها…
في الشَّارع المُزدَحِمِ ، تَسيِر على قَدَميِها سَيراً مُتَئدَاً ، عِطْرُها الفَوَّاحِ يَسْبِقها في كُل مَكَانٍ … يَلمَحَها شَابان فِي طَرِيقهما إلى مَدرسَتيِهما ، يَقْتَرِبان مِنها ، يَهمس لَهَا أحَدُهما :
- صَباح الخير يا جميل !
تَنظرُ إليهما بِغَضبٍ ، تَتَوعَّدهُمَا …
في المَدرَسَةِ ، يَصِيح الحَارِس :
- المُدِيرة وصَلتِ …
يَتخِذُ المُدَرسون أمَاكِنهم في سَّاحةِ المَدْرَسَةِ … يَصطفُ التَلاميذُ في صِفوفٍ … تَـدْخُل الزّوجة إلى المَنَصَّةِ الخَاصَّة بِها، تَقَفُ كتمثالٍ، تَبدو أمام التَلاميَذ كَنِجوم السِّينما … النَّائبةُ تَقفُ بِجوارهِا ، تُشْبِهُ أثَراً من الآثارِ الفرعونية … يَتَهَامس المُدَرِّسُون فيما بَيْنِهم… يَضَحكُ بَعضُ التلامِيذِ … يُتَمتم بَعْضهم… يَسُودُ الهدوء السَّاحة …
تَبدأ الإذَاعة الصَّباحية …
( الابـن )
طَالِبُُ جَامِعي ، يَرْجِعُإلى البَيتِ في السَّادِسةِ صَبَاحَاً ، بالكادِ يَرَىَ أمَامه، يَخْلَعُ نَعليِهِ ، يَدخُلُ غرْفته ، يلقِي بجَسدهِ المنهك على فِراشِ صَمتهِ ، يَغطُّ في نومٍ يُشبه الغيبوبةَ …
يَستَيقظُ في المَسَاء ، عَينَاهُ مُنْتَفِختانِ ، يَسِيرُ في البَيتِ سَيْرَاً مُتَرنِّحاً ، يَرَىَ أبَاه أمام التِّلفاز ، مُنْهمِكُُ في المُشَاهدة ِ، يُقرِّبُ وجهه منه، يَرفعُ يَدَه بالتَّحيةِ … الأبُ مَشْغولُُ جِدَّاً ، لا يَلتَفِتُ إليهِ ، يَنظُرُ في وجههِ بِصعُوبةٍ ، يهمسُ :
- لا تَسْهَر كَثيِراً …
يَضحَكُ الابنُ ، ضِحكتَه ذاتَ مَغْزى …
يَدخُلُ إلى الحَمَّامِ ، يُدِيرُ ذِراعَ الصِّنبور ، تهطل المياه من (الدُّش) يَندفِعُ تَحتها ، يُغنِّي بِصوتهِ الخَشِن :
- الميَّة تروي العَطشان …
يَتَهَادَى صَوتُ الأبُ :
- اخرس ! …
يَشْعُر الابنُ بالضِّيقِ ، يؤثِر الصمتَ … يَسُودُ السِّكونُ في البيتِ ، لا يَخرِقه غير صوتِ التِّلفازِ ، ممَزوجاً بِصوتِ الميِاهِ
المهْدَرةِ …
يَخْرُجُ من الحَمَّامِ ، مُتَّشِحاً بالمَناشِفِ ، يَدْخُلُ غُرفتهِ ، يجلسُ أمام الكمبيوتر ، يُدير مفتاح التَّشغيلِ ، يَلِجُ إلى "الإنترنت " ، يَبدأ الاتِصالِ بأصْدِقائهِ … يَمرُقُ زَمنُه من بين يَدِيهِ … تَدُقُ السَّاعةُ العَاشِرة … يَعْزفُ " الموبايل " أنغامه … يُجِيبُهُ بِسرعةٍ … يَتَهَادَى إليه صَوتُُ نَاعِمُُ كَحَدِّ السَّيفِ … يَعيِشُ لَحظاتً غائباً عن الوعيِ ، يُنهِي مُكَالمتهُ ، يُهرولُ إلى خَزانة مَلابِسِهِ ، يْنتقِي أفْضَلُ ما لَدِيهِ من المَلابِسِ "الكاجوال"… يَرتَديها بِسُرعةٍ ، يَضَعُ عِطْره الفَوَّاحِ ، يخْرُجُ إلى الشَّارعِ ، يَركبُ سَيارته ، يَنطَلِقُ بِسِرعةِ الضَوءِ…
( الابنة )
تَترُكها مِرآتهافي السَّادِسةِ والنِّصفُ ، تَرتِدِي زِيّها المَدْرسِي ، لا يُعِجبها كَثِيراً ، تَضِيف عَليه بَعض اللمَساتِ الحَدِيثةِ ، تُضْفِي عليه مَسحةً من الأنَاقةِ العَصريةِ … تُعِيدُ النَّظرَ في المِرآةِ … ما أجملها هَذَا الصَّباحِ ! …
هِي الآن جَاهِزة تَماماً …
تَسْمَعُ بُوقَ الحافلة المَدْرَسِيةِ ، تَتَعمَّدُ التَلكؤ ، تَحمِلُ حَقيِبتها المُزركشة على ظَهِرِها … يُطْلقُ البوقُ ثانيةً … تَتَصنَّعُ العَجَلَةَ ، تُهَرولُ إلى الشَّارعِ … لا تِجِدُ السَّيارة … تَنظُر حَولها بِعنايةٍ ، تَرجِع إلى حارسِ المَنزِلِ ، تُعِطيه حَقيبتها … وبَعض النُّقودِ ، تَخرجُ إلى شَارعٍ خلفي… تَنتَظِرها سيَّارةُُ فَارِهَةُُ … يَجلِسُ دَاخِلهَا شَابُُ وَسِيمُُ … تَتَوقَّفُ قَلِيلاً ، تَنظُرُ يَمِيناً ويَسَاراً ، لا تَجِدُ أحَدَاً … يَطمئنُ صَدرها … تُهرول إلى السَّيارةِ … يُفتَحُ لَها البَاب … تَجلِسٌ ، وتُغلِق البابَ ، تُسِيطُر على أنفَاسِها المُتَلاحِقةِ … تُسَابِقُ السَيَّارةُ الزّمنَ …
تَدُقُّ السَّاعةُ الخَامِسةَ …
يُفْتَحُ بَابُ المَنزِلَ ، تَدْخُلُ الزَّوجةُ مُنْهَكةً، حَامِلةً بَعض الأكياسِ، تَضَعُ أحمالهِا جَانِباً، تَخْلَعُ نَعليها، لا تُغيِّرُ مَلابِسها ، تَدْخُل غُرْفة ابنتِها، تَجِدُهاَ نَائِمةً، تُغِلِق عليها البابَ … تَنْظُر الابنةُ من تَحتِ غَطائِها، تتأكَّدُ من مُغَادرة الأمّ، تَنهضُ، تُجْرِي مُكالمةً هاتفيةً …
تَشْرعُ الزوجة في إفراغِ الأكيَاسِ داخل الأطباقِ ، تَضَعها على منضدة الطعامِ ، تَشرعُ في تَغيير مَلابِسِها…
في تمامِ السَّاعةِ الخامِسةِ والنِّصفِ … يَعودُ الزّوجُ من عَملهِ … عَينَاهُ تَشِيانِ عن سَرِيرتهِ … يَخلَعُ نَعليهِ … يُهَرول إلى الحَمَّامِ ، يَغتَسِلُ من عَناءِ يَومِهِ القَصير ! … يَرتَدِي ملابِسه المَنزليةِ ، يَجلِسُ إلى مِنضدةِ الطعامِ … تَجلِسُ الابنةُ عن يَسار أبيها ، تُدَاعِبهُ … يُداعِبها … تَأتِي الزّوجة حَاملة طَبقاً من المُشهيَّاتِ ، تَجلِسُ عن يَمين الزّوجِ … تَضَعُ الطَبقَ أمامها … يَشْرعون في التهام الطَّعامِ …
دقَائقُ تَمضِي … الصَّمتُ يُعلن عن نَّفسهِ … تَسْتَغرِبُ الابنةُ ! … تَنْظُر إلي أبيها ، تَنظُر إلى أمّها … تَزدادُ دهشتها … تَلوكُ طَعامها … تَمضِي دقائقُُ أخرى … تَنظُر الزّوجةُ في عيني الزّوجِ ، تَحمرُّ عيناها ، تَسأله :
- أين كُنتَ اليوم ؟
يُبدي الزَّوجُ اسْتِياءه ، يَضعُ ملعقة الطَعام جانِباً ، يَمسَحُ يَديه وفَمهُ … تُظْهِر الابنةُ ابتِسامة ذَاتَ مَغزى … يَنْهضُ الزّوجُ ، يَسيرُ إلى غًرفة الجلوسِ ، يلتَقِطُ " الريموت كنـترول" ، يُشَغِّل التلفاز ، يَنهَمِكُ في المُشاهدةِ … تَنهضُ الزّوجةُ وراءه ، تُحَدِّثه بِلهجةٍ عاليةٍ ، لا تَكُفُّ عن الثَّرثَرةِ … الزّوجٌ لا يباليِ … تَستَمر الابنةُ في تَناول الطعامِ …
تعليق