مجرد رحلة بالباص

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فؤاد الكناني
    عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
    • 09-05-2009
    • 887

    مجرد رحلة بالباص

    تحركت الحافلة صباحا من كراج المحافظات في العاصمة تتهدهد قليلا لريثما استقرت بثبات تأكل الأسفلت بمحركاتها العالية الضجيج في طريق العودة لمدينته الجنوبية،للجنوب سحر خاص في كل ارجاء الدنيا،فبوصلة القدر تشير للجنوب دائما ربما لأنه يقع اسفل التاريخ والجغرافيا او لعل الأرض كانت في ميلادها جنوبا ثم تمردت الجهات الثلاث لتستحوذ بجحود على مزق شرقية وشمالية وغربية.
    كان الحلم اجمل مرافقيه لا يدري لماذا ولم يبحث يوما عن سبب تداعي احلام اليقظة لدى ارتحاله لمسافات بعيدة.من الممكن ان تكون رتابة الطريق او الآفاق المتغيرة باستمرار او لربما الولوج المستمر في عوالم جديدة.
    كانت الحافلة تدخل بين ساعة واخرى مدينة ما او قرية.يراقب الناس يمرون سراعا من على نافذته لايبالون على الأطلاق بهذا الضيف العجول،احيانا يلتفت ليمسك بمنظر يستأثر اهتمامه،فاتنة تستحق لي العنق ليراها فترة كافية لأنطباع صورتها في دماغه،قروي بزيه الريفي مع ولديه يجهدون لحث حمار حرون على المسير،أو احد رجال شرطة نقاط التفتيش وقد استحال طاووسا اخرق بحذائه الماروني وقبعته الحمراء وجراب مسدسه المكركش.
    مد الجالس بجواره يده بسيكارة اليه التفت نحوه فوجيء انه لم يلق نظرة واحدة لرفيق سفره منذ خرجوا من العاصمة
    "تفضل" قالها ذلك الشاب القروي وهو يمد يده بالسيكارة القى نظرة خاطفة الى علبة سكائرة واخذ السيكارة منه فقد كانت سكائره عكس منظره البسيط فاخرة
    أدرك بعد مرور نصف ساعة من ثرثرة رفيقه مدى فداحة الغلطة التي ارتكبها بقبوله السيكارة فقد اصبح لزاما عليه ان يدفع دينه للمجاملة بالأستماع الى القصص المتشظية والمتشعبة عن المرض الذي انتاب"الحلال" وهي مفردة ريفية تعبر عن الماشية.اضافة الى قصص وبطولات عشائرية،وكيف ان هذال ابن مفلح كمن لأولاد عطوان واوسعهم ضربا بجنويته انتقاما لأهانتهم اخيه بعد نزاع حدث بينهم على الأسبقية في الري وتأسفه على بسعاد حورية القرية والعار الذي الحقته باهلها من آل بوصايح عندما فرت مع عشيقها ابن الفلاح الأجير لديهم.
    لم ينقذه من هز الرأس والتظاهر بالأهتمام المفرط لكلام رفيقه الا اهتزاز الحافلة وتمايلها يمينة ويسرة وهي تنحدر من الطريق العام الى الطريق الترابي المؤدي الى احد مطاعم الطرق الخارجية.
    استغل الفرصة لدى توقف الحافلة وانطلق للحمام معتذرا بالحاجة الشديدة عن امساك القروي بتلابيبه مصرا على تناول الطعام معه.
    كانت المياه الثقيلة الناشئة عن طفح البالوعة تجري على ارضية الحمام تحمل معها قشور طماطم وحبوبا لم تهضم ،اندفع فيه الغثيان بشدة عندما حاولت ذبابة عنيدة اختراق شفتيه للولوج الى فمه لم يستطع مقاومة رغبته للتقيؤ وهو يتصور المكان الذي كانت تحط عليه الذبابة قبل عدوانها السافر على فمه،اضطر لأفراغ مثانته في مكان بعيد عن المطعم
    عاد لكرسيه محاولا الهروب من نظرات العتاب الحادة في عيني رفيقه لعدم تلبية دعوته لمشاركته الغداء،والذي حمد الله انه لم يشاركه فيه بعد ان اشتم خليط الروائح الحادة الخارجة من فم رفيقه اثر تجشؤ طويل وهادر.
    نادى السائق على الركاب ليتأكد كل من رفيقه قبل المغادرة ،اثار انتباهه تلفت رفيقه وسأله عن السبب فاجاب بعفوية بانه يخشى ان يكون احدهم لم يركب بعد. لبرهة احس باعجاب شديد بنخوة هذا الريفي البسيط لكن تجشؤا اخر منه دفعه ليلصق وجهه بزجاج النافذة فرارا من الروائح المتخمرة.
    للحظات جعل يفكر في الأحلام التي حرمته منها ثرثرة هذا الرفيق كاد يصاب بالدوار وهو يراقب خطوط منتصف الطريق البيضاء وهي تندفع واحدة تلو الأخرى بسرعة كبيرة فيما الهواء الساخن الذي طبخته ظهيرة حزيران يندفع مثيرا الرعشة في اسفلت الطريق.
    شخير متقطع من زميله بث فيه فرحة عارمة بالخلاص لقد ادرك توا كيف يمكن لأمور بسيطة وتافهة ان تصبح معضلة تتمنى فيها تدخلا قدريا للخلاص منها.
    استيقظ على هزات يد رفيقه وهو يدعوه للأستيقاظ مسح عينيه واعتصر وجهه واحتاج لبرهة حيث عيناه نصف مغمضتين ورأسه يدور كالأبله كي يستعيد كامل وعيه بمحيطه وعندها ادرك ان الحافلة واقفة ضمن طابور طويل من السيارات قرب احدى نقاط التفتيش اللانهائية.
    سمع صوتا آمرا عند باب السيارة يطلب من الجميع باستثناء النساء وكبار السن الترجل من الحافلة نهض وسار باتجاه الباب مع الآخرين فيما اغاظه منظر امرأة بدت في عينيها الشماتة بالرجال النازلين كالنعاج قال في نفسه على كل حال تبقين انت امرأة ونبقى رجالا ....ربما.
    وقف الجميع في طابور بجانب الحافلة وهم يبرزون وثائقهم الثبوتية عند باب الحافلة لشرطي نقطة التفتيش ويصعدون بعد ان يأذن لهم بايماءة متعالية متعجرفة من رأسه عندما وصل الدور اليه تصفح الشرطي وجهه وهو يقلب بطاقته التي اهترأت لكثر ما قلبتها الاف الأكف لرجال الشرطة والأمن والأستخبارات بل وحتى اناس لم يعرف الى اي جهة ينتمون فهنا من يطلب بطاقتك عليك ان تعطيها له على الفور وانت الممنون. طلب منه ان يقف جانبا فتنحى واقفا باستسلام ليرى فيه صاحب الأمر رأيه وحسب المزاج اشتباه او تحقق من الهوية او تشابه اسماء الخ الخ
    كان القروي خلفه بالدور مباشرة ولما تحقق الشرطي من بطاقته تعرف اليه كأحد افراد عشيرته ودار بينهما كلام وسلام وسؤال عن المعارف والأقارب.همس القروي في اذن الشرطي فالتفت الأخير اليه معيدا اليه بطاقته وصاح وكأنه في مضيف ابيه بأن السيارة كلها معفية من التفتيش اكراما لعيني ابن عمه. فرح بهذا الخلاص الثاني وضحك من منظر القرويين وقد انتفخا زهوا
    وعندما عاد لكرسيه في الحافلة ادرك بعد بضع جمل قالها زميله القروي انها فاتحة لحديث سيطول باقي الطريق ولكن رفعت الأقلام وجفت الصحف واصبح بموجب قانون الذوق اسيرا باقي ساعات الطريق لفم رفيقه ولن تلوح في الأفق بادرة اخرى للخلاص فقد تيقن انه استنفذ حظه لهذا اليوم على الأقل.


  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    مشهد عابر يحمل دلالات كبيرة ملفتة للنظر
    وصف دقيق ومشاعر متوقدة وايقاع متدفق
    تحيتي ومودتي
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • دريسي مولاي عبد الرحمان
      أديب وكاتب
      • 23-08-2008
      • 1049

      #3
      زميلي القدير فؤاد الكناني...
      بتواضع عنوانك على اعتباره مجرد رحلة بالباص...عرفت مسبقا أن أحداثا ستسم الرحلة بدفق المشاعر الانسانية بتضارب ميولها وأحلامها وهي تنسج من التنقل في المكان -عبر لغتك المحفزة لدقائق الاحساسات مقرونة بترجمة رائعة لردود الافعال الحركية والوجدانية-سردا ساحرا يعبر زمن قصتك بروعة نادرة.
      استمتعت هنا لحد أنني وددت ترديد مقولة الحس الذوقي لبطلك...لكن وقتي بين كلماتك كان ممتعا للغاية.
      توكيدات مودتي.

      تعليق

      • فؤاد الكناني
        عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
        • 09-05-2009
        • 887

        #4
        الأستاذة مها
        جزيل شكري لوضع بصمتك على نصي المتواضع وامتناني للمرور الكريم

        تعليق

        • فؤاد الكناني
          عضـو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب
          • 09-05-2009
          • 887

          #5
          رائع يا عزيزي دريسي اضاءتك وهذه القراءة التي اسعدتني حقا الف شكر زميلي الفيلسوف لهذا المرور وهذه الشهادة الأستثنائية

          تعليق

          يعمل...
          X