إنها الخامسة فجرا , والوجع لا يستيقظ باكراً .. لأنه لا ينام ..!
الممر الطويل المنتهي بجدار تتكيء عليه أغصان شجيرة مزيفة فقدت نصف أوراقها بجوار برّادة ماء , يبدو ساكناً بارداً , بياض قطع السيراميك ولمعانها يعكس إضاءات السقف الصغيرة من تحت أقدام
" طيبة " التي تدثرت بعباءة ستان قروية , ـكومة مرمية في منتصف الممر , تظهر من بعيد وكأنها بقعة زيت تموج على بياض يعكسها صورةً باهتة تكاد تتطابق مع وجه مطفأ بأعين ذابلة وأنف محمّر وشفتين تفتقها لوثة التثاؤب على شكل مغارة هجرها النوم وماعاد يزورها منذ دخلت هذه المستشفى قبل ست سنوات ..!
" طيبة " التي تدثرت بعباءة ستان قروية , ـكومة مرمية في منتصف الممر , تظهر من بعيد وكأنها بقعة زيت تموج على بياض يعكسها صورةً باهتة تكاد تتطابق مع وجه مطفأ بأعين ذابلة وأنف محمّر وشفتين تفتقها لوثة التثاؤب على شكل مغارة هجرها النوم وماعاد يزورها منذ دخلت هذه المستشفى قبل ست سنوات ..!
ــ ابنتك مصابة باللوكيميا .
ــ اللو أيش ؟
ــ اللوكيميا . أيتها الممرضة ادخلي المريض التالي بسرعة وخذي هذه الأرواق إلى قسم التنويم .
ــ مدري وش تقول يادختور ,علمني بنتي بخير .
يلتفت الطبيب إلى " طيبة " ويسألها بضجر :
ــ ألا تعرفين ماهي اللوكيميا ؟
ــ لا والله .
ــ اللو أيش ؟
ــ اللوكيميا . أيتها الممرضة ادخلي المريض التالي بسرعة وخذي هذه الأرواق إلى قسم التنويم .
ــ مدري وش تقول يادختور ,علمني بنتي بخير .
يلتفت الطبيب إلى " طيبة " ويسألها بضجر :
ــ ألا تعرفين ماهي اللوكيميا ؟
ــ لا والله .
يقلب نظره في قطعة سواد تقابله لا يتضح منها إلا عيون محفوفة بسواد برقع وكف تضغط على أخرى في حالة قلق , تتنبه طيبة إلى نظرات الدكتور , تنكسر بخجل وتسارع بسحب كمي العباءة إلى أسفل .
ــ كيف وصلتِ إلينا يا أم ...... , وبعد نظرة متأففة إلى خانة اسم المريض يكمل , يا أم لولوة ؟!
ــ لما مرضت بنتي وديتها الوحدة الصحية عندنا في الديرة , وبعدماكشفوا عليها وحللوها , حولنا دختور الوحدة عندكم , لكن حسبي الله عليه ماحولنا إلا بعد ما شفط دم البنت من كثر مايعبون في هالقوارير من دمها وبعدين يقول مالها علاج عندنا .
ــ ألم يخبرك دكتور الوحدة الصحية بشيء ؟
ــ دختور الوحدة الصحية معروف في الديرة انه رجال مايتكلم , يالله انه يكشف ويكتب في هالادوية ويشفط في دما الناس , حتى إن أهل الديرة كلهم يسمونه الدختور الأبكم .
ــ دختور الوحدة الصحية معروف في الديرة انه رجال مايتكلم , يالله انه يكشف ويكتب في هالادوية ويشفط في دما الناس , حتى إن أهل الديرة كلهم يسمونه الدختور الأبكم .
يبتسم الطبيب وهو يجول بنظره على ورقة التحويل ليقرأ اسم المركز الذي وجهت منه حالة لولوة واسم الطبيب المعالج , وما تلبث أن تتوسع ابتسامته بضحكة مدوية تلقي به على كرسيه الدوّار :
ــ أبكم ؟!!!
ــ أبكم ؟!!!
ــ الله العالم يادختور يا إنه أبكم , يا إنه مايتنازل يتكلم معنا .
يبتلع ضحكته على مضض ..يلقي بعلكة ممضوغة في السلة بعد ما يطلب من الممرضة أن تتأخر في إدخال المريض التالي .. يعدل جلسته وكأنه يتأهب لحديث مهم :
ــ ابنتك لديها مشكلة في الدم ؟
تهب طيبة واقفة , تعري ذراعها السمراء كاملة من كم العباءة :
ــ فداها دمي يادختور , عطوها دمي , هو دختور الوحدة الصحية حسبي الله عليها خرب دم البنت .
ــ استريحي لوسمحت , المسألة لا تتوقف على التبرع .
تجلس طيبة على طرف المقعد متسمرة على حد الطاولة بعدما أخذ جسدها وضع التقدم الأمامي تراقب حركات الدكتور الذي لم يكف عن تقليب القلم بين يديه إلا ليقول :
ــ ابنتك تعاني من بياض الدم .
ــ بياض ؟!!!
ــ نعم .
ــ ...................
ــ خلايا الكريات البيضاء خرجت عن مسار نموها الطبيعي وأخذت وضعية شاذة
ــ شاذة ؟
ــ نعم , فبدلاً , من أن تنضج وتنمو لتؤدي وظائفها الطبيعية , أصبحت غير ناضجة و .. لحظة هل تعرفين ماهي وظائفها الطبيعية ؟
ــ منهي ؟
ــ كريات الدم البيضاء ؟
ــ لا .
يشير الطبيب بكفه " أن أنسي الأمر " , ويواصل حديثه لطيبة المشدودة إلى طاولته بعدما يخرج علكة جديدة من جيبه :
ــ هذه الخلايا الشاذة تنتشر في الدورة الدمو .......
ــ الشاذة ؟
يتأفف مواصلا :
ــ نعم الشاذة , تنتشر في الجهاز الدموي والليمفاوي , وتزدحم في النخاع بشكل يمنع .......
ــ النخاع ؟!
ــ نعم في النخاع , طبعا هذا يمنع نمو الخلايا الأخرى , وعندما تنقص الخلايا في الجسم بالتأكيد هذا يؤثر على وظائفها المهمة يا أم ....... قلت لي أم ايش ؟
ــ أم لولوة وأسميها لولو.
ــ نعم نعم يا أم لولو , طبعا أنتي عارفة اهمية كريات الدم البيضاء في المحافظة على مناعة الجسم من الأمراض , والخلايا الضارة
ــ الخلايا ؟
ينظر الطبيب إلى ساعته , يخلع نظارته , يفرك عينيه ,يضع النظارة متثائباً :
ــ فين وصلنا
ــ الخلايا .
ــ نعم , فالخلايا عندما تتكدس بشكل ضار يشكل هذا خطر كما تعرفين على انتاج الكريات الدموية الحمراء و الصفائح الدموية و كريات الدم البيضاء الطبيعية, وهذا يسمونه تبييض الدم .
ــ يعني بنتي عندها الدم الابيض .
ــ ابنتك عندها الســـــــرطان .
ــ ابنتك لديها مشكلة في الدم ؟
تهب طيبة واقفة , تعري ذراعها السمراء كاملة من كم العباءة :
ــ فداها دمي يادختور , عطوها دمي , هو دختور الوحدة الصحية حسبي الله عليها خرب دم البنت .
ــ استريحي لوسمحت , المسألة لا تتوقف على التبرع .
تجلس طيبة على طرف المقعد متسمرة على حد الطاولة بعدما أخذ جسدها وضع التقدم الأمامي تراقب حركات الدكتور الذي لم يكف عن تقليب القلم بين يديه إلا ليقول :
ــ ابنتك تعاني من بياض الدم .
ــ بياض ؟!!!
ــ نعم .
ــ ...................
ــ خلايا الكريات البيضاء خرجت عن مسار نموها الطبيعي وأخذت وضعية شاذة
ــ شاذة ؟
ــ نعم , فبدلاً , من أن تنضج وتنمو لتؤدي وظائفها الطبيعية , أصبحت غير ناضجة و .. لحظة هل تعرفين ماهي وظائفها الطبيعية ؟
ــ منهي ؟
ــ كريات الدم البيضاء ؟
ــ لا .
يشير الطبيب بكفه " أن أنسي الأمر " , ويواصل حديثه لطيبة المشدودة إلى طاولته بعدما يخرج علكة جديدة من جيبه :
ــ هذه الخلايا الشاذة تنتشر في الدورة الدمو .......
ــ الشاذة ؟
يتأفف مواصلا :
ــ نعم الشاذة , تنتشر في الجهاز الدموي والليمفاوي , وتزدحم في النخاع بشكل يمنع .......
ــ النخاع ؟!
ــ نعم في النخاع , طبعا هذا يمنع نمو الخلايا الأخرى , وعندما تنقص الخلايا في الجسم بالتأكيد هذا يؤثر على وظائفها المهمة يا أم ....... قلت لي أم ايش ؟
ــ أم لولوة وأسميها لولو.
ــ نعم نعم يا أم لولو , طبعا أنتي عارفة اهمية كريات الدم البيضاء في المحافظة على مناعة الجسم من الأمراض , والخلايا الضارة
ــ الخلايا ؟
ينظر الطبيب إلى ساعته , يخلع نظارته , يفرك عينيه ,يضع النظارة متثائباً :
ــ فين وصلنا
ــ الخلايا .
ــ نعم , فالخلايا عندما تتكدس بشكل ضار يشكل هذا خطر كما تعرفين على انتاج الكريات الدموية الحمراء و الصفائح الدموية و كريات الدم البيضاء الطبيعية, وهذا يسمونه تبييض الدم .
ــ يعني بنتي عندها الدم الابيض .
ــ ابنتك عندها الســـــــرطان .
رصاصة استقرت بين الضلوع, شهقت بالعينين في صرخة وجع مكتومة ,حملت طيبة قدميها ورحلت بعيدا عن مكتب الدكتور الذي انشغل باستعجال الممرضة لإدخال المريض الجديد.
شقت طيبة المستشفى مشلولة اللسان , باردة الأطراف , تسرّع خطوها وكأنها تريد اللحاق بموعد مهم في حين انها لم تكن تعرف إلى أين تذهب ولم تكن تبصر شيئا من بين زحام المارة الذين يتحاشون الاصطدام بها , مهرولة في طرق فارغة ومساحات بيضاء صماء ..
هذا ماكانت تراه طيبة إلى أن استوقفها جدارالممر الطويل المنتهي بشجيرة زينة مزيفة وبرّادة ماء , مدّت يدها المرتعشة , تحسست ورقة من الشجيرة , قطفتها نظرت إليها مليا ثم القت بها , أخرجت كوبا بلاستيكي فارغ, وضعته تحت صنبور البرّادة وقبل ضغطها عليه التفتت إلى صوت يأتي من أول الممر :
" ابنتك عندها الســـرطان "
تراجعت إلى الخلف , إلى أن وصلت إلى بداية الممر , ثم التفتت إلى صوت يأتي من آخر الممر :
" " ابنتك عندها الســـرطان "
تقدمت إلى حيث الشجيرة المزيفة وبرّادة الماء , اقتلعت ورقة ,أخرجت كوبا وضعته بجوار الكوب السابق
" ابنتك عندها الســـرطان "
عادت إلى نقطة البداية
" ابنتك عندها الســـرطان "
هرولت إلى النهاية ,إلى الشجيرة والبرّادة والكوب الثامن
" ابنتك عندها الســـرطان "
هذا ماكانت تراه طيبة إلى أن استوقفها جدارالممر الطويل المنتهي بشجيرة زينة مزيفة وبرّادة ماء , مدّت يدها المرتعشة , تحسست ورقة من الشجيرة , قطفتها نظرت إليها مليا ثم القت بها , أخرجت كوبا بلاستيكي فارغ, وضعته تحت صنبور البرّادة وقبل ضغطها عليه التفتت إلى صوت يأتي من أول الممر :
" ابنتك عندها الســـرطان "
تراجعت إلى الخلف , إلى أن وصلت إلى بداية الممر , ثم التفتت إلى صوت يأتي من آخر الممر :
" " ابنتك عندها الســـرطان "
تقدمت إلى حيث الشجيرة المزيفة وبرّادة الماء , اقتلعت ورقة ,أخرجت كوبا وضعته بجوار الكوب السابق
" ابنتك عندها الســـرطان "
عادت إلى نقطة البداية
" ابنتك عندها الســـرطان "
هرولت إلى النهاية ,إلى الشجيرة والبرّادة والكوب الثامن
" ابنتك عندها الســـرطان "
أكثر من ساعة وطيبة تصارع ذهابا وإيابا في خطو مارثوني محموم اختلط بكمية من الأوراق والأكواب انتثرت وتدحرجت من آخر الممر إلى بدايته , وطيبة ساقطة في المنتصف :
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
تكومت على نفسها تشهق ببكاء مرّ , والصوت الصادر من بين ضلوعها لا يكف عن :
" ابنتك عندها الســـرطان "
" ابنتك عندها الســـرطان "
**
إنها الخامسة فجرا في ذلك الممر البارد الذي لم تقضي على برودته ست سنوات مضت من حرقة دمع وحرائق تترمد بها كل يوم وهي تقطعه مع لولوة من أجل المراجعات وكورسات العلاج ممسكة بيدها بالأمس .. تحملها على ذارعها بعد الأمس..لتقطعه بكرسي متحرك قبل أن تفترشه اليوم في الخامسة فجراً مسندة ظهرها إلى جدار تتوسطه نافذة زجاجية كبيرة , تتشبث طيبة بالجدار تتوكأ على ركبتين أنهكها ترقب ست سنوات من الذهاب والإياب اكتسبت خلالها كثير من أسماء الأطباء وكثير من أسماء الأجهزة وكثير من مصطلحات " الطرق " المؤدية إلى الموت , لتخبر نساء القرية بأن لولو مصابة باللوكيميا دون أن تكترث بنظراتهن المتعجبة حين يعلقن عليها منبهرات " طيبة صارت تلطن افرنجي " , ودون أن تهتم بإخبارهن " ماذا تعني اللوكيميا " , فقط عندما تقف الآن في الساعة الخامسة وجعاً تنظر من خلف الزجاج إلى جسد صغير نحيل مشدود إلى أجهزة وأنابيب ,
تعرّفها طيبة كما تفهمها قروية وشفتيها المتشققة لا تكف عن النداء :
"لولو كيميا "
تعرّفها طيبة كما تفهمها قروية وشفتيها المتشققة لا تكف عن النداء :
"لولو كيميا "
بينما كان الطبيب المعالج في هذه اللحظة يقطع الممر مهرولا حاملا حقيبته ومعطفه , متحدثا إلى أهله على الهاتف :
" أيوه حبيتي أنا خلصت دوام وراجع الآن , اهم شي طمنيني الأولاد ناموا ,, غطيتهم .. طيب بوستهيم لي قبل مايناموا ................ "
" أيوه حبيتي أنا خلصت دوام وراجع الآن , اهم شي طمنيني الأولاد ناموا ,, غطيتهم .. طيب بوستهيم لي قبل مايناموا ................ "
سمعته طيبة , تماما كما سمعته في بداية تلك الليلة يخبرها على عجل :
" أم لولوة , خلاص وصلنا للمرحلة النهائية ربما تكون هذه الليلة هي الليلة الأخيرة لابنتك , اعملوا استعدادكم".
" أم لولوة , خلاص وصلنا للمرحلة النهائية ربما تكون هذه الليلة هي الليلة الأخيرة لابنتك , اعملوا استعدادكم".
عائشة الحسن
تعليق