قراءة سيكولوجية في قصة أنامل عاشقة للكاتب عبد الرشيد حاجب
أنامل عاشقة
عبد الرشيد حاجب
والتقينا ..
وضعت يدي في يدها الصامتة المرتعشة ومشينا ..
أوراق الخريف كانت تتساقط في ذلك المساء هنا وهناك وكأنها حيرتنا وارتباكنا يتناثران على الأرض .
شعرت بأصابعها تنتفض كجناحي طير مذبوح . هل تود أن تخلص أناملها من يدي المحمومة ؟
لا . لن أترك لها الفرصة وقد جمعت طوال هذين اليومين كل لطف الدنيا لأغرقها فيه حتى ترضى .
ليست أول مرة تغضب مني وأغضب منها ..
لا. ليست أول مرة .
بدأت العبارات تتزاحم على طرف لساني .كل عبارة ترى نفسها الأجمل والأحلى في أذن الحبيبة . وأنا أضرب الأوراق اليابسة بقدمي وأستجدي صوتي . تبا لهذا السد الذي انتصب في حلقي يمنع تدفق هذا النهر الهادر في أعماقي !
وظللنا نسير في الحديقة ..ويسير معنا الخريف .. ويسير هاربا أمامنا المساء ، وعصافيري تنقر الجدار الرخامي في عناد . وفجأة عمني فرح غامر . رأيت فجوة كبيرة في السد اللعين وانهمرت أنهاري . فتحت فمي لأتكلم حين سمعتها تقول :
- لقد مللت منك !
توقفت مشدوها . نظرت إليها لكني لم أرها . لم أعد أرى شيئا . فراغ هائل ابتلعني ، بينما ظهر وجه أمي حنونا رؤوفا ، تحتضنني تقاسيمه الساحرة .
لماذا يا أمي أرضعتيني وتركت هذا الطعم الغريب من حليبك فوق شفتي ؟
لماذا لم تتركيني هناك في رحمك سعيدا في شرنقتي ، أمارس جنوني كما يحلو لي ؟
سمكة سعيدة كنت في رحمك يا أمي .. تصلني أغانيك الرقيقة ، ولمساتك الحانية ، فأشعر بغيبوبة لطيفة ، وأنا أتابع دقات قلبك الموسيقية العذبة . ترى ، هل حين أحببت هذه التي بجانبي الآن كنت أبحث عن رحمك يا أمي ؟
هل كنت أريد العودة بعد أن ابتعدت عنك ، حتى تهت وسط الزحام ؟
- قلت لك لقد مللت منك ، ألا تفهم ؟
تنبهت على صوتها ، مبحوحا ، محروقا ، متكسرا كزجاج نافذة داهمتها عاصفة .
داهمتني العاصفة بدوري ، وتكسر كل الزجاج في داخلي . بدأ النزيف يحرقني ، وأنفاسي تتقطع .
لا . هذه المرأة ليست أمي .
ليست حواء التي هربت من ضلعي ذات خلق فعدوت وراءها مبتهجا جذلا تحت أشجار تفاح عدن .
لا. أمي لم تقل أبدا " مللت منك " . كانت تضربني ..تقرصني .. تصرخ في وجهي .. لكن أبدا لم تقل لي مللت منك !
جمعت ما تبعثر مني ومن عيني ، وحدقت في عينيها .
آه كم أحببت هاتين العينين يا رب !
كنت أرى في بؤبؤ عينيها شرنقتي وأنا في رحم أمي .وحين كانت دموعها تنهمر أحيانا ، كنت أنتشي حد الغياب في هذا النهر المقدس ، متطهرا من كل ذنوبي .
اخبريهم عن ذنوبي التي اقترفتها وأنا في رحمك يا أمي .. أرجوك اخبريهم و اخبريني .. فما عدت الآن أدري .. في خضم هذا البحر من اليتم الذي فغر فاه أمامي !
أشاحت بعينيها عني ونظرت بعيدا لا أدري أين ..أبعدت عني البؤبؤ الحميم الذي كنت أسبح فيه وأستعيد براءتي ..حرمتني من شرنقتي حيث كنت أمارس جنوني ...
ثم تحركت تسير مبتعدة بينما ظلت يدها تبكي في يدي .. تنوح ..تتشبث بآخر أمل احتضنته آناملنا .. انفلتت يدها من يدي وسارت بينما ظلت أناملي تتبعها .. تتشبث بأناملها وأنا أنتفض ..أنظر إليها تبتعد وأنتفض ..أمسك يدي .. أعصر أناملي الممتزجة بأناملها.. أعتصرها ..تحرقني ..تحولت يدي لقطعة من نار .. جحيم يحرقني .. وهي هناك ما تنفك تسير مبتعدة ...
أعدو نحو البستاني الذي كان يقطع أغصانا بمنشاره الكهربائي .. أغافله وأضع يدي تحت المنشار وأصرخ نفس صرختى الأولى وأنا أغادر رحم أمي والدماء تتناثر حولي ...
وقبل أن أغلق عيني فاقد الوعي أراها تعدو نحوي ملتاعة ووراءها طيف أمي يعدو .. ثم أغيب في سكون لذيذ !
القراءة
أنامل عاشقة
هذا نص رقيق ، وجدته رقيقاً لعدة أسباب:
أولاً:استخدام الكاتب لكلمات رقيقة شفافة بعيدة عن التقعر وبعيدة عن التصطنع.
ثانياً:الاستسرال البين ، حيث رأينا انسيابية واضحة كانسابية الجدول بهدوء ووضوح وبعفوية،لخص فيها الكاتب مشاعره وأحاسيسه ببساطة.
ثالثاً:جمل النص أتت بتواتر وإنسجام لا غبار عليه من حيث البناء.
رابعاً:الحميمية والدفء الذين يطفح بها النص.
من خلال ما تقدم نقول عن هذا النص القصصي إنه قصة عاطفية وجدانية بامتياز.
لكن
النص لا يخلو من الهنات ، وهذه لا تؤثر على القصة كبناء درامي ، ولا تقلل من قوتها ومتانتها.
لأن هذه الهنات التي أتحدث عنها هي هنات "سيكولوجية " وأتت بسبب حالة التجلي والصفاء التي يبدو أن الكاتب كتب قصته خلالها.
ولا ضير أن تكون مشاعر الكاتب أو بطل القصة متناقضة ، وفي بعض الأماكن غير واضحة ،كما لا ضير أن نقول إن هناك حالة ضياع أظهرها لنا الكاتب وأعني ضياع نفسي ووجداني ربما بسبب الحالة الإنفعالية التي تمخضت عنها ولادة هذا النص.
ويمكننيا تبين ذلك من خلال هذه الرؤية النفسية لحالة البطل التي أفترض أنها لا تمس الكاتب أولا تخصه بقدر ما تخص بطل القصة على الرغم من الكاتب استخدم ضمير المتكلم في قصته.
ولا شك أن استخدام ضمير المتكلم أتى بعفوية ، وربما أراد الكاتب أن يقول : لا يمكنني كتابة نص بهذه الشفافية إلا إذا تخيلت أنني البطل وربما استخدام ضمير الغائب أو المخاطب تقلل من وجدانية النص ، وتذهب الكثير من دفئه وحميميته.
و لنبدأ من العنوان في هذه القراءة السيكولوجية المتواضعة لهذا النص.
(أنامل عاشقة )
نلاحظ أن الكاتب كتب كلمتي العنوان بدون أل التعريف . وكان بإمكانه أن يقول (الأنامل العاشقة ) ويشير بها إلى أنامل معينه ، أو ربما إلى أنامله هو ، لكنه أرادها مجردة ، وهذا أقوى للعنوان من أن يكون معرفاً .
لكن لماذا الأنامل هي العاشقة ، ولماذا ليس القلب أو العين ؟ هنا أرى أن الكاتب أراد أن يقول : إن حركة أنامله - هو - في يد الحبيبة كانت تنقل العاطفة التي تجتاحه في هذه اللحظة بالذات ،لأن الأنامل هي التي تتحرك ، وهي التي تترجم عادة العاطفة من خلال اللمس ، ولأنها هي الوحيدة القادرة على التعبير الحركي عما يجول في القلب .
الأنامل -هنا - هي دليل الحركة والفعل ، بعكس اللعين أو القلب الذي هو تعبير معنوي للعاطفة (وهنا بيت القصيد) أعني الفعل والتصرف وليس القول.
في البداية ،كان اللقاء وكان لقاءاً متوتراً . يعني من أول اللقاء كانت هناك مشكلة . ولو لم تكن هذه المشكلة موجودة قبلاً لما ارتعشت يدها الصامتة ، ولما ارتعش هو أصلاً سيما وأن الجو أو المناخ العام الذي طغى على هذا اللقاء هو مناخ سديمي (كانت أوراق الخريف تتساقط ،وكان المساء..وكانت هناك حيرة وارتباك)فالمناخ السديمي كان مادياً ومعنوياً،وأجاد الكاتب هنا بالذات من خلال ترجمته للمناخ الداخلي (الارتباك والحيرة)والمناخ الخارجي (أوراق الخريف وتساقطها) وكأنه هنا يود القول أن الطبيعة هي جزء من الإنسان . وهي التي تعكس داخله ويعكس خارجها،إضافة إلى وجود مناخ شرقي هنا داخلي وخارجي سنلمسه في السطور القادمة.
فالإنسان جزء من الطبيعة وهي كليته، وهذا قد يقودنا إلى متاهات عقائدية في نفس البطل نحن في غنى عن الحديث عنها الآن.
يتابع الكاتب مصوراً الحالة الدرامية بينه وبينه محبوبته ،ويعجبني أن أقول بين (الرجل والمرأة في مناخ شرقي) عندما قال:
(شعرت بأصابعها تنتفض كجناحي طير مذبوح . هل تود أن تخلص أناملها من يدي المحمومة)؟
إذا تساءلنا هنا وربطنا بين هذا والعنوان ، وجدنا أنامل المحبوبة أضحت طيراً مذبوحاً ، وأنامله محمومة
سببها عشق قوي جارف، والحمى التي تأتي من العشق لها وجهان إما إيجابي وإما سلبي ،من خلال نهاية القصة علمنا أننا أمام الوجه السلبي ، لأن الحمى الآتية من العشق ، إن كانت مدمرة ، فالحب برمته قاتل ومدمر وبالتالي هو غير شرعي.
ومن المفترض أن يكون الحب إيجابياً أي بنّاءاً يرقى إلى مستوى بناء الشخص وعلّوه وليس إلى الحط منه ، وبالتالي نستطيع هنا أن نعود للفقرة السابقة ونتساءل:
لماذا كانت أصابعها تنتفض ولماذا شبهها بالطير المذبوح الذي يبحث عن طريق للخلاص ؟
هنا ، من الواضح تماماً أن الترميز جاء ليختصر حالة عامة ، وهي حالة الاستحواذ التي يعيشها الرجل الشرقي.
الرجل الشرقي يسعى دائماً للسيطرة . ليس على المرأة وحسب ، بل على كل شيء .حتى في حبه ، هو أناني . وحتى بعاطفته الجياشة ، هو مستحوذ ويريد الاستحواذ لدرجة تكاد تقتل الطرف الآخر !
فالأنانية المفرطة للرجل الشرقي تدفعه لتضييق الخناق على المرأة ، وعلى الإبنة ، وعلى الأم ، وعلى كل أنثى، وتضييق الخناق يدفعهن للبحث عن طريقة للخلاص بعد أن يصبحن كجناحي طير مذبوح.
وهنا في هذه العبارة أيضاً اختصر لنا الكاتب المصير الذي ستصله المحبوبة أياً كانت درجة ولهها بحبيبها فلا بد من أن تفكر أخيراً وتبحث عن نافذة للهرب منها وطريقة للإنعتاق.
وأكد الكاتب ذلك عندما أصر على أنه لن يترك لها فرصة الهروب ،هو يحبها ويريدها وبالمقابل يقتلها فلن يسمح لها بالفرار بأي طريقة كانت.
وقد أوضح الكاتب لنا الطريقة :إنها الكلام اللطيف والرقيق ! وهذا اعتراف أيضاً برقة المرأة وشفافيتها ، فهي رقيقة لدرجة أنها تقنع بالكلام الرقيق فقط ، وترضى بهمسات منعشة ، وتستعيض عنها بالدرر أياً كانت ، لأن الرقة في الكلام أجمل من الدرر وأكثر فاعلية.
لكن الكاتب تناسى أن مفعول الكلام اللطيف والرقيق ينتهي عندما يكون الاستحواذ على المحبوبة هو الهدف ، وتأطيرها ووضعها في قفصه الروحي هو الهدف ، وإلغاء وجودها والتعدي على كينونتها هو الهدف.
وقد أكد الكاتب ذلك بصريح العبارة حيث قال (ليست أول مرة تغضب مني وأغضب منها ..
لا. ليست أول مرة .) إذن هناك مرات عديدة للغضب ، ومرات عديدة حاول البطل خنق المحبوبة حتى لو كان ذلك عن طريق دفنه إياها في أعماقه.
هو أدرك هول ما فعله وهول ما فكر به .كما أنه أدرك أن الطير سيهرب منه الآن من جراء قسوته وأنانيته وربما إهماله. فالكلام اللطيف الذي سعى جاهداً لقوله لها طيلة اليومين السابقين لا يكفي ولا يمحي الذنوب التي اقترفها الحبيب بحق الحبيبه.
وما التلعثم الذي أصابه ، وعدم قدرته على النطق إلا بسبب مااقترفت يداه . لكن ، في هذه العبارة -وإن كنت فهمت مقصد الكاتب - أجد تناقضا ما، وهو كيف بدأت العبارات ترى نفسها الأحلى والأجمل على أذن الحبيبة وهو يعاني من سد انتصب في حلقه ومنعه من تدفق العبارات الرنانة والتي تسعد الحبيبة.
(بدأت العبارات تتزاحم على طرف لساني .كل عبارة ترى نفسها الأجمل والأحلى في أذن الحبيبة . وأنا أضرب الأوراق اليابسة بقدمي وأستجدي صوتي . تبا لهذا السد الذي انتصب في حلقي يمنع تدفق هذا النهر الهادر في أعماقي !) قد أجد مبرراً للكاتب على اعتبار أنه يؤكد أن الحبيبة تعيش في أعماقه وتسمع مالم يقله ،لكن القارئ العادي لا أظنه سيقبل بهذا التبرير، اللهم سوى إن تقبل نظرية الاستحواذ التي أشرنا إليها ، وأنه وحده يعرف ما تحب وما تكره الحبيبة من فنون الغزل والقول. وهنا فقط يختفي التناقض الظاهري .
أما من الوجهة العامة فيجوز أن يقول حبيبيتي تسمع مالم أقله.أو أنا أعلم بما تريد هيب سماعه !
وهو دليل واضح على عنجهية الرجل ورغبته في الاستحواذ الذي تحدثنا عنه،فهو يريد حتى وجدانها ودواخلها تعبر عنه وتفهم ما لم يقله (يعني كما يقول غالبية الرجال،أريد من زوجتي أو حبيبتي أن تفهم علي دون أن أتكلم وحتى بدون إشارة) وهذا إرهاق وتطرف بحق المراة وقد يعتبر عنفاً ومطالب إضافية قد لا تكون المرأة على استعداد لتقديمها إلا إذا كانت في حالة عشق مميتة كما في هذه القصة. ولأن الرجل عادة لا يبادل المرأة هذا المطلب ، بمعنى أن المراة تكرر كلامها عشرات المرات كي يسمع الرجل صوتها مرة واحدة ،وهذا اضطهاد وعنف فهو يريدها أن تسمع دون أن ينطق ولا يقبل هو بالعكس.
وربما أدرك الكاتب ذلك وعندما قرر الاجتهاد وجد ثغرة في السد الذي يحجبه عن الكلام وقرر أن يتكلم لكن يبدو بعد فوات الاوان. ما أتى في العبارات التالي من جمل جميلة وتعكس رقة الكاتب وشفافيته ، التي لم تتحمل كلمتها الأولى أو الخطوة الأولى التي أعلنتها للإنعتاق من سجنه.
(وظللنا نسير في الحديقة ..ويسير معنا الخريف .. ويسير هاربا أمامنا المساء ، وعصافيري تنقر الجدار الرخامي في عناد . وفجأة عمني فرح غامر . رأيت فجوة كبيرة في السد اللعين وانهمرت أنهاري) . فتحت فمي لأتكلم حين سمعتها تقول :
هذه العبارة (لقد مللت منك) ليست كأي كلمة، ولا تقال دون مناسبة ، هي قوية بقدر قسوتها وصعبة بقدر مرارتها، لكن الحاجة إليها قد تكون أكثر قوة وصلابة من التفكير بأي شيء آخر ، وأعني مشاعر من يتلقاها ولو كان الحبيب.
هذه القنبلة أصابته بعمى هستيري ، فأصبح لا يرى وأصابته بفصام تخشبي ، فتجمد وتخشب مكانه وهنا شعر بضعفه، وحيرته ازدادت . وهنا بالذات أدرك تماماً هول ما اقترفته يداه . هنا أدرك أنه جزء من الحبيبية التي لولاها لما كان في الوجود . وهنا أبدى رغبة حقيقية بالعودة إلى رحم أمه لأنه تأكد تماماً أنه منح حرية ربما لا يستحقها و لا تقاس بثمن عندما أتيحت له الفرصة الخروج من الشرنقة إلى العالم . وهذا بالضبط يؤكد مدى الخطأ الذي اقترفه وتفكيره اللاشعوري بالاستحواذ ، وهو التفكير النابع أساساً من كونه رجلا بغض النظر إن كان شرقياً أو غريباً، لكن هنا تتضح أكثر شرقيته التي بنيت على أساس خاطئ .
فالمرأة التي هي أمه هي من منحته الحياة والحرية، والحبيبية هي من منحته الاستمرارية وهنا بالضبط كان عليه الشروع في تغيير مفاهيمه ومنظوماته الفكرية كلها ، ويبدأ من جديد بنقاء كما النقاء الذي خرج به من رحم أمه ، وبصفاء كصفاء الطفل الرضيع الذي مازالت قطرات حليب أمه وطعمها راسخ على شفاهه التي أضحت متيبسة الآن.
الشفاه التي تحتفظ بطعم الحياة هي ذاتها التي أرادت إعدام حياة أخرى ، وهي ذاتها التي أشعرته بالندم والخزي ، وهي ذاتها التي استنجد بها ليعود كما كان في العالم الآخر.
هنا يتقف على مذى رغبة البطل في هجر الحياة لأن من أعطته الحياة هجرته وهو لا يريد الحياة بدونها.
لكن هنا يظهر التناقض السيكولوجي عند الكاتب ،لأنه لم يحدث إجماع على أن الرحم هو منبت الحرية بل هو كما ذكر الكاتب شرنقة ، وعندما تكتمل حياة الكائن الحي في الشرنقة ويكون حينها على شكل دودوة، تتمزق الشرنقة ويخرج منها كائن حي آخر وعلى شكل فراشة ، والفراشة هي دليل الحرية والإنطلاق، وعندما تطير الفراشة وتترك خلفها الشرنقة . إن العودة إلى الشرنقة هو موت جديد وبتر للأجنحة.
فلا يجوز أن نعتبر رحم الأم مطلبا ومطمعا نحلم بالعودة إليه لأننا حينها نقر بفشلنا وبيأسنا وبتحطم آمالنا وأحلامنا.
إن موافقتنا للكاتب على هذه الاستعارة فلأنها التصوير المثالي لحالة الإحباط ، والقهر ، والضياع ،والفشل بكل مقاييسه . أما فيما عدا ذلك فلا يعجبني التشبيه ولا أحبه شخصياً،لكن ما لفت نظري حقا هو تفرد الكاتب بهذه الاستعارة الخيالية عن الاحباط وهي استعارة تحسب له.
(توقفت مشدوها . نظرت إليها لكني لم أرها . لم أعد أرى شيئا . فراغ هائل ابتلعني ، بينما ظهر وجه أمي حنونا رؤوفا ، تحتضنني تقاسيمه الساحرة .
لماذا يا أمي أرضعتيني وتركت هذا الطعم الغريب من حليبك فوق شفتي ؟
لماذا لم تتركيني هناك في رحمك سعيدا في شرنقتي ، أمارس جنوني كما يحلو لي ؟
سمكة سعيدة كنت في رحمك يا أمي .. تصلني أغانيك الرقيقة ، ولمساتك الحانية ، فأشعر بغيبوبة لطيفة ، وأنا أتابع دقات قلبك الموسيقية العذبة . ترى ، هل حين أحببت هذه التي بجانبي الآن كنت أبحث عن رحمك يا أمي ؟
هل كنت أريد العودة بعد أن ابتعدت عنك ، حتى تهت وسط الزحام ؟) فهو -هنا - يؤكد أن البطل الرجل هو المذنب حقاً و يعترف بكل جرائمه التي اقترفها بحق المحبوبة ،بل ويزيد عليها فهو مذنب قبل ولادته وهذه حقيقة ويؤكد الكاتب هنا الموروث الرجعي للرجل الشرقي . فهو من قبل أن يولد مذنب وبمجرد ولادته وخروجه للحياة سيكون أنانياً وراغباً بالاستحواذ ومسيطراً ،ومعتبراً أن كل ماعداه أقل منه شأناً وماعداه هنا هو (المرأة) التي يعتبرها الضلع الهارب منه ويبحث عنه لاستعادته ليكمل نفسه به وتحت إشرافه أي ليعيده إلى الشرنقة التي خرج منها ليكون هو وحده كل عالمها ومحيطها ،ونتيجة ذلك هو أن تقول له مللت منك لم تقلها لأنها لا تحبه بل لأنه استهتر بها وعاملها كضلع ناقص ليس إلا وهنا يطبق المثل القائل (كتر الشد بيرخي) (كلما شددت على القيد ينكسر) وهنا انكسر القيد الذي زاد البطل العاشق بإحكامه حول معصم الحبيبة والذي كانت نتيجته أصابع مرتعشة متوترة وباردة.
-(قلت لك لقد مللت منك ، ألا تفهم ؟
تنبهت لى صوتها ، مبحوحا ، محروقا ، متكسرا كزجاج نافذة داهمتها عاصفة .
داهمتني العاصفة بدوري ، وتكسر كل الزجاج في داخلي . بدأ النزيف يحرقني ، وأنفاسي تتقطع .
لا . هذه المرأة ليست أمي .
ليست حواء التي هربت من ضلعي ذات خلق فعدوت وراءها مبتهجا جذلا تحت أشجار تفاح عدن .
لا. أمي لم تقل أبدا " مللت منك " . كانت تضربني ..تقرصني .. تصرخ في وجهي .. لكن أبدا لم تقل لي مللت منك !
جمعت ما تبعثر مني ومن عيني ، وحدقت في عينيها .
آه كم أحببت هاتين العينين يا رب !)إلى أن أدرك البطل الحل الحقيقي ،فعاد ليغسل روحه ونفسه من ثقل موروث رجعي ينظر إلى المرأة نظرة القاصر، فعمل على غسل روحه وطلب العودة إلى البداية ليعود بحلة جديدة خالية من الشوائب فطهر نفسه من النهر المقدس
ومحى كل ذنوبه ليعود (بأنا جديدة) نقي هذه المرة، وهنا ربما يقول الكاتب أنه على الرجل أن يعيد التفكير قليلاً ويقوم بمراجعة سيكولوجية لنفسه سيما فيما يتعلق بالمرأة التي هي سبب وجوده وسبب استمراره.
ولهذا قرر قطع يده التي كانت تمسك بيدها ،فلاحياة حقيقة بدونها ولا داعي للوجود في حياة ليست فيها وإن قررت الانفصال فلتأخذ معها أنامله العاشقة وتبقيها زهرة حمراء تداعبها بين أناملها،لأنها هي الأكثر رقة والأكثر إخلاصاً وهي التي لا تملك القدرة عن الابتعاد عنه حتى وإن كان جزاراً لأنها مدركة بل أكثر إدراكاً ووعيا منه بثنائية وجودهما وأهميته .
فهي ستعود إليه لتبتكره من جديد وتعيد صنعه حتى وإن أعادته طفلاً رضيعاً مايزال يحبو،لأنها في حقيقة أمرها لم تشح بعينيها عنه ولم تنظر بعيداً ولم تبتعد إلا ليتعلم درساً وإلا لأنها تحبه ولم تمل منه إلا لأنه شدد القيد على معصمها أكثر مما ينبغي فهي أصيبت بالملل من أفعاله وتصرفاته واستهتاره وليس منه بل مما ورثه ومما أثقلها به.
جميلة رؤية الكاتب هنا حول الحبيبة والأم،وتشبيه الحبيبة بالأم فهي في واقع الأمر هكذا ،رؤوم به وترأف لحاله وتحن عليه ،وهذه تظهر أيضا التعلق اللاشعوري للكاتب بأمه وحنينه إلى سنوات طفولته الأولى، وربما رغبته في الارتماء بحضنها وإطلاق العنان لصوته يخرج باكياً من أعماقه ،يشكو إليها من عذاباته وإحباطاته في نواحي مختلفة في الحياة،وهذا شكل من أشكال النكوص لجأ إليه بطل القصة وليس الكاتب بسبب حالة الخيبة والإحباط بغية الحصول على بعض من الطمأنينة جراء حالة الانفصال الروحي عن الحبيبة وما عودة البطل وصراخه وندائه ورغبته بالعودة إلى رحم أمه إلا ترجمة لهذا النكوص ،حيث لم يجد البطل إلا هذا السبيل للتخلص من لحظة فشل ويأس وإحباط وهذا تصرف لا شعوري تلجأ إليه النفس البشرية عندما تقابلها حالة أو موقف شديد وصعب لا تتمكن من التغلب عليه.
في النهاية :
هذه القصة رائعة:أراها تلخص قصة الوجود في أسطر،على الرغم من بعض حالات التفلسف التي اتبعها الكاتب هنا إلا أنها ليست بعيدة عن الواقع ولم تكن مقحمة في القصة بل جاءت داعمة لها كما أشرنا آنفاً من خلال إنسيابية النص.
ملاحظة:كنت قد كتبت هذا التعليق كرد على القصة في صفحتها الأساسية ولما وجدته طويلاً ارتأيت أن أضعه في متصفح آخر فعذراً من السادة المتداخلين هناك في صفحة القصة .
[align=left] دمشق 14 /10/2009
[/align]
تعليق