الساعة الثالثة إلا ربعا فجرا ،
ومحطة المسافرين في هذا الوقت تجمع خليطا عجيبا من الناس ،مسافرون فرادى،أسرو جماعات،النشالون والشحاذون وبائعو الصحف، والباحثون خلسة عن قوتهم في جيوب المسافرين وأمتعتهم ،السكارى المترنحون الذين تقيأتهم الحانات والبيوت المهجورة جاؤوا ليختموا ليلتهم على صيد شارد في المحطة،يتمايلون وهم غارقون في هذيانهم المبهم...
على الرصيف الخارجي للمحطة أسفل صورة القائد المعظم بقايا أجساد بشرية متهالكة تغط في نوم مجاني ،تفترش الأرض وتلتحف سماء المحطة الملبدة بسحب الدخان الذي تنفثه محركات الناقلات بلا رحمة،ينتظرون أشعة الشمس لينتشروا في شوارع المدينة وأزقتها متسولين ومستعطفين....
حين اجتاز علاء الممر الرابط بين مقهى المحطة وأرصفتها ،تلمّس جيبه وسط الزحمة ليطمئن على حاله،كانت سميرة تسير أمامه بخفة،وهي تحاول أن تمسك بكل ثواني هذه اللحظات صورة وصوتا،كما يتمسك الطفل بلعبته المفضلة،فالأول مرة يسمح لها بالسفر مع صديقها علاء لمسافات طويلة بالرغم من كون علاقتهما قد توطّدت منذ سنوات الكلية ثم ماتلى ذلك من سنوات الضياع والبطالة والمعارك التي خاضاها محتجين ومعتصمين على أبواب الوزارات والإدارات...جلسا في مقعدهما
وبدت لحظات إنتظارإقلاع الناقلة تعبث بمشاعرهما ،عطرها كان أخاذاً وأنفاسها بدأت تبعث الدفء حولهما،أحسها قريبة حتى حدود الذوبان،ومع الصمت الذي يفرضه المكان غاص كل واحد في ذاته.
شرعت الناقلة في جمع أنفاسها وتعالى صوت محركها في فضاء المحطة،ثم تحركت ببطء بين الحافلات الكثيرة ،توقفت عند الرصيف الخارجي قبالة صورة القائد ليلحق بها بعض من تخلّفوا،ثم أخذت طريقها خارج المدينة،وحين شغّل السائق مذياع الناقلة ،كانت الإذاعة الوطنية تبث أدعية الصباح المعتادة
علاء يسبر أغوار ذاته بحثا عن كلمات تليق بمسمع سميرة في هذا السحر النديّ ،وحين تستقيم له العبارات لفتح الحديث تخونه آلية النطق ويحس نفسه قزما أمام هيبة سميرة وقوة شخصيتها،فيبتلع ريقه ويعود إلى الغوص في ذاته من جديد...
عجيب أمر هذا ال"علاء"؟إنه يتحدث معها في كل الموضوعات بلغة الخطيب المتمكن يأسرها بلغته الساحرة المتدفقة من نبع لا ينبض،يخوض معها في الثقافة والسياسة والعلوم،لكن حين يقترب من بركان حبه الخامد تنفض اللغة من حوله ولا يملك غير أن يبلع ريقه في انكسار...ويستسلم لهزيمته الدائمة...
فجأة تقطع الإذاعة برامجها وتبث موسيقى عسكرية ثم وبصوت أقرب إلى البكاء يأتي هذا البيان:
أيها المواطنون في فجر هذا اليوم التحق قائدنا المغفور له بالرفيق الأعلى على إثر حادثة سير مؤلمة،....
يرفع السائق صوت المذياع ويبدأ بث القرآن الكريم،وتسري بين الركاب حركة غير عادية ،هل هذه هي الإذاعة الوطنية ،يسأل أحدهم،يجيبه أكثر من واحد : البقاء لله،ويضيف علاء: وللشعب...
في المقاعد الخلفية شبان هزّهم الخبر بعنف،أخرج أحدهم مذياعا جيبيا وحين وضع مؤشره على إذاعة ال ب.ب.س وكانت الساعة الرابعة صباحا،جاء الخبر على رأس العناوين كلها:
توفي صباح اليوم بالمستشفى العسكري بالعاصمة الزعيم القومي عن سن تناهز المائة ،وقد قضى الراحل ثمانون سنة في حكم بلاده بالحديد والنار،وخاض معارك ضارية في مقاومة الفرح لدى شعوب الأرض،
ضجت الناقلة وانطلقت الألسن من عقالها ،ترجل علاء من مقعده وتوجه نحو السائق همس في أذنه ، وأخذت الناقلة تتوقف،
التفت السائق إلى المسافرين تعلو شفتيه ابتسامة عريضة وقال:
ـ توقف لخمس دقائق..
رد علاء بصوت يقطر رضا:
إن التاريخ نفسه عليه أن يتوقف ليرصد تفاصيل الحدث..
وابتسم الجميع ولمّا صاروا على الثرى كان الفرح يغمرهم،وانتشروا على جنبات الطريق جماعات،
بعض الشباب دون شعور وجدوا أنفسهم متماسكي الأيدي في شكل دائري وشرعوا في أداء رقصة النصر،كان علاء في جماعة أخرى يلقي شعرا ممنوعا في ذم القائد،وبين كل مقطع ومقطع كان متألقا، التفت إلى سميرة وصاح أمام الكل هذه حبيبتي.. هي المبتدأ والخبر في جملة حياتي وشرع في حرق صورة القائد التي اقتلعها من جدران الناقلة ....لا شيء غدا اليوم ممنوعا.
بقايا الخوف الجاثم على الصدور جعل السائق ينهي الوقفة، ويعود الركاب إلى مقاعدهم،وتتحرك الناقلة وسط هرج الركاب وأحاديثهم عن جرائم القائد وأسرته في حق أبناء الشعب وبناته....
تقترب الناقلة من المدينة ،عند المدخل كان هناك حاجزا أمنيا استوقف الحافلة، ليداهمها رجال أمن كثر ثم يقتادون الناقلة إلى دائرة الأمن،في الطريق سألوا الركاب:
ــ لماذا أبرزتم فرحكم برحيل القائد المعظم؟ من منكم أحرق صورته؟
عندئذ وضع علاء يده على يد سميرة وضغط عليها بحرارة،ومن عينيها الساحرتين سقطت دمعة كبيرة...كانت في حجم الوطن.
ومحطة المسافرين في هذا الوقت تجمع خليطا عجيبا من الناس ،مسافرون فرادى،أسرو جماعات،النشالون والشحاذون وبائعو الصحف، والباحثون خلسة عن قوتهم في جيوب المسافرين وأمتعتهم ،السكارى المترنحون الذين تقيأتهم الحانات والبيوت المهجورة جاؤوا ليختموا ليلتهم على صيد شارد في المحطة،يتمايلون وهم غارقون في هذيانهم المبهم...
على الرصيف الخارجي للمحطة أسفل صورة القائد المعظم بقايا أجساد بشرية متهالكة تغط في نوم مجاني ،تفترش الأرض وتلتحف سماء المحطة الملبدة بسحب الدخان الذي تنفثه محركات الناقلات بلا رحمة،ينتظرون أشعة الشمس لينتشروا في شوارع المدينة وأزقتها متسولين ومستعطفين....
حين اجتاز علاء الممر الرابط بين مقهى المحطة وأرصفتها ،تلمّس جيبه وسط الزحمة ليطمئن على حاله،كانت سميرة تسير أمامه بخفة،وهي تحاول أن تمسك بكل ثواني هذه اللحظات صورة وصوتا،كما يتمسك الطفل بلعبته المفضلة،فالأول مرة يسمح لها بالسفر مع صديقها علاء لمسافات طويلة بالرغم من كون علاقتهما قد توطّدت منذ سنوات الكلية ثم ماتلى ذلك من سنوات الضياع والبطالة والمعارك التي خاضاها محتجين ومعتصمين على أبواب الوزارات والإدارات...جلسا في مقعدهما
وبدت لحظات إنتظارإقلاع الناقلة تعبث بمشاعرهما ،عطرها كان أخاذاً وأنفاسها بدأت تبعث الدفء حولهما،أحسها قريبة حتى حدود الذوبان،ومع الصمت الذي يفرضه المكان غاص كل واحد في ذاته.
شرعت الناقلة في جمع أنفاسها وتعالى صوت محركها في فضاء المحطة،ثم تحركت ببطء بين الحافلات الكثيرة ،توقفت عند الرصيف الخارجي قبالة صورة القائد ليلحق بها بعض من تخلّفوا،ثم أخذت طريقها خارج المدينة،وحين شغّل السائق مذياع الناقلة ،كانت الإذاعة الوطنية تبث أدعية الصباح المعتادة
علاء يسبر أغوار ذاته بحثا عن كلمات تليق بمسمع سميرة في هذا السحر النديّ ،وحين تستقيم له العبارات لفتح الحديث تخونه آلية النطق ويحس نفسه قزما أمام هيبة سميرة وقوة شخصيتها،فيبتلع ريقه ويعود إلى الغوص في ذاته من جديد...
عجيب أمر هذا ال"علاء"؟إنه يتحدث معها في كل الموضوعات بلغة الخطيب المتمكن يأسرها بلغته الساحرة المتدفقة من نبع لا ينبض،يخوض معها في الثقافة والسياسة والعلوم،لكن حين يقترب من بركان حبه الخامد تنفض اللغة من حوله ولا يملك غير أن يبلع ريقه في انكسار...ويستسلم لهزيمته الدائمة...
فجأة تقطع الإذاعة برامجها وتبث موسيقى عسكرية ثم وبصوت أقرب إلى البكاء يأتي هذا البيان:
أيها المواطنون في فجر هذا اليوم التحق قائدنا المغفور له بالرفيق الأعلى على إثر حادثة سير مؤلمة،....
يرفع السائق صوت المذياع ويبدأ بث القرآن الكريم،وتسري بين الركاب حركة غير عادية ،هل هذه هي الإذاعة الوطنية ،يسأل أحدهم،يجيبه أكثر من واحد : البقاء لله،ويضيف علاء: وللشعب...
في المقاعد الخلفية شبان هزّهم الخبر بعنف،أخرج أحدهم مذياعا جيبيا وحين وضع مؤشره على إذاعة ال ب.ب.س وكانت الساعة الرابعة صباحا،جاء الخبر على رأس العناوين كلها:
توفي صباح اليوم بالمستشفى العسكري بالعاصمة الزعيم القومي عن سن تناهز المائة ،وقد قضى الراحل ثمانون سنة في حكم بلاده بالحديد والنار،وخاض معارك ضارية في مقاومة الفرح لدى شعوب الأرض،
ضجت الناقلة وانطلقت الألسن من عقالها ،ترجل علاء من مقعده وتوجه نحو السائق همس في أذنه ، وأخذت الناقلة تتوقف،
التفت السائق إلى المسافرين تعلو شفتيه ابتسامة عريضة وقال:
ـ توقف لخمس دقائق..
رد علاء بصوت يقطر رضا:
إن التاريخ نفسه عليه أن يتوقف ليرصد تفاصيل الحدث..
وابتسم الجميع ولمّا صاروا على الثرى كان الفرح يغمرهم،وانتشروا على جنبات الطريق جماعات،
بعض الشباب دون شعور وجدوا أنفسهم متماسكي الأيدي في شكل دائري وشرعوا في أداء رقصة النصر،كان علاء في جماعة أخرى يلقي شعرا ممنوعا في ذم القائد،وبين كل مقطع ومقطع كان متألقا، التفت إلى سميرة وصاح أمام الكل هذه حبيبتي.. هي المبتدأ والخبر في جملة حياتي وشرع في حرق صورة القائد التي اقتلعها من جدران الناقلة ....لا شيء غدا اليوم ممنوعا.
بقايا الخوف الجاثم على الصدور جعل السائق ينهي الوقفة، ويعود الركاب إلى مقاعدهم،وتتحرك الناقلة وسط هرج الركاب وأحاديثهم عن جرائم القائد وأسرته في حق أبناء الشعب وبناته....
تقترب الناقلة من المدينة ،عند المدخل كان هناك حاجزا أمنيا استوقف الحافلة، ليداهمها رجال أمن كثر ثم يقتادون الناقلة إلى دائرة الأمن،في الطريق سألوا الركاب:
ــ لماذا أبرزتم فرحكم برحيل القائد المعظم؟ من منكم أحرق صورته؟
عندئذ وضع علاء يده على يد سميرة وضغط عليها بحرارة،ومن عينيها الساحرتين سقطت دمعة كبيرة...كانت في حجم الوطن.
تعليق