7-10-2009
وكما الأيام الخوالي
(1)
الاحتفال في القصر العتيق القابع في الجنوب الدافئ, تماما كما في الأيام الخوالي.
هكذا أنبأته الدعوة المسطورة بأحرف فضية يتخللها اسمه ببنط عريض مذهب..راجع الموعد والتاريخ المدونين.. تماما كما دون في أجندته حسب اتفاق سكرتيرته الأجنبية معهم..راجع نسخة خاصة من برنامج اليوم وصلته مرافقة للدعوة فوجدها كالتالي:
العاشرة موعد وصوله..الاستقبال الحافل أمام البوابة الرئيسية.. حفلة شاي في الصالون الرئيسي لمدة نصف ساعة, ليتجمع خلالها الحضور في القاعة الجديدة الملحقة بحديقة القصر حيث يلقي كلمته الأولي لمدة ساعتين يعقبها غداء في الحديقة ليجتمعوا ثانية في الخامسة لحلقة نقاشية حول الموضوع, ليتحقق الحلم.
(2)
نقل الدعوة بين أصابعه..قربها من عينيه ..أبعدها..أدناها ثانية..تناول كوب الماء وارتشف منه , لئلا يكون مغيبا..تيقن أن ما بين يديه دعوة حقيقية, وأن ما تذوقته عيناه من بين سطورها واقع حي ينبض أمامه..قرأها ثانية بصوت عالي..استطعم مذاق اسمه بين كلمات الدعوة..راح يلوكه عدة مرات.. أصاخ أذنيه ليتأكد مما يتردد صداه في فضاء الغرفة..أراح يده على المكتب العاجي..أمال رأسه للخلف..أرخى جفونه.. سافرت ذاكرته للوراء ليرى نفسه,ولسنوات, مساعدا صغيرا لمنظمي الدورات والحفلات عمله كان مقتصرا على إعادة ترتيب الأشياء كما يريدها المنسقون والفنيون, ومن الممكن أن يسمحوا له بحمل حقيبة الضيف, وحينما يرضون عنه يرسلونه في حلة أنيقة مؤجرة لاستقبال كبار الضيوف, القادمين من الشمال البارد رغم التحضر, وحيث يقيم الآن, وإحضارهم سواء من محطة القطار أو المطار حسبما تحكم الظروف..وراح يسترجع مدى ولهه بالقصر العتيق في أطراف القرية الفقيرة الساكنة بهدوء على مقربة من العاصمة والمطل على ترعة عريضة يصلون إليه عبر كوبري صنع خصيصا لمالك القصر القديم وقد زينت حواف الترعة بورود نسقت في براعة وأبهة تُنسيك تلك الأعشاش التي مررت بها لتصل للجنة..تذكر عشقه لحديقته الغناء وكيف كان يتسلل في نهاية هذه المناسبات ليختلي بنفسه بين أشجار المانجو العالية.. فيختفي عن الوجود ويشرع في بناء الحلم.
(3)
حينما ولج من الباب الرئيسي ..أرهقت ومضات الفلاش عينيه ..وراحت كاميرات الفيديو تجري بين ملامحه وملامح كواكب دارت حوله كما يحدث في النظام الشمسي العجيب وبين يديه المحتضنة أيدي مستقبليه بود وحفاوة كمن وجد مخلصه.
بعدما انتهت مراسم الاستقبال وحفل الشاي حضر شاب وسيم ليدعوه وكبار مستقبليه للقاعة, حيث أن موعد المحاضرة قد أزف.
انتصب واقفا وزرر حلته الباريسية..تحرك عارفا بالطريق ..تحرك الركب خلفه ..لهثت الكاميرات خلفهم وما بينهم, مجتازا البهو الروماني الطراز..رفع ناظريه نحو سماءه حيث كانت لوحات الآلهة تسكن.. وإذ بها تتوارى خجلا خلف ستائر سوداء من غبار وخيوط عناكب, سقطت عينيه نحو الأحذية اللامعة تدوس على البساط الشيرازي المتهرئ ..قارن عقله بين ما صنعته أيدي الزمن فيه وفي القصر..عبر من بوابة الحديقة إلى التراس المؤدي لذلك السلم الحجري, والذي كثيرا ما سمح له بالراحة عليه, للحظات مختلسة, ما بين الجري هنا وهناك, ودرابزين السلم المصنوع من وحدات رخامية تعانقت مع بعضها البعض في نظام بديع.
ذلك الدرابزين الذي كثيرا ما أعانه وتلقف قطرات عرقه, وساند جسده المنهك, وساعده صاعدا أو هابطا حاملا أشياء تفوق وزنه, وتكعيبة العنب تلك النائمة عن يمين ويسار السلم يلقم بعض حباتها ليستعيض عن فقر الوجبة الممنوحة له, فينشط مكملا مهامه الثقيلة على جسمه, المحببة لروحه.
قبل أن يهبط الدرج لمح تكعيبة العنب وقد ذهبت عنها أوراقها - مع أن هذا موسم عطاءها- مد يمينه مصافحا صديق الماضي..مسندا جسده النحيل, المنهك من حمل السنين, على الدرابزين.. فإذا به يئن ويهتز كأنما سكن فوق مركز زلزال.. يلفت نظر كبير المستقبلين لذلك, ويأبى أن يتحرك الركب إلى أن يتم تعليق لافتة تحذر من الركون إلى الدرابزين المتهالك.. لئلا يحدث مالا يحمد عقباه, ويرتبك المحفل, فيتزعزع الحلم.
(4)
بعد الغداء تحلق حوله طلبة علم ومنقبين أخبار وفلاشات وكاميرا فيديو ومستعيدي ذكريات ومتطفلين.. فتحرك بهم نحو بهو القصر حيث يمكنه إراحة قدميه التي أنهكها طول المحاضرة..ارتقى السلم صاعدا وهم بجواره وخلفه يتدافعون ..السلم يضيق بهم ..يد تلكزه بشدة..يرسل يسراه, بلا وعي, وكما الأيام الخوالي, لتستغيث بصديقه الهَرِم (الدرابزين)..فيهيمان في الفضاء سويا ..لينهارا يدا بيد..رأسه تطير للخلف ..لأسفل..ها هي النجوم تتلألأ حول شمس الجنوب المبهرة..قدماه تسموان عن رؤوس المحلقين حوله..يد تمتد إليه.. فلا تطوله..تكعيبة العنب الجافة تنهار تحت وطأة جسده النحيل..قبل أن تمر لحظة كان قد استقر مقامه تحت عيون محدقة لأسفل وأذرع تنهش غطاء كساه من وحدات الرخام, وفروع العنب الجافة, وحشرات تهرب مذعورة وفلاشات تومض براقة فتغشى عينيه وتفضح ما آلت إليه حلته الباريسية الحديثة ودرابزين السلم العتيق.
ولأنه رفض أن يرى انهيار الحلم.. أصر على موعد الحلقة النقاشية..فعقدت مع اختصار زمنها للنصف ..حيث أن أربطة الإسعافات الأولية لم تكن كافية لإيقاف نزف الأفكار والحروف.. ولا الحبوب المسكنة قادرة على هزيمة ألم السقوط تحت بصرهم.. و لابد من الإسراع للمستشفى للفحص الشامل..فمضى تاركا هناك كل ما نقشته الأيام الخوالي.
وكما الأيام الخوالي
(1)
الاحتفال في القصر العتيق القابع في الجنوب الدافئ, تماما كما في الأيام الخوالي.
هكذا أنبأته الدعوة المسطورة بأحرف فضية يتخللها اسمه ببنط عريض مذهب..راجع الموعد والتاريخ المدونين.. تماما كما دون في أجندته حسب اتفاق سكرتيرته الأجنبية معهم..راجع نسخة خاصة من برنامج اليوم وصلته مرافقة للدعوة فوجدها كالتالي:
العاشرة موعد وصوله..الاستقبال الحافل أمام البوابة الرئيسية.. حفلة شاي في الصالون الرئيسي لمدة نصف ساعة, ليتجمع خلالها الحضور في القاعة الجديدة الملحقة بحديقة القصر حيث يلقي كلمته الأولي لمدة ساعتين يعقبها غداء في الحديقة ليجتمعوا ثانية في الخامسة لحلقة نقاشية حول الموضوع, ليتحقق الحلم.
(2)
نقل الدعوة بين أصابعه..قربها من عينيه ..أبعدها..أدناها ثانية..تناول كوب الماء وارتشف منه , لئلا يكون مغيبا..تيقن أن ما بين يديه دعوة حقيقية, وأن ما تذوقته عيناه من بين سطورها واقع حي ينبض أمامه..قرأها ثانية بصوت عالي..استطعم مذاق اسمه بين كلمات الدعوة..راح يلوكه عدة مرات.. أصاخ أذنيه ليتأكد مما يتردد صداه في فضاء الغرفة..أراح يده على المكتب العاجي..أمال رأسه للخلف..أرخى جفونه.. سافرت ذاكرته للوراء ليرى نفسه,ولسنوات, مساعدا صغيرا لمنظمي الدورات والحفلات عمله كان مقتصرا على إعادة ترتيب الأشياء كما يريدها المنسقون والفنيون, ومن الممكن أن يسمحوا له بحمل حقيبة الضيف, وحينما يرضون عنه يرسلونه في حلة أنيقة مؤجرة لاستقبال كبار الضيوف, القادمين من الشمال البارد رغم التحضر, وحيث يقيم الآن, وإحضارهم سواء من محطة القطار أو المطار حسبما تحكم الظروف..وراح يسترجع مدى ولهه بالقصر العتيق في أطراف القرية الفقيرة الساكنة بهدوء على مقربة من العاصمة والمطل على ترعة عريضة يصلون إليه عبر كوبري صنع خصيصا لمالك القصر القديم وقد زينت حواف الترعة بورود نسقت في براعة وأبهة تُنسيك تلك الأعشاش التي مررت بها لتصل للجنة..تذكر عشقه لحديقته الغناء وكيف كان يتسلل في نهاية هذه المناسبات ليختلي بنفسه بين أشجار المانجو العالية.. فيختفي عن الوجود ويشرع في بناء الحلم.
(3)
حينما ولج من الباب الرئيسي ..أرهقت ومضات الفلاش عينيه ..وراحت كاميرات الفيديو تجري بين ملامحه وملامح كواكب دارت حوله كما يحدث في النظام الشمسي العجيب وبين يديه المحتضنة أيدي مستقبليه بود وحفاوة كمن وجد مخلصه.
بعدما انتهت مراسم الاستقبال وحفل الشاي حضر شاب وسيم ليدعوه وكبار مستقبليه للقاعة, حيث أن موعد المحاضرة قد أزف.
انتصب واقفا وزرر حلته الباريسية..تحرك عارفا بالطريق ..تحرك الركب خلفه ..لهثت الكاميرات خلفهم وما بينهم, مجتازا البهو الروماني الطراز..رفع ناظريه نحو سماءه حيث كانت لوحات الآلهة تسكن.. وإذ بها تتوارى خجلا خلف ستائر سوداء من غبار وخيوط عناكب, سقطت عينيه نحو الأحذية اللامعة تدوس على البساط الشيرازي المتهرئ ..قارن عقله بين ما صنعته أيدي الزمن فيه وفي القصر..عبر من بوابة الحديقة إلى التراس المؤدي لذلك السلم الحجري, والذي كثيرا ما سمح له بالراحة عليه, للحظات مختلسة, ما بين الجري هنا وهناك, ودرابزين السلم المصنوع من وحدات رخامية تعانقت مع بعضها البعض في نظام بديع.
ذلك الدرابزين الذي كثيرا ما أعانه وتلقف قطرات عرقه, وساند جسده المنهك, وساعده صاعدا أو هابطا حاملا أشياء تفوق وزنه, وتكعيبة العنب تلك النائمة عن يمين ويسار السلم يلقم بعض حباتها ليستعيض عن فقر الوجبة الممنوحة له, فينشط مكملا مهامه الثقيلة على جسمه, المحببة لروحه.
قبل أن يهبط الدرج لمح تكعيبة العنب وقد ذهبت عنها أوراقها - مع أن هذا موسم عطاءها- مد يمينه مصافحا صديق الماضي..مسندا جسده النحيل, المنهك من حمل السنين, على الدرابزين.. فإذا به يئن ويهتز كأنما سكن فوق مركز زلزال.. يلفت نظر كبير المستقبلين لذلك, ويأبى أن يتحرك الركب إلى أن يتم تعليق لافتة تحذر من الركون إلى الدرابزين المتهالك.. لئلا يحدث مالا يحمد عقباه, ويرتبك المحفل, فيتزعزع الحلم.
(4)
بعد الغداء تحلق حوله طلبة علم ومنقبين أخبار وفلاشات وكاميرا فيديو ومستعيدي ذكريات ومتطفلين.. فتحرك بهم نحو بهو القصر حيث يمكنه إراحة قدميه التي أنهكها طول المحاضرة..ارتقى السلم صاعدا وهم بجواره وخلفه يتدافعون ..السلم يضيق بهم ..يد تلكزه بشدة..يرسل يسراه, بلا وعي, وكما الأيام الخوالي, لتستغيث بصديقه الهَرِم (الدرابزين)..فيهيمان في الفضاء سويا ..لينهارا يدا بيد..رأسه تطير للخلف ..لأسفل..ها هي النجوم تتلألأ حول شمس الجنوب المبهرة..قدماه تسموان عن رؤوس المحلقين حوله..يد تمتد إليه.. فلا تطوله..تكعيبة العنب الجافة تنهار تحت وطأة جسده النحيل..قبل أن تمر لحظة كان قد استقر مقامه تحت عيون محدقة لأسفل وأذرع تنهش غطاء كساه من وحدات الرخام, وفروع العنب الجافة, وحشرات تهرب مذعورة وفلاشات تومض براقة فتغشى عينيه وتفضح ما آلت إليه حلته الباريسية الحديثة ودرابزين السلم العتيق.
ولأنه رفض أن يرى انهيار الحلم.. أصر على موعد الحلقة النقاشية..فعقدت مع اختصار زمنها للنصف ..حيث أن أربطة الإسعافات الأولية لم تكن كافية لإيقاف نزف الأفكار والحروف.. ولا الحبوب المسكنة قادرة على هزيمة ألم السقوط تحت بصرهم.. و لابد من الإسراع للمستشفى للفحص الشامل..فمضى تاركا هناك كل ما نقشته الأيام الخوالي.
تعليق