بصمة رصاصة... رزيقة حزير

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رزيقة حزير
    عضو الملتقى
    • 24-07-2009
    • 225

    بصمة رصاصة... رزيقة حزير

    بـصـمــة رصــاصــة

    تمرّ عليه كلّ صباح وهو جالس في دكانه الصّغير الذّي يبيع فيه لوازم التّنظيف، تلهب سيجارته قلبه لهبا كلّما رأتها، تظلّ تلاحقها بدخانها ناشرة رائحته على خصلات شعرها الطّويل وثوبها الجميل.. يخرج مسرعا من دكانه إلى حافة الطّريق، يتطلّع في تيه.. ينام متكئا على عمود الكهرباء ولا شيء يؤلمه سوى عويل قلبه الذّي لا يريد أن يصحو من غفوته..
    - لن أرى نور السّعادة إلاّ في العيش بجوارها!
    تبادله نظرات المودّة، تغيّر من طريقة مشيتها، تنساب في الطّريق انسياب أفعى ناعمة.. تدعوه إلى التّمتع بمرور سحبها التي ترسم تلال الصّفاء والبهاء، تثير فيه الرّغبة في اصطيادها.. تتدفق الفرحة من أعماقه الشّابة، يسافر بأحلامه في جوف النّهار.. يصرخ عاليا:
    - يا رب.. هذه الزّهرة دوّخت جملة ألوانها عقلي!
    لما ربح في تجارته.. بنى بيتا جميلا ترامت أطرافه على سكون أرض خضراء بولاية "تيبازة" (1) السّاحلية.. تزيّنه حديقة تنوعت الأزّهار فيها واختلفت أحجام نباتاتها الخضراء. تتوسط هذه الحديقة طاولة مستطيلة الشّكل، بيضاء اللّون تحوم حولها ستّة كراسي مريحة، ﹸخصّصت لارتشاف قهوة الصّباح والمساء.
    قرر زيارة أهلها، عرض عليهم عمره متوسّلا:
    - أنا تائه وسط حياة لا قيمة لها بدون نصفي الثّاني.
    فرط في تدليلهم، حقق كلّ طلباتهم وأمنياتهم.. دون أي اعتراض ردوا عليه:
    - إنّك الرّجل المناسب لابنتنا المدللة.
    **********
    تحوّل الحّي إلى جزيرة ساحرة الجمال بشواطئها الذّهبية الخلاّبة، ﹸزيّن الطّريق الذّي شهد نظراتهما الأولى بالمصابيح الملوّنة، ظهر ببذلة أنيقة، غدت رائحة "الكسكسى"(2) باللّحم والخضار تداهم الشّوارع والبيوت دون استئذان. أطلقت النّساء زغاريد عالية معلنة عن بدأ صفحة جديدة في حياته.
    تنثر حبها على قلبه كلّ صباح، يرمقها بنظرات أدركت ما تتمناه، يتأمّل ملابسها ذات الألوان المتناسقة.. عينيها المشرقتين كابتسامات فجر جميل.. يهمس في قلبها:
    -إنّني أحلم، إنّها أسعد لحظات عمري يا حياتي!
    يشكر الله على سخائه معه، يمضي إلى شأنه..
    كلّما نظر خارج دكانه يتذكر خطواتها السّاحرة، يخلوا العالم أمامه من كلّ شيء إلاّ من عطرها.. صورتها.. ضحكتها، يعود إلى البيت مسرعا ليداعب طفولته، ينعم بظلال ألوان أشجار حديقته، يلجأ كفرخ إلى أحضان أمّه.. يعاود ترتيب مشاعره.. دخان سيجارته، يعلّق نكتة على شفاه زوجته، يرجع إلى دكانه الصّغير.
    كان يستعد لمغادرة مقعده عندما سمع جنون الرّصاص ينثر ناره في كلّ مكان، يخرج مسرعا..
    - إنّها حالة حصار..!
    يأمره أحد الجنود بالدّخول، يرتطم بمقعد.. يرتعد جسده، يهتز كيانه.. تشل حركاته.. يلتحف الرّعب كمن لم يتعود على المذابح الدّموية، يتسرب إلى أذنيه صراخ النّساء وبكاء الأطفال، يشتم رائحة دخان الرّصاص، ترتعش شفتاه، تحلّق ذاكرته.. يزوره موت والدته.. مقتل والده وشقيقته.. يتمتم بكلمات متقطّعة:
    - اللّهم لتحفظ لي زوجتي من نار هذه الفتنة.
    بعد ساعتين يهب سكون الموت، يهطل الحزن على الحي، يغادر مكانه بخطوات متثاقلة.. يخرج.. يلتفت في كلّ الاتجاهات، يرمق بحسرة صوّر المنازل.. النّوافذ والأبواب موصدة.. آثار العاصفة تطفو في كلّ مكان حتى على الجدران، يتذكر زوجته، ينطلق إلى بيته بقلب يفيض قلقا.
    يتطلّع إلى منزله متفحصا، يبحث عن بقايا العاصفة النّارية.. يتنهد:
    - الحمد لله.. الشكر لله.
    تتسلل الطمأنينة إلى قلبه، يتحسس دفئها، يسترجع شجاعته، يعدل من وقفته، يفتح الباب.. يناديها:
    - لقد عدت، أين أنت يا حياتي؟
    كالمستغيث يبحث عنها في أرجاء البيت.. في الغرف.. في الحمام، يصرخ بأعلى صوته:
    - أين أنت يا زهرتي؟
    كانت هناك في الحديقة مع بقية الزّهور، تجلس في صمت كلوحة تشكيلية، تنتظر عودته رفقة جنينها، أراد استفسارها.. لم تحرك شفاهها.. لم تكن طباعها، تمعن ملامحها.. دماءها.. من تحت بصمة رصاصة أخطأت طريقها ترقرقت دموعه، اختنقت أنفاسه، تبعثرت ذكرياته، هوت أيّامه.. كانت بعيدة عنه، يرفع رأسه.. يدعو ربه:
    - ليتني كنت الفريسة..
    سعيد حمدين في جوان 2003.
    **********

    ------------------
    (1) تيبازة: ولاية جزائرية ساحلية، تطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط غرب الجزائر العاصمة ، تحتوي على العديد من الآثار القديمة لا سيما الرومانية.
    (2) طبق تقليدي جزائر ي له سمعة عالمية، وتشتهر في صنعه نساء كل المناطق الجزائرية بدون استثناء. وهو الطبق الرئيسي في كل الولائم.


    التعديل الأخير تم بواسطة رزيقة حزير; الساعة 06-12-2009, 10:43.
    [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial][align=center]
    [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial]ليس حسن الجوار كف الأذى ... [/FONT][/COLOR][/B][B][FONT=Arial][COLOR=darkorchid]بل الصبر على الأذى[/COLOR][/FONT][/B][/SIZE]
    [B][COLOR=darkorchid] [FONT=Arial][SIZE=3]علي بن أبي طالب [/SIZE][/FONT][/COLOR][/B]
    [/COLOR][/align][/FONT][/COLOR][/B][/SIZE]
    [/COLOR]
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    وصف لمعان تأخذنا بالأمكنة والأزمنة بأحلامها الصادقة
    البريئة في اعماقنا ثم تصعقنا بواقع أليم غادر يرمينا في قارعة الاحزان
    نص هاديء اللغة عميق المشاعر
    تحية الق وابداع استاذة رزيقة
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • رزيقة حزير
      عضو الملتقى
      • 24-07-2009
      • 225

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
      وصف لمعان تأخذنا بالأمكنة والأزمنة بأحلامها الصادقة
      البريئة في اعماقنا ثم تصعقنا بواقع أليم غادر يرمينا في قارعة الاحزان
      نص هاديء اللغة عميق المشاعر
      تحية الق وابداع استاذة رزيقة
      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      سعيدة سيدتي بمرورك الجميل الذي أضاء سماء متصفحي
      كان ينتظر أن تزهر حياتهما بصغار يشكلا بها إكليلا .. لكن الموت سبق حلمهما ومدد المسافة بينهما.. لن يراها بعد هذه اللّحظة.
      كل التّقدير والحب
      [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial][align=center]
      [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial]ليس حسن الجوار كف الأذى ... [/FONT][/COLOR][/B][B][FONT=Arial][COLOR=darkorchid]بل الصبر على الأذى[/COLOR][/FONT][/B][/SIZE]
      [B][COLOR=darkorchid] [FONT=Arial][SIZE=3]علي بن أبي طالب [/SIZE][/FONT][/COLOR][/B]
      [/COLOR][/align][/FONT][/COLOR][/B][/SIZE]
      [/COLOR]

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        كانت هناك في الحديقة مع بقية الزّهور.. تجلس في صمت كلوحة تشكيلية.. تنتظر عودته رفقة جنينها، أراد استفسارها.. لم تحرك شفاهها.. لم تكن طباعها، تمعن ملامحها.. دماءها.. من تحت بصمة رصاصة أخطأت طريقها ترقرقت دموعه.. اختنقت أنفاسه.. تبعثرت ذكرياته.. هوت أيّامه.. كانت بعيدة عنه.. يرفع رأسه.. يدعو ربه:
        - ليتني كنت الفريسة.

        بهذه السطور الرائعة و المدهشة أنهيت حالة الرقص
        كان الصخب رائعا ، و متصلا بشكل شدنى إلى نهاية
        الرحلة .. فكانت المتعة و القيمة
        و كانت رحلة الحب و الزواج
        ثم ...................................... الموت !!

        لى عودة أستاذة تقبلى مرورى الأول

        تقديرى
        sigpic

        تعليق

        • رزيقة حزير
          عضو الملتقى
          • 24-07-2009
          • 225

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
          كانت هناك في الحديقة مع بقية الزّهور.. تجلس في صمت كلوحة تشكيلية.. تنتظر عودته رفقة جنينها، أراد استفسارها.. لم تحرك شفاهها.. لم تكن طباعها، تمعن ملامحها.. دماءها.. من تحت بصمة رصاصة أخطأت طريقها ترقرقت دموعه.. اختنقت أنفاسه.. تبعثرت ذكرياته.. هوت أيّامه.. كانت بعيدة عنه.. يرفع رأسه.. يدعو ربه:
          - ليتني كنت الفريسة.

          بهذه السطور الرائعة و المدهشة أنهيت حالة الرقص
          كان الصخب رائعا ، و متصلا بشكل شدنى إلى نهاية
          الرحلة .. فكانت المتعة و القيمة
          و كانت رحلة الحب و الزواج
          ثم ...................................... الموت !!

          لى عودة أستاذة تقبلى مرورى الأول

          تقديرى
          السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
          سيّدي..
          هو الدّهر يعبث بالإنسان ما يعبث ويذيقه ما يذيقه من صنوف الشّقاء وألوان الآلام.. أما الحب والموت.. فهما وجهان مختلفان لعملة واحدة لا خيار فيهما للإنسان.. عاصفة نارية متوحشة هبت.. اقتلعت الجمال.. حطّمت القلوب.. كسّرت.. مزّقت.. ويا ليتها ما مرت.
          سعدت كثيرا لمسك مرورك.
          فائق التقدير والاحترام.
          [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial][align=center]
          [COLOR=#8b0000][SIZE=3][B][COLOR=darkorchid][FONT=Arial]ليس حسن الجوار كف الأذى ... [/FONT][/COLOR][/B][B][FONT=Arial][COLOR=darkorchid]بل الصبر على الأذى[/COLOR][/FONT][/B][/SIZE]
          [B][COLOR=darkorchid] [FONT=Arial][SIZE=3]علي بن أبي طالب [/SIZE][/FONT][/COLOR][/B]
          [/COLOR][/align][/FONT][/COLOR][/B][/SIZE]
          [/COLOR]

          تعليق

          يعمل...
          X