المعلّق بالوقت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • خالد ساحلي
    عضو الملتقى
    • 19-10-2007
    • 335

    المعلّق بالوقت

    روحك سوف تلقى نفسها وحيدة
    وحيدة من كلّ ما على الأرض مجهولة
    العلّةـ لكن لا أحد قريب ليحدّق
    نحو تكتّم ساعتك.
    إدغار آلن بو.
    ينزل من التاكسي متثاقلا يحثّ رجلاه على الخطى، يشعر بهما ثقيلتين،منهك ومعيي، يرفع جبينه عاليا ناظرا للبعيد محملقا في السماء باحثا عن الملكوت. صوت الألم يخرجه من داخله متأوها بأنين، ترك شكواه ونجواهفي نقطة انتهاء البصر، ينتهي به البصر عند المحدود كما كل شيء ؛ أحيانا البصر يقوممقام اللّسان يعبّر عن حالة النفس و الشعور فليس المرء بأصغريه قلبه و لسانه فقط .يطرق للأرض رأسه بعد رفعه، أفكاره حبلى بالسؤال، كثيرة أسئلته ولا جواب واحد، مأسور بالهاجس، لا يحفل بما يحفّه من واقع البشر، تتخلل علاقته بالعالم المحيطبه بساطة يبدأ منها التعقيد. كان عليه التنازل عن أشياءفالسؤال عنها يسوئه، الخوض فيها يصنع له السخرية فالشائع هو السائد، ينتهإليه حكم كل سلوك ، أزعجته هذه الفكرة لصقت بذهنه. يتبعه السؤال حيث حلّ ، صار أكثر منظل، كان يسير ملوّحا بيده يهش على غنم الروح، الرائي له يحمله على الجنون أو على الوسواس الخنّاس، أفكاره ملغمة بسر الزمن. البشر محكومون بالوقت ، كل حيعلى الأرض، الحياة والفناء، الفكرة بالكاد تغادره، استطال حضورها، سكنت تفكيره ، نظر للساعة الكبيرة المعلـّقة على عمود حديدي وسطالطريق (الرونبوان ) وقال في أعماقه: " العمر يجري كيف يجري ؟ " يدري بالوقتعقارب ساعة تتلاحق تجري في دائرة معلومة الكيف مجهولة المعنى. الساعة سر منأسرار الله. يتعمد الأسئلة الساذجة ففيها الفكرة العميقة منها يبدأ المركب الفلسفيو الدائرة الفكرية.
    في طريقه للعمل يبحر في أغوار لغز الوجود المتكوّن فيمراحل متعاقبة من أيام وشهور وأعوام، في تبادل الليل و النهار، الأسى يخنقه في فرضياته واستفهاماته : ماذا صنعنا بالوقت و ماذا صنع الوقت بنا ؟ كثيرة الساعاتالمعلـّقة على جدران المنازل و المكاتب و الساحات العمومية العامة ، فيالسيارات و على شاشات التلفزيون وعلى أمواج أثير الإذاعات، كثرت الساعاتالمعلـّقة في المقاهي والمطاعم المتكاثرة كفيروس. لاينتبه الناس هنا إلا لأوقات الأكل و الشرب والنوم. يبتسم، يلحظهالمارون في الاتجاه المعاكس، يبتعدون قدر الإمكان فللمجانين رهبة.
    هل تشرأب الأعناق إلى الساعات متلهفة للوقت حقا أم مجرد عادة ؟ " الوقتسباق وحرب " يقولها بيقين.
    كل المرافق الحياتية المرتبطة بالإنسان تعلـّق عليهاساعة حتى في المراحيض أين يطرح البشر عفونتهم ؟ أسئلة تتعارك في ذهنه، في طريقه لعملهصورة المكتب تتعبه.
    أيدي الناس حاملة الساعات المتنوعة، المتعددة الأشكالوالألوان، لا يؤمن بالتقليد، يرفضه حتى يكتشف حقيقة وجوده . يجب عليه مقاومةالتقليد. لا يملك ساعة، يعتقد أن الساعات المعلـّقة في كل مكان أغلبها للزينةمثلها مثل الكتب المزينة لرفوف المكتبات. أصحاب الساعات يدركون حقيقة ساعاتهم المعلـّقة للزينة ولا يدركون حقيقة مصائرهم المعلـّقة بالوقت.
    وصل لعمله، الحاجب يجلس على كرسي متهالك وطاولة متآكلة الحواف، ظاهر عليه الملل سمة واضحة بمظهره و هو يقدّم له ورقة تأكيد الحضور
    . ( feuille de pointage)

    أول من يدخل المكتب برغمه لا يملك ساعة يدوية، فالوقت مقرّر في عقله و مقدّر بحدسه. سحب الملفات من درج مكتبه وأنهمك في عمله. مرت ساعة أو ما يقارب ألتحق زملائه بأماكن عملهم مرحين فاكهيين، البهجة و السرورتفيضان منهم، الحبور يغمرهم، كان يستمع لأحاديثهم الطويلة عمّا فعلوه و عما سيفعلونه: " الناس لا يتداركون ما مضى لتحصين أنفسهم مما سيأتي، يعيشون اللحظةبلصوصية ".
    رفع رأسه للساعة المعلـّقة، تأخر زملائه لا يثير غيضه؛ لايراقبهم أحد أو يتابعهم و لا حتى يسألهم، المسئول الأول متغيب على الدوام.
    هو لا يحتّج على كثرة العمل المسند إليه دون غيره.
    الثانية عشرة يخرج لتناول غذاءه، يوّقع على ورقة تأكيد الحضور،يجد توقيعات زملائه و الوقت مضبوط على الثامنة لدخولهم. لا يستغرب هذا،أَلِفَ واقعهم كما ألفوا سذاجته وانضباطه؛ رأوا فيه رأيا بذيئا، كان عليه أنينتبه لنفس الساعات الموضوعة في أيديهم؛ يرفعونها لمعرفة الوقت كل ربع ساعة: " لو قيس وقت ما نقدمه من جهد لكان ساعة في اليوم لو جُمِعَ على بعضه" تساءل في نفسه.
    يرجع من استراحته، يوقّع على ورقة تأكيد الحضور : " ماذا لو كان وقتنا مادةخام كالبترول أكان الغرب سيشتريها ؟ يستثمر في أوقاتنا ؟ سيغزو أوطاننا كلها و يغزوأذهاننا، احتلالنا و الانتفاع بوقتنا الضائع المضيّع، سيسخـّر كل وسائله وترساناته للسيطرة على أوقاتنا و أوقات الشعوب التي تشبهنا ؟ التحكم في الوقت ؟الوقت يصنع الحضارة لا شك و نحن نصنع به ألآمنا وفجائعنا، سيضطر العالم المتحضر الممجّد للوقت و العبقرية ليصرفها في البحث عن سبيل للتحكم في زمننا ، أليستخلافاتنا العرقية و الدينية والكره الاجتماعي لبعضنا البعض جزءً من تحكمهم في وقتناالمنهك في وضع حد لحياة أوقاتنا ؟ هل وهل و هل ؟”.
    تنفجر أفكاره بالأسئلة والألغاز، يرجع مباشرة لمكتبه لينهمك في ملفات المحاسبة والفواتير، كم مرة يفسد عملهبسهوه، يضطر بذلك لإعادة ما أنهى. أحيانا يأخذ الملفات للمنزل و يسهر على إنهائهافي الأجل المحدّد، أحيانا كثيرة يسند له عمل الآخرين، لا يستطيع مخالفة أوامرمسئوله. كان عليه اتخاذ قرار واعي إما يكون أو لا يكون، و هو يريد أن يكون ولكييكون وجب عليه دفع ثمن اختياراته. المسئول يريد جعله كالآخرين حتى لا يجلب إليه الانتباه فلا يزاحمه في منصبه. المسئول يريد إراحة ضميره اتجاهه، يريد تحويله كباقي زملائه إلى كيس قمح كل حبة تشبه أختها فتأخذ خصوصية الجماعة.
    دائما يسمع هذا من مسئوله، يتجاهل كلامه، يحمل شخصية فريدة ، سلوكه يتركز داخل نفسه، أورثها طابعا خاصا، نوازعه ثابتة لا تؤثر فيها غرائز الآخرين ، لا تنطوي شخصيته على بناء دافعي فقط كما لهؤلاء غرائزهم في الكسل و اللا مسؤولية ، تجربته معهم جعلته يصل لحالة عقلية لا تشبه عاداتهم فيما توارثوه من إهمال .
    يشعر أنه مغاير للآخرين و لو أنّ شعوره بالوحدة يمثل له الانقطاع واللاتماثل. مقتنع هو بأن التغيير المستمر يقع عليه لا على زملائه. لكن من هذا الذي سيظل باقيا هو ذاته في الماضي و الحاضر و المستقبل.؟الانفرادية أو الفردانية لا يهم، المهم أنه قاوم التغيير نحو الأسفل من زمن و لحدالساعة.
    شارف الوقت على الانتهاء، نهاية يوم من العمل متعب، هذا اليومبالذات ليس كباقي الأيام، دخل مسئوله وجد زملائه يثرثرون في وضعيات جلوس المقاهيو الساحات العامة؛ يلوكون الكلام وضحكاتهم متعالية. نظر الجميع في المسئول، لم يعيروهاهتماما، المسئول الكبير يعرفونه كان زميلهم، يعرفون كيف وصل لهذا المنصب، هو لايجرأ على توبيخهم لأي شيء فعلوه، نظر فيه المسئول هو بالتحديد و قال له : ـ غداستنتقل للأرشيف تدوّن المراسلات إنك لا تعمل و لا تقدم مجهودا يليق بمركزك فيالحسابات، المدير العام قرر ذلك لست أنا.
    تقدّم منه أكثر و همس في أذنه : " صرتتنافسه في منصبه قد ذكروا اسمك في اجتماعهم السنوي."
    قال في نفسه : " ما فائدةالبهائم التي بجانبي؟ ".
    لا يعبأ إن كان نسرا و كانت الجيف دائرته، لم يكنليقول لهم أنه يملك عينين ولسانا و شفتين و فؤادا و يدين و ليس فيهما ساعة يدويةكلاسيكية و لا إلكترونية؛ لم يكن ليقول لهم أنه يعيل عائلة و لا يمكنهم أن يخفضواله راتبه الزهيد بتغيير وظيفته، لم يكن ليقول لهم أنه لا يطمح لمناصبهم.
    خرجلتوه هذه المرة، لم يوّقع على ورقة الحضور، أول محل تجاري صادفه أبتاع منه ساعةبحزام جلدي ، طوّق بها يده الشمال؛ نظر إليها في زهو و فرح كأنه أكتشف طلسماسحريا كان محجوبا عنه.
    يشعر بالراحة و البهجة، كلما لاح خطوات بقدمه، يرفع يده ليرى كم الوقت، شعر بالولادةالجديدة الحية. كلما جلس أو أكل أو صلّى أو ذهب للعمل، في سكونه أو حركته ينظر دائمالساعته اليدوية، رأى فيه زملائه إنسانا جديدا، استقبلوا تغيره بغبطة كبيرة و فرح؛ كلما دخل عليهم أحدث لهم المفاجئة بتأخره وحديثه عما فعله و ما سيفعله،التأخر الكثير والإهمال المفرط، صارت أفكاره الحبلى بأسئلة الوقت تلد الثابت.
    خبأأفكاره و لا يجرأ بالتصريح لهم كما كان يفعل دائما بجملته المشهورة:
    " التغيير لا يأتي من اللهإنما نحن موقفون للسؤال أمام أوقاتنا " .
    بدأ هو ذاته مهنة تلصص الوقت، لم تمر شهوراحتى أستدعي لمهام أخرى و ألحق بمنصب مهم وعرف كيف يستثمر الوقت لأجل بقائه حيا فيهذا العالم...






    [SIZE=5][/SIZE]
يعمل...
X