مقدمة
لعله لا توجد كلمة في العربية أثارت جدلا بين الباحثين مثل كلمة تأويل. فهي الكلمة التي إمتازت بفتح الأفق وإكتشاف المثير والجديد، كما أنها هي نفسها التي أظهرت الطوائف الاسلامية بإختلافها الموضوعي وغير الموضوعي الذي وصل حد الإقتتال، كما هي بذاتها التي أخرجت المدارس النقدية المتميزة ودارت حولها أفكارها ومفاهيمها، وهي هي التي تثير جدلا واسعا الان بين مفكري العصر الحديث، وهي هي التي عن طريقها يبلغ الاديب والفقيه ذروة غاياته.
واللغة الصرفة في حد ذاتها تأويل ـ هكذا ـ دون نص معين أو محدد. وهذا يتضح من أمرين .. أولهما عمل اللغة الأساسي ودلالة مفرداتها، وثانيهما معنى التأويل في اللغة العربية.
فاللغة إشارة عن طريق المفردات يتضح بها معنى في ذهن المخاطب، ولكن الطريف في الامر أن هذا المعنى المراد لا يتحدد الا عن طريق الممارسة العملية للمخاطَب والمخاطِب .
فعند اللفظ بكلمة ما من شخص ما الى شخص آخر فإنه تتم عملية إرجاعية سريعة للكلمة في ذهن المخاطَب فتختلط بالممارسة وعندها يتحدد المفهوم. وهذا الأمر نفسه يحدث للمخاطِب ولكن بطريقة عكسية إذ تحدد الممارسة أولا شكل الكلمة التي يريد إخراجها وبعدها يخرج اللفظ محددا بممارسته.
والملاحظ هنا انه وحتى يتم التفاهم بين الطرفين لابد وأن تتقارب ممارستهما للكلمة المعينة، وما إختلاف الرأي إلا إختلاف ممارسة. إذن فاللغة أو بالأصح العبارة يتم فهمها عن طريق الارجاع للكلمة في مدركات وتجارب الذهن.
والتأويل في اللغة هو الارجاع. أوّلَ الشئ أي أرجعه، وآل إليه الشئ أي رجع إليه(1). ومن هنا يبرز كيف أن التأويل قد أتخذ له اصطلاحا معنى التفسير.. فكأن التأويل هو إرجاع للكلمة المرادة الى أصل أبعد من المعنى الحرفي لها. أي أن التأويل إرجاع أبعد من إرجاع المفردة العادية، أو قل هو إرجاع ثنائي، أولا يتم إرجاع الكلمة إلى الذهن لمعرفة معناها عن طريق الممارسة ـ كما أوضحنا سابقا ـ ثم يتم إرجاع المعنى الى ما وراء المعنى المصطلح عليه للتوصل الى ( معنى المعنى).
ولكن عمل التأويل الاساسي يكون في الجمل والمعاني عكس التفسير الذي يتعلق بشرح الالفاظ والمفردات(2) لهذا فقد إصطلحنا على الأول ( وهو تأويل اللغة الصرفة) على أنه تفسير. كما إصطلحنا على الثاني(وهو إرجاع المعنى ...) على أنه تأويل.
ويبرز هنا سؤال مهم وهو: ما الحوجة الى التأويل في الأساس بمعناه الثاني!؟
ولعل الحاجة اليه تكمن في حقيقة وخصائص اللغة العربية نفسها، فهي تمتلك خصائص لا توجد في أغلب لغات العالم التي نعرفها.. وأول هذه الخصائص تعلق المعنى بكلمة واحدة وتعلق الكلمة بمعنى واحد. فكل كلمة في العربية يقابلها معنى واحد لا تشترك معها فيه كلمة أخرى. ولقد إهتم الناطقين بالعربية القدماء بخلق مفردات جديدة لكل ما يحدث حولهم ـ أو لا يحدث. فالسير عندهم غير المشي، والجلوس لا ينطبق على القعود، والطرق ليس هو القرع.. وهكذا دواليك ..
ومن هذه الخاصية برزت خاصية أخرى وهي كثرة المفردات حتى جاز أن نقول أن العربية هي مجموعة لغات إتحدت في لغة واحدة، فنجد أن القبائل العربية القديمة كان فيها من لا يفهم مفردات القبائل الأخرى، ولقد سأل عمر بن الخطاب عن معنى (أبّا) في قول القرآن {وفاكهة وأبا} فقال ( لقد عرفنا الفاكهة فما الأب) رواه الطبري وقال عنه ابن كثير إسناد صحيح(3). والأمثلة كثيرة لا تعد على إختلافهم في الفهم وتعدد السنتهم حتى أنك لتمر على كلام (حمير) فلا تفهم منه شيئا ولقد خاطبهم الحديث النبوي المشهور بلغتهم فقال:(ليس من أمبر امصيام في أمسفر). أي ليس من البر الصيام في السفر. ولم يقتصر إختلافهم على المفردات بل تعدى الى القواعد وعمل الحروف .
وكان لولع العرب بالبلاغة أكبر الأثر في تفجير طاقات اللغة العربية وإخراج فنونها المختلفة فظهر التشبيه بأنواعه ثم تطور التشبيه الى إستعارة ثم المجاز فالكناية الخ .. وكانوا في كل فن يخرج من اللغة مباشرة متقدمين على من سواهم من الاجناس فبرعوا في الشعر حتى صار صفة لهم وبالغوا في الرجز واهتموا بالخطابة والرسائل الخ ..
والتأويل قبل كل شئ هو فن مجيد يضفي على المعنى اللغوي روحا وعلى السامع اللبيب طربا لا يدانيه طرب. وماكان لهم ـ وهم كذلك ـ أن يتوانوا عن إيجاده واللغة عندهم تحتمل ـ بما ذكرنا ـ ما لا تحتمله سواها.
وقد يبدو للوهلة الاولى أن هذا التبرير غير كافي لوجود التأويل، ولعل الاعتراض قد ينشأ من عمل اللغة الان، فهي لغة تهتم بالجوانب العلمية والمحددة، ولا تهتم بالجمال الا في أضيق نطاق. ولكن هذا الامر لم يكن هكذا قبل آلاف السنين، فما بالك بقوم لم يكن لهم من الحضارة شئ يذكر، ولم تكن لهم رغبة في صنعها، وهم في ضنك العيش مرتاحون له، غير مفكرين في تغييره، ولهم عاطفة تجرفهم للعيش في اسوأ مكان، تحيطه الصحراء على إمتداد الأفق، ولقد فارقتهم تعقيدات الحياة، وجانبهم تنظيم الدولة، وجافاهم توحد المجتمع.. وهم مع ذلك، كما يحدثنا صاحب المقدمة (ابن خلدون):
(أبعد الأمم عن سياسة الملك لأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش، فإستغنوا عن غيرهم فصعب إنقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش..)(4) .. كل هذا وغيره جعل لهم وقتا لم يقضوه في صنع حضارة ولا بناء أمة بل وفروه للغتهم فأخرجوا منها أصناف الفنون ولم يتوانوا في إضافة كل ما هو جميل حتى يعينهم على سوء حالهم.
ولن يكون هناك إعتراض كبير بعد أن نعرف أن ما صنعه العرب بلغتهم أشبه بحضارة اليونان وإهرامات النوبيين وعلوم العصر الحديث ـ كل في حقله.
ولكن الحقيقة التي يجب توضيحها هي أن اللغة العربية بقواعدها ونحوها وبلاغتها وبكل خصائصها هي لغة جمالية في المقام الاول، لغة تهتم بالشكل إهتماما يفوق أي لغة أخرى. وهي بـ(جمالياتها) هذه تكاد أن تكون معطلة للحياة في شكلها المادي المعاصر.
لهذا ليس بغريب أن تصبح اللغة العربية اليوم لغة لا يتحدث بها أحد اليوم، ولغة مهملة من أهلها. لا أعني بالطبع أن اللغة العربية لا وجود لها في الحياة تماما كما حدث للهروغلوفية وللإغريقية القديمة(اللاتينية) وأمثالهما.. ولكن اللغة العربية وإن كانت هي لغة (الكتابة والأخبار والصحف الخ...) الا انها فقدت أهم خاصية للغة وهي التخاطب اليومي بين ناطقيها كما أنها في وسائل الاعلام التي ذكرنا صار الاهتمام بها موضوعيا أكثر من انه شكلي. فكثير ما طالعنا علماء اللغة بسخطهم مما يحدث في وسائل الاعلام من أخطاء لغوية وكلهم ينشد مع حافظ على لسان اللغة العربية قوله :
أرى كل يوم في الجرائد مزلقا
يدنيني الى القبر بغير أناة
وإثر هذا الموت الذي صاحب اللغة العربية برزت إشكالات جديدة تمثلت في فقدان الرابط الذي يربط(المخاطَب)بـ(المخاطِب) فزادت هوة الخلاف، ونشب الصراع الدامي في كل الميادين (الدينية، الثقافية، الفكرية، السياسية الخ...) وصار كل فريق يدعي العلم ويجهّل الآخرين.
ولعل هذا الصراع ينقسم في الاساس الى شقين، الاول هو الشق الكلاسيكي الذي يطالب بالالتزام باللغة حرفيا والرجوع اليها كليا وجعلها تبعث من جديد. والاخر هو الشق التجديدي الذي يرى ضرورة تطور اللغة وتقبل الواقع الجديد.
وينقسم أي من الفريقين الى عدة فرق، فالفريق الاول ـ الكلاسيكي ـ ينقسم الى فرق كلاسيكية مرنة وفرق كلاسيكية متشددة. وينقسم التجديديون الى تجديديين يرون الاشكال في اللغة نفسها وأنها صارت غير مجدية، وآخر (ترميمي)(5) يرى أن الخلل يكمن في الشكل فقط وأنه يمكن إصلاحه.
ولا يظنن ظان أن هذا الاشكال قد برز لتوه في العصر الحديث بل كانت جذوره في الماضي ضاربة كما أشرنا في البداية الى علاقة الدلالة وبروز الطوائف الدينية ولكنه في العصر القديم قد إختلف عن العصر الحديث. فهو هناك كان صراع داخل اللغة، يلتزم بها ويقر بمرجعيتها الفقهية. اما في العصر الحديث فلقد صار صراع (لغى) ومدارس فكرية لها ارتباط باجناس مختلفة ولغى أخرى.
وتزداد الهوة إتساعا بين الفرق عندما يتعلق الإشكال (بكلمة) واحدة داخل اللغة التي هي محل خلاف أصلا.
كما تزداد الهوة أيضا عندما يتعلق الاشكال بشكل أدبي له حصانته التاريخية واللغوية اللذين هما موضع خلاف أيضا ..
الأول هو صراع التأويل، والثاني هو خلاف الشعر. من هنا كانت الحاجة واضحة للتصدي لهذه المشكلة عن طريق النقاش والحوار والتفكير الحر حتى يتسنى لنا الخروج من هذا المأزق الحرج الذي نمر به منذ ألف عام ونيف، هذا في مجال التأويل. ومنذ ما يقارب المائة عام، هذا في مجال الشعر.
هذه الورقة تهدف في المقام الأول لتوضيح فكرة هي خلاصة تجربة صغيرة جدا في النقاش والقرأة(لـ ،ومع) مختلف الاراء والمدارس الدينية والفنية والفكرية وهي فكرة قد صاغها في الذهن كل هذا ثم قد صاغها الحوار الجاد مع الأصدقاء ومع الذين كانت ممارستهم وتجاربهم في هذه الحقول تفوق الكاتب مئات المرات ولكني رأيت أن التعبير أفضل الوسائل وأقربها لزيادة الفهم .. أو كما يقول السادة الصوفية :(المرء مطوي تحت لسانه) وقولهم:( تحدثوا تعرفوا)...ولقد كان تأويلي الشخصي للمقولة الثانية(أن تحدثوا للعلماء تعرفوا بجهلكم، فيتم تصحيحكم).
وإن كان في ظني أن النقاش والحوار الغرض الأساسي منه هو (الإمتاع الذهني)، وهو غاية الانسان الحر المفكر، أو، الانسان المفكر الحر، الا ان هذا الامتاع الذهني لا يتم بمعزل عن البحث الجاد لخير الانسانية ومصلحتها. فذروة المتعة هي بسمة في وجه إنسان، ومصلحة توصلها له، وخيرا أنت سببه.
ما نحاول إيصاله في هذه الورقة ينتصر في الاساس للتجديد مع إبراز عيوبه في الطرح وإيجابياته. ويرفض المنهج الكلاسيكي مع التأكيد على جودة بعض اطروحاته ومماشاتها مع الواقع الحالي. ولكنها على أي حال ليست ورقة توفيقية فهي تنتمي كما أسلفنا الى مدرسة التجديد في الأساس ... ولكنه ليس إنتماء أكمه، أعماها عن سلبيات وايجابيات المدرستين.
وليس من سبيل لتوضيح فكرة الورقة ـ أكثر من ذلك ـ سوى مطالعتها والوقوف على جوانبها المختلفة، وإني لأرجو أن اكون موفقا في توضيحي .
وقبل ختام هذه المقدمة أحب أن أشير الى أمر مهم ستطرق له هذه الورقة في متنها ولكن وجبت الاشارة له هنا لأهميته وعلاقته الوطيدة بموضوع الورقة... وهو أمر القرآن الذي هو بين دفتي المصحف الان . فهذا القرآن قد نزل بإجماع أهل اللغة والفقه بلغة العرب ـ أي أنه نزل بالعربية. ولكن لا بد للتنبيه الى أن هذا لا يعني قط أنه عربي !! وانما وجب التفريق بين نزوله بالعربية وبين حقيقته التي هو عليها. ففي القرآن كثير من الكلمات غير عربية مثل كلمة (مشكاة) والتي تعني الكوة بلغة الحبش(6). وكلمة (قسورة) وهي أيضا كلمة حبشية وتعني الأسد(7). وأمثالهما كثر. كما أنه لا يخفى أن كل أسامي الأنبياء التي وردت في القرآن غير عربية هذا عدا ( محمد ، صالح ). كما أن القرآن يبدأ تسع وعشرون سورة، على اربع عشرة تشكيلة غير عربية وهي:(ألم، المص، الر، المر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن). ولقد أجمع مفسرو القرآن على تعذر تفسيرها(8) (أي أن لا معنى لها في العربية، ولا مدلول محدد لها). وهذا لا يعني أن القرآن لا يفسر باللغة العربية، ولكنه يعني أن للقرآن طرق للفهم تختلف وتتنوع، والتفسير إحداها وليس كلها. قال ابن عباس في قول القرآن(أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال : الماء هو القرآن والأودية قلوب العباد(9). وهذا ليس بتفسير بل تأويل للمعنى الذي تعطيه اللغة ويعطيه التفسير.
إذن فاللغة لا تفك أسرار النص القرآني، تماما كما أنها لا تفك أسرار النص الأدبي... فكلاهما ـ بإختلاف درجاتهما ـ فوق اللغة من حيث التفسير.
وهذا أمر نتركه للورقة حتى لا نحمل هذه المقدمة ما لا تحتمل.
وقبل ختام هذه المقدمة أحب أن أشكر أصدقائي الذين كان لحواراتهم, الجادة والمثمرة، فضلا كبيرا لتشكيل وعيي الحاضر ودافعا مهما لكتابة هذه الورقة وأخص بالذكر الصديق الشاعر (مامون الفاتح التلب) الذي وجدت فيه صدرا رحبا ورأيا سديدا وأذن صدق واعية. كما أشكر الصديق (عبدالرحمن عثمان "عبودي")
ذلك الفتى الذي قد جاء قبل الأوان...في زمن يرحل فيه الأفذاذ قبل الاوان. ولقد كانت لحوارات الصديق (شريف محمد عثمان) أثرا واضحا داخل هذه الورقة.. فله شكري وتقديري .
كما أحب أن أشكر الأساتذة الأجلاء (علي الزبير)، الذي تقدم بإضافات واسعة أفادتني كثيرا، ووالدي الأستاذ (مجدي سليم) على قرأته للفصل الأول من هذه الورقة قبل طبعها، وخالي الاستاذ (الطيب عبد الرحيم) الذي أفادني بتوفير وقته ومكتبته الخاصة.
كما أشكر كل من ساعدني بتشجيعه ورأيه لتكميل هذا العمل المتواضع .
قصي مجدي سليم/ ود مدني / أغسطس (2004)
هوامش المقدمة
1/المعجم الوجيز :ص30
2/ الموسوعة الفلسفية العربية، عاطف العراقي ، كلمة تأويل ، ص207،الجزء الأول
3/تفسير القرآن العظيم،إبن كثير،المجلد الرابع،ص543
4/ابن خلدون، المختار من المقدمة،ص99
5/الترميميون .. مصطلح أخذناه من الأستاذ الباقر العفيف وكان يقصد به رجال الدين الترميميين الذين لا يرون الاشكال في الفقه نفسه بل يطالبون بالبناء على ما سبق.ورأينا ان المصطلح يؤدي دوره هنا بنفس الصورة التي إرتأها الاستاذ الباقر.
6/ابن كثير/سبق ذكره،ص347، المجلد الثالث.
7/المصدر السابق،ص513،المجلدالرابع.
8/راجع ابن كثير مصدر سابق ، والشوكاني فتح القدير،المجلد الاول،تفسير أول سورة البقرة.
9/راجع تفسير القرطبي.. سورة الرعد آية رقم 17.
لعله لا توجد كلمة في العربية أثارت جدلا بين الباحثين مثل كلمة تأويل. فهي الكلمة التي إمتازت بفتح الأفق وإكتشاف المثير والجديد، كما أنها هي نفسها التي أظهرت الطوائف الاسلامية بإختلافها الموضوعي وغير الموضوعي الذي وصل حد الإقتتال، كما هي بذاتها التي أخرجت المدارس النقدية المتميزة ودارت حولها أفكارها ومفاهيمها، وهي هي التي تثير جدلا واسعا الان بين مفكري العصر الحديث، وهي هي التي عن طريقها يبلغ الاديب والفقيه ذروة غاياته.
واللغة الصرفة في حد ذاتها تأويل ـ هكذا ـ دون نص معين أو محدد. وهذا يتضح من أمرين .. أولهما عمل اللغة الأساسي ودلالة مفرداتها، وثانيهما معنى التأويل في اللغة العربية.
فاللغة إشارة عن طريق المفردات يتضح بها معنى في ذهن المخاطب، ولكن الطريف في الامر أن هذا المعنى المراد لا يتحدد الا عن طريق الممارسة العملية للمخاطَب والمخاطِب .
فعند اللفظ بكلمة ما من شخص ما الى شخص آخر فإنه تتم عملية إرجاعية سريعة للكلمة في ذهن المخاطَب فتختلط بالممارسة وعندها يتحدد المفهوم. وهذا الأمر نفسه يحدث للمخاطِب ولكن بطريقة عكسية إذ تحدد الممارسة أولا شكل الكلمة التي يريد إخراجها وبعدها يخرج اللفظ محددا بممارسته.
والملاحظ هنا انه وحتى يتم التفاهم بين الطرفين لابد وأن تتقارب ممارستهما للكلمة المعينة، وما إختلاف الرأي إلا إختلاف ممارسة. إذن فاللغة أو بالأصح العبارة يتم فهمها عن طريق الارجاع للكلمة في مدركات وتجارب الذهن.
والتأويل في اللغة هو الارجاع. أوّلَ الشئ أي أرجعه، وآل إليه الشئ أي رجع إليه(1). ومن هنا يبرز كيف أن التأويل قد أتخذ له اصطلاحا معنى التفسير.. فكأن التأويل هو إرجاع للكلمة المرادة الى أصل أبعد من المعنى الحرفي لها. أي أن التأويل إرجاع أبعد من إرجاع المفردة العادية، أو قل هو إرجاع ثنائي، أولا يتم إرجاع الكلمة إلى الذهن لمعرفة معناها عن طريق الممارسة ـ كما أوضحنا سابقا ـ ثم يتم إرجاع المعنى الى ما وراء المعنى المصطلح عليه للتوصل الى ( معنى المعنى).
ولكن عمل التأويل الاساسي يكون في الجمل والمعاني عكس التفسير الذي يتعلق بشرح الالفاظ والمفردات(2) لهذا فقد إصطلحنا على الأول ( وهو تأويل اللغة الصرفة) على أنه تفسير. كما إصطلحنا على الثاني(وهو إرجاع المعنى ...) على أنه تأويل.
ويبرز هنا سؤال مهم وهو: ما الحوجة الى التأويل في الأساس بمعناه الثاني!؟
ولعل الحاجة اليه تكمن في حقيقة وخصائص اللغة العربية نفسها، فهي تمتلك خصائص لا توجد في أغلب لغات العالم التي نعرفها.. وأول هذه الخصائص تعلق المعنى بكلمة واحدة وتعلق الكلمة بمعنى واحد. فكل كلمة في العربية يقابلها معنى واحد لا تشترك معها فيه كلمة أخرى. ولقد إهتم الناطقين بالعربية القدماء بخلق مفردات جديدة لكل ما يحدث حولهم ـ أو لا يحدث. فالسير عندهم غير المشي، والجلوس لا ينطبق على القعود، والطرق ليس هو القرع.. وهكذا دواليك ..
ومن هذه الخاصية برزت خاصية أخرى وهي كثرة المفردات حتى جاز أن نقول أن العربية هي مجموعة لغات إتحدت في لغة واحدة، فنجد أن القبائل العربية القديمة كان فيها من لا يفهم مفردات القبائل الأخرى، ولقد سأل عمر بن الخطاب عن معنى (أبّا) في قول القرآن {وفاكهة وأبا} فقال ( لقد عرفنا الفاكهة فما الأب) رواه الطبري وقال عنه ابن كثير إسناد صحيح(3). والأمثلة كثيرة لا تعد على إختلافهم في الفهم وتعدد السنتهم حتى أنك لتمر على كلام (حمير) فلا تفهم منه شيئا ولقد خاطبهم الحديث النبوي المشهور بلغتهم فقال:(ليس من أمبر امصيام في أمسفر). أي ليس من البر الصيام في السفر. ولم يقتصر إختلافهم على المفردات بل تعدى الى القواعد وعمل الحروف .
وكان لولع العرب بالبلاغة أكبر الأثر في تفجير طاقات اللغة العربية وإخراج فنونها المختلفة فظهر التشبيه بأنواعه ثم تطور التشبيه الى إستعارة ثم المجاز فالكناية الخ .. وكانوا في كل فن يخرج من اللغة مباشرة متقدمين على من سواهم من الاجناس فبرعوا في الشعر حتى صار صفة لهم وبالغوا في الرجز واهتموا بالخطابة والرسائل الخ ..
والتأويل قبل كل شئ هو فن مجيد يضفي على المعنى اللغوي روحا وعلى السامع اللبيب طربا لا يدانيه طرب. وماكان لهم ـ وهم كذلك ـ أن يتوانوا عن إيجاده واللغة عندهم تحتمل ـ بما ذكرنا ـ ما لا تحتمله سواها.
وقد يبدو للوهلة الاولى أن هذا التبرير غير كافي لوجود التأويل، ولعل الاعتراض قد ينشأ من عمل اللغة الان، فهي لغة تهتم بالجوانب العلمية والمحددة، ولا تهتم بالجمال الا في أضيق نطاق. ولكن هذا الامر لم يكن هكذا قبل آلاف السنين، فما بالك بقوم لم يكن لهم من الحضارة شئ يذكر، ولم تكن لهم رغبة في صنعها، وهم في ضنك العيش مرتاحون له، غير مفكرين في تغييره، ولهم عاطفة تجرفهم للعيش في اسوأ مكان، تحيطه الصحراء على إمتداد الأفق، ولقد فارقتهم تعقيدات الحياة، وجانبهم تنظيم الدولة، وجافاهم توحد المجتمع.. وهم مع ذلك، كما يحدثنا صاحب المقدمة (ابن خلدون):
(أبعد الأمم عن سياسة الملك لأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش، فإستغنوا عن غيرهم فصعب إنقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش..)(4) .. كل هذا وغيره جعل لهم وقتا لم يقضوه في صنع حضارة ولا بناء أمة بل وفروه للغتهم فأخرجوا منها أصناف الفنون ولم يتوانوا في إضافة كل ما هو جميل حتى يعينهم على سوء حالهم.
ولن يكون هناك إعتراض كبير بعد أن نعرف أن ما صنعه العرب بلغتهم أشبه بحضارة اليونان وإهرامات النوبيين وعلوم العصر الحديث ـ كل في حقله.
ولكن الحقيقة التي يجب توضيحها هي أن اللغة العربية بقواعدها ونحوها وبلاغتها وبكل خصائصها هي لغة جمالية في المقام الاول، لغة تهتم بالشكل إهتماما يفوق أي لغة أخرى. وهي بـ(جمالياتها) هذه تكاد أن تكون معطلة للحياة في شكلها المادي المعاصر.
لهذا ليس بغريب أن تصبح اللغة العربية اليوم لغة لا يتحدث بها أحد اليوم، ولغة مهملة من أهلها. لا أعني بالطبع أن اللغة العربية لا وجود لها في الحياة تماما كما حدث للهروغلوفية وللإغريقية القديمة(اللاتينية) وأمثالهما.. ولكن اللغة العربية وإن كانت هي لغة (الكتابة والأخبار والصحف الخ...) الا انها فقدت أهم خاصية للغة وهي التخاطب اليومي بين ناطقيها كما أنها في وسائل الاعلام التي ذكرنا صار الاهتمام بها موضوعيا أكثر من انه شكلي. فكثير ما طالعنا علماء اللغة بسخطهم مما يحدث في وسائل الاعلام من أخطاء لغوية وكلهم ينشد مع حافظ على لسان اللغة العربية قوله :
أرى كل يوم في الجرائد مزلقا
يدنيني الى القبر بغير أناة
وإثر هذا الموت الذي صاحب اللغة العربية برزت إشكالات جديدة تمثلت في فقدان الرابط الذي يربط(المخاطَب)بـ(المخاطِب) فزادت هوة الخلاف، ونشب الصراع الدامي في كل الميادين (الدينية، الثقافية، الفكرية، السياسية الخ...) وصار كل فريق يدعي العلم ويجهّل الآخرين.
ولعل هذا الصراع ينقسم في الاساس الى شقين، الاول هو الشق الكلاسيكي الذي يطالب بالالتزام باللغة حرفيا والرجوع اليها كليا وجعلها تبعث من جديد. والاخر هو الشق التجديدي الذي يرى ضرورة تطور اللغة وتقبل الواقع الجديد.
وينقسم أي من الفريقين الى عدة فرق، فالفريق الاول ـ الكلاسيكي ـ ينقسم الى فرق كلاسيكية مرنة وفرق كلاسيكية متشددة. وينقسم التجديديون الى تجديديين يرون الاشكال في اللغة نفسها وأنها صارت غير مجدية، وآخر (ترميمي)(5) يرى أن الخلل يكمن في الشكل فقط وأنه يمكن إصلاحه.
ولا يظنن ظان أن هذا الاشكال قد برز لتوه في العصر الحديث بل كانت جذوره في الماضي ضاربة كما أشرنا في البداية الى علاقة الدلالة وبروز الطوائف الدينية ولكنه في العصر القديم قد إختلف عن العصر الحديث. فهو هناك كان صراع داخل اللغة، يلتزم بها ويقر بمرجعيتها الفقهية. اما في العصر الحديث فلقد صار صراع (لغى) ومدارس فكرية لها ارتباط باجناس مختلفة ولغى أخرى.
وتزداد الهوة إتساعا بين الفرق عندما يتعلق الإشكال (بكلمة) واحدة داخل اللغة التي هي محل خلاف أصلا.
كما تزداد الهوة أيضا عندما يتعلق الاشكال بشكل أدبي له حصانته التاريخية واللغوية اللذين هما موضع خلاف أيضا ..
الأول هو صراع التأويل، والثاني هو خلاف الشعر. من هنا كانت الحاجة واضحة للتصدي لهذه المشكلة عن طريق النقاش والحوار والتفكير الحر حتى يتسنى لنا الخروج من هذا المأزق الحرج الذي نمر به منذ ألف عام ونيف، هذا في مجال التأويل. ومنذ ما يقارب المائة عام، هذا في مجال الشعر.
هذه الورقة تهدف في المقام الأول لتوضيح فكرة هي خلاصة تجربة صغيرة جدا في النقاش والقرأة(لـ ،ومع) مختلف الاراء والمدارس الدينية والفنية والفكرية وهي فكرة قد صاغها في الذهن كل هذا ثم قد صاغها الحوار الجاد مع الأصدقاء ومع الذين كانت ممارستهم وتجاربهم في هذه الحقول تفوق الكاتب مئات المرات ولكني رأيت أن التعبير أفضل الوسائل وأقربها لزيادة الفهم .. أو كما يقول السادة الصوفية :(المرء مطوي تحت لسانه) وقولهم:( تحدثوا تعرفوا)...ولقد كان تأويلي الشخصي للمقولة الثانية(أن تحدثوا للعلماء تعرفوا بجهلكم، فيتم تصحيحكم).
وإن كان في ظني أن النقاش والحوار الغرض الأساسي منه هو (الإمتاع الذهني)، وهو غاية الانسان الحر المفكر، أو، الانسان المفكر الحر، الا ان هذا الامتاع الذهني لا يتم بمعزل عن البحث الجاد لخير الانسانية ومصلحتها. فذروة المتعة هي بسمة في وجه إنسان، ومصلحة توصلها له، وخيرا أنت سببه.
ما نحاول إيصاله في هذه الورقة ينتصر في الاساس للتجديد مع إبراز عيوبه في الطرح وإيجابياته. ويرفض المنهج الكلاسيكي مع التأكيد على جودة بعض اطروحاته ومماشاتها مع الواقع الحالي. ولكنها على أي حال ليست ورقة توفيقية فهي تنتمي كما أسلفنا الى مدرسة التجديد في الأساس ... ولكنه ليس إنتماء أكمه، أعماها عن سلبيات وايجابيات المدرستين.
وليس من سبيل لتوضيح فكرة الورقة ـ أكثر من ذلك ـ سوى مطالعتها والوقوف على جوانبها المختلفة، وإني لأرجو أن اكون موفقا في توضيحي .
وقبل ختام هذه المقدمة أحب أن أشير الى أمر مهم ستطرق له هذه الورقة في متنها ولكن وجبت الاشارة له هنا لأهميته وعلاقته الوطيدة بموضوع الورقة... وهو أمر القرآن الذي هو بين دفتي المصحف الان . فهذا القرآن قد نزل بإجماع أهل اللغة والفقه بلغة العرب ـ أي أنه نزل بالعربية. ولكن لا بد للتنبيه الى أن هذا لا يعني قط أنه عربي !! وانما وجب التفريق بين نزوله بالعربية وبين حقيقته التي هو عليها. ففي القرآن كثير من الكلمات غير عربية مثل كلمة (مشكاة) والتي تعني الكوة بلغة الحبش(6). وكلمة (قسورة) وهي أيضا كلمة حبشية وتعني الأسد(7). وأمثالهما كثر. كما أنه لا يخفى أن كل أسامي الأنبياء التي وردت في القرآن غير عربية هذا عدا ( محمد ، صالح ). كما أن القرآن يبدأ تسع وعشرون سورة، على اربع عشرة تشكيلة غير عربية وهي:(ألم، المص، الر، المر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن). ولقد أجمع مفسرو القرآن على تعذر تفسيرها(8) (أي أن لا معنى لها في العربية، ولا مدلول محدد لها). وهذا لا يعني أن القرآن لا يفسر باللغة العربية، ولكنه يعني أن للقرآن طرق للفهم تختلف وتتنوع، والتفسير إحداها وليس كلها. قال ابن عباس في قول القرآن(أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال : الماء هو القرآن والأودية قلوب العباد(9). وهذا ليس بتفسير بل تأويل للمعنى الذي تعطيه اللغة ويعطيه التفسير.
إذن فاللغة لا تفك أسرار النص القرآني، تماما كما أنها لا تفك أسرار النص الأدبي... فكلاهما ـ بإختلاف درجاتهما ـ فوق اللغة من حيث التفسير.
وهذا أمر نتركه للورقة حتى لا نحمل هذه المقدمة ما لا تحتمل.
وقبل ختام هذه المقدمة أحب أن أشكر أصدقائي الذين كان لحواراتهم, الجادة والمثمرة، فضلا كبيرا لتشكيل وعيي الحاضر ودافعا مهما لكتابة هذه الورقة وأخص بالذكر الصديق الشاعر (مامون الفاتح التلب) الذي وجدت فيه صدرا رحبا ورأيا سديدا وأذن صدق واعية. كما أشكر الصديق (عبدالرحمن عثمان "عبودي")
ذلك الفتى الذي قد جاء قبل الأوان...في زمن يرحل فيه الأفذاذ قبل الاوان. ولقد كانت لحوارات الصديق (شريف محمد عثمان) أثرا واضحا داخل هذه الورقة.. فله شكري وتقديري .
كما أحب أن أشكر الأساتذة الأجلاء (علي الزبير)، الذي تقدم بإضافات واسعة أفادتني كثيرا، ووالدي الأستاذ (مجدي سليم) على قرأته للفصل الأول من هذه الورقة قبل طبعها، وخالي الاستاذ (الطيب عبد الرحيم) الذي أفادني بتوفير وقته ومكتبته الخاصة.
كما أشكر كل من ساعدني بتشجيعه ورأيه لتكميل هذا العمل المتواضع .
قصي مجدي سليم/ ود مدني / أغسطس (2004)
هوامش المقدمة
1/المعجم الوجيز :ص30
2/ الموسوعة الفلسفية العربية، عاطف العراقي ، كلمة تأويل ، ص207،الجزء الأول
3/تفسير القرآن العظيم،إبن كثير،المجلد الرابع،ص543
4/ابن خلدون، المختار من المقدمة،ص99
5/الترميميون .. مصطلح أخذناه من الأستاذ الباقر العفيف وكان يقصد به رجال الدين الترميميين الذين لا يرون الاشكال في الفقه نفسه بل يطالبون بالبناء على ما سبق.ورأينا ان المصطلح يؤدي دوره هنا بنفس الصورة التي إرتأها الاستاذ الباقر.
6/ابن كثير/سبق ذكره،ص347، المجلد الثالث.
7/المصدر السابق،ص513،المجلدالرابع.
8/راجع ابن كثير مصدر سابق ، والشوكاني فتح القدير،المجلد الاول،تفسير أول سورة البقرة.
9/راجع تفسير القرطبي.. سورة الرعد آية رقم 17.
تعليق