من حكايات قريتنا
(3)
حكاية العم عطا
ليست جدتي وحدها كانت مصدراً لي في ثقافة السوالف.. إنما قد تنطع لها بدوره العم عطا..
في تلك الأماسي الصيفة العذبة، حينما كان العم عطا يتخذ مقعدة على الحجر المربع الأسود أمام داره، كنا نهرع للتحلق حوله، جالسين القرفصاء من اجل الإصغاء إلى " سوالفه " الطريفة..
كان عالم العم عطا في أقاصيه متنوعاً، لم يكن كجدتي متقوقعاً في حلبة الضباع والغيلان والأشباح، إنما كان يتنقل من ساح إلى ساح.. يجري لسانه حيناً مسهباً في عوالم الخرافة.. أميرة وجن وكنز مرصود، وحيناً يروح إلى الأمير البدوي في غزواته ومغامراته العاطفية، وثالثة مع الحرب والطعان، ورابعة مع الجن والجان.. يطرق كل الأبواب دون تردد أو حساب. لم يتورع في أقاصيصه عن الإطناب في ذكر أقاصيص الحب المحرم.. فعالم القصص وحده له المباح للرواح إلى المكشوف، في عالم الممنوع في المألوف..
أدمنت في البداية على حضور أمسيات العم عطا، بيد أني قد لاحظت، كثيراً ما كان العم عطا يعيد سرد حكاياته، حتى حفظناها عن ظهر قلب.. كان يطنب في الاستزادة ولا يردعه رادع من تحويرها وتغيير مجراها من فج إلى فج، بل ويلج من الواحدة إلى الأخرى فتفقد الحكاية تسلسلها ورونقها.
إننا نحن الأطفال، يحلو لنا أن نرى في القصص مصداقية، فنعيش عوالمها كأنها حقيقية.. بعد لأي وعلى حين غرة، قلت للعم عطا " لم تكن تلك الحكاية هكذا قبلاً يا عم عطا، ماذا جرى.. "..
كنت في كل مرة أتصدى لتصحيح مروية العم عطا، وما أكثرها.. ضاق العم عطا مني ذرعاً، وطردني شر طردة. فقدت متعة المؤانسة.. ورحت من بعيد أرمق الجلسة. لم يكتفِ العم عطا بعقوبة طردي، إنما أشتكى أمري إلى أبي، فعنفني. قلت مدافعاً عن نفسي: أنه يهذر، يجول ويصول دون رادع، فتفقد القصة حقيقتها. ضحك أبي وقال: دعك منها، " إنها حكايات العم عطا ".
M
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد غدوت أمضي الأماسي وحدي، فالصبية كل الصبية يتحلقون حول العم عطا، وأنا الوحيد الطريد ارمق الجلسة من بعيد..
إني وإن كنت لم أعد مكترثاً بحكايات العم عطا.. إلا أنني سئمت الوحدة.. تأملتها ووجدتها عقوبة لا معنى لها.. تفاقم حس الغبن في أعماقي.. طفح الكيل بي.. وقد كنت على شقاوة.. قلت في ذاتي: لا بد أن أسترد كرامتي، من هذا المأفون المسمّى عطا.. أيها الخرتيت.. " يا ابن.. " الشتائم تزورني من كل القواميس، وبعضه قد ابتدعته من لدني.. وضمرت شيئاً.. وازداد إصراري.. لأكنن ككاسر مزراب العين.. ولأفعلن.. وأفعلن.. ولم لا..؟ سيعرفون من أنا .. سأجبرهم على أن أكون أنا.. أنا الحكاية..
ولم لا ؟ " خاطبت ذاتي.. ارتفعت في جوانحي على وتيرة القهر.. حمى العنف والثأر.. "
في يوم ما.. وقفت من بعيد.. أنظر العم عطا وهو " يهرت " و الصبية أترابي كلهم آذان.." لا.. لن أكون جرن الأحزان.. لست العنزة الجرباء لا يقربها إنسان.. هيا.. تشجع يا ذا.. وأصرع هؤلاء " الدشمان.."
شددت من عزائمي، حللت مقلاعي من زناري.. وقد كنت رامياً ماهراً.. بدأ منجنيقي الصوفي يلقي حجاراته.. صممت في البداية، أن تكون رماياتي على تخوم حلقة الجلسة، لا عليها.. فرغبتي ترويعهم وتبديد شملهم، لا أكثر.. وتعكير مزاج هذا العطا.. وما ذا- أحلى..من ذا !!
احتمى الصبية وراء الحيطان.. شتموني بشتائمهم الكبرى.. أمي.. أبي..جدي.. ربي كلهم غرقوا في بحر الشتائم.. لم يعفوا عن شيء بما فيها الأعضاء الحميمة.. لا يهم.. قلت في ذاتي.. ربي عليه تدبير شأنه معهم.. ولم هو رب إذن..!! مقلاعي يذود عن عرضي.. طافت في رأسي كل هذه الصور.. وأنا في حمى المعركة الحامية الوطيس، بين مقلاعي وشتائمهم.. كنت أردد.. مع كل ضربة مقلاع.." خذوها من أبي زيد الهلالي "..
تفرق الصبية.. بعد أن أحسوا بلوحة الخطر.. فمع تعالي وتيرة غضبي.. أخذت تقترب منهم حجارة منجنيقي... العم عطا.. كالهر اختفى.
حل الظلام.. راحت السكرة وحلت الفكرة.. بدأ الندم يدب في رأسي ومفاصلي.. ويحي ماذا صنعت.. وأبي..!! بدأت أفكر.. ورأيت.. لا يوجد متسع من الوقت هذه الليلة.. فلن يكون بوسع العطا رؤية أبي.. وفي الصباح رباح.. كما كانت تقول جدتي..
حينما لاح الصباح.. أطلقت ساقي للريح.. و رحت أعدو بعيداً وحيداً وراء البيادر والحواكير والحقول.. وتعمقت في السهول.... كعادتي التجأت إلى الأكمة الصخرية التي تحمل اسم جدي.. جلس بعضي على حجر ومددت ساقيّ.. أتأمل في هذا الكون الشاسع.. ورحت أفكر.. أتأمل بؤسي في يومي وشقاوتي في أمسي..
في لمحة خاطفة وأنا في طواف الذكرى.. تذكرت.. أني في غمرة رماياتي كنت أتغنى بأبي زيد الهلالي.. تذكرت ما كنت أسمعه لدى خالتي.. التي أدمنت على رواية سيرة بني هلال.. وتساءلت.. أتكون تلك الحكايات قد مسها التطويل والتطبيل.. ثم طارت بي التساؤلات إلى تذكر القصص الدينية التي كانت أمي تذكرها بين حين وحين.. ثم تذكرت قصص الخوري وما يسرده من حكايات عن أسفار العهد القديم.. أيكون كل هذا.. على مجرى حكايات العم عطا..
بدأت أرتعد.. وتوقفت عند هذا الحد.. لم أكن معنياً آن ذا بالوصول إلى جواب.. كان همي.. أن أنجو بجلدي..
حل الظلام.. عدت أجر خطاي، وئيداً، متثاقلاً.. وأنا جاهل فيما سألقى.. وجدت ذويّ بانتظاري، والقلق قد طاف بهم طوال النهار حتى لحظة حضوري.. بحنان أبوي، قال لي أبي.. لا تعد لها أبداً يا
بني.. وبجلدي نجوت..
M
رحل العم عطا وأبي والآخرون، إلا أنّ حكايات العم عطا راحت مثلاً يحتذي، يردده أهل القرية كلما لمسوا تحويراً في حدث ما.... وغدت حكاياته مثار تندر بريء، يأتي على لسان مَن أتى بعد العم عطا..
بدوري أنا غدوت مع الأيام، أتعاطى ببهجة مع حكايات العم عطا.. وقد ازداد إكباري لها وللعم عطا، حينما عثرت في زمني – ذا، على مقولة للباحث الألماني جنكل Gunkel [1] - وهو يغوص باحثاً في حقل تشكّل التوراة، وقد بدا لي، كما لو كان جليسنا في حلقة العم عطا..
لله درك يا عم عطا.. لكم كنت معلماً وحكيماً وذي بصيرة.. دون أن أعلم !!
[1]مقولة جنكل: مرويات التوراة لا ترقى في أصولهاالأولى لأكثر من حكايات لمسامرات في ليالي شتوية، تجلس فيها العائلة حول نار هادئة،تصغي بشغف إلى أقاصيص القدماء المثيرة للدهشة، ونحن بدورنا نمد آذاننا للإصغاءإليهم..