الخاتم
ـ 1 ـ
رأيتها تزم فمها كما لو أنها تستنفر كل قوتها لفعل شيء...أو للتخلص منه...
قلت قبل أن أرى ما رأيت، ربما هو مغص ألم بها.
و لأني رأيت خاتما، كان حين التقينا يطوق بنصر يدها اليسرى، و أنا أراه الآن، في كفها، فمن السهل التخمين أنها كانت حينذاك، تحاول أن تسله من إصبعها.. و لم يكن أمر الشفتين المزمومتين يتعلق بوجع في البطن كما خيل لي في البداية...
وَجَدَتْ صعوبة في سله إذن...
كما لو أن الخاتم لطول الزمن به محيطا بالإصبع، صار جزءا منه، أو خط له خطا واستقر به...
الخاتمُ،
فضي اللون،
و لا أستطيع القول إنه من فضة..
في الحقيقة لم أشغل عقلي كثيرا بطبيعة معدنه، ما أثارني هو شكله.
أفعى صغيرة من فضة، تبرز لسانها المشقوق صعدا في اتجاه فص من حجر أسود براق...
تساءلت: "لما فعلت ذلك؟..."
و كانت الحرارة تشعر المرء أنه داخل حمام شعبي، و ليس في باحة مقهى أنيق يقابل أكبر ساحة في المدينة الصغيرة...
أجبت نفسي:
"قد تكون الحرارة هي التي جعلتها تخلع الخاتم.
هذا الجو الحار، الخانق،
الثقيل و الكئيب...
الكئيبُ إلى الحد الذي لا أستطيع أن أتنفس، أن أحلم،
و أن...
هذه الحرارة ترغم المرء على فتح فمه استجلابا لهواء بارد و ليس للكلام.
و النطق بـ " أف" أقصى ما يمكن التلفظ به...
و هذه الحرارة تدفع المرءَ ليس إلى خلع خاتم فقط، بل إلى التخلص من الملابس...
بعضِها طبعا،
و ليس كلها ...
تجنبا لأي حساسية و مراعاة للذوق العام...
و على كل، فالمقهى ليست هي الحمام...
و البادي الآن، خاتم فضي اللون، أفعاوي الشكل، تتلاعب به أنامل يدها اليمنى...
ـ 2 ـ
أنا الخاتم...
ذاك الخاتم...
ماذا أقول،
كيف أعثر على الكلمة المعبرة عن قسوة الواقعة و عما أحدثه لي هذا الاعتداء الصارخ، الفادح في شناعته من وجع؟...
الواقعة التي أعني لا علاقة لها بالواقعة الأخرى...
الواقعة المشهورة،
الموعودة..
الدالة على خاتمة الهواء و الماء،
خاتمة التربة و العشب،
الحشرات و الهوام
خاتمة الحيوانات و الطيور و الناس ... و الأشياء...
أنا الخاتم،
لِمَ أقلقتْ راحتي،
هزتْ كياني،
و حكمتْ علي بالطرد الأبدي؟...
وحدي أعرف أنه خروج لا رجعة بعده...
خروج أبدي..
و كيف لا؟..
و أنا كنت لصيق لحمها...
أنتشي بدفئه،
أنتعش برائحته...
و من خلاله،
كنت أسمع في عروقها دبيب الدم الساري...
أقرأ في صدى نبضات قلبها الفرح الذي يحولها فراشة ملونة،
أو كروانا صداحا يجعل الأفعى التي أتقمص شكلها تكاد من روعة الصدح ، تسري الروح في ذرات معدنها البارد فتتمايل طربا،...
و من خلاله، كنت أقرأ الحزن الذي إذا ما أحكم قبضته على قلبها، يضطرب إيقاعه، و تعم جسدها برودة تكاد تشبه برودة الموت..تنكمش على نفسها و يتقطر جسمها عرقا، يغمرني الماء من تحت فأكاد أطفو...
ـ 3 ـ
و بيد مترددة قدمَتْ لي الخاتم قائلة:
ـ خذ
نظرت في يدها الممدودة..
و مستغربا قلت:
ـ و ما المناسبة؟
ردت في اندهاش:
ـ ألا تعرف !؟..ألا يقول لك الخاتم شيئا؟...
ـ 4 ـ
...و تسأله إن كنتُ أنا الخاتم قلت له شيئا...
ما تريد أن أقولَ له غير ما أريد أنا قولَه...
تريدني أن أكون ناطقا بلسانها، و معبرا عن مكنون قلبها...
ما أنا بالنسبة إليها سوى كلمة، رسالة بوح قصيرة جدا...
ـ 5 ـ
أجبتُ:
ـ و ما عسى الخاتم قوله لي !...
و ماذا تريدينني أن أعرف؟...
لم ترد..
نظرت في عيني مليا و عميقا، ثم ما لبثت أن شردت بعينيها نحو لهب الصهد الصاعد و المتجمع في الفضاء...
أردفتُ:
ـ و الله يا عزيزتي ما أنا عارف و الخاتم ما هو في نهاية الأمر سوى خاتم...
ـ 6 ـ
ما قلتَه في حقي صحيح...
أنا مجرد خاتم...
سلك من معدن بارد...
لكني أعرف ما لا تعرف...
و أعرف طاردتي حق المعرفة...
تنتابها مشاعر عدم الثقة أحيانا، فتتصرف كما لو كانت في طور المراهقة...
ـ 7 ـ
صمتُها أزعجني...
و شرودُها أربكني
حتى أني ندمت...
فماذا كان سيحدث لو أني أخذت منها الخاتم ؟...
غير أن طبيعتي ترفض الهدايا التي لا تأتي في موعدها،..
تأتي كضيف ثقيل دون مناسبة...
طبيعتي ترفض الهدايا التي لا تقول شيئا،
أو تكرر نفس القول مرات حد القرف،
حد الأُفِّ أو الصراخ...
و هذا الصهد... !
لكن ما بيننا لا يمكن اعتقاله في تدويرة خاتم، لذا أرفضه...
و لا يعجبني شكله...
و أنا أتطير من الأفاعي...
ـ 8 ـ
أغنية سمعتها...
سمعتها ذات هِجْرَةٍ ،عندما رافقت خاتما عجوزا داخل ظلمة جيب شخص صياد نساء...
أغنية كان يرددها متهكما:
" شفت الخاتم و اعْجبني
تمنيتو يكون في يدي.."
و أنتَ الآن ترفضني...
و لعلمك، أنت أول شخص يرفضني، و هذا من حقك، و موقف شجاع يحسب لك لا عليك...
أنا قبل أن اسكن إصبعها، سكنت أصابيع. و كل أصحابها كانوا يستغلونني لقضاء مآربهم، للوصول إلى أهدافهم الخاصة...
بت أستهجن كلمة " حب " التي تتزامن و خروجي القسري من إصبع و الانتقال إلى إصبع آخر...
أكرهها...لا أحب الحب الذي يرمق الآخر بعين النفاق...يرمق الآخر شبقا...مالي و هذا الحب الذي يجعلني لا أثبت في موضع واحد؟...
ـ 9 ـ
كانت لا تزال شاردة بعينيها نحو اللهب الطالع و المتجمع في الفضاء..و الخاتم في يدها...
ـ 10 ـ
مالي و هذا الحب البارد...
الشفوي...
المبتذل...
الحب الآخر النقي،
الخالص،
الشديد،
الصعب و الحار،
من شأنه أن يجعلني أستقر في مكان واحد...
ـ 11 ـ
الخاتم في يدها
و عيناها شاردتان.
هي شاردة،
و أنا حائر
لا أحب
لا أحبها...
ولا أومن بالحب
لا أومن بشيء اسمه الحب
و أنا لا أفكر فيما هي تفكر
و أنا لا أفكر كما هي تفكر...
و ما بيننا لا يحتاج ميثاقا،
و لا قسما
ولا عهدا
ولا ألما أو دما
و لا خاتما...
هذا الخاتمَ…
لكني إشفاقا سأقبله...
ـ 12 ـ
أنا الخاتم...
أنا المهاجر دوما،
رغم فضتي،
رغم أفعاي...
أقول لكما
خسئتما، خسئتما
اللعنة عليكما...
تعليق